شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

الواجب

التوصّلي والتعبّدي

٢٠١
٢٠٢

الواجب التوصّلي والتعبّدي

لا شكّ في وجود واجبات لا يخرج المكلّف عن عهدتها إلا إذا أتى بها بقصد القربة والامتثال ، وفي مقابلها واجبات يتحقّق الخروج عن عهدتها بمجرّد الإتيان بالفعل بأي داع كان. والقسم الأوّل يسمّى بالتعبّدي ، والثاني يسمّى بالتوصّلي.

مقدّمة البحث : للواجب التوصّلي عدّة معان ويقابله في ذلك الواجب التعبّدي ، وهي :

١ ـ الواجب الذي يسقط بفعل أي واحد من المكلّفين ، ويقابله الواجب الذي لا يسقط إلا بفعل المكلّف نفسه ، وهذا البحث يأتي في الواجب العيني والواجب الكفائي.

٢ ـ الواجب الذي يسقط إذا فعله المكلّف ولو عن اضطرار ، ويقابله الواجب الذي لا يسقط إلا إذا فعله المكلّف اختيارا ، وهذا يأتي في البحث عن سقوط الواجب بالفعل الاضطراري وعدمه.

٣ ـ الواجب الذي يتحقّق امتثاله سواء كان في الفرد المحرّم أم المحلّل ، ويقابله الواجب الذي لا يتحقّق امتثاله إلا ضمن الفرد السائغ فقط ، وهذا يبحث عنه في اجتماع الأمر والنهي.

٤ ـ الواجب الذي لا يشترط فيه قصد القربة أو امتثال الأمر ، ويقابله الواجب الذي يشترط فيه قصد القربة أو قصد امتثال الأمر ، وهذا هو المبحوث عنه في المقام.

إذا الواجب التوصّلي في المقام : هو الواجب الذي يخرج المكلّف عن عهدته وتبرأ ذمّته بالإتيان به كيفما اتّفق من دون قصد القربة ولا امتثال الأمر ، بل مجرّد إتيانه بالفعل بأي داع كان يعتبر امتثالا للواجب.

٢٠٣

وأمّا الواجب التعبّدي : فهو الواجب الذي لا يخرج المكلّف عن عهدته ولا تبرأ ذمّته منه إلا بإتيانه بقصد القربة أو قصد امتثال الأمر لا كيفما كان.

ومثال الأوّل : أداء الدين ، فإنّه لا يشترط فيه نيّة القربة ، بل هو عبارة عن إرجاع مال الغير إليه بأي نحو كان.

ومثال الثاني : سائر العبادات ؛ كالصلاة والصيام والحجّ ، فإنّها يشترط فيها قصد القربة أو قصد الامتثال مضافا إلى إتيان أصل الفعل لا مجرّد الفعل فقط.

والكلام يقع في تحليل الفرق بين القسمين ، فهل الاختلاف بينهما مردّه إلى عالم الحكم والوجوب؟ بمعنى أنّ قصد القربة والامتثال يكون مأخوذا قيدا أو جزءا في متعلّق الوجوب التعبّدي ، ولا يكون كذلك في الوجوب التوصّلي ، أو أنّ مردّ الاختلاف إلى عالم الملاك دون عالم الحكم؟ بمعنى أنّ الوجوب في كلّ من القسمين متعلّق بذات الفعل ، ولكنّه في القسم الأوّل ناشئ عن ملاك لا يستوفى إلا بضمّ قصد القربة ، وفي القسم الثاني ناشئ عن ملاك يستوفى بمجرّد الإتيان بالفعل.

ومنشأ هذا الكلام هو احتمال استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر ، فإن ثبتت هذه الاستحالة تعيّن تفسير الاختلاف بين التعبّدي والتوصّلي بالوجه الثاني ، وإلا تعيّن تفسيره بالوجه الأوّل.

الفرق بين القسمين : الواجب التعبّدي هو الواجب الذي يشترط فيه قصد القربة أو قصد امتثال الأمر ، والواجب التوصّلي هو الواجب الذي لا يشترط فيه ذلك ، ولكن يتّجه البحث إلى تحليل هذا الفارق ، وهنا يوجد احتمالان :

الأوّل : أن يكون الفرق بينهما ناشئا عن عالم الوجوب والحكم ، بمعنى أنّ قصد القربة أو قصد امتثال الأمر قد أخذ قيدا أو جزءا في متعلّق الوجوب التعبّدي ، فقصد الامتثال يعتبر جزءا دخيلا من الواجب أو شرطا من شروطه ، بينما في الوجوب التوصّلي لم يؤخذ هذا الشيء لا قيدا ولا جزءا.

فالشارع عند ما أراد جعل الوجوب على الواجب التعبّدي أخذ في موضوعه ذات الفعل بالإضافة إلى هذا القيد بنحو الجزء أو الشرط ، بينما لم يأخذ ذلك في موضوع الواجب التوصّلي.

٢٠٤

الثاني : أن يكون الفرق بينهما في عالم الملاك والغرض ، بمعنى أنّ قصد القربة أو الامتثال ليس دخيلا في الوجوب ، بل الوجوب في التعبّدي والتوصّلي على حدّ واحد ، بمعنى أنّ الوجوب مجعول على ذات الفعل فقط ، وإنّما في الواجب التعبّدي كان الملاك والغرض منه سنخ ملاك لا يتحقّق ولا يمكن تحصيله إلا إذا جاء المكلّف بالفعل قاصدا التقرّب به أو مع قصد امتثال الأمر ، بينما في الواجب التوصّلي كان الملاك والغرض فيه يمكن تحصيله وتحقيقه سواء جاء المكلّف بالفعل بقصد القربة أو الامتثال أم لم يقصد ذلك حين إتيانه بالفعل.

فيعود الفرق حينئذ إلى كيفيّة تحصيل الملاك والغرض ، لا إلى كيفيّة جعل الوجوب.

ومنشأ الاحتمالين هو أنّ قصد القربة أو قصد امتثال الأمر ، هل يمكن أخذه في الوجوب بنحو الشرط أو الجزء أو يستحيل ذلك؟ فإن قيل بإمكان أخذه تعيّن الاحتمال الأوّل ، وإن قيل بالاستحالة تعيّن الاحتمال الثاني.

وعليه ، فالبحث ينصبّ حول إمكان أو استحالة أخذ هذا القيد في الوجوب ، وهذا بحث عقلي تحليلي يدخل ضمن البحث عن القضايا العقليّة التحليليّة ، وهو أيضا يقع صغرى لإثبات قضيّة عقليّة تركيبيّة ؛ لأنّ البحث عن الاستحالة نفيا أو إثباتا يشكّل برهانا على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر أو إمكانه.

ولذلك قال السيّد الشهيد :

ومن هنا يتّجه البحث إلى تحقيق حال هذه الاستحالة ، وقد برهن عليها بوجوه :

الأوّل : أنّ قصد امتثال الأمر متأخّر رتبة عن الأمر ؛ لتفرّعه عليه ، فلو أخذ قيدا أو جزءا في متعلّق الأمر والوجوب لكان داخلا في معروض الأمر ضمنا ، ومتقدّما على الأمر تقدّم المعروض على عارضه ، فيلزم كون الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا.

البراهين التي ذكرت على الاستحالة : وهنا يذكر السيّد الشهيد ثلاثة براهين تثبت استحالة أخذ قصد القربة أو قصد امتثال الأمر في عالم الحكم والوجوب ، وهي :

البرهان الأوّل : ما يظهر من صاحب ( الكفاية ) حيث قال : ( إنّ ما لا يكاد يتأتّى

٢٠٥

إلا من قبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلّقه ). ومراده إثبات الاستحالة للدور أو التهافت أو التقدّم والتأخّر.

ببيان : أنّ قصد امتثال الأمر متأخّر في الرتبة عن نفس الأمر ؛ لأنّ الأمر يوجد أوّلا ثمّ يقصد امتثاله أو لا يقصد ، والوجه في تأخّره عن الأمر هو أنّ الأمر إمّا أن تكون العلّة لهذا القصد ، أو يكون متقدّما عليه ولو من غير جهة العلّيّة ، فهناك طوليّة بين الأمر وبين قصده إمّا للعلّيّة وإمّا للترتّب في الوجود وإن لم يكن الأوّل علّة للثاني.

وعليه ، فلو أخذ قصد امتثال الأمر قيدا أو جزءا من متعلّق الأمر والوجوب ، بحيث كان الأمر والوجوب منصبّا على المتعلّق الذي يكون فيه قصد امتثال الأمر جزءا دخيلا فيه ، أو شرطا من شروطه العارضة عليه ، فهذا لازمه أن يكون قصد امتثال الأمر داخلا في معروض الأمر إمّا بنحو الجزئيّة أو بنحو الشرطيّة ، فإذا كان كذلك صار قصد امتثال الأمر متقدّما على الأمر ؛ لأنّ الأمر يعرض على هذا المتعلّق المركّب من الفعل ومن قصد امتثال الأمر ، ومن الواضح أنّ المعروض لا بدّ أن يثبت أوّلا ثمّ يعرض عليه الشيء.

وهنا لمّا كان الأمر عارضا على المتعلّق ، والمتعلّق مركّب من قصد الامتثال فلا بدّ من تحقّق المتعلّق أوّلا ، وتحقّقه يفترض أيضا تحقّق قصد امتثال الأمر ، ممّا يعني أنّ قصد امتثال الأمر صار متقدّما على الأمر مع كونه متأخّرا عنه رتبة كما هو المفروض ، فيلزم التقدّم والتأخّر بلحاظ الشيء الواحد.

بل يلزم منه التهافت في عالم اللحاظ والجعل ؛ إذ لحاظ الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا معا ممّا لا يمكن في نفسه ، وفي النتيجة يلزم الدور أيضا ؛ لأنّ الأمر صار متوقّفا على ثبوت قصد الامتثال وهو متوقّف بدوره على ثبوت الأمر أوّلا ؛ لأنّ الأمر يثبت ثمّ يقصد امتثاله. وبهذا يظهر أنّ أخذ هذا القيد مستحيل في نفسه.

إذا فالوجوب والحكم مجعول على ذات الفعل فقط ، فيتعيّن تفسير التعبّديّة والتوصّليّة على أساس الملاك والغرض لا على أساس الأمر والوجوب.

فالوجوب التعبّدي هو وجوب منصبّ على ذات الفعل ، ولكن الغرض والملاك لا يتحقّق إلا بقصد القربة والامتثال ؛ بخلاف التوصّلي فإنّ ملاكه يتحقّق بالإتيان بالفعل كيفما كان.

٢٠٦

والجواب : أنّ ما هو متأخّر عن الأمر ومتفرّع على ثبوته قصد الامتثال من المكلّف خارجا ، لا عنوانه وتصوّر مفهومه في ذهن المولى ، وما يكون متقدّما على الأمر تقدّم المعروض على عارضه هو عنوان المتعلّق وتصوّره في ذهن المولى ؛ لأنّه ما لم يتصوّر الشيء لا يمكنه أن يأمر به.

وأمّا الوجود الخارجي للمتعلّق فليس متقدّما على الأمر ، بل هو من نتائجه دائما فلا محذور.

وجواب هذا البرهان :

أنّ محذور التقدّم والتأخّر أو محذور الدور أو التهافت في اللحاظ ، إنّما يتمّ فيما إذا كان الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا على نفسه ، أو كان وجوده تارة يكون علّة وأخرى معلولا ، وهذا يشترط فيه أن تكون جميع الحيثيّات المأخوذة في التناقض متوفّرة ، والتي من جملتها وحدة الحمل ووحدة الموضوع ووحدة الجهة ووحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الكلّيّة والجزئيّة. وأمّا إذا كان هناك اختلاف في هذه الأمور فلن يتحقّق المحذور.

وتوضيحه : أنّ قصد امتثال الأمر حينما يفرض متأخّرا عن الأمر فهذا إنّما يكون بلحاظ عالم الواقع الخارجي ؛ لأنّ المكلّف لا يمكنه أن يقصد امتثال الأمر في الخارج حين إتيانه بالفعل أو بالواجب التعبّدي ، إلا إذا كان الأمر ثابتا وموجودا في رتبة سابقة.

ولكن حينما يفرض أنّ قصد امتثال الأمر متقدّم على الأمر ، فهذا إنّما يكون بلحاظ عالم الجعل والتشريع للأمر ؛ لأنّ المولى حينما يريد أن يجعل الأمر على شيء فهو يتصوّر موضوعه وكلّ ما له دخل في الموضوع ؛ ومنه قصد امتثال الأمر ـ فيما لو أخذ قيدا أو جزءا ـ ممّا يعني أنّ الوجود التصوّري واللحاظي أو المفهومي لقصد امتثال الأمر هو المفروض كونه متقدّما على الأمر ، لا قصد الامتثال حقيقة والذي لا يوجد إلا بفعل المكلّف له في الخارج.

إذا فهناك اختلاف في العالم والجهة ، فقصد امتثال الأمر المتأخّر إنّما هو في عالم الواقع الخارجي وهذا يكون بلحاظ المكلّف ؛ لأنّه هو الذي يقصد الامتثال ، بينما قصد امتثال الأمر المتقدّم إنّما هو في عالم الجعل والتشريع والتصوّر واللحاظ المفهومي وهذا يكون بلحاظ الشارع ؛ لأنّه هو الذي يجعل الأمر.

٢٠٧

والنتيجة : هي عدم لزوم المحذور من أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في موضوع الأمر أو جزءا منه ؛ لعدم لزوم توقّف الشيء على نفسه الذي هو ملاك الدور ؛ لأنّ الأمر الذي هو فعل للمولى عالمه هو واقع الجعل والتشريع ، واللحاظ متوقّف على تصوّر قصد امتثال الأمر ولحاظه المفهومي ، بينما الأمر بلحاظ الخارج ليس متوقّفا على قصد امتثال الأمر ، بل هو متقدّم عليه ، فاختلفت الجهة ومعها لا يكون الشيء متوقّفا على نفسه.

وهكذا بالنسبة للتقدّم والتأخّر فهو متأخّر بلحاظ عالم الجعل والتشريع ولكنّه متقدّم بلحاظ عالم الواقع الخارجي. وبذلك لا يلزم التهافت في اللحاظ ؛ لأنّه في لحاظ المولى كان الأمر متأخّرا فقط ، وفي لحاظ المكلّف كان الأمر متقدّما فقط.

والبرهان المذكور انطوى على مغالطة واضحة وخلط بين الموضوع والمتعلّق والجعل والمجعول ، ولهذا قال السيّد الشهيد :

وكأنّ صاحب هذا البرهان اشتبه عليه المتعلّق بالموضوع ، فقد عرفنا سابقا (١) أنّ فعليّة الوجوب المجعول تابعة لوجود الموضوع خارجا ، وحيث اختلط على هذا المبرهن المتعلّق والموضوع ، فخيّل له أنّ قصد الامتثال إذا كان داخلا في المتعلّق فهو داخل في الموضوع ، ويكون الوجوب الفعلي تابعا لوجوده بينما وجوده متفرّع على الوجوب.

ونحن قد ميّزنا سابقا بين المتعلّق والموضوع (٢) ، وميّزنا بين الجعل والمجعول (٣) ، وعرفنا أنّ المجعول تابع في فعليّته لوجود الموضوع خارجا لا لوجود المتعلّق ، وأنّ الجعل منوط بالوجود الذهني لأطرافه من المتعلّق والموضوع لا الخارجي ، فلا تنطوي علينا المغالطة المذكورة.

بيان الاشتباه والمغالطة في البرهان المتقدّم :

تقدّم سابقا بيان المراد من المتعلّق والموضوع ، وهنا نقول باختصار :

__________________

(١) تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

(٢) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الأولى ، تحت عنوان : العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه.

(٣) في بحث الدليل العقلي من هذه الحلقة ، تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

٢٠٨

المتعلّق هو ما ينصبّ عليه الحكم مباشرة ، فهو متعلّق الحكم كقولنا : ( أكرم ) فإنّ متعلّق الوجوب هو الإكرام ، وكقولنا : ( صلّ ) فإنّ متعلّق الوجوب هو الصلاة.

وأمّا الموضوع فهو متعلّق الحكم ، أي أنّ متعلّق الحكم قد تعلّق بشيء آخر فهو الموضوع ، كقولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ الإكرام تعلّق بالعالم فهو متعلّق المتعلّق فيسمّى الموضوع ، وكقولنا ( يجب الحجّ على المستطيع ) فإنّ المستطيع متعلّق وجوب الحجّ فهو الموضوع.

وتقدّم أيضا الفرق بين الجعل والمجعول ، فقلنا : إنّ الجعل : هو عبارة عن جعل الحكم على موضوعه المقدّر والمفترض الوجود ، بينما المجعول : هو عبارة عن فعليّة الحكم لتحقّق موضوعه في الخارج ، فالجعل يتوقّف على تصوّر وافتراض الموضوع ، بينما المجعول يتوقّف على تحقّق الموضوع في الخارج.

وحينئذ نقول : إنّ صاحب البرهان المذكور قد اشتبه عليه الموضوع بالمتعلّق ، وخلط بين الجعل والمجعول ؛ وذلك لأنّ قصد امتثال الأمر حينما أخذ قيدا في متعلّق الأمر تخيّل صاحب هذا البرهان أنّه مأخوذ في الموضوع ودخيل فيه.

وحيث إنّ الموضوع إذا صار فعليّا في الخارج فيتّبعه فعليّة الأمر المجعول فيلزم ـ على حسب اعتقاده ـ أنّ قصد امتثال الأمر لا بدّ أن يصبح فعليّا ؛ لأنّه دخيل في الموضوع في مرحلة سابقة عن فعليّة الأمر نفسه ، مع أنّه متأخّر عن الأمر كما هو المفروض فيلزم الدور أو التوقّف والتأخّر.

ولكنّ الصحيح هو أنّ قصد امتثال الأمر ليس دخيلا في الموضوع وإنّما هو قيد مأخوذ في المتعلّق ، أي في الشيء الذي تعلّق به الأمر مباشرة وانصبّ عليه ، فقولنا : ( صلّ ) يكون قصد امتثال الأمر دخيلا في الصلاة التي هي متعلّق الأمر فيكون المطلوب هو الصلاة عن هذا القصد ، وهكذا في قولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ قصد الامتثال قيد في الإكرام لا في العالم ، أي أنّ الإكرام لا بدّ أن يقع بهذا القصد ولا مدخليّة للموضوع في ذلك.

وعليه ، فلا يكون قصد الامتثال دخيلا في الموضوع لكي يكون فعليّة الأمر موقوفة على فعليّة الموضوع ، وبالتالي موقوفة على فعليّة هذا القيد.

إذا ففعليّة الأمر في الخارج موقوفة على فعليّة الموضوع ، ولا مدخليّة لقصد الامتثال

٢٠٩

في ذلك ؛ لأنّه ليس دخيلا في الموضوع وإنّما هو دخيل في المتعلّق فقط ، وحينئذ لا يكون الأمر موقوفا على قصد امتثال الأمر في الخارج ، وإن كان موقوفا عليه في عالم الجعل واللحاظ الذهني كما سنبيّن.

وقصد امتثال الأمر موقوف على فعليّة الأمر في الخارج فهو متأخّر عنه ولكنّه متقدّم عليه في عالم الجعل واللحاظ ، وهذا لا مانع منه.

والوجه في ذلك : هو أنّ الحكم أو الأمر في عالم الجعل لا بدّ أن يكون متأخّرا عن تصوّر موضوعه ومتعلّقه ، وكلّ ما له دخل فيهما ، بمعنى أنّ كلّ هذه الأمور تفترض مقدّرة الوجود وتلحظ في رتبة سابقة عن الأمر ، فوجودها الذهني اللحاظي في عالم الجعل متقدّم على الأمر ، ولكن فعليّة الأمر في الخارج موقوفة على فعليّة الموضوع فقط في الخارج لا على وجود المتعلّق.

فإذا تحقّق الموضوع في الخارج كان الأمر فعليّا وهو بذلك يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، فالمتعلّق متأخّر في وجوده عن الأمر الفعلي في عالم المجعول وإن كان متقدّما عليه في عالم الجعل ، ولكن المتقدّم هو لحاظ ومفهوم المتعلّق وما له دخل في المتعلّق كقصد امتثال الأمر ، وما هو المتأخّر هو وجود المتعلّق في الخارج وما له دخل فيه كالقيد المذكور ، فيكون قصد الامتثال بوجوده الذهني متقدّما ؛ لأنّه دخيل في المتعلّق وهو لا بدّ من فرض وجوده حين جعل الأمر ، ويكون بوجوده الخارجي متأخّرا عن فعليّة الأمر ؛ لأنّ الأمر الفعلي يدعو إلى إيجاد متعلّقه وكلّ ما له دخل في المتعلّق.

وعلى أساس هذه التفرقة بين الموضوع والمتعلّق من جهة وبين الجعل والمجعول من جهة أخرى ، يتّضح لنا حال هذا البرهان المبني على هذه المغالطة والاشتباه.

الثاني : أنّ قصد امتثال الأمر عبارة عن محرّكيّة الأمر ، والأمر لا يحرّك إلا نحو متعلّقه ، فلو كان نفس القصد المذكور داخلا في المتعلّق لأدّى إلى أنّ الأمر يحرّك نحو نفس هذه المحرّكيّة ، وهذا مستحيل.

وببيان آخر : أنّ المكلّف لا يمكنه أن يقصد امتثال الأمر إلا بالإتيان بما تعلّق به ذلك الأمر ، فإن كان القصد المذكور دخيلا في المتعلّق فهذا يعني أنّ الأمر لم يتعلّق بذات الفعل ، فلا يمكن للمكلّف أن يقصد الامتثال بذات الفعل.

وإن شئت قلت : إنّ قصد امتثال الأمر بفعل يتوقّف على أن يكون مصداقا

٢١٠

لمتعلّق الأمر ، وكونه كذلك ـ على فرض أخذ القصد في المتعلّق ـ يتوقّف على انضمام القصد المذكور إليه ، وهذا يؤدّي إلى توقّف الشيء على نفسه ، واستحالة الامتثال.

البرهان الثاني : وهو أيضا ما يظهر من كلمات صاحب ( الكفاية ) في المقام حيث قال : ( إنّ الأمر بالفعل المقيّد أو المركّب من ذات الفعل وقصد الأمر لا يمكن أن يكون داعيا للإتيان بالفعل بقصد الأمر ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلّق به ، والفعل لا يكون مأمورا به ، فلا يمكن الإتيان به بقصد الأمر ) ، وهذا البرهان ذكره المحقّق الأصفهاني أيضا. ولهذا البرهان ثلاثة تقريبات :

التقريب الأوّل : وحاصله أن يقال : إنّ الأمر له داعويّة ومحرّكيّة نحو متعلّقه ؛ لأنّه إنّما يجعل لأجل المحرّكيّة والداعويّة ؛ إذ لو لم يكن له داعويّة ولا محرّكيّة لكان جعله لغوا ، ولذلك فبعد تحقّق موضوعه فهو يدعو ويحرّك نحو إيجاد متعلّقه.

فإذا قلنا بأنّ قصد امتثال الأمر دخيلا في المتعلّق ، فهذا معناه أنّ الأمر يحرّك ويدعو إلى قصد امتثال الأمر أيضا ، ولكن حيث إنّ قصد امتثال الأمر ليس إلا عبارة عن محرّكيّة الأمر ، باعتبار أنّ القصد عبارة عن التحرّك نحو الفعل ، فتكون النتيجة هي أنّ الأمر يحرّك نحو محرّكيّته ويدعو إلى داعويّته وهذا مستحيل ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلى نفسه ولا يحرّك نحو محرّكيّته ، وإنّما هو يدعو ويحرّك نحو متعلّقه أي الفعل.

وعليه ، فأخذ قصد الامتثال يؤدّي إلى هذا المحذور فلا يمكن الالتزام به.

التقريب الثاني : وحاصله : أنّ قصد امتثال الأمر إذا كان دخيلا في متعلّق الأمر ، فإذا أراد المكلّف أن يتحرّك نحو إيجاد متعلّق الأمر فلا بدّ أن يتحرّك نحو هذا القصد أيضا ، وحينئذ نقول : إن قصد امتثال الأمر هل هو دخيل في المتعلّق أو لا؟

فإن كان دخيلا في المتعلّق فهذا معناه أنّ المكلّف لا بدّ أن يقصد شيئين : ذات الفعل ، وقصد امتثال الأمر ؛ لأنّ المفروض كونه دخيلا في المتعلّق فلا بدّ من قصده ، وهذا باطل جزما ؛ لأنّ معناه محرّكيّة الشيء نحو نفسه ، وللزوم الخلف أيضا لصيرورة قصد الامتثال داخلا وخارجا ، أي علّة ومعلولا ؛ لأنّ المحرّكيّة سنخ من العلّيّة فيكون قصد الامتثال علّة للتحرّك ومعلولا للتحرّك أيضا ، وهو محال.

وإن لم يكن دخيلا في المتعلّق فهذا معناه أنّ متعلّق الأمر هو ذات الفعل فقط ،

٢١١

وهذا خلف المفروض ؛ إذ المفروض أنّ الفعل تعبّدي وليس توصّليّا ، فلا يتحقّق المطلوب بالإتيان بالفعل فقط.

وبهذا يظهر أنّه لا يمكن أن يكون قصد الامتثال قيدا في متعلّق الأمر.

التقريب الثالث : وحاصله : أنّ امتثال متعلّق الأمر يتوقّف على أن يكون ما أتى به المكلّف من فعل مصداقا للمأمور به ، أي مصداقا لما تعلّق به الأمر ، وإلا لو أتى بشيء آخر لم يتعلّق به الأمر لم يتحقّق الامتثال. نعم يحتاج تحقّق الامتثال حينئذ إلى دليل خاصّ ، وهو ما سوف يأتي في مبحث الإجزاء.

وهنا إذا كان قصد امتثال الأمر مأخوذا قيدا في متعلّق الأمر ، فهذا معناه أنّ امتثال الأمر متوقّف على أن يأتي المكلّف بالفعل مع قصد امتثال الأمر ، وهذا لازمه أن يكون قصد امتثال الأمر موقوفا على قصد امتثال الأمر وهو دور باطل.

ووجهه هو : أنّ المكلّف حينما يقصد امتثال الأمر لا بدّ أن يأتي بذات الفعل منضمّا إليه قصد امتثال الأمر ، ولا يكفي إتيانه بذات الفعل فقط ، وحينئذ يتوقّف قصد امتثال الأمر على قصد امتثاله وهو دور مستحيل ، ولذلك يستحيل أخذه قيدا في متعلّق الأمر.

والحاصل : أنّ أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر يؤدّي إلى ثلاثة محاذير ، كلّها لا يمكن الأخذ بها ، وهي :

أوّلا : يؤدّي إلى أن يكون الأمر داعيا ومحرّكا نحو داعويّته ومحرّكيّته.

وثانيا : يؤدّي إلى صيرورة الشيء علّة ومعلولا ، أي متقدّما ومتأخّرا على نفسه في الرتبة.

وثالثا : يؤدّي إلى الدور ، لتوقّف الشيء على نفسه في الامتثال.

وقد أجيب علي ذلك بأنّ القصد إذا كان داخلا في المتعلّق انحلّ الأمر إلى أمرين ضمنيّين لكلّ منهما محرّكيّة نحو متعلّقه.

أحدهما : الأمر بذات الفعل. والآخر : الأمر بقصد امتثال الأمر الأوّل وجعله محرّكا.

فيندفع البيان الأوّل في البرهان المذكور بأنّ الأمر الثاني يحرّك نحو محرّكيّة الأمر الأوّل ، لا نحو محرّكيّة نفسه.

٢١٢

ويندفع البيان الثاني بأنّ ذات الفعل متعلّق للأمر وهو الأمر الضمني الأوّل.

أجاب المشهور عن هذا البرهان بما حاصله : أنّ أخذ قصد امتثال الأمر في المتعلّق معناه انحلال الأمر إلى أمرين ضمنيّين.

والوجه في ذلك : هو أنّ الأمر بالمركّب من الفعل وقصد الامتثال أو الأمر بالمقيّد من الفعل والقيد ينحلّ إلى أمرين ضمنيّين :

أحدهما : الأمر الضمني بذات الفعل.

والآخر : الأمر الضمني بقصد امتثال الأمر.

فيكون المكلّف مأمورا بأمرين : أحدهما الإتيان بذات الفعل أو بذات المقيّد ، والآخر الإتيان بالتقيّد ، أي كون هذا الفعل متقيّدا بقصد الامتثال. وبهذا سوف ينحلّ الإشكال المذكور بتقريباته الثلاثة :

أمّا التقريب الأوّل الذي يقول : إنّ الأمر سوف يكون محرّكا نحو نفسه لا نحو متعلّقه ، فهذا جوابه : أنّ ما هو المحال هو محرّكيّة الأمر نحو محرّكيّته بنفس هذا الأمر ، وأمّا محرّكيّة الأمر نحو محركيّة أمر غيره فلا استحالة فيها.

وفي مقامنا يكون الأمر الضمني الثاني المتعلّق بقصد امتثال الأمر محرّكا نحو محرّكيّة الأمر الضمني الأوّل لا نحو محرّكيّة نفسه ، والأمر الضمني الأوّل يحرّك نحو متعلّقه وهو الفعل.

وأمّا التقريب الثاني الذي يقول بأنّ أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر سوف يؤدّي إمّا إلى الخلف وإمّا إلى كون الشيء داعيا وعلّة نحو إيجاد نفسه ، فهذا جوابه : أنّنا نلتزم بكون قصد الامتثال يدعو إلى المحرّكيّة ، ولكنّ قصد الامتثال هنا يدعو إلى قصد امتثال الأمر الضمني الأوّل لا إلى قصد امتثاله نفسه ، فهو يحرّك وعلّة لإيجاد متعلّق الأمر الضمني الأوّل لا إلى إيجاد متعلّق نفسه ، فلا يكون علّة لنفسه ، بل يكون علّة لغيره أي لإيجاد ذات الفعل.

وأمّا التقريب الثالث الذي يقول بلزوم الدور وتوقّف الشيء على نفسه ، فجوابه : أنّ قصد امتثال الأمر لمّا كان مأمورا به بأمر ضمني مستقلّ عن الأمر الضمني الأوّل ، فهذا معناه أنّ امتثال المتعلّق يكون بالأمر الضمني الأوّل ، ولكنّ الأمر الضمني الثاني يدعو إلى امتثال الأمر الضمني الأوّل ، فامتثال الأمر الأوّل وإن كان موقوفا على الأمر

٢١٣

الثاني إلا أنّ الأمر الثاني ليس موقوفا على الأمر الأوّل ؛ لأنّه لا يدعو ولا يحرّك إلا إلى متعلّقه وهو الفعل فقط. نعم الأمر الثاني هو الذي يدعو إلى أن يكون امتثال الأمر الأوّل بقصد الامتثال (١).

الثالث : أنّ قصد امتثال الأمر إذا أخذ في متعلّق الأمر كان نفس الأمر قيدا من قيود الواجب ، وحيث إنّه قيد غير اختياري فلا بدّ من أخذه في موضوع الوجوب ، وهذا يعني أخذ الأمر في موضوع نفسه وهو محال ، وقد مرّ بنا هذا البرهان في الحلقة السابقة (٢).

__________________

(١) هذا ، ويمكن التعليق على هذا الجواب بأن يقال : إنّ الأمر الضمني لا محرّكيّة ولا داعويّة له بنحو استقلالي وزائدا على الأمر النفسي ، كما سيأتي في محلّه.

وعليه ، فالأمر الضمني لا يزيد في المحرّكيّة عن الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب ، وحينئذ يرجع المحذور ؛ لأنّه يقال : إنّ الأمر بالمركّب هل يدخل فيه قصد امتثال الأمر أو لا؟

فإن لم يكن داخلا فهو خلف المفروض من عدم تحقّق الامتثال بذات الفعل ، بل لا بدّ من قصد الامتثال معه ، وإن كان داخلا فهذا معناه محرّكيّة الأمر نحو محرّكيّة نفسه وداعويّته إلى داعويّته ، فيلزم التقدّم والتأخّر وتوقّف الشيء على نفسه.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر بالمركّب الذي ينحلّ إلى أمرين ضمنيّين لا يوجد فيه داعويّتان ومحرّكيّتان مستقلّتان ؛ وإلا للزم تحقّق الامتثال والعصيان معا فيما إذا حقّق أحد الأمرين دون الآخر ، وهذا باطل جزما ؛ لأنّه لا يوجد إلا إطاعة وامتثال واحد وعصيان واحد.

ويجاب على ذلك : إنّ الأمر الضمني لا يشترط فيه أن يكون له داعويّة ومحرّكيّة ، بل يكفي فيه أن يكون قد أخذ في عالم اللحاظ من أجل أن يتحقّق المطلوب ، بمعنى أنّ عدمه مانع من تحقّق المطلوب فلذلك يؤخذ.

فالأمر بالمركّب من ذات الفعل وقصد امتثال الأمر لا يشترط فيه أكثر من أن تكون هناك محرّكيّة وباعثيّة وداعويّة نحو الإتيان بالمتعلّق وهو الأمر الضمني الأوّل ، وأمّا الأمر الضمني الثاني وهو الأمر بقصد الامتثال فلا يشترط فيه الداعويّة والمحرّكيّة ، وإنّما أخذه الشارع تحت الأمر لكونه دخيلا في الملاك ، بحيث لا يتحقّق المطلوب إلا بفعل المتعلّق معه لا بدونه.

وبتعبير آخر : أخذ الشارع لهذا الأمر الضمني الثاني من أجل الحفاظ على الأمر الاستقلالي ، وهو الإتيان بالمتعلّق مع سائر ما يتعلّق به من شروط وقيود ، وهذا أثره في تحقّق الامتثال وعدمه ، فإنّه ما لم يأت بهذا القيد لا يتحقّق الامتثال ، وهذا يكفي لدفع محذور اللغويّة ، ولا يشترط في دفع اللغويّة إثبات المحرّكيّة ، بل يكفي وجود مطلق الفائدة والأثر.

(٢) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه.

٢١٤

البرهان الثالث : ما يظهر من الميرزا في ( أجود التقريرات ) حيث قال ما حاصله :

إنّ أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر يلزم منه الدور والتهافت في عالم اللحاظ.

وتوضيحه : أنّ متعلّق الأمر هو ما يكون الأمر داعيا إلى إيجاده وتحقيقه ، ومتعلّق المتعلّق هو الموضوع وهذا لا يكون الأمر داعيا إلى إيجاده ، بل يؤخذ مفروض الوجود وهذا هو الموضوع.

ثمّ إنّ القيود المأخوذة في الوجوب لا يجب تحصيلها ؛ لأنّها فوق الوجوب وهو موقوف عليها فلا يدعو إليها ؛ لأنّه معدوم قبل وجودها بخلاف قيود الواجب فإنّه يجب تحصيلها ؛ لأنّ الوجوب الثابت هو الذي يدعو لإيجادها.

وعليه ، فقيود الواجب لا بدّ أن تكون اختياريّة للمكلّف ، وإلا لكان من التكليف بغير المقدور ؛ لأنّه مسئول عنها ولا يمكن تكليفه بغير المقدور بخلاف قيود الوجوب فإنّها قد تكون اختياريّة أو غير اختياريّة على حدّ سواء ؛ لأنّ المكلّف ليس مسئولا عنها. ومن هنا إذا كان القيد الراجع للواجب غير اختياري فلا بدّ من إرجاعه إلى الوجوب أيضا ، وإلا لزم المحذور.

وفي مقامنا نقول : إنّ أخذ قيد قصد امتثال الأمر إن كان راجعا إلى المتعلّق والمفروض أنّ المتعلّق يجب إيجاده وتحصيله ؛ لأنّ الوجوب والأمر يدعو إلى إيجاده فيلزم أن يكون الأمر والوجوب داعيا إلى إيجاد قصد امتثال الأمر.

ولمّا كان قصد امتثال الأمر لا يمكن أن يتحقّق إلا بعد ثبوت الأمر ، بحيث إنّ الأمر يوجد أوّلا ثمّ يقصد امتثاله ، فهذا معناه أنّ الأمر والوجوب يكون داعيا إلى إيجاد الأمر أوّلا وإلى قصده بعد وجوده ثانيا ، ولذلك يلزم محذور الدور أو التهافت اللحاظي.

وبيانه : أنّ الأمر لمّا كان مأخوذا في المتعلّق والمفروض أنّه في عالم الجعل والتشريع للأمر ، لا بدّ أن يلحظ الشارع المتعلّق ، والموضوع مفروض الوجود ومقدّر ، فهذا معناه أنّه يلحظ الأمر مفروغا عنه مع أنّه لم يجعله بعد ، وهذا تهافت في اللحاظ ؛ لأنّه يفترض الشيء موجودا في عالم اللحاظ مع أنّه ليس موجودا بعد.

ويلزم منه الدور أيضا ؛ لأنّ الأمر يكون موقوفا على لحاظ الأمر في عالم الجعل ،

٢١٥

فالشارع حينما يريد جعل الأمر لا بدّ أن يجعل الأمر في رتبة سابقة ؛ لأنّه مأخوذ في المتعلّق ، وهو سابق على جعل الأمر ، فيكون جعل الأمر موقوفا على جعل الأمر.

وبتعبير آخر : إنّ قصد امتثال الأمر لمّا كان قيدا غير اختياري ـ لكون القصد موقوفا على ثبوت الأمر وثبوت الأمر فعل للمولى لا للمكلّف ـ فلا بدّ أن يكون قيدا للوجوب أيضا مضافا إلى الواجب ، ممّا يعني أنّه مأخوذ في موضوع الوجوب ؛ لأنّ كلّ قيود الوجوب تؤخذ في موضوعه.

وإذا كان دخيلا في الموضوع لزم المحذور ؛ لأنّ الأمر ـ سواء في عالم الجعل أو الفعليّة ـ موقوف على تحقّق الموضوع ، إمّا بلحاظ الفرض والتقدير في عالم الجعل ، وإمّا بوجوده الخارجي في عالم المجعول ، ممّا يعني أنّ الأمر موقوف على قصد امتثال الأمر وهو دور وتهافت ؛ لأنّ قصد امتثال الأمر عبارة عن القصد وعن ثبوت الأمر أيضا ، فيكون الأمر موقوفا على ثبوت الأمر ، وهو محال.

وقد يعترض عليه بأنّ القيد غير الاختياري للواجب إنّما يلزم أن يؤخذ قيدا في موضوع الوجوب ؛ لأنّه لو لم يؤخذ كذلك لكان الأمر محرّكا نحو المقيّد ، وهو يساوق التحريك نحو القيد ، مع أنّه غير اختياري ، فلا بدّ من أخذه في الموضوع ليكون وجود الأمر ومحرّكيّته بعد افتراض وجود القيد ، وفي هذه الحالة لا يحرّك إلا إلى التقيّد وذات المقيّد.

اعتراض السيّد الخوئي على هذا البرهان.

ومحصّله أن يقال : إنّ القيد غير الاختياري إذا كان راجعا إلى الواجب فليس دائما يجب إرجاعه إلى الوجوب ليكون دخيلا في موضوع الوجوب أيضا ، بل في بعض الحالات لا يجب إرجاعه للوجوب ، والضابط لذلك هو أنّ قيد الواجب غير الاختياري على نحوين : فتارة لا يكون حاصلا بمجرّد وجود الأمر ، وأخرى يحصل بحصول وثبوت الأمر نفسه.

ففي الحالة الأولى ـ أي فيما إذا لم يكن القيد غير الاختياري حاصلا بحصول الأمر ـ : فهنا يكون الأمر داعيا إلى إيجاده وتحصيله ؛ لكونه دخيلا في المتعلّق وقيدا له ، ولكن لمّا كان هذا القيد غير اختياري للمكلّف فكان التكليف به تكليفا بغير المقدور وهو محال ، ولذلك كان لا بدّ من إرجاعه إلى قيود الوجوب نفسه ، وحينئذ لا يكون

٢١٦

الوجوب داعيا لإيجاده وتحصيله ؛ لأنّ الوجوب لا يدعو إلى تحصيل وإيجاد قيود موضوعه ، لأنّها فوق الوجوب.

بينما في الحالة الثانية : فهذا القيد غير الاختياري المأخوذ في المتعلّق لا يجب أخذه في الموضوع أيضا ؛ وذلك لأنّه لمّا كان يحصل ويتحقّق بنفس حصول وثبوت الأمر فلا محذور في بقائه من قيود المتعلّق ؛ لأنّ الوجوب والأمر لن يدعو ويحرّك نحو إيجاده ؛ إذ المفروض أنّه يحصل معه فيكون التحريك نحوه لغوا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

ومثال الحالة الأولى قيديّة الزوال مثلا ، فإنّها لمّا كانت مأخوذة في الصلاة وهي غير اختياريّة تعيّن أخذها في الوجوب أيضا ، ولذلك لا يكون الوجوب داعيا المكلّف إلى تحصيل الزوال ، بل هو موقوف على حصول الزوال من نفسه ، ولو بقيت قيدا للمتعلّق فقط ـ أي للصلاة ـ للزم على المكلّف تحصيل الزوال ، وهو ليس باختياره فيكون تكليفا بغير المقدور ، وهو مستحيل.

ومثال الحالة الثانية ما نحن فيه من أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر ، فإنّ هذا القيد وإن لم يكن اختياريّا للمكلّف ، إلا أنّه لا يتعيّن أخذه في موضوع الوجوب ، بل لا معنى لذلك ؛ لأنّه يحصل بمجرّد حصول وثبوت الأمر ، وما دام كذلك فلا معنى لداعويّة الأمر لإيجاده وتحصيله ؛ لأنّها تكون لغوا.

وبتعبير آخر : إنّ القيد غير الاختياري إنّما يجب أخذه في قيود الوجوب أيضا ؛ لئلاّ يلزم من بقائه قيدا للمتعلّق فقط أن يكون الأمر داعيا إلى إيجاد المقيّد ، الذي هو عبارة عن ذات الفعل والقيد.

فإنّ التحريك نحو الفعل ممكن ، ولكنّ التحريك نحو القيد الذي هو قصد الامتثال غير ممكن ؛ للدور المتقدّم ، فإذا أخذ في موضوع الوجوب صار الأمر محرّكا نحو المتعلّق أي ذات الفعل دون القيد ؛ لأنّ المفروض أنّ الوجوب لا يتحقّق إلا إذا تحقّق القيد من نفسه.

فمحرّكيّة الوجوب تفترض أنّ القيد متحقّق من قبل ، فلا تكون هناك محرّكيّة إلا إلى ذات المقيّد والتقيّد دون القيد.

وأمّا إذا افترضنا أنّ القيد غير الاختياري كأن يحصل بحصول الأمر أيضا ، فهاهنا

٢١٧

لا مانع من بقاء قيديّة قصد امتثال الأمر راجعة إلى المتعلّق فقط دون الموضوع ؛ لأنّ الأمر لن يدعو ولن يحرّك نحو هذا القيد ؛ لأنّه يحصل معه فالتحريك نحوه تحصيل للحاصل فيلغو ، ومع عدم محرّكيّة الأمر إلى القيد فلا يكون محرّكا إلا إلى ذات المقيّد ، أي ذات الفعل مع تقيّده بالقيد دون القيد ، فلا محذور ولا دور.

ولا يخفى ما في العبارة من قصور لأداء هذا المعنى ، فإنّه لا بدّ من ذكر تتمّة لها بأن يقال في آخرها : ( ومقامنا ليس من هذا القبيل ، فإنّ قصد امتثال الأمر يحصل بنفس الأمر فلا يكون الأمر داعيا ومحرّكا نحوه فلا يتعيّن أخذه في موضوعه ، وبالتالي لا دور حينئذ ).

ثمّ إنّ السيّد الشهيد ره قد بيّن اعتراض السيّد الخوئي ره بنحو آخر ، فقال :

وهذا البيان إنّما يبرهن على أخذ القيد غير الاختياري للواجب قيدا في موضوع الوجوب إذا لم يكن مضمون الوجود بنفس جعل هذا الوجوب ، وأمّا إذا كان مضمونا كذلك فلن يحرّك الأمر حينئذ نحو القيد ؛ لأنّه موجود بنفس وجوده ، بل يتّجه في تحريكه دائما نحو التقيّد وذات المقيّد.

والمقام مصداق لذلك ؛ لأنّ الأمر يتحقّق بنفس الجعل الشرعي فأيّة حاجة إلى أخذه قيدا في الموضوع؟

وهذه التتمّة راجعة إلى تكملة اعتراض السيّد الخوئي ، فإنّ السيّد الشهيد قد ذكره ناقصا ولذلك أكمله بهذه التتمّة ، ونحن قد ذكرنا الاعتراض كاملا ، ولكن نعيده باختصار طبقا لهذه التكملة فنقول : إنّ القيد غير الاختياري إذا أخذ في المتعلّق أي الواجب ، كان لا بدّ من أخذه في الوجوب أي في موضوع الوجوب ، ولكن هذا إنّما يكون فيما إذا لم يكن القيد مضمون الحصول والوجود بمجرّد جعل الأمر وثبوته ، كما هو الحال في سائر القيود غير الاختياريّة كالزوال مثلا وما شابهه.

وأمّا إذا كان القيد مضمون الحصول بمجرّد ثبوت الأمر ، فحينئذ لا يجب أخذه في موضوع الوجوب مضافا إلى أخذه في المتعلّق ، بل يبقى قيدا للمتعلّق فقط ، ولا يلزم من ذلك المحذور المتقدّم عن الميرزا ؛ لأنّ الوجوب لن يدعو ولن يحرّك إلى إيجاد هذا القيد ؛ لأنّه لمّا كان يحصل بجعل الأمر وتشريعه فهو حاصل من نفسه ، فلا معنى للتحريك نحوه وإلا لكان لغوا وتحصيلا للحاصل.

٢١٨

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الأمر يثبت بمجرّد جعله وتشريعه فأخذ قصد امتثاله قيدا في المتعلّق لا يعني أنّ الوجوب يدعو ويحرّك نحوه ؛ لأنّه حاصل من نفسه مع الأمر ، وفائدته هي أنّ المطلوب هو إيجاد ذات المتعلّق ، وهذا ما يحرّك الوجوب نحوه مضافا إلى التقيّد بهذا القيد من دون أن يكون الوجوب داعيا إلى القيد.

هذه أهمّ براهين الاستحالة مع بعض التعليق عليها.

وبهذا ينتهي الحديث عن البراهين التي ادّعيت لإثبات الاستحالة مع بعض التعليق عليها (١).

وثمرة هذا البحث :

إنّ الاختلاف بين القسمين إذا كان مردّه إلى عالم الحكم فبالإمكان ـ عند الشكّ في كون الواجب تعبّديّا أو توصّليّا ـ التمسّك بإطلاق دليل الواجب لنفي دخل قصد الامتثال في متعلّق الوجوب ، كما هو الحال في كلّ القيود المحتملة ، فتثبت التوصّليّة.

وأمّا إذا كان مردّه إلى عالم الملاك ـ بسبب استحالة أخذ القصد المذكور في متعلّق الأمر ـ فلا يمكن التمسّك بالإطلاق المذكور لإثبات التوصّليّة ؛ لأنّ التوصّليّة لا تثبت حينئذ إلا بإثبات عدم دخل قصد الامتثال في الملاك ، وهذا ما لا يمكن

__________________

(١) والصحيح عندنا أن يقال : إنّ أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر مستحيل ؛ للدور والتهافت وتوقّف الشيء على نفسه ، ومحذور التهافت اللحاظي ثابت بحقّ العالم والجاهل ، بمعنى أنّ الآمر العرفي الذي لا يراعي الدقّة العقليّة لا يمكنه أخذ قيد الامتثال في متعلّق أمره ؛ لأنّه سوف يقع في التهافت اللحاظي.

إلا أنّ السيّد الأستاذ ( دام ظله ) قد ذهب إلى أنّه لا محذور في أخذ قصد الامتثال قيدا في متعلّق الأمر ، ودفع كلّ البراهين التي أقيمت على ذلك ، وتبنّى هذه المقولة وهي :

أنّ الأمر لا يكون داعيا إلا إلى ذات الفعل ، ولكنّه بنفس هذه الداعويّة تترشّح منه داعويّة إلى سائر القيود والأجزاء والشروط المأخوذة في الفعل أي المتعلّق ، ولكن هذه الداعويّة الثانية الضمنيّة لا محرّكيّة لها بنحو استقلالي وزائد على أصل محرّكيّة الأمر النفسي ، وإنّما هي داعويّة ناشئة من أجل الحفاظ على الأمر النفسي ، وهذا المقدار من الأثر يكفي لدفع محذور اللغويّة ؛ لأنّه لا يشترط من الأمر أن يكون دائما محرّكا ، بل يكفي أن يكون ذا أثر وفائدة ، وهذا حاصل.

٢١٩

إثباته بدليل الأمر لا مباشرة ؛ لأنّ مفاد الدليل هو الأمر لا الملاك ، ولا بصورة غير مباشرة عن طريق إثبات الإطلاق في متعلّق الأمر ؛ لأنّ الإطلاق في متعلّق الأمر إنّما يكشف عن الإطلاق في متعلّق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يأمر بالمقيّد فلم يفعل ، والمفروض هنا عدم الإمكان.

وأمّا الثمرة من البحث في رجوع قصد امتثال الأمر إلى الوجوب أو إلى الملاك ، فتظهر في موردين :

المورد الأوّل : عند الشكّ في التوصّليّة والتعبّديّة بلحاظ الأصل اللفظي ، فهنا تارة نقول بإمكان أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر ، وأخرى نبني على استحالته.

فإذا قلنا بإمكانه كان الاختلاف بين الواجب التعبّدي والواجب التوصّلي مرجعه إلى تقييد الحكم وإطلاقه ، فإذا شكّ في واجب أنّه تعبّدي أو توصّلي أمكن التمسّك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة لإثبات التوصّليّة ونفي التعبّديّة ؛ لأنّ التعبّديّة تحتاج إلى تقييد الحكم والأمر بقصد الامتثال ، فحيث لم يقيّد في لسان الدليل بذلك كشف عن إرادته التوصّليّة ؛ لأنّه لو كان يريد التعبّديّة لكان اللازم بيان القيد الزائد في لسان الدليل وهو ممكن بحسب الفرض ، فمع عدم ذكر القيد في الدليل فهو لا يريده وإلا لكان مخلاّ في البيان والتفهيم ، فتعيّن إرادة الإطلاق وهو معنى التوصّليّة.

وهذا نظير سائر الموارد التي يشكّ فيها في دخالة قيد ، فإنّه ينفى بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.

وأمّا إذا قلنا بالاستحالة فيكون الاختلاف بين التعبّديّة والتوصّليّة بلحاظ الملاك ، فإن كان الملاك مقيّدا فيكون الواجب تعبّديّا ، وإن كان مطلقا فيكون توصّليّا ، وهنا لا يمكننا إثبات التوصّليّة على أساس الإطلاق ومقدّمات الحكمة في لسان الدليل ؛ والوجه في ذلك هو أنّ إثبات الإطلاق في الملاك أو التوصّلية لا يكون إلا بأحد طريقين كلاهما غير تامّ :

أحدهما : إثبات الملاك على أساس إطلاق الدليل.

والآخر : إثبات الملاك على أساس إطلاق المدلول.

أمّا الطريق الأوّل فلأنّ إطلاق الدليل إنّما يثبت مدلوله المطابقي مباشرة ، ومدلول

٢٢٠