شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب

تعريف الواجب الغيري :

اتّضح ممّا تقدّم (١) أنّ المكلّف مسئول عن مقدّمات الواجب من قبل نفس الوجوب المتعلّق بها ؛ لأنّه يحرّك نحوها تبعا لتحريكه نحو متعلّقه ، وهذه المسئوليّة في حدودها العقليّة متّفق عليها باعتبارها من شئون حكم العقل بلزوم الامتثال.

وإنّما وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي للمقدّمة ، فالمشهور بين الأصوليّين هو أنّ إيجاب الشيء يستلزم إيجاب مقدّمته ، فتتّصف المقدّمة بوجوب شرعي غير أنّه تبعي ، إمّا بمعنى أنّه معلول لوجوب ذي المقدّمة ، أو بمعنى أنّ الوجوبين معا معلولان للملاك القائم بذي المقدّمة ، فهذا الملاك بنفسه يؤدّي إلى إيجاب ذي المقدّمة نفسيّا ، وبضمّ مقدّميّة المقدّمة يؤدّي إلى إيجابها غيريّا. وعلى كلا الوجهين فالتلازم بين الوجوبين محفوظ.

تمهيد : تقدّم سابقا أنّ المقدّمات على نحوين فتارة تكون مقدّمات وجوبيّة وأخرى تكون مقدّمات للواجب ، وقلنا بأنّ المكلّف ليس مسئولا عن إيجاد المقدّمات الوجوبيّة ؛ لأنّها دخيلة في موضوعه فلا يكون داعيا ولا محرّكا نحوها.

نعم ، المكلّف مسئول عن المقدّمات الوجوديّة للواجب ، وهذه المسئوليّة ثابتة بحكم العقل ، فالعقل يحكم بلزوم الإتيان بهذه المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الواجب كالسفر إلى الحجّ مثلا أو تحصيل الوضوء ونحوه من أجل الصلاة مع طهارة ، وهذا الوجوب العقلي الذي يحرّك المكلّف نحو المقدّمات حفاظا منه على تحقّق الامتثال والإطاعة لتكليف المولى ، إنّما نشأ من نفس ثبوت الوجوب المتعلّق بالواجب ،

__________________

(١) تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

٢٤١

فإنّه لمّا كان هذا الفعل واجبا ووجوبه فعليّ ، فالعقل يحكم بلزوم امتثاله وتحصيل سائر المقدّمات التي يتوقّف عليه الامتثال. إذا هذا الوجوب العقلي متفرّع عن الوجوب الشرعي للواجب.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه عند الأصوليّين.

وإنّما وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي للمقدّمات ، فهل يحكم الشارع بوجوب المقدّمات أم يكتفي بالإلزام والإيجاب العقلي الثابت لها؟

ذهب المشهور إلى أنّ إيجاب شيء يستلزم إيجاب مقدّمته أيضا ، فتتّصف المقدّمة بالوجوب الشرعي مضافا إلى الوجوب العقلي ، غير أنّ هذا الوجوب ليس وجوبا نفسيّا ناشئا من مبادئ في نفس المقدّمة ، وإنّما هو وجوب تبعي غيري أي أنّه بتبع الواجب النفسي كان هذا الوجوب.

والوجه في ذلك هو أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون الواجب النفسي هو العلّة لنشوء هذا الواجب الغيري ، فكان الواجب الغيري تابعا للوجوب النفسي من باب تبعيّة المعلول لعلّته. فمن هنا أطلق عليه الوجوب التبعي أي أنّه تابع لغيره وناشئ من غيره.

الثاني : أن يكون الوجوب النفسي والوجوب الغيري كلاهما تابعين للملاك الموجود في الواجب النفسي ، بمعنى أنّ الشارع لمّا لاحظ المبادئ من ملاك ومصلحة في الفعل تولّد من ذلك الوجوب النفسي فالوجوب تابع للملاك والمصلحة ، ولمّا لاحظ أنّ هذا الفعل لا يتحقّق إلا بمقدّمات يتوقّف وجوده عليها تولّد منه الوجوب الغيري ، فالوجوب النفسي والغيري كلاهما متولّدان من الملاك القائم في الفعل ، فهو الذي يسبّب وجود الوجوب النفسي المتعلّق بنفس الفعل ووجود الوجوب الغيري المتعلّق بمقدّمات الفعل ، ولذلك فكلاهما تابع للملاك ، فمن هنا كانت التسمية بالوجوب التبعي.

وعلى كلّ حال فسواء كانت التبعيّة على أساس الوجه الأوّل أو الوجه الثاني ، فلا إشكال في ثبوت الملازمة بين وجوب شيء نفسيّا ووجوب مقدّماته غيريّا ، غير أنّ التلازم على الوجه الأوّل يكون بين المقدّمات وذات الفعل مباشرة ؛ لأنّها معلولة له ، بينما على الوجه الثاني يكون التلازم بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها بتوسّط الملاك ؛ لأنّهما تابعان معا للملاك.

٢٤٢

ويعرّف هؤلاء القائلون بالملازمة الواجب الغيري بأنّه ما وجب لغيره ، أو ما وجب لواجب آخر. والواجب النفسي بأنّه ما وجب لنفسه أو ما وجب لا لواجب آخر.

وعلى هذا الأساس يصنّفون الواجبات في الشريعة إلى قسمين :

فالصلاة والصيام والحجّ ونحوها واجبات نفسيّة ، والوضوء والغسل وطيّ المسافة واجبات غيريّة.

تعريف الوجوب الغيري : عرّف القائلون بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته شرعا الواجب الغيري بأحد تعريفين :

أحدهما : أنّ الواجب الغيري : هو ما وجب لغيره. وفي مقابله الواجب النفسي : وهو ما وجب لنفسه.

والآخر : أنّ الواجب الغيري هو ما وجب لواجب آخر. وفي مقابله الواجب النفسي : وهو ما وجب لا لواجب آخر.

وعلى هذا الأساس قسّموا الواجبات الشرعيّة إلى قسمين :

أحدهما الواجبات النفسيّة كالصلاة والصيام والحجّ فإنّها واجبات وجبت لنفسها لا لغيرها ولا لواجب آخر.

والآخر الواجبات الغيريّة كالوضوء والغسل وطيّ المسافة فهذه واجبات وجبت لغيرها أي للصلاة والصيام والحجّ ، أو وجبت لواجب آخر وهو وجوب الصلاة والصيام والحجّ ولم تجب لنفسها أو بمعزل عن الواجب الآخر.

وأمّا الفرق بين التعريفين فيظهر في تماميّة الإشكال الآتي وعدمه.

وقد لوحظ عليهم : أنّ الصلاة ونحوها من الواجبات لم يوجبها الشارع إلا لما يترتّب عليها من الفوائد والمصالح ، وهي مغايرة وجودا لتلك الفوائد والمصالح فيصدق عليها أنّها وجبت للغير ، وهذا يعني أنّ كلّ هذه الواجبات تصبح غيريّة ، ولا يبقى في نطاق الواجب النفسي إلا ما كانت مصلحته ذاتيّة له كالإيمان بالله سبحانه وتعالى.

الإشكال على التعريف : أشكل على تعريف الوجوب الغيري ( بأنّه ما وجب للغير ) بأنّ كثيرا بل أغلب الواجبات التي ذكر أنّها واجبات نفسيّة قد أوجبها الشارع للغير لا لنفسها.

٢٤٣

فالصلاة مثلا أوجبها ؛ لأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصيام أوجبه ؛ لأنّه سبب لحصول التقوى ، وهكذا في سائر الواجبات النفسيّة. فإنّ الشارع إنّما أوجبها من أجل ما يترتّب عليها من المصالح والملاكات والفوائد سواء منها الماديّة أم المعنويّة.

والحال أنّ هذه الواجبات ليست هي نفس تلك الفوائد والمصالح ، بل هما متغايران ومتباينان في الوجود ، وحيث إنّها وجبت للغير فينطبق عليها تعريف الوجوب الغيري ، وهذا لا يمكن الالتزام به ؛ بل لا يبقى من الواجبات ما هو نفسي إلا الإيمان بالله عزّ وجلّ ، وما عدا ذلك كلّه واجب للغير.

وأجاب هؤلاء على الملاحظة المذكورة بأنّ الصلاة وإن كانت واجبة من أجل المصلحة المترتّبة عليها ، إلا أنّ هذا لا يدرجها في تعريف الواجب الغيري ؛ لأنّ الواجب الغيري ليس كلّ ما وجب لغيره ، بل ما وجب لواجب آخر ، والمصلحة الملحوظة في إيجاب الصلاة ليست متعلقا للوجوب بنفسها ، فلا يصدق على الصلاة أنّها وجبت لواجب آخر.

والجواب عن الإشكال : أن هذا الإشكال إنّما يرد على تعريف الوجوب الغيري ( بأنّه ما وجب للغير ) إلا أنّنا نبدّل التعريف إلى قولنا : ( بأنّه ما وجب لواجب آخر ) فكلّ شيء وجب من أجل واجب آخر يكون وجوبه غيريّا ، وحينئذ تكون الصلاة ونحوها واجبات نفسيّة ؛ وذلك لأنّها وجبت لنفسها ولم تجب لواجب آخر.

وأمّا الفوائد والمصالح التي تترتّب على الواجبات النفسيّة فهي وإن كانت كذلك ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ الصلاة مثلا صارت واجبا غيريّا ؛ لأنّها لم تجب لواجب آخر ، فإنّ هذه المصالح ليست واجبة ولم يتعلّق بها الوجوب في رتبة سابقة. نعم ، هي مجرّد فوائد ومصالح لا أكثر إلا أنّ الشارع لم يوجبها أوّلا وبالذات ، وإنّما أوجب الصلاة فهي متعلّق الوجوب دون تلك المصالح.

فإن سألت : كيف لا تكون تلك المصلحة واجبة مع أنّ الصلاة الواجبة إنّما أوجبت من أجلها؟

كان الجواب : أنّ الإيجاب مرجعه إلى الاعتبار والجعل الذي هو العنصر الثالث من عناصر تكوين الحكم في مقام الثبوت ، وغاية الواجب إنّما يجب أن تكون مشاركة للواجب بدرجة أقوى في عالم الحبّ والإرادة ؛ لأنّ حبّه إنّما هو لأجلها ،

٢٤٤

لا في عالم الجعل والاعتبار ؛ لأنّ الجعل قد يحدّد به المولى مركز حقّ الطاعة على نحو يكون مغايرا لمركز حبّ الأصيل ؛ لما تقدّم في بداية هذه الحلقة (١) من أنّ المولى له أن يحدّد مركز حقّ الطاعة في مقدّمات مراده الأصيل بجعل الإيجاب عليها لا عليه ، فتكون هي الواجبة في عالم الجعل دونه.

وقد يشكل بأنّ تلك المصالح والفوائد كيف لا تكون واجبة ، مع أنّ الواجبات الشرعيّة كالصلاة والصيام ونحوها إنّما أوجبها الشارع من أجل تلك المصالح ، فكانت هي السبب الباعث على تشريع تلك الواجبات؟

والجواب عن ذلك : هو أنّ الإيجاب يمثّل العنصر الثالث من مبادئ الحكم في عالم الثبوت ، كما تقدّم مفصّلا في بداية هذه الحلقة ، حيث قلنا بأنّ الشارع عند ما يريد أن يجعل الحكم فهو يمرّ في ثلاث مراحل ، هي : الملاك والإرادة والاعتبار.

والملاك : هو المصالح أو المفاسد التي تتعلّق بالفعل وعلى ضوء ذلك يحصل الشوق والحبّ المولوي فتنشأ المحبوبيّة أو المبغوضيّة.

ثمّ بعد ذلك يأتي دور الاعتبار ، وفي هذا اللحاظ يجعل الشارع الإيجاب أو التحريم ، ولكن الاعتبار يستخدمه الشارع من أجل تحديد مركز حقّ الطاعة ولكنّه ليس ضروريّا ، بمعنى أنّ الشارع إذا أحبّ شيئا وأراده فليس من الضروري أن يوجبه على المكلّف ويجعله مصبّا لحقّ الطاعة ، بل قد يوجبه أو يوجب مقدّماته التي يرى أنّها تؤدّي إليه لا محالة.

ومن هنا كان دور الاعتبار والذي يعبّر الإيجاب عنه هو تحديد ما يجعله المولى داخلا في حقّ الطاعة ، ولهذا فقد يتّحد الاعتبار مع ما أحبّه المولى وقد يغايره.

فإذا أوجب المقدّمات فهذا يعني أنّها هي الواجبة دون أصل الشيء الذي أحبّه وأراده ، ولا يكون المكلّف مسئولا إلا عمّا أوجبه الشارع ؛ لأنّه هو الذي حدّده داخلا في حقّ الطاعة دون أصل الشيء ، وإن كان أصل الشيء محبوبا بدرجة أقوى ، ولكن في عالم الحبّ والشوق والإرادة فقط دون عالم الإيجاب والجعل والاعتبار.

وبهذا يظهر الجواب عن الإشكال ، فإنّ كون المصالح والفوائد محبوبة للمولى لا يعني أنّها واجبة ؛ لأنّ الإيجاب فعل اختياري للمولى يبرز ما هو داخل في دائرة حقّ

__________________

(١) في البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

٢٤٥

الطاعة عمّا هو خارج عنها ، والمفروض أنّ المولى لم يوجب تلك المصالح وإن كانت محبوبة له ؛ لأنّه ليس كلّ شيء أحبّه المولى فهو واجب ، بل الواجب ما جعله واجبا بإبراز الاعتبار الكاشف عنه ، وعلى هذا فنقول :

وعلى هذا فإذا جعل الشارع الإيجاب على الصلاة ابتداء وحدّدها مركزا لحقّ الطاعة ، ولم يدخل المصلحة المنظورة له في العهدة ، كانت الصلاة واجبا نفسيّا لا غيريّا ؛ لأنّها لم تجب لواجب آخر ، وإن وجبت لمصلحة مترتّبة عليها ، وخلافا لذلك الوضوء فإنّه وجب من أجل الصلاة الواجبة فينطبق عليه تعريف الواجب الغيري.

وحاصل الجواب أن يقال : إنّ الشارع إذا جعل الإيجاب على الصلاة مثلا كانت الصلاة هي الواجبة ؛ لأنّ إيجابها معناه أنّ حقّ الطاعة قد حدّده المولى في نطاق الصلاة لا أكثر ، فتكون واجبا نفسيّا ؛ لأنّها وجبت لا لواجب آخر ؛ لأنّ المفروض أنّ تلك المصلحة لم تكن واجبة ؛ لأنّ المولى لم يدخلها في نطاق حقّ الطاعة ولم يجعل الإيجاب عليها.

نعم ، لو جعل الشارع الإيجاب على تلك المصلحة وجعل الإيجاب على الصلاة كانت الصلاة واجبا غيريّا ؛ لأنّها تكون في هذه الحالة قد وجبت لواجب آخر إلا أنّ مثل هذا الفرض لم يقع.

وهذا بخلاف وجوب الوضوء فإنّه وجب لأجل الصلاة والمفروض أنّ الصلاة واجبة أيضا ، فيكون الوضوء واجبا غيريّا ؛ لأنّه وجب لواجب آخر.

ومن هنا نعرف : أنّ ما تعلّق به الحبّ والشوق المولوي قد يكون هو نفس ما تعلّق به الإيجاب وقد يكون مغايرا له ، والسرّ في ذلك هو ما يلحظه المولى من مصلحة عند جعله الإيجاب ؛ إذ ليس كلّ محبوب للمولى يمكن أن يحقّقه المكلّف ، فإذا جعل الإيجاب عليه يلزم منه المشقّة أو العسر والحرج أو التكليف بما لا يطاق ، ولذلك يجعل الوجوب على مقدّماته التي توصل إليه أو التي من شأنها أن توصل إليه.

٢٤٦

خصائص الوجوب الغيري

٢٤٧
٢٤٨

خصائص الوجوب الغيري

ولا شكّ لدى الجميع في أنّ الوجوب الغيري للمقدّمة ـ إذا كان ثابتا ـ فهو لا يتمتّع بجملة من خصائص الوجوب النفسي. ويمكن تلخيص أحوال الوجوب الغيري فيما يلي :

أوّلا : أنّه ليس صالحا للتحريك المولوي بصورة مستقلّة ومنفصلة عن الوجوب النفسي ، بمعنى أنّ من لا يكون بصدد التحرّك عن الوجوب النفسي للحجّ لا يمكن أن يتحرّك بروحيّة الطاعة والإخلاص للمولى عن الوجوب الغيري لطيّ المسافة ؛ لأنّ إرادة العبد المنقاد التكوينيّة يجب أن تتطابق مع إرادة المولى التشريعيّة ، ولمّا كانت إرادة المولى للمقدّمة في إطار مطلوبيّة ذيها ومن أجل التوصّل إليه ، فلا بدّ أن تكون إرادة العبد المنقاد لها في إطار امتثال ذيها.

خصائص الوجوب الغيري : يختلف الوجوب الغيري عن الوجوب النفسي في عدّة نقاط ، فإنّنا إذا قلنا بوجوب المقدّمة الشرعي والذي هو وجوب غيري فهو لا يحمل نفس الخصائص التي يتميّز بها الوجوب النفسي ، ويمكننا تلخيص هذه الفوارق ضمن عدّة نقاط ، هي :

الخصوصيّة الأولى : بلحاظ المحرّكيّة.

فالوجوب النفسي من خصائصه كونه محرّكا وداعيا نحو إيجاد متعلّقه بصورة مستقلّة ومنفصلة عن أي شيء آخر ، فوجوب الصلاة مثلا يحرّك المكلّف بعد تحقّق موضوعه وصيرورته فعليّا نحو إيجاد متعلّقه أي الصلاة.

وأمّا الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة فهو لا يحرّك المكلّف نحو إيجادها بصورة مستقلّة ومنفصلة عن إيجاد ذي المقدّمة الذي هو الواجب النفسي ، فمثلا طيّ المسافة من أجل الحجّ الواجب لا يمكن أن يكون الوجوب الغيري المتعلّق بها محرّكا للمكلّف نحو

٢٤٩

إيجادها ، بقطع النظر عن التحرّك نحو إيجاد الحجّ الواجب ، فالمكلّف إذا لم يرد أن يحجّ مع وجوبه عليه فلا يتحرّك نحو طيّ المسافة لمجرّد وجوبها الغيري ، بمعنى أنّه لا يمكنه أن يأتي بهذه المقدّمة بقصد الإطاعة والامتثال للحجّ الواجب مع كونه لا يريد الحجّ.

نعم يمكنه أن يطوي هذه المسافة تكوينا فيسافر إلى الميقات مثلا ولكن من دون أن يقصد بها التوصّل إلى الحجّ الواجب ؛ لأنّه لا يوجد لديه إرادة لذلك ، ومع عدم حصول الإرادة للإتيان بالواجب فلا تنقدح لديه إرادة للإتيان بمقدّمته بقصد التوصّل إليها وإلا لحصل التهافت في الإرادة ؛ إذ لا معنى للإتيان بالمقدّمة بقصد الإطاعة مع كونه يريد المعصية وعدم الإتيان بالواجب.

والوجه في ذلك : هو أنّ المكلّف لمّا توجّه إليه الخطاب النفسي بالحجّ فإرادة المكلّف تصبح مصداقا لإرادة المولى التشريعيّة ؛ لأنّ المكلّف هو الذي يحقّق الإرادة التشريعيّة للمولى بالتحرّك تكوينا نحو امتثال الواجب ، ولمّا كانت إرادة المولى التشريعيّة قد تعلّقت بالمقدّمة على أساس التبعيّة للواجب النفسي ، فالإرادة التكوينيّة للمكلّف يجب أن تتطابق مع الإرادة التشريعيّة هذه ـ مع فرض كون المكلّف منقادا ومطيعا للمولى ـ فلا يمكنه الإتيان بالمقدّمة تكوينا ، إلا إذا أراد التوصّل بها إلى الواجب النفسي ، فإنّه حينئذ يكون منقادا ومطيعا ، ولذلك يكون المحرّك نحو المقدّمة هو نفس الوجوب النفسي.

وأمّا التحرّك نحو المقدّمة على أساس وجوبها الغيري من دون التوصّل إلى الواجب النفسي ، فهو ضرب من العبث واللهو ؛ لأنّه ليس هو المراد للمولى فلا يكون قد حقّق شيئا للمولى من الطاعة والامتثال.

نعم ، هناك محرّكيّة للوجوب الغيري ولكنّها في طول محرّكيّة الوجوب النفسي ، بمعنى أنّها مترشّحة من المحرّكيّة في الوجوب النفسي وناشئة منها.

وبعبارة أوضح معلولة لها وبتبعها وفي طولها ، وليست مستقلّة ومنفصلة عنها.

فإذا أراد التحرّك نحو الواجب النفسي نشأت لديه محرّكيّة أخرى تبعيّة وغيريّة نحو المقدّمة ، وأمّا إذا لم يكن يريد الواجب النفسي ولا يكون بصدد التحرّك نحوه فلن تنشأ لديه هذه المحرّكيّة نحو المقدّمة ، وإن كان يمكنه الإتيان بالمقدّمة ولكن بدواع أخرى كما هو واضح.

٢٥٠

وثانيا : أنّ امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا بما هو امتثال له ؛ وذلك لأنّ المكلّف إن أتى بالمقدّمة بداعي امتثال الواجب النفسي كان عمله بداية في امتثال الوجوب النفسي ويستحقّ الثواب عندئذ من قبل هذا الوجوب ، وإن أتى بالمقدّمة وهو منصرف عن امتثال الواجب النفسي فلن يكون بإمكانه أن يقصد بذلك امتثال الوجوب الغيري ؛ لما تقدّم من عدم صلاحيّة الوجوب الغيري للتحريك المولوي.

الخصوصيّة الثانية : بلحاظ الثواب.

فالوجوب النفسي إذا امتثله المكلّف وأتى بمتعلّقه استحقّ الثواب عليه ؛ لأنّه يكون مطيعا ومنقادا للمولى فيحكم العقل باستحقاقه الثواب من جهة تعظيمه واحترامه للمولى.

وأمّا الوجوب الغيري فهو بنفسه هل يوجب الإتيان به ثوابا زائدا على الثواب الموجود في الواجب النفسي أم لا؟

ذهب المشهور إلى أنّ الوجوب النفسي لا يوجب امتثاله الثواب بما هو واجب غيري ، أي لا يترتّب على عنوانه هذا أيّ ثواب ، وإنّما الثواب على الواجب النفسي فقط.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ المكلّف إذا جاء بالمقدّمة كطيّ المسافة بداعي امتثال الواجب النفسي وبقصد التوصّل إليه بها كان امتثاله هذا من بدايته يتّصف بأنّه امتثال للواجب النفسي.

أو بتعبير أدقّ يقال : إنّه شرع في امتثال الواجب النفسي ، وحينئذ يستحقّ الثواب على المقدّمة هذه لا بعنوان كونها مقدّمة ، بل بما هي شروع في امتثال الواجب النفسي ، وهذا الاستحقاق للثواب إنّما يأتي من قبل الوجوب المتعلّق بالواجب النفسي ، لا الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة.

وأمّا إذا لم يأت بالواجب النفسي بعد إتيانه بالمقدّمة بأن كان ناويا من أوّل الأمر ألاّ يأتي بالواجب النفسي بعد السفر وطيّ المسافة ، فهنا لا يكون مستحقّا للثواب لا على عنوان الواجب النفسي ولا على عنوان الواجب الغيري.

أمّا الأوّل فلأنّ المفروض أنّه لم يأت بالواجب النفسي فلا يستحقّ ثوابا من قبل الوجوب النفسي ، وأمّا الثاني فلأنّ عنوان المقدّميّة الذي هو ملاك الوجوب الغيري لم

٢٥١

يتحقّق فلا يستحقّ الثواب على الإتيان بالمقدّمة ؛ لأنّها لا تتّصف بعنوان المقدّميّة إذ المفروض أنّه لم يتوصّل بها إلى الواجب النفسي عن علم وعمد واختيار ، ومجرّد إتيانه بالمقدّمة لا يمكن أن يتّصف بالوجوب الغيري ؛ لأنّ هذا الإتيان لم يكن من قبل الوجوب الغيري ؛ لأنّه لا محرّكيّة ولا داعويّة له مستقلّة عن الوجوب النفسي كما تقدّم ، وبالتالي لا يستحقّ الثواب ؛ لأنّه لم يتحرّك عنه (١).

وثالثا : أنّ مخالفة الوجوب الغيري بترك المقدّمة ليست موضوعا مستقلا لاستحقاق العقاب ، إضافة إلى ما يستحقّ من عقاب على مخالفة الوجوب النفسي ؛ وذلك لأنّ استحقاق العقاب على مخالفة الواجب إنّما هو بلحاظ ما يعبّر عنه الواجب من مبادئ وملاكات تفوت بذلك. ومن الواضح أنّ الواجب الغيري ليس له مبادئ وملاكات سوى ما للواجب النفسي من ملاك ، فلا معنى لتعدّد استحقاق العقاب.

__________________

(١) وخالف في ذلك السيّد الخوئي ، حيث ذهب إلى استحقاق من أتى بالمقدّمة للثواب زائدا على الثواب الموجود في الواجب النفسي فيما لو كانت موصلة للواجب النفسي بأن جاء بالواجب النفسي بعد المقدّمة ، بل يستحقّ الثواب على الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي حتّى لو لم يتحقّق بعدها الواجب النفسي بأن صدّ أو منع أو عجز عنه فيما بعد. وعلّل ذلك بأنّ الثواب يترتّب على عنوان الانقياد والإطاعة وهو هنا ثابت.

وجوابه : أمّا استحقاق الثواب الزائد على الواجب النفسي فهذا لم يحصل من نفس الوجوب الغيري ، وإنّما حصل نتيجة ترتّب عنوان آخر وهو كون « أفضل الأعمال أحمزها » ، ممّا يعني أنّه استحقّ الثواب على عنوان الأشقيّة لا على عنوان الوجوب الغيري ، وهذا ما دلّت عليه الروايات وإلا لم يكن يستحقّ للثواب الزائد.

وأمّا استحقاق الثواب على الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل ولكن لم يترتّب عليها الواجب النفسي لا عن عمد واختيار ، فهذا إمّا يكون نحو تفضّل من المولى ، وإمّا للروايات الخاصّة التي دلّت على أنّ من يهمّ بالحسنة ولم يعملها فله ثوابها ، أو من همّ بعمل ولم يعمله كان له ثوابه.

وأمّا التعليل فهو وإن كان صحيحا إلا أنّه بمعنى أنّ المكلّف ينقاد للمولى ويأتي بمطلوب المولى النفسي بحسب علم المكلّف لا بحسب الواقع ؛ إذ قد لا يكون ما علم به ثابتا أصلا ، فالانقياد موضوعه أوسع ؛ لأنّه يشمل من يطيع ويأتي بالمطلوب النفسي الواقعي ومن يطيع ولا يأتي بالمطلوب النفسي الواقعي ، بل يأتي بما يعتقد أنّه كذلك مع كونه مخطئا في الحقيقة وغير مصيب للواقع.

٢٥٢

الخصوصيّة الثالثة : بلحاظ العقاب.

لا إشكال في عدم ترتّب العقاب على مخالفة الوجوب الغيري بترك المقدّمة ، بمعنى أنّه لا يحكم العقل باستحقاق المكلّف الذي يترك المقدّمة العقاب على ترك المقدّمة زائدا على العقاب الذي يستحقّه بترك ذي المقدّمة أي الواجب النفسي. وكذا لا يحكم العقل بازدياد العقوبة أو شدّتها وإلا للزم ازدياد العقاب كلّما كثرت المقدّمات ، وهذا لا يقول به أحد.

والوجه في عدم استحقاق العقوبة على ترك المقدّمة هو أنّ المناط في حكم العقاب باستحقاق العقوبة عند مخالفة الواجب إنّما يكون بلحاظ ما يفوت بترك الواجب من المبادئ والملاكات على المولى ، فالمكلّف بتركه للواجب الفعلي يكون قد فوّت على المولى ملاكا فعليّا مع قدرته على تحصيله ، ولذلك يحكم العقل باستحقاق العقوبة ، ولا يشترط أن يكون الملاك الذي يفوت ثابتا في الواقع ، بل يكفي أن يكون ثابتا باعتقاد المكلّف وعلمه ، ولذلك استحقّ المتجرّي العقوبة كالعاصي ؛ لأنّهما يشتركان في هتك حرمة المولى والتعدّي على حدوده.

وحينئذ يقال : إنّ الوجوب الغيري لمّا لم يكن ناشئا من ملاكات ومبادئ مستقلّة عن الواجب النفسي كما تقدّم سابقا ، فلا يكون عدم التحرّك عنه مفوّتا لملاك زائد عن الملاك الموجود في الواجب النفسي ، إذ تقدّم أنّ الواجب الغيري لا محرّكيّة ولا داعويّة له بنحو مستقلّ عن الواجب النفسي ، وهذا لأنّه ليس له مبادئ في نفسه ، ومن هنا لا يكون قد فات على المولى إلا ملاك واحد لا أزيد فيحكم العقل باستحقاق المكلّف عقوبة واحدة لا أكثر.

ومن هنا لم يكن هناك عقوبات متعدّدة بتعدّد المقدّمات فيما لو تركها جميعا ، فإنّ الوجدان والعرف يقضيان بعدم التعدّد ، وهذا شاهد على عدم كون الوجوب الغيري موضوعا مستقلاّ لحكم العقل باستحقاق العقوبة على الترك.

ورابعا : أنّ الوجوب الغيري ملاكه المقدّميّة ، وهذا يفرض تعلّقه بواقع المقدّمة دون أن يؤخذ فيه أيّ شيء إضافي لا دخل له في حصول ذي المقدّمة.

ومن هنا كان قصد التوصّل بالمقدّمة إلى امتثال أمر المولى والتقرّب بها نحوه تعالى خارجا عن دائرة الوجوب الغيري ؛ لعدم دخل ذلك في حصول الواجب النفسي.

٢٥٣

فطيّ المسافة إلى الميقات كيفما وقع وبأي داع اتّفق يحقّق الواجب الغيري ، ولا يتوقّف الحجّ على وقوع هذا الطي بقصد قربي ، وهذا معنى ما يقال : من أنّ الوجوبات الغيريّة توصّليّة.

الخصوصيّة الرابعة : في ملاك الوجوب الغيري.

ممّا تقدّم يظهر لنا أنّ الملاك للوجوب الغيري هو عنوان المقدّميّة ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري إنّما كان واجبا بملاك كونه مقدّمة للواجب النفسي ؛ إذ لو لم يكن مقدّمة للواجب النفسي لم يكن هناك أي داع ولا غرض للمولى في جعل الوجوب الشرعي عليه.

وهذا معناه أنّ الوجوب الغيري متعلّق بالمقدّمة أي بواقع المقدّمة ، أي ما يصدّق عليه في الواقع أنّه مقدّمة للواجب النفسي ، فمثلا طيّ المسافة إلى الميقات من أجل الحجّ الواجب إنّما يتّصف بكونه مقدّمة فيما لو كان واقعا وحقيقة مقدّمة يستتبعها الإتيان بالواجب ، بحيث لم يكن هناك أي شيء يمنع من تحقّق الواجب خارجا عن قدرة المكلّف واختياره ، فالمقتضي موجود وأمّا المانع الذاتي والداخلي فهو منتف.

نعم ، قد يتّفق حصول المانع الطارئ والخارج عن اختيار وقدرة المكلّف ، فيكون المقصود من واقع المقدّمة هو الفعل الذي من شأنه أن يؤدّي إلى الواجب ويكون مقتضيا لذلك في نفسه بقطع النظر عن المانع الخارجي ، وليس هناك أي شيء آخر يضاف إلى واقع المقدّمة ممّا لا يكون دخيلا في تحقّق ذي المقدّمة.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ قصد التوصّل بالمقدّمة إلى امتثال أمر المولى أي الواجب النفسي ، والتقرّب بالمقدّمة إلى المولى ليس داخلا في دائرة الوجوب الغيري ، بل هو خارج عنه ، بمعنى أنّ المكلّف لا يشترط حين إتيانه بالمقدّمة أن يقصد التوصّل بها إلى أمر المولى ولا يشترط أن يقصد القربة أيضا. نعم ، يمكنه أن يقصد ذلك إلا أنّه ليس شرطا.

والوجه في ذلك : هو أنّ الوجوب الغيري لمّا تعلّق بواقع المقدّمة فالمهمّ والمطلوب هو حصول هذه المقدّمة من المكلّف ، سواء قصد حين الإتيان بها القربة أم لا ، وسواء قصد التوصّل بها إلى الواجب أم لا. نعم ، يشترط ألاّ يقصد عدم التوصّل بها إلى الواجب ؛ لأنّه من الواضح أنّ المكلّف الذي يكون قاصدا عدم التوصّل بالمقدّمة إلى

٢٥٤

الواجب لن تكون المقدّمة واقعا ، بمعنى أنّ المقتضي ليس موجودا فيها ؛ لأنّنا قلنا : إنّ المقدّمة هي التي تكون واجدة لمقتضي الإتيان بالواجب ، فمن يقصد عدم الإتيان بالواجب يكون ما أتى به من فعل ليس مقدّمة حقيقة وواقعا.

وبتعبير آخر : إنّ طيّ المسافة للذهاب إلى الميقات من أجل الإتيان بالحجّ الواجب ، إنّما يتّصف هذا الفعل بعنوان المقدّميّة فيما إذا كان فيه المقتضي للإتيان بالواجب ، وهذا المقتضي يتحقّق بأن لا يقصد المكلّف عدم الإتيان بالواجب.

وأمّا شرطيّة قصد التوصّل بالمقدّمة إلى الواجب ، أو شرطيّة القربة لله تعالى بالمقدّمة فهذه خارجة عن دائرة الوجوب الغيري ؛ لأنّ عنوان المقدّمة أو واقع المقدّمة يتحقّق سواء قصد ذلك أم لا.

فمثلا من يذهب إلى الميقات من دون قصد التوصّل ومن دون قصد القربة يمكنه أن يأتي بالحجّ الواجب ما دام لم يقصد عدم الإتيان به ، وأمّا لو قصد عدم الإتيان بالحجّ الواجب فذهابه إلى الميقات لا يفيد شيئا ولا يسمّى مقدّمة أصلا ، إلا إذا تاب ورجع عن قصده ذاك.

ومن هنا يتّضح معنى ما يقال : من أنّ الواجبات الغيريّة توصّليّة ، فإنّ المقصود من ذلك أنّ الملاك من الوجوب الغيري هو عنوان الوصول ، أو ما يكون موصّلا إلى الواجب النفسي من دون أيّة إضافات أخرى. وهذا غير التوصّليّة المقابلة للتعبّديّة فإنّها بمعنى عدم اشتراط قصد القربة في الفعل في مقابل اشتراطه ، بينما هنا بمعنى الوصول بالمقدّمة إلى ذيها ، أي كون المقدّمة موصلة إلى الواجب النفسي بمعنى وجود المقتضي للإيصال.

٢٥٥
٢٥٦

مقدّمات غير الواجب

٢٥٧
٢٥٨

مقدّمات غير الواجب

كما تتّصف مقدّمات الواجب بالوجوب الغيري عند القائلين بالملازمة ، كذلك تتّصف مقدّمات المستحبّ بالاستحباب الغيري لنفس السبب.

وأمّا مقدّمات الحرام فهي على قسمين :

أحدهما : ما لا ينفكّ عنه الحرام ، ويعتبر بمثابة العلّة التامّة أو الجزء الأخير من العلّة التامّة له ، كإلقاء الورقة في النار الذي يترتّب عليه الاحتراق.

والقسم الآخر : ما ينفكّ عنه الحرام ، وبالإمكان أن يوجد ومع هذا يترك الحرام.

فالقسم الأوّل من المقدّمات يتّصف بالحرمة الغيريّة دون القسم الثاني ؛ لأنّ المطلوب في المحرّمات ترك الحرام وهو يتوقّف على ترك القسم الأوّل من المقدّمات ، ولا يتوقّف على ترك القسم الثاني.

ومقدّمات المكروه كمقدّمات الحرام.

مقدّمات غير الواجب على ثلاثة أنحاء :

الأوّل : في مقدّمات المستحبّ ، فهل هي مستحبّة غيريّا أم لا؟

الثاني : في مقدّمات الحرام ، فهل تكون محرّمة مطلقا أو يفصّل فيها؟

الثالث : في مقدّمات المكروه ، فهل هي مكروهة غيريّا مطلقا أو يفصّل فيها أيضا؟

أمّا الأمر الأوّل : فالقائلون بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، يقولون بالملازمة بين استحباب شيء واستحباب مقدّماته شرعا أيضا ، فتتّصف مقدّمات المستحبّ بالاستحباب الغيري.

والوجه في ذلك : هو نفس الملاك الذي ذكر في مقدّمة الواجب ، فإنّ مقدّمة الواجب إنّما وجبت عند من يقول بالملازمة لأجل كونها مقدّمة أي بملاك المقدّميّة ، بحيث يكون فعل الواجب متوقّفا عليها ، وهكذا يقال في مقدّمة المستحبّ.

٢٥٩

وأمّا الأمر الثاني : فإنّ مقدّمات الحرام على قسمين ، ولذلك لا بدّ من التفصيل بينها :

القسم الأوّل : المقدّمات التي لا ينفكّ عنها الحرام بحيث تكون العلّة التامّة لحصوله أو الجزء الأخير من العلّة التامّة لحصول الحرام ، كإلقاء الورقة في النار الذي يترتّب عليه الاحتراق ، وفرض أنّ الإحراق حرام كما هو ثابت بالنسبة لإحراق كلام الله عزّ وجلّ والقرآن والأحاديث بقصد الإهانة والهتك.

وهنا لا إشكال في كون هذه المقدّمات تتّصف بالحرمة الغيريّة ؛ وذلك لأنّ ملاك الحرام النفسي يتحقّق بها ، والحال أنّ المطلوب في الحرام هو ترك الفعل الذي تعلّقت به الحرمة ، وهذا الترك لمّا كان موقوفا على ترك علّته أو ما يكون بمثابة العلّة التامّة له أو جزئها الأخير ، فلا بدّ أن يتعلّق الحرام الغيري بالمقدّمات التي لا ينفكّ عنها الحرام ، فتكون مجموع المقدّمات محرّمة لا جميع المقدّمات ؛ إذ من الواضح أنّه لو أتى ببعض أجزاء العلّة دون البعض الآخر فسوف لن يتحقّق الحرام فلا تتّصف بالحرمة الغيريّة ، وإنّما يتّصف بها المجموع.

والمقدّمات من هذا القسم تسمّى بالمقدّمات التوليديّة ، أي التي تولّد الحرام بحيث تكون العلّة التامّة أو جزئها الأخير.

والقسم الثاني : هو المقدّمات التي ينفكّ عنها الحرام ، بمعنى أنّ الحرام قد يترتّب عليها وقد لا يترتّب ، ولذلك فهي ليست من قبيل العلّة التامّة أو جزئها الأخير للحرام ، بل هي من قبيل إيجاد المقتضي والسبب والمؤثّر والذي يتوقّف على عدم وجود المانع ، ومنه القصد والاختيار والإرادة من الغير ، فمثلا الجمع بين شخصين للزنا يكون مقدّمة للحرام ولكن قد يحصل الزنا وقد لا يحصل ؛ لأنّه موقوف على القصد والاختيار والإرادة من الغير لا من نفس الشخص الذي جمعهما.

وفي هذا القسم لا تتّصف المقدّمات بالحرمة الغيريّة ؛ لأنّ ترك الحرام لا يتوقّف على عدم هذه المقدّمات ؛ بل عليها وعلى شيء آخر ، ولذلك فهي لا تستتبع توليد الحرام بنفسها ولا تكون علّة له ولا يتوقّف عليها ، فلا تتّصف بملاك المقدّميّة فلا تحرّم.

وأمّا الأمر الثالث : فمقدّمات المكروه كمقدّمات الحرام ، فيفصّل فيها بين المقدّمات التوليديّة فتكون مكروهة غيريّا ، وبين المقدّمات الاختياريّة فلا تكون مكروهة كذلك.

* * *

٢٦٠