شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

الثمرة الفقهيّة

للنزاع في الوجوب الغيري

٢٦١
٢٦٢

الثمرة الفقهيّة للنزاع في الوجوب الغيري

ومسألة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته على الرغم من كونها من المسائل الأصوليّة العريقة في علم الأصول ، قد وقع شيء من التحيّر لدى باحثيها في ثمرتها الفقهيّة.

وقد يبدو لأوّل نظرة أنّ ثمرتها إثبات الوجوب الغيري وهو حكم شرعي نستنبطه من الملازمة المذكورة.

ولكنّ الصحيح عدم صواب هذه النظرة ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي يبحثه علم الفقه ـ ويطلب من علم الأصول ذكر القواعد التي يستنبط منها ـ إنّما هو الحكم القابل للتحريك المولوي الذي تقع مخالفته موضوعا لاستحقاق العقاب ، وقد عرفت أنّ الوجوب الغيري ـ على تقدير ثبوته ـ ليس كذلك ، فهو لا يصلح أن يكون بنفسه ثمرة لهذه المسألة الأصوليّة.

الثمرة الفقهيّة بين القول بالوجوب الغيري للمقدّمة وبين إنكار ذلك

وهنا من الواضح أنّ الثمرة لا بدّ أن تكون أصوليّة بمعنى أن يكون هذا البحث يؤدّي إلى إثبات جعل كلّي شرعي ؛ لأنّ المسألة الأصوليّة هي ما يستنبط منها جعل من هذا القبيل ، وأمّا إذا أدّى البحث إلى إثبات صغرى لهذا الجعل أو تطبيق من تطبيقاته فيكون البحث فقهيّا لا أصوليّا.

وعلى هذا فقد يقال : إنّه لا ثمرة من البحث الأصولي عن وجوب المقدّمة ؛ وذلك لأنّ الثمرة التي يمكن أن تترتّب عليها هي إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة وعدمه ، والوجوب وإن كان حكما كلّيّا بمعنى أنّه يجري بلحاظ كلّ واجب مع مقدّماته في مختلف الأبواب ، إلا أنّه مع ذلك لا يدخل في البحث الأصولي ؛ لأنّ مرادهم من الحكم الشرعي هو ما يكون له قابليّة التنجيز والتعذير ، وما يكون محرّكا وباعثا نحو

٢٦٣

متعلّقه ، وما يكون على امتثاله الثواب وعلى مخالفته العقاب. وهذه كلّها غير ثابتة للوجوب الغيري كما تقدّم ؛ لأنّه وجوب تبعي وليس فيه ملاكات ومبادئ مستقلّة عن الواجب النفسي ، وهكذا في سائر الأمور الأخرى.

وحينئذ لا معنى للبحث عن وجوب المقدّمة أصلا ، إلا بنحو من الاستطراد فقط ، كما ذهب إليه المشهور.

ومن هنا أنكر المشهور كون وجوب المقدّمة من المسائل الأصوليّة ؛ لأنّ عدم إمكان تصوير ثمرة أصوليّة عليها أدّى إلى التشكيك في أصوليّتها ، بل إلى إنكار ذلك.

إلا أنّ الصحيح كون المسألة أصوليّة ، بل هي لعلّها أقدم المسائل الأصوليّة وأعرقها.

والصحيح أيضا وجود الثمرة التي تترتّب على البحث الأصولي لوجوب المقدّمة ، ويمكننا أن نذكر بهذا الصدد ثمرتين :

وأفضل ما يمكن أن يقال بهذا الصدد تصوير الثمرة كما يلي :

أوّلا : أنّه إذا اتّفق أن أصبح واجب علّة تامّة لحرام ، وكان الواجب أهمّ ملاكا من الحرام ، فتارة ننكر الملازمة وأخرى نقبلها.

فعلى الأوّل : يكون الفرض من حالات التزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب ، فنرجع إلى قانون باب التزاحم وهو تقديم الأهمّ ملاكا ، ولا يسوغ تطبيق قواعد باب التعارض كما عرفنا سابقا.

وعلى الثاني : يكون دليل الحرمة ودليل الوجوب متعارضين ؛ لأنّ الحرمة تقتضي تعلّق الحرمة الغيريّة بنفس الواجب ، ويستحيل ثبوت الوجوب والحرمة على فعل واحد ، وهذا يعني أنّ التنافي بين الجعلين ، وكلّما كان التنافي بين الجعلين دخل الدليلان في باب التعارض وطبّقت عليه قواعده بدلا عن قانون باب التزاحم.

الثمرة الأولى : وهذه الثمرة لم يذكرها السيّد الشهيد في بحث الخارج ، ولعلّه لعدم تماميّتها كما سيتّضح ذلك.

وحاصلها : ما إذا كان الواجب الأهمّ علّة تامّة للحرام ، كما إذا كان إنقاذ الغريق علّة تامّة لإتلاف مال الغير فإنّه حرام ، فإنّه على القول بعدم الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، أو بين حرمة شيء وحرمة مقدّمته التوليديّة التي تكون بنحو العلّة

٢٦٤

التامّة أو الجزء الأخير منها ، فسوف يكون الفرض المذكور من موارد التزاحم لا التعارض.

وبيان ذلك : أنّ الواجب لمّا كان أهمّ ملاكا من الحرمة فوجوبه فعلي ومطلق وغير مشروط بعدم الاشتغال بالحرام ، بمعنى أنّه سواء اشتغل بترك الحرام أم لا فالواجب يجب امتثاله ، ولكن لمّا كان الواجب علّة تامّة للحرام فسوف يحصل الحرام تلقائيّا بعد امتثال الواجب ، والمفروض أنّ الواجب في هذه الحالة لا يصبح حراما وإن كان علّة تامّة توليديّة للحرام ؛ لأنّنا ننكر الملازمة.

وحينئذ فإذا أراد امتثال الواجب وقع لا محالة في الحرام ، وإذا أراد امتثال الحرام أي تركه وقع لا محالة في مخالفة الواجب ؛ لأنّ ترك الحرام لا يكون إلا بترك علّته التامّة ، ولذلك يدور الأمر بين امتثال أحدهما وترك الآخر ، وهذا ما يسمّى بالتزاحم ؛ فإنّ التزاحم ـ كما مرّ وسيأتي في محلّه ـ : عبارة عن التنافي بين المدلولين في مقام الامتثال ، بحيث يكون امتثال أحدهما مفوّتا لامتثال الآخر ولا يمكن للمكلّف أن يجمع بين الامتثالين.

وفي هذه الحالة يطبّق قانون باب التزاحم وهو تقديم الأهمّ ملاكا على الآخر فيقدّم الواجب ؛ لأنّنا فرضناه الأهمّ ملاكا من الحرام ، ويكون الحرام الأقلّ أهمّيّة مشروطا بعصيان الواجب ، أي أنّ امتثال الحرام يكون مشروطا بعدم امتثال الواجب وعصيانه ، فإذا اشتغل بالواجب الأهمّ ارتفع موضوع خطاب الحرام ؛ لعدم تحقّق شرطه ، ولذلك يكون المكلّف حين الاشتغال بالواجب الأهمّ قد حقّق كلا الملاكين للمولى.

أو بتعبير آخر : لم يفوّت على المولى شيئا من الملاك الفعلي ، أمّا ملاك الأهمّ فلأنّه قد امتثله ، وأمّا ملاك الحرام فلأنّه قد ارتفع موضوعه ومع ارتفاع موضوعه لا يكون ملاكه فعليّا فلا تفويت.

وأمّا إذا قلنا بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، أو حرمة الشيء وحرمة مقدّمته التوليديّة أي علّته التامّة ، فهنا سوف يدخل الفرض في باب التعارض لا التزاحم.

وبيانه : أنّ الواجب لمّا كان ملاكه أهمّ فهو مطلق وفعلي سواء اشتغل بترك الحرام

٢٦٥

أم لا ، وأمّا الحرام فلمّا كانت مقدّمته توليديّة وعلّة تامّة فسوف تكون علّته ومقدّمته محرّمة أيضا بناء على الملازمة كما تقدّم.

وحينئذ يكون الواجب متعلّقا للوجوب الفعلي ومتعلّقا للحرمة الفعليّة باعتباره العلّة التامّة للحرام ، ممّا يعني اجتماع الوجوب والحرمة على شيء واحد في آن واحد ، فيكون من اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ، ولذلك يقع التنافي بين دليل الحرمة ودليل الوجوب لاستحالة اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ، ممّا يؤدّي بالنتيجة إلى كون التنافي بين نفس الجعلين لا بلحاظ المدلولين والمجعولين فقط.

وفي مثل هذه الحالة سوف تطبّق قواعد باب التعارض من الترجيح أو الجمع العرفي أو التساقط (١).

__________________

(١) وهنا كلام للسيّد الأستاذ حول تماميّة هذه الثمرة ، وحاصله : أنّ هذه الثمرة بهذا الفرض غير تامّة ، فإنّنا سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها فلا تعارض بين الوجوب والحرمة ، بل المورد داخل في باب التزاحم على التقديرين.

وتفصيل ذلك : أمّا على تقدير إنكار الملازمة فلما تقدّم بيانه في أصل البحث.

وأمّا على تقدير قبول الملازمة فلأنّه تقدّم سابقا أنّ القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ شرط في التكليف ، وهناك فسّرناها بأنّها بمعنى أن كلّ تكليف مقيّد بعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقلّ عنه أهمّيّة. وعليه ، فخطاب الحرمة لمّا كان أقلّ أهمّيّة فهو مقيّد عقلا بعدم الاشتغال بالواجب ؛ لأنّه أهمّ ملاكا ، وحيث إنّ قيود الحرمة قيود للحرام أيضا ؛ لأنّ قيود الحكم ترجع إلى قيود المتعلّق فيكون الحرام هو الحصّة الخاصّة غير المقارنة للواجب.

وأمّا الحصّة المقارنة للواجب فهي ليست محرّمة ؛ لأنّ خطاب الحرمة لا يشملها من أوّل الأمر ؛ لأنّه مقيّد عقلا بالقدرة التي ذكرناها ، وحينئذ لن يقع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة ؛ لأنّ دليل الحرمة مقيّد بغير هذه الحصّة التي تعلّق بها الوجوب ، فلا يكون في الواجب إلا خطاب الوجوب فقط وهو مطلق وفعلي ، فإذا امتثله يكون قد حقّق ملاك الوجوب ، ويكون قد ارتفع موضوع الحرمة ، بل إنّ الحرمة لا موضوع لها حينئذ لعدم شمولها لهذه الحصّة ، ممّا يعني أنّه لا تزاحم أصلا فضلا عن التعارض.

نعم ، يمكن بيان هذه الثمرة بأن نفرض أنّ الحرام هو الأهمّ لا الواجب وكان الواجب علّة تامّة للحرام ، كما إذا صارت الصلاة علّة تامّة وسببا توليديّا لإزهاق النفس المحترمة.

فعلى إنكار الملازمة فلن تسري الحرمة إلى الواجب ، فيكون فعل الصلاة واجبا ، وقتل النفس المحترمة حراما ، وحيث إنّ الحرام هو الأهمّ ملاكا فهو مطلق وفعلي ويكون الواجب مشروطا بعدم عصيان الحرام ، ولكن لمّا كان عدم عصيان الحرام متوقّفا على عدم علّته التامّة

٢٦٦

وثانيا : أنّه إذا اتّفق عكس ما تقدّم في الثمرة السابقة فأصبح الواجب صدفة متوقّفا على مقدّمة محرّمة ، كإنقاذ الغريق إذا توقّف على اجتياز الأرض المغصوبة ،

__________________

فيكون فعل الواجب مقارنا لفعل الحرام دائما ؛ لأنّه إذا أراد امتثال الحرام فاللازم ألاّ يريد الصلاة ؛ لأنّها العلّة التامّة للحرام إلا أنّ عصيان الحرام ليس محصورا بالإتيان بالواجب فقط ، وإن كان هو العلّة التامّة له ؛ إذ يمكنه قتل النفس المحترمة أوّلا ثمّ الصلاة ، ولذلك يكون فعل الواجب مشروطا بأن لا يعصي الحرام ولو بسبب وبعلّة أخرى ، فإذا عصاه وجبت الصلاة فالمورد من موارد التزاحم وتقديم الأهمّ.

وأمّا على القول بالملازمة فسوف يكون الواجب الذي هو علّة تامّة للحرام وسببا توليديّا محرّما أيضا على أساس الملازمة بين حرمة شيء وحرمة مقدّمته بنحو العلّة التامّة التوليديّة ، فهنا سوف يقع التعارض ؛ لأنّه من باب اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل ، ممّا يؤدّي إلى التنافي بين دليل الوجوب ودليل الحرمة في عالم الجعل لا في عالم الامتثال فقط ، وحينئذ تطبّق قواعد التعارض لا التزاحم.

ويمكن أن نفرض هذه الثمرة بنحو آخر :

وذلك فيما إذا صار الواجب علّة تامّة لترك واجب آخر ، كما إذا نذر أن يصلّي صلاة الليل في كلّ ليلة فاتّفق في ليلة أن كانت صلاة الليل سببا توليديّا ؛ لعدم القدرة على الصيام الواجب في الغد ، وفرض أنّ وجوب الصوم هو الأهمّ ملاكا من صلاة الليل.

فإنّه على القول بعدم الملازمة فسوف يكون المورد من موارد التزاحم ، فيقدّم الأهمّ ملاكا ؛ لأنّه مطلق وفعلي سواء اشتغل بالآخر أم لا ، ويكون الواجب الآخر الأقلّ أهمّيّة مشروطا بعدم الاشتغال بالصيام الأهمّ.

وأمّا على القول بالملازمة فسوف يكون المورد من موارد التعارض ؛ لأنّ الصوم لمّا كان هو الأهمّ فيجب فعله ويحرّم تركه ؛ لأنّ تركه عبارة عن الضدّ العامّ ، فإذا حرم الترك حرمت مقدّمته التوليديّة وعلّته التامّة وهي صلاة الليل بحسب الفرض ، وحينئذ سوف يجتمع الوجوب والحرمة على صلاة الليل وهو من اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل ، وهذا معناه التنافي بين الجعلين أو الدليلين فيقع التعارض بين دليل الوجوب ودليل الحرمة.

وهذا بخلاف ما إذا فرضنا أنّ صلاة الليل هي الأهمّ من وجوب الصوم ، فإنّه على هذا الفرض فسواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها فلا تعارض ولا تزاحم ؛ لأنّ صلاة الليل لمّا كانت هي الأهمّ فوجوب الصوم يكون مقيّدا بالمقيّد اللبّي ، أي بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ وهو ألاّ يكون مشتغلا بالواجب الأهمّ ، فإذا اشتغل بصلاة الليل ارتفع موضوع وجوب الصوم فلا تفويت لملاكه ؛ لأنّ موضوعه منتف ، وإذا لم يشتغل بصلاة الليل وعصاها كان وجوب الصوم فعليّا.

٢٦٧

فلا شكّ في أنّ المكلّف إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق لم يرتكب حراما ؛ لأنّ الحرمة تسقط في هذه الحالة رعاية للواجب الأهمّ.

وأمّا إذا اجتاز الأرض المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد ارتكب حراما إذا أنكرنا الملازمة ، وكذلك إذا قلنا بأنّ الوجوب الغيري يختصّ بالحصّة الموصلة من المقدّمة ، ولم يرتكب حراما إذا قلنا بالملازمة وأنّ الوجوب الغيري لا يختصّ بالحصّة الموصلة.

أمّا أنّه ارتكب حراما على الأوّلين فلأنّ اجتياز الأرض المغصوبة حرام في نفسه ولا يوجد ما يحول دون اتّصافه ـ في حالة عدم التوصّل به إلى الإنقاذ ـ بالحرمة.

وأمّا أنّه لم يرتكب حراما على الأخير فلأنّ الوجوب الغيري يحول دون اتّصافه بالحرمة.

الثمرة الثانية : وهي الثمرة المشهورة بينهم. وقبل الشروع في بيان الثمرة المذكورة نبيّن أمرين :

الأوّل : أنّ الثمرة المذكورة مبنيّة على أن تكون تمام حصص المقدّمة محرّمة ؛ وذلك لأنّ حصص المقدّمة يمكن تصوّرها على أنحاء ثلاثة :

١ ـ أن تكون جميع حصص المقدّمة مباحة فهنا لا تظهر الثمرة في الفرض المذكور سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها.

٢ ـ أن تكون بعض الحصص مباحة وبعضها محرّمة ، فهنا على المذهب المشهور والمختار سوف تتعلّق المقدّمة بالحصّة المباحة دون غيرها ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري ينصبّ على الحصّة المباحة دون المحرّمة ، ولذلك لا تظهر الثمرة ؛ لأنّه إذا أتى بالواجب ضمن الحصّة المباحة فواضح ، وإذا أتى به ضمن الحصّة المحرّمة فهي ليست واجبة فلا تزاحم ولا تعارض ، بل هو امتثال من جهة وعصيان من جهة أخرى.

وأمّا على مسلك السيّد الخوئي القائل بأنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالجامع بين الحصّة المباحة والمحرّمة فسوف تظهر الثمرة ؛ لأنّ الحصّة المحرّمة كالمباحة سوف يسري إليها الوجوب من الجامع ، وبالتالي تصبح واجبة والمفروض أنّها محرّمة ، فعلى القول بالملازمة يحصل التعارض ؛ للزوم اجتماع الأمر والنهي وهو مستحيل ، وعلى إنكار

٢٦٨

الملازمة فسوف يحصل التزاحم بين الواجب والمقدّمة المحرّمة ويقدّم الأهمّ ملاكا منهما.

٣ ـ أن يفرض أنّ تمام حصص المقدّمة محرّمة أو لا يوجد إلا حصّة واحدة من المقدّمة وهي الحصّة المحرّمة ، فهنا يأتي ما ذكر من كلام في هذه الثمرة.

الثاني : أنّ الثمرة المذكورة مبنيّة أيضا على كون الواجب هو الأهمّ لا الحرام ، وأمّا إذا فرضنا أنّ الحرام هو الأهمّ بأن كان إنقاذ المال القليل للشخص نفسه موقوفا على إتلاف مال الغير الخطير ، فهنا لن تظهر الثمرة بمعنى أنّه لا تعارض ولا تزاحم سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها ؛ وذلك لأنّ فرض أهمّيّة الحرام معناه أنّه فعلي ومطلق سواء اشتغل بالآخر أم لا ، فيكون الواجب مقيّدا بالمقيّد اللبّي العقلي وهو عدم الاشتغال بواجب آخر لا يقلّ أهمّيّة.

فإذا أراد امتثال الحرام ارتفع موضوع الواجب فلا يكون ملاكه قد فات على المولى ؛ لأنّه ليس فعليّا بل هو منتف لانتفاء موضوعه ، وإذا عصى الحرام وارتكبه صار الواجب فعليّا لتحقّق شرطه وقيده ، وحينئذ لا يأتي الكلام عن الملازمة وعدمها ؛ لأنّه لا موضوع لها.

وأمّا بيان هذه الثمرة ، فيقال : إنّنا إذا فرضنا توقّف الواجب الأهمّ على مقدّمة محرّمة بحيث كان منحصرا بها إمّا لكونها الحصّة الوحيدة ، وإمّا لكون تمام الحصص محرّمة ، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة ، فهنا صورتان :

الصورة الأولى : فيما إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق ، فهنا لا تظهر الثمرة سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها.

أمّا على القول بالملازمة فلأنّ فرض أهمّيّة الواجب يعني أن يكون دليل الحرمة غير شامل للحصّة التي صارت مقدّمة للواجب الأهمّ ؛ لأنّ قيود الحرمة قيود للحرام أيضا فيكون الحرام في غير هذه الحصّة المقرونة بفعل الواجب ، ولذلك لا تعارض بين دليل الوجوب ودليل الحرمة ؛ لأنّ هذه المقدّمة يرتفع عنها دليل الحرمة ، ويبقى دليل الوجوب شاملا لها فقط ، وكذا لا تزاحم ؛ لأنّ هذه المقدّمة ليس فيها إلا دليل الوجوب الغيري.

٢٦٩

وأمّا على إنكار الملازمة فلأنّ المقدّمة تبقى على حرمتها ولا يترشّح عليها وجوب غيري ، ولكنّ هذه الحرمة لا تكون فعليّة في مقامنا لفرض أهمّيّة الواجب ، ممّا يعني أنّ دليل الحرمة مقيّد بعدم الاشتغال بالواجب ، فإذا اشتغل بالواجب كانت المقدّمة المذكورة فيها حرمة تعليقيّة لا فعليّة ، إذ إنّها ترتفع عنها لفرض كونها مقدّمة للواجب الأهمّ ، فلا تعارض أيضا ولا تزاحم.

الصورة الثانية : فيما إذا اجتاز الأرض المغصوبة ولكنّه لم ينقذ الغريق بعد ذلك ، فهنا تظهر الثمرة ؛ لأنّنا تارة نقول بالملازمة ، وأخرى ننكرها. وعلى القول بالملازمة تارة نقول بوجوب مطلق المقدّمة ، وأخرى نقول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط ، فالوجوه ثلاثة :

الأوّل : أن ننكر القول بالملازمة ، فهنا لن يترشّح وجوب غيري على المقدّمة فهي على حرمتها النفسيّة ، وهذه الحرمة فعليّة ، إذ لا يوجد ما يحول دون اتّصافها بالحرمة الفعليّة ؛ لأنّ ما يمنع من ذلك إنّما هو اقترانها بفعل الواجب الأهمّ والمفروض أنّه ترك الواجب ، فلم يتوصّل بها إلى الإنقاذ الواجب الأهمّ ، ولذلك يكون مقتضي الحرمة موجودا والمانع من فعليّة هذه الحرمة مفقودا ، فهي محرّمة ويكون قد ارتكب حراما حينئذ.

الثاني : أن نقول بالملازمة ولكن نقول : إنّ الوجوب الغيري يختصّ بالمقدّمة الموصلة فقط دون غيرها ، فهنا أيضا سوف يكون قد ارتكب حراما ؛ لأنّ الوجوب الغيري لا يترشّح إلى هذه المقدّمة ؛ لأنّها لم تكن موصلة لفعل الواجب ؛ لأنّه تركه بحسب الفرض ، فلذلك يكون مقتضي الحرمة موجودا والمانع مفقودا.

الثالث : أن نقول بالملازمة ونقول أيضا بأنّ الوجوب الغيري ينصبّ على مطلق المقدّمة سواء كانت موصلة أم غير موصلة ، فهنا لم يرتكب حراما ؛ لأنّه سوف يترشّح وجوب غيري من الواجب الأهمّ على هذه المقدّمة ، وحيث إنّ الواجب هو الأهمّ فيكون دليل الحرمة مقيّدا من أوّل الأمر بغير هذه الحصّة التي صارت مقدّمة للواجب ، ولذلك يرتفع عنها الحرمة ؛ لأنّ قيود الحرمة قيود للحرام أيضا ، فيكون الحرام هو غير هذه الحصّة وبالتالي لا تكون هذه المقدّمة إلا واجبة سواء حصل بعدها الواجب أم لا.

٢٧٠

وبهذا يمكننا تصوير الثمرة ، فنقول : إنّه على القول بإنكار الملازمة أو على القول بأنّ الوجوب الغيري هو خصوص المقدّمة الموصلة ، فهنا لا وجوب على المقدّمة ، بل تبقى على حرمتها.

وأمّا إذا قلنا بالملازمة وكون الوجوب الغيري هو مطلق المقدّمة فسوف يرتفع الحرام عنها ؛ لأنّ دليل الحرمة يكون مقيّدا من أوّل الأمر بغير هذه الحصّة فتكون واجبة لا غير (١).

__________________

(١) إلا أنّه يمكن التعليق على هذه الثمرة فنقول : إنّ عدم إنقاذ الغريق بعد فعل المقدّمة تارة يكون اتّفاقيّا وخارجا عن اختيار المكلّف ، وأخرى يكون مقصودا له.

فإذا كان عدم الإتيان بالواجب اتّفاقيّا بأن كان المكلّف قاصدا من أوّل الأمر وحين إتيانه بالمقدّمة أن يتوصّل بها إلى الواجب ، لكنّه اتّفق وجود المانع الذي حال بينه وبين إنقاذ الغريق ، فهنا لا يكون قد ارتكب حراما حتّى على القول بإنكار الملازمة أو على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط ؛ لأنّه يكون من التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ المقدور له هو القصد والتوصّل بالمقدّمة إلى الإنقاذ وفعل مقدّماته ، وأمّا حصول النتيجة أو عدمها فهو غير تابع لاختياره فقط ، بل موقوف على عدم وجود المانع من ذلك ، ولذلك يكون معذورا عند العقلاء ولا يكون مدانا.

وأمّا إذا كان عدم الإتيان بالواجب نتيجة اختياره لذلك بأن كان قاصدا من أوّل الأمر ألاّ يمتثل الواجب ، أو بدا له بعد الإتيان بالمقدّمة ألاّ يأتي بالواجب عن عمد واختيار منه ، فهنا يكون فعله للمقدّمة حراما ؛ لأنّه يعتبر مقصّرا بنظر العقلاء فيستحقّ الإدانة واللوم والعقوبة بحكم العقل أيضا.

ومن هنا كان لا بدّ من تقييد عدم إنقاذ الغريق بأنّه كان عن اختيار وقصد من المكلّف بعدم امتثاله ، إمّا من أوّل الأمر وإمّا بعد الإتيان بالمقدّمة.

٢٧١
٢٧٢

شمول الوجوب الغيري

٢٧٣
٢٧٤

شمول الوجوب الغيري

قام القائلون بالملازمة بعدّة تقسيمات للمقدّمة ، وبحثوا في أنّ الوجوب الغيري هل يشمل كلّ تلك الأقسام أو لا؟

ونذكر فيما يلي أهمّ تلك التقسيمات :

التقسيم الأوّل : تقسيم المقدّمة إلى داخليّة وخارجيّة.

ويراد بالداخليّة جزء الواجب ، وبالخارجيّة ما توقّف عليه الواجب من أشياء سوى أجزائه.

وقد وقع البحث بينهم في أنّ الوجوب الغيري هل يعمّ المقدّمات الداخليّة أو يختصّ بالمقدّمات الخارجيّة؟

فقد يقال بالتعميم ؛ لأنّ ملاكه التوقّف ، والواجب كما يتوقّف على المقدّمة الخارجيّة يتوقّف أيضا على وجود جزئه ؛ إذ لا يوجد مركّب إلا إذا وجدت أجزاؤه.

ذكر القائلون بالملازمة عدّة تقسيمات للمقدّمة ، وغرضهم من ذلك هو معرفة أنّ الوجوب الغيري هل يشمل جميع أقسام المقدّمة ، أو أنّه يختصّ ببعضها فقط؟ وأهمّ تلك التقسيمات ثلاثة :

التقسيم الأوّل : تقسيم المقدّمة إلى داخليّة وخارجيّة.

والمقصود من المقدّمة الداخليّة هو ما يكون جزءا من الواجب ، كالركوع والسجود والقراءة بالنسبة للصلاة.

بينما المقصود من المقدّمة الخارجيّة هو ما يكون خارجا عن الواجب ولكنّه يتوقّف عليه ، كالوضوء والزوال وطهارة اللباس والمكان والاستقبال بالنسبة للصلاة.

بعد ذلك وقع البحث في أنّ الوجوب الغيري هل يشمل كلا هذين القسمين أو يختصّ بالمقدّمات الخارجيّة فقط؟

٢٧٥

ذهب البعض إلى أنّه يشمل كلا القسمين ؛ وذلك لأنّ ملاك الوجوب الغيري موجود في القسمين على حدّ سواء ؛ لأنّ الوجوب الغيري كان ملاكه المقدّميّة والتوقّف ، فكلّ ما يكون مقدّمة لشيء وما يكون الشيء متوقّفا عليه فهو واجد لملاك الوجوب الغيري فيتّصف به ، فالصلاة مثلا كما تتوقّف على الزوال والطهارة كذلك تتوقّف على القراءة والركوع والسجود ، وكما تكون الطهارة والزوال مقدّمة للصلاة كذلك تكون القراءة والركوع والسجود مقدّمة لوجود الصلاة.

والحاصل : أنّ الواجب كما يتوقّف في وجوده على المقدّمات الخارجيّة كذلك يتوقّف وجوده فيما إذا كان مركّبا من أجزاء على وجود أجزائه ؛ إذ يستحيل وجود المركّب من دون أجزائه.

وذهب البعض الآخر إلى عدم الشمول واختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الخارجيّة فقط دون الداخليّة ، واستدلّوا على ذلك بوجهين ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ويقال في مقابل ذلك بالاختصاص ونفي الوجوب الغيري عن الجزء ، إمّا لعدم المقتضي له أو لوجود المانع.

وبيان عدم المقتضي أن يقال : إنّ التوقّف والمقدّميّة يستبطن المغايرة بين المتوقّف والمتوقّف عليه ؛ لاستحالة توقّف الشيء على نفسه ، والجزء ليس مغايرا للمركّب في الوجود الخارجي ، فلا معنى لاتّصافه بالوجوب الغيري.

وبيان المانع بعد افتراض المقتضي أن يقال : إنّ الجزء متّصف بالوجوب النفسي الضمني ، فلو اتّصف بالوجوب الغيري لزم اجتماع المثلين.

وأمّا القول الآخر الذي ذهب إلى اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الخارجيّة ، وعدم شموله للمقدّمة الداخليّة ، فقد استدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : عدم وجود المقتضي للاتّصاف بالوجوب الغيري ، وبيانه أن يقال :

إنّ الوجوب الغيري ملاكه التوقّف والمقدّميّة ، ولكن هذا العنوان يستبطن المغايرة بين المتوقّف والمتوقّف عليه أو بين المقدّمة وذي المقدّمة ؛ لوضوح أنّ الشيء يستحيل أن يتوقّف على نفسه ، أو أن يكون مقدّمة لنفسه للزوم الدور أو التهافت أو التقدّم والتأخّر والكلّ مستحيل. وعليه ، فإذا كانت المقدّمة مغايرة لذيها كان المقتضي لاتّصافها

٢٧٦

بالوجوب الغيري موجودا ، وأمّا إذا لم تكن مغايرة له فلا مقتضي لاتّصافها بالوجوب الغيري ؛ إذ يكشف ذلك عن عدم وجود الملاك فيها.

وفي مقامنا نقول : إنّ الجزء ليس مغايرا للمركّب في الوجود فلا يمكن أن يتّصف بالوجوب الغيري ؛ لعدم وجود المقتضي فيه ، والوجه في عدم المغايرة بينهما هو أنّ وجود الجزء وسائر الأجزاء عبارة أخرى عن وجود المركّب وليس شيئا زائدا عليه ولا مغايرا له ؛ لأنّ المركّب يوجد بوجود أجزائه فهو عين أجزائه وهي عين المركّب في الوجود.

نعم ، بلحاظ المفهوم والعنوان يكون الجزء كمفهوم وعنوان مغايرا للمركّب كذلك ، إلا أنّ ذلك ليس داخلا في محلّ الكلام ؛ لأنّ الحديث عن واقع المقدّمة كما تقدّم سابقا أي ما يكون مقدّمة واقعا وحقيقة في الوجود.

والآخر : وجود المانع من الاتّصاف بالوجوب الغيري بعد التسليم بوجود المقتضي لذلك. وبيانه : أنّ الأجزاء الداخليّة للمركّب متّصفة بالوجوب الضمني ، بمعنى أنّ الأمر بالمركّب ينحلّ إلى أوامر ضمنيّة كلّها نفسيّة ، فإذا فرض أنّه واجد لملاك الوجوب الغيري لكونه مقدّمة لحصول المركّب لزم من ذلك اجتماع الوجوبين على شيء واحد ، واجتماع المثلين مستحيل. إذا فيوجد ما يمنع من اتّصاف الجزء بالوجوب الغيري وهو محذور اجتماع المثلين.

فإن قيل : يمكن أن يفترض تأكّدهما وتوحّدهما من خلال ذلك في وجوب واحد فلا يلزم محذور.

كان الجواب : أنّ التأكّد والتوحّد هنا مستحيل ؛ لأنّ الوجوب الغيري إذا كان معلولا للوجوب النفسي ـ كما يقال ـ فيستحيل أن يتّحد معه وجودا ؛ لاستحالة الوحدة بين العلّة والمعلول في الوجود.

وقد يجاب عن إشكال اجتماع المثلين بأنّ الوجوبين يستحيل اجتماعهما على شيء واحد فيما إذا بقي كلّ واحد منهما متشخّصا ومتميزا عن الآخر ، فإنّه يلزم منه تحصيل الحاصل واللغويّة ، وأمّا إذا افترض توحّدهما معا في وجوب واحد مؤكّد فلا محذور في ذلك ؛ لأنّ الوجوب يكون آكد وأشدّ ممّا كان عليه.

نظير اجتماع وجوب إكرام الفقير ووجوب إكرام العالم في شخص واحد بأن

٢٧٧

كان عالما فقيرا ، فإنّ إكرامه يشتدّ ويتأكّد ، ولا يلزم من ذلك اجتماع المثلين ؛ لصيرورة الوجوبين وجوبا واحدا.

ويرد على ذلك بأنّ التأكّد والتوحّد يشترط فيهما أن يكون كلا الأمرين والوجوبين في عرض واحد ، بمعنى ألاّ يكون أحدهما في طول الآخر ومتأخّرا عنه في الرتبة ومتولّدا منه ؛ لأنّه إذا كان كذلك فلن يحصل التوحّد والتأكّد بينهما لفرض اختلاف الرتبة بينهما.

وفي المقام يقال بأنّ الوجوب الغيري معلول للوجوب النفسي وفي طوله ، ولذلك يستحيل أن يتوحّد معه في الوجود أو أن يكون أحدهما مؤكّدا للآخر ؛ لاستحالة التوحّد بين العلّة والمعلول في الوجود ؛ لأنّه لا يمكن أن تكون العلّة هي نفس المعلول في الوجود.

التقسيم الثاني : تقسيم المقدّمة إلى مقدّمة واجب ومقدّمة وجوب.

ولا شكّ في أنّ المقدّمة الوجوبيّة كما لا يكون المكلّف مسئولا عنها من قبل ذلك الوجوب على ما تقدّم ، كذلك لا يتعلّق الوجوب الغيري بها ؛ لأنّه إمّا معلول للوجوب النفسي أو معه ، فلا يعقل ثبوته إلا في فرض ثبوت الوجوب النفسي ، وفرض ثبوت الوجوب النفسي يعني أنّ مقدّمات الوجوب قد تمّت ووجدت فلا معنى لإيجابها.

التقسيم الثاني : تنقسم المقدّمة إلى مقدّمة وجوب ومقدّمة واجب.

فمقدّمة الوجوب من قبيل الاستطاعة بالنسبة لوجوب الحجّ والزوال لوجوب الصلاة ، ومقدّمة الواجب من قبيل السفر إلى الميقات للإتيان بالمناسك ، وهنا يفصّل فيقال : إنّ مقدّمة الوجوب لا تتّصف بالوجوب الغيري بينما مقدّمة الواجب تتّصف به.

أمّا عدم اتّصاف مقدّمة الوجوب بالوجوب الغيري ؛ فلأنّ مقدّمة الوجوب لا يكون المكلّف مسئولا عن إيجادها وتحصيلها قبل ثبوت الوجوب ؛ لأنّه لا محرّك ولا داعي نحو إيجادها من قبل الوجوب النفسي ؛ لأنّه موقوف عليها لأنّها دخيلة في موضوعه ، والوجوب لا يدعو إلى تحقيق موضوعه ؛ لأنّه في طول وجوده في عالم الفعليّة والمجعول وفي طول لحاظه وتصوّره في عالم الجعل والتشريع.

وعليه ، فكما أنّ المقدّمة الوجوبيّة لا تكون واجبة بالوجوب النفسي فكذلك لا

٢٧٨

يمكن أن تكون واجبة بالوجوب الغيري أيضا ؛ لأنّ الوجوب الغيري إمّا معلول للوجوب النفسي فلا يحصل إلا بعده وفي طوله ، وإمّا كلاهما معلولان معا للملاك فيوجدان معا وفي عرض واحد ، ولذلك يستحيل أن يثبت الوجوب الغيري على مقدّمة الوجوب ؛ لأنّ فرض ثبوته يعني ثبوت الوجوب النفسي إمّا قبله وإمّا معه ، ومع ثبوت الوجوب النفسي فهذا يفترض أنّ موضوعه وسائر ما يرتبط به من قيود وشروط ومقدّمات قد تحقّقت ؛ لأنّه موقوف عليها كما قلنا ، فإذا كانت حاصلة فلا معنى لإيجابها غيريّا ؛ لأنّه يكون تحصيلا للحاصل وإيجابا لشيء قد فرغ عن وجوده وحصوله فيكون لغوا.

وأما مقدّمة الواجب فهي تتّصف بالوجوب الغيري بلا إشكال ؛ لأنّ الداعي لإيجاد وتحصيل الواجب هو نفسه يكون داعيا ومحرّكا نحو المقدّمة الموقوف عليها ، ولذلك يحكم العقل بلزوم تحصيل هذه المقدّمة وعلى أساس الملازمة يتعلّق بالمقدّمة الوجوب الغيري.

التقسيم الثالث : تقسيم المقدّمة إلى شرعيّة وعقليّة وعلميّة.

والمقدّمة الشرعيّة ما أخذها الشارع قيدا في الواجب.

والمقدّمة العقليّة ما يتوقّف عليها ذات الواجب تكوينا.

والمقدّمة العلميّة هي ما يتوقّف عليها تحصيل العلم بالإتيان بالواجب ، كالجمع بين أطراف العلم الإجمالي.

ولا شكّ في أنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق بالمقدّمة العلميّة ؛ لأنّها ممّا لا يتوقّف عليها نفس الواجب بل إحرازه ، كما لا شكّ في تعلّقه بالمقدّمة العقليّة إذا ثبتت الملازمة ، وإنّما الكلام في تعلّقه بالمقدّمة الشرعيّة.

التقسيم الثالث : تقسيم المقدّمة إلى شرعيّة وعقليّة وعلميّة.

أمّا المقدّمة الشرعيّة فهي المقدّمة التي أخذها الشارع قيدا في الواجب ، كالوضوء بالنسبة للصلاة.

وأمّا المقدّمة العقليّة فهي المقدّمة التكوينيّة التي يتوقّف عليها الإتيان بالواجب ، كالسفر بالنسبة إلى الحجّ.

وأمّا المقدّمة العلميّة فهي المقدّمة التي يتوقّف عليها تحصيل العلم بالإتيان بالواجب ،

٢٧٩

كالإتيان بأطراف العلم الإجمالي مثلا كما إذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة ، فالإتيان بالصلاتين يعتبر مقدّمة علميّة لتحصيل الواجب وإحرازه.

وهنا بحثوا في تعلّق الوجوب الغيري في هذه الأقسام أو في بعضها فقط ، فقالوا : أمّا المقدّمة العلميّة فلا شكّ ولا خلاف في عدم تعلّق الوجوب الغيري بها ؛ وذلك لأنّها ليست مقدّمة للإتيان بالواجب ، بل هي مقدّمة لإحرازه ، بمعنى أنّ الواجب لا يتوقّف الإتيان به على هذه المقدّمة بل يوجد من دونها ، فإنّ المكلّف يمكنه أن يصلّي الظهر فقط أو العصر فقط ، وليست إحدى الصلاتين موقوفة على الأخرى ، وإنّما الذي يتوقّف على هذه المقدّمة العلميّة هو تحصيل العلم بأنّه قد أتى بالواجب ؛ لأنّه بالجمع بين الصلاتين يحرز أنّه أتى بالواجب يقينا. إذا فهي خارجة عن محلّ الكلام ؛ لأنّ البحث موضوعه المقدّمة التي يتوقّف عليها الواجب. نعم ، هي واجبة من باب تحصيل الفراغ اليقيني ومن باب الاحتياط.

وأمّا المقدّمة العقليّة فلا إشكال ولا خلاف في تعلّق الوجوب الغيري بها ـ على القول بالملازمة طبعا ـ وذلك لأنّ طيّ المسافة مثلا لمّا كان يتوقّف عليها الإتيان بالحجّ تكوينا فيحكم العقل بوجوبها ، وعلى أساس الملازمة يحكم الشارع بوجوبها الغيري.

وأمّا المقدّمة الشرعيّة كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فقد وقع الخلاف بينهم في تعلّق الوجوب الغيري بها وعدمه. ولذلك قال السيّد الشهيد :

إذ ذهب بعض الأعلام كالمحقّق النائيني رحمه‌الله (١) إلى أنّ المقدّمة الشرعيّة كالجزء تتّصف بالوجوب النفسي الضمني ، وعلى هذا الأساس أنكر وجوبها الغيري.

ودعوى الوجوب النفسي للمقدّمة الشرعيّة تقوم على افتراض أنّ مقدّميّتها بأخذ الشارع لها في الواجب النفسي ، ومع أخذها في الواجب ينبسط عليها الوجوب.

ونردّ على هذه الدعوى بما تقدّم (٢) من أنّ أخذها قيدا يعني تحصيص الواجب بها وجعل الأمر متعلّقا بالتقيّد ، فيكون تقيّد الفعل بمقدّمته الشرعيّة واجبا نفسيّا ضمنيّا لا القيد نفسه.

__________________

(١) فوائد الأصول ١ : ٢٦٥.

(٢) تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

٢٨٠