شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

حكم الملازمة : بعد أن اتّضح أنّ الحسن والقبح أمران واقعيّان يحكم بهما العقل العملي بمعنى إدراكه لما ينبغي أن يقع ولما ينبغي ألاّ يقع ، نأتي إلى تحقيق حال الملازمة ، فهل إذا حكم العقل العملي بحسن شيء أو قبحه حكم الشارع بوجوبه أو حرمته أم لا؟ قولان :

الأوّل : ما ذهب إليه مشهور العلماء من ثبوت الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع.

والثاني : ما ذهب إليه المحقّق العراقي والسيّد الخوئي من استحالة حكم الشارع على طبق ما حكم به العقل العملي. وممّن أنكر الملازمة صاحب ( الفصول ) أيضا. أمّا القول الأوّل : فقد قرّب بأنّ الشارع أحد العقلاء بل سيّد العقلاء ، فإذا حكم العقلاء بعقلهم بحسن شيء أو بقبحه ، فبما أنّ الشارع واحد منهم بل سيّدهم فهو داخل معهم في هذا الحكم ، غايته أنّ حكمهم بالحسن أو بالقبح بمعنى إدراكهم لذلك ، بينما حكمه بذلك يعني الإيجاب أو التحريم. وهذا التقريب ذكره المحقّق الأصفهاني (١).

وبتعبير آخر أدقّ : أنّ العقل إذا استقرأ استقراء تامّا فحكم بالحسن أو بالقبح أدّى ذلك إلى وجود حكم للشارع مطابق لما حكم به العقل ، وإن كان الاستقراء ناقصا فلا يستكشف منه حكم الشارع.

والتحقيق : أنّا تارة نتعامل مع الحسن والقبح بوصفهما أمرين واقعيّين يدركهما العقل ، وأخرى بوصفهما مجعولين عقلائيّين رعاية للمصالح العامّة.

فعلى الأوّل : لا معنى للتقريب المذكور ؛ لأنّ العقلاء بما هم عقلاء إنّما يدركون

__________________

(١) وذكر المحقّق النائيني أيضا بأنّ العقل إذا حكم بقبح الكذب المؤدّي إلى هلاك نبيّ مع عدم رجوع نفع في ذلك إلى الكاذب حكم العقل بحرمته قطعا ؛ لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد وقد حكم العقل بوجود المفسدة هنا فكيف لا يحكم الشارع بالحرمة؟!

وذكر الشيخ المظفّر أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه وتطابقت آراء العقلاء على ذلك بما هم عقلاء فلا بدّ أن يحكم الشارع على طبق ذلك أيضا ؛ لأنّه منهم بل رئيسهم ؛ لأنّه لو لم يشاركهم في ذلك لما كان ذلك الحكم رأي الجميع وهو خلاف الفرض. فإذا خالفهم ولم يحكم على طبق ما أطبقوا عليه كشف ذلك عن وجود مانع بنظر الشارع لم يدركه العقل ولا العقلاء.

٤٤١

الحسن والقبح ، ولا شكّ في أنّ الشارع يدرك ذلك ، وإنّما الكلام في أنّه هل يجعل حكما تشريعيّا على طبقهما أو لا؟

وعلى الثاني : إن أريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ ما أدركه العقلاء من المصالح العامّة التي دعتهم إلى التحسين والتقبيح ، فهذا استكشاف للحكم الشرعي بالحكم العقلي النظري لا العملي ؛ لأنّ مناطه هو إدراك المصلحة ولا دخل للحسن والقبح فيه.

وإن أريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ حكم العقلاء وجعلهم الحسن والقبح ، فلا مبرّر لذلك ؛ إذ لا برهان على لزوم صدور جعل من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.

والتحقيق : أنّ الحسن والقبح اللذين يدركهما العقل العملي ويحكم العقلاء على أساسهما بوجود حكم للشارع على طبقهما ، تارة نقول : إنّهما أمران واقعيّان ، وأخرى نعتبرهما مجعولين عقلائيّين تابعين للمصالح والمفاسد العامّة ، فهاهنا قولان :

الأوّل : أن نتعامل معهما على أساس أنّهما أمران واقعيّان يدركهما العقل ، وهذا ما اخترناه سابقا ، فعلى هذا لا يأتي التقريب المتقدّم ؛ لأنّ العقلاء إذا كانوا يدركون الحسن والقبح الواقعيّين فلازمه أيضا أن يكون الشارع مدركا لهما أيضا ؛ لأنّه من العقلاء بل سيّد العقلاء.

إلا أنّ هذه الملازمة لا تفيد شيئا وليست هي محلّ الكلام. وإنّما المطلوب استكشاف الحكم الشرعي من خلال إدراك الحسن والقبح ، وهذا لا يمكن استكشافه ولو سلّمت الملازمة بين إدراك العقلاء وإدراك الشارع ؛ لأنّ الحكم ليس تابعا لمجرّد وجود الحسن أو القبح ، بل هناك شروط لا بدّ من توفّرها ، وهناك موانع لا بدّ من أخذ عدمها ، ثمّ إن شاء الشارع جعل الحكم وإن شاء لم يجعله ؛ لأنّ الحكم جعل من الشارع وهو فعل اختياري للشارع وليس قهريّا عليه.

فدعوى الملازمة بين إدراك العقلاء للحسن والقبح وبين حكم الشارع على طبقهما أوّل الكلام ، ولا يمكن الاستدلال على الملازمة المذكورة بالملازمة بين إدراك العقلاء وإدراك الشارع ؛ لأنّ إدراك العقلاء معناه كشفهم عن ذلك ؛ لأنّهما أمران واقعيّان ـ

٤٤٢

بحسب الفرض ـ ومجرّد وجود الحسن والقبح لا يلزم منه وجود الإيجاب أو التحريم حتما وجزما ، بل قد يوجد ذلك وقد لا يوجد.

والحاصل : أنّ الحسن والقبح لمّا كانا واقعيّين فهما صفتان واقعيتان للأشياء والأفعال ، وإدراك العقلاء والعقل والشارع لهما يؤكّد هذا المعنى ، ولكنّه لا يدلّ على وجود حكم للشارع في موردهما جزما وقطعا ، بل قد يحكم وقد لا يحكم ؛ لأنّ الحكم جعل من الشارع باختياره.

الثاني : أن نتعامل معهما على أساس أنّهما حكمان عقلائيّان لا واقعيّة لهما قبل الجعل والاعتبار العقلائي التابع للمصالح والمفاسد العامّة ، فهنا يوجد احتمالان :

أحدهما : أن يراد إثبات الملازمة واستكشافها بين حكم العقلاء بالحسن والقبح ، وبين حكم الشارع بالوجوب والحرمة من خلال المصالح والمفاسد العامّة التي يدركها العقلاء في الحسن والقبح.

بمعنى أنّ العقلاء إنّما يحكمون بالحسن والقبح تبعا لوجود المصلحة في الأوّل والمفسدة في الثاني بلحاظ النوع البشري والنظام ، فيراد من خلال حكمهم بالحسن والقبح الكاشفين عن المصلحة والمفسدة إثبات حكم الشارع ، فالملازمة بالدقّة بين المصلحة والمفسدة وبين حكم الشارع.

وهذا جوابه : أنّ إثبات حكم الشارع من خلال المصلحة والمفسدة يرجع إلى مدركات العقل النظري كما تقدّم سابقا ، فإنّ المصلحة والمفسدة لا تقتضيان بذاتهما سلوكا وجريا معيّنا.

وحينئذ يأتي ما ذكرناه من عدم الملازمة بين حكم العقل النظري وبين حكم الشارع ؛ لأنّ الحكم الشرعي وإن كان تابعا للمصلحة والمفسدة إلا أنّه توجد هناك شرائط وخصوصيّات لا بدّ من توفّرها أو انتفائها لتتحقّق العلّة التامّة ، وليس مجرّد المصلحة والمفسدة وحدهما كافيين للحكم ؛ إذ قد توجد الموانع وحالات التزاحم المانعة من الحكم.

والعقل فضلا عن العقلاء لا يمكنهم إدراك كلّ هذه الخصوصيّات والحيثيّات والموانع والشرائط ؛ لأنّه محدود الاطّلاع بلا شكّ في ذلك.

٤٤٣

مضافا إلى أنّ إدراك الحسن والقبح شيء وإدراك المصلحة والمفسدة شيء آخر ، فإنّ إدراك الحسن والقبح من شئون العقل العملي بينما إدراك المصلحة والمفسدة من شئون العقل النظري ، فهنا وقع خلط بين الأمرين. ونحن حيث قلنا برجوع العقل العملي إلى العقل النظري بالتحليل فيدخل هذا الاحتمال في البحث المتقدّم.

والآخر : أن يراد إثبات الملازمة بلحاظ نفس الحسن والقبح ، بمعنى أنّ نفس حكم العقلاء بالحسن والقبح يلازمه حكم الشارع بالوجوب أو الحرمة ، فهذه الملازمة لا برهان ولا دليل عليها.

ومجرّد حكم العقلاء بحسن شيء أو قبحه لا يلازمه دائما أو قطعا حكم الشارع ؛ لأنّه يشترط فيه وجود أمور أخرى وانتفاء ما يكون مانعا أيضا مضافا إلى الحسن والقبح في الفعل. فدائما يحتمل أن يكون هناك شيء آخر غير الحسن والقبح ، وهذا ناشئ من محدوديّة اطّلاع العقل والعقلاء.

وأمّا الاتّجاه الثاني : فقد قرّب بأنّ جعل الشارع للحكم في مورد حكم العقل بالحسن والقبح لغو ؛ لكفاية الحسن والقبح للإدانة والمسئوليّة والمحرّكيّة.

ويرد على ذلك : أنّ حسن الأمانة وقبح الخيانة مثلا وإن كانا يستبطنان درجة من المسئوليّة والمحرّكيّة غير أنّ حكم الشارع على طبقهما يؤدّي إلى نشوء ملاك آخر للحسن والقبح وهو طاعة المولى ومعصيته ، وبذلك تتأكّد المسئوليّة والمحرّكيّة ، فإذا كان المولى مهتمّا بحفظ واجبات العقل العملي بدرجة أكبر ممّا تقتضيه الأحكام العمليّة نفسها حكم على طبقها وإلا فلا.

وبذلك يتّضح أنّه لا ملازمة بين الحكم العقلي العملي وحكم الشارع على طبقه ، ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه ، فكلا الاتّجاهين غير تامّ.

الاتّجاه الثاني : ذهب إلى استحالة الملازمة ، فإذا حكم العقل العملي بشيء استحال أن يكون للشارع حكم على طبقه.

وقد قرّب ذلك بلزوم اللغويّة ؛ وذلك أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو بقبحه كفى ذلك في إثبات المحرّكيّة والمسئوليّة والإدانة ؛ لأنّ حكم العقل بالحسن والقبح يستنتج ويقتضي سلوكا عمليّا معيّنا حسب ما يقتضيه الفعل.

٤٤٤

فإذا كان للشارع حكم أيضا لزم تحصيل الحاصل ؛ لأنّ الشارع يجعل الوجوب أو الحرمة ، وهذان يستفادان من نفس حكم العقل بالحسن أو القبح من دون حاجة إلى جعل الشارع ، فيكون جعله لغوا فيمتنع.

وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي والسيّد الخوئي.

ويرد عليه : أنّ حكم العقل بقبح الظلم وحسن العدل أو بقبح الكذب وحسن الصدق أو حسن الأمانة وقبح الخيانة وإن كان يستلزم جريا عمليّا وسلوكا على طبقه ، غير أنّ حكم الشارع بالوجوب أو الحرمة في ذاك المورد لا يلزم منه اللغويّة ؛ وذلك لأنّ حكم الشارع يوجد ملاكا آخر للتحرّك والمسئوليّة والإدانة ، وهذا الملاك هو الطاعة والامتثال لحكم الشارع. وعليه ، فيكون حكم الشارع بوجوب الصدق فيه ملاكان للتحرّك.

أوّلا ؛ لأنّه حسن في نفسه والحسن يقتضي التحرّك والسلوك العملي وفقا لما يقتضيه الصدق.

وثانيا : لأنّه طاعة للمولى ؛ لأنّه قد صار متعلّقا لتكليفه وحكمه فيحكم العقل بحسن إطاعته وقبح مخالفته.

وبذلك يظهر أنّ حكم الشارع يوجب تأكّد المحرّكيّة والمسئوليّة.

ومن هنا ، فإذا كان الشارع مهتمّا بحفظ أحكام العقل العملي بدرجة أكبر ممّا يقتضيه حكم العقل العملي من محرّكيّة وسلوك ، فلن يجد مانعا من إصدار حكم على وفق ما حكم به العقل.

وبهذا يظهر أنّ دعوى استحالة الملازمة كدعوى ضرورة الملازمة كلاهما غير تامّ في نفسه ، وإنّما الصحيح أنّ الشارع قد يحكم وقد لا يحكم في موارد حكم العقل بقبح شيء أو بحسنه.

* * *

٤٤٥
٤٤٦

حجّيّة الدليل العقلي

٤٤٧
٤٤٨

حجّيّة الدليل العقلي

الدليل العقلي إن كان ظنّيّا فهو بحاجة إلى دليل على حجّيّته ، ولا دليل على حجّيّة الظنون العقليّة. وأمّا إذا كان قطعيّا فهو حجّة من أجل حجّيّة القطع.

ونسب إلى بعضهم (١) القول بعدم حجّيّة القطع الناشئ من الدليل العقلي ، وهو بظاهره غير معقول ؛ لأنّ حجّيّة القطع الطريقي غير قابلة للانفكاك عنه مهما كان سببه.

ومن هنا حاول بعض الأعلام (٢) توجيهه ثبوتا بدعوى تحويل القطع الطريقي إلى موضوعي ، وذلك بأن يفرض عدم القطع العقلي قيدا في موضوع الحكم المجعول ، فمع القطع العقلي لا حكم ليكون القطع منجّزا له.

حجّيّة الدليل العقلي :

بعد أن فرغنا من الكلام عن القواعد التي يحكم بها العقل وهو بمثابة الصغرى ، نأتي للحديث عن حجّيّة هذه القواعد العقليّة وهذا بحث كبروي ، فهل هي حجّة أم لا؟

الصحيح هو التفصيل بين الأدلّة العقليّة الظنيّة والقطعيّة.

فإن كان الدليل العقلي ظنيّا فهو بحاجة إلى دليل خاصّ يدلّ على حجّيّته ، وإلا فإنّه لم يثبت لدينا حجّيّة كلّ الظنون العقليّة ، فإنّ ما استدلّ به على حجّيّة مطلق الظنّ وهو دليل الانسداد وغيره لم يكن تامّا في نفسه ، ولذلك يحتاج كلّ ظنّ إلى التعبّد بحجّيّته بمعنى قيام دليل قطعي على حجّيّته.

__________________

(١) نسبه الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول ١ : ٥١ إلى بعض الأخباريّين.

(٢) كالمحقّق النائيني في فوائد الأصول ٣ : ١٣ ـ ١٤.

٤٤٩

وأمّا إن كان الدليل العقلي قطعيّا فلا إشكال في حجّيّته من باب الأخذ بحجّيّة القطع كما تقدّم ؛ لأنّ سلب الحجّيّة عن القطع مستحيل مهما كان نوعه ومهما كان منشؤه. ولا يتمّ سلب الحجّيّة إلا بما ذكرناه من تحويل القطع إلى قطع موضوعي ، فإنّه يمكن أخذ عدمه قيدا كما تقدّم بيانه سابقا ، وأمّا إذا كان قطعا طريقيّا فلا يمكن الردع عن العمل به ، هذا هو التصوّر الصحيح.

إلا أنّ هناك جماعة من الأخباريّين قالوا بعدم حجّيّة الدليل العقلي حتّى وإن كان قطعيّا فضلا عمّا إذا كان ظنّيّا. فإذا حصل القطع عن طريق العقل فهذا القطع لا يكون حجّة على ثبوت الحكم المقطوع به من هذا الطريق.

وفيه : أنّ هذا غير معقول ؛ لأنّ القطع بعد حصوله يستحيل سلب الحجّيّة عنه كما يستحيل الردع عن العمل به ؛ لأنّ الردع إمّا أن يكون بدليل واقعي أو بدليل ظاهري وكلاهما مستحيلان.

أمّا الدليل الواقعي فلاستلزامه اجتماع الضدّين أو النقيضين في الواقع أو في نظر المكلّف على كلّ حال كما تقدّم بيانه في البحث عن حجّيّة القطع ، وأمّا الدليل الظاهري فلأنّه فرع الشكّ ومع القطع ولو بطريق العقل لا شكّ فلا موضوع له.

وعلى كلّ حال لا يمكن للمكلّف التصديق بتوجّهه إليه فلا يكون جدّيّا بنظره فيفقد الغرض والمطلوب من التكليف.

وهناك من ذهب إلى تحويل القطع من طريق العقل إلى قطع موضوعي في محاولة لتبرير مقالة الأخباريّين ، فقال : إنّ عدم القطع العقلي مأخوذ قيدا في الحكم الشرعي ، فإذا تحقّق الحكم الشرعي عن غير طريق العقل فيؤخذ به لتحقّق القيد ، وإن حصل القطع بالحكم الشرعي عن طريق العقل فلا يمكن الأخذ به ؛ لأنّ قيده لم يتحقّق فلا يكون موضوعه متحقّقا ومع انتفاء موضوع الحكم أو بعض قيوده لا يوجد الحكم ولا يكون فعليّا ولا منجّزا.

إذا ثبوتا يمكن أن يكون الشارع قد أخذ في موضوعات الأحكام عدم القطع بها من طريق العقل ، وهذا نتيجته سلب الحجّيّة عن القطع الحاصل من طريق العقل ، وهو ما يريده الأخباريّون.

٤٥٠

ويرد على ذلك :

أوّلا : أنّ القطع العقلي الذي يؤخذ عدمه في موضوع الحكم هل هو القطع بالحكم المجعول أو بالجعل؟

والأوّل واضح الاستحالة ؛ لأنّ القطع بالمجعول يساوق في نظر القاطع ثبوت المجعول فعلا ، فكيف يعقل أن يصدّق بأنّه يساوق انتفاءه؟!

وأمّا الثاني فلا تنطبق عليه هذه الاستحالة ؛ إذ قد يصدق القاطع بالجعل بعدم فعليّة المجعول ، ولكنّ التصديق بذلك هنا خلاف المفروض ؛ لأنّ المفروض قيام الدليل العقلي القطعي على ثبوت تمام الملاك للحكم ، فكيف يعقل التصديق بإناطة الحكم بقيد آخر؟!

وبكلمة موجزة : أنّ المكلّف إذا كان قاطعا عقلا بثبوت تمام الملاك للحكم فلا يمكن أن يصدّق بإناطته بغير ما قطع عقلا بثبوته ، وإذا كان قاطعا عقلا بثبوت الملاك للحكم ولكن على نحو لا يجزم بأنّه ملاك تامّ ويحتمل دخل بعض القيود فيه ، فليس هذا القطع حجّة في نفسه بلا حاجة إلى بذل عناية في تحويله من طريقيّ إلى موضوعي.

ويرد على تحويل القطع العقلي من طريقي إلى موضوعي :

أوّلا : أنّ أخذ عدم القطع العقلي قيدا في موضوع الحكم الشرعي ما ذا يراد به؟

فهل يراد أخذه كذلك في الحكم الشرعي المجعول أم في الحكم الشرعي بمعنى الجعل؟

فإن أريد أخذه في الحكم الشرعي بمعنى المجعول ، بأن يقال : إنّ فعليّة الحكم الشرعي وكونه منجّزا بحقّ المكلّف يشترط فيه ألاّ يكون قد قطع به من طريق العقل ، فهذا غير معقول في نفسه ؛ وذلك لأنّ القاطع بالحكم الشرعي من خلال العقل يرى أنّ الحكم الشرعي مجعولا بحقّه وفعليّا ومنجّزا عليه ، فكيف يصدّق في نفس الوقت بأنّه ليس فعليّا وليس منجّزا؟!

وهذا يعني أنّ مثل هكذا تقييد يلزم منه عدم الجدّيّة وعدم إمكان التصديق به ؛ لأنّ كلّ قاطع يرى أنّ التكليف المقطوع به فعلي بحقّه.

وإن أريد أخذه في الحكم الشرعي بمعنى الجعل ، بأن يقال : إنّ الجعل إذا قطع به

٤٥١

المكلّف بدليل العقل فهو ليس فعليّا في حقّه ولا منجّزا عليه ، فهذا معقول في نفسه ولا يلزم منه المحذور المتقدّم ؛ لأنّه يمكن للمكلّف أن يصدّق بذلك.

إلا أنّه في خصوص مقامنا مستحيل ؛ وذلك لأنّه يؤدّي إلى الخلف.

وبيانه : أنّه إذا قام الدليل العقلي القطعي لدى المكلّف على الحكم الشرعي فهذا معناه أنّ العقل قد لاحظ تمام ما هو دخيل في ملاك الحكم الشرعي ؛ لأنّ العقل لا يحكم بشيء إلا بعد ملاحظة الموضوع مع كلّ ما هو دخيل فيه وكلّ ما هو خارج عنه ، وهذا يعني أنّ حكم العقل بشيء معناه إدراكه لتمام الملاك المفروض في هذا الحكم الشرعي ، وحينئذ كيف يصدّق القاطع بوجود تمام الملاك للحكم بأنّ الحكم مقيّد بقيد آخر غير ما أدركه ولاحظه العقل؟! فإنّ هذا خلف ثبوت تمام الملاك للحكم لدى العقل.

وبتعبير آخر : إنّ الدليل العقلي القطعي إذا قام على ثبوت الحكم ، فإمّا أن يكون العقل قاطعا بتمام الملاك للحكم أو لا.

فإن كان قاطعا بتمام الملاك للحكم ، فالقاطع لن يصدّق بوجود قيد آخر قد علّق عليه هذا الحكم ؛ لأنّ قطعه بتمام الملاك يعني أنّ هذا القيد منتف جزما ، ومع عدم تصديقه بوجود قيد آخر سوف يكون قطعه بالجعل مساوقا لفعليّته.

وإن لم يكن قاطعا بتمام الملاك للحكم ، فمثل هذا الدليل العقلي لا يكون قطعيّا ، إذ ما دام يحتمل العقل وجود شيء آخر وراء ما أدركه ولاحظه فهذا يعني أنّه لم يصل إلى القطع ، ومع عدم كونه قطعيّا لا يكون حجّة في نفسه ؛ لأنّه سوف يدخل في الدليل العقلي الظنّي وهو يحتاج إلى ما يثبت حجّيّته ، وحينئذ لا نحتاج إلى إثبات عدم حجّيّته بتحويله من طريقي إلى موضوعي ؛ لأنّه ليس حجّة في رتبة سابقة.

وثانيا : أنّ القطع العقلي لا يؤدّي دائما إلى ثبوت الحكم ، بل قد يؤدّي إلى نفيه ، من قبيل ما يستدل به على استحالة الأمر بالضدّين ولو على وجه الترتّب ، فما ذا يقال بهذا الشأن؟

وهل يفترض أنّ المولى يجعل الحكم المستحيل في حقّ من وصلت إليه الاستحالة بدليل عقلي على الرغم من استحالته؟

٤٥٢

الإيراد الثاني : أنّنا لو فرضنا قيام الدليل العقلي القطعي على نفي الحكم الشرعي لا على إثباته ، فما ذا يقال بهذا الشأن هل يحكم بحجّيّته أم لا؟

فإن قيل بحجّيّته كان هذا تفصيلا في الدليل العقلي من دون أن يكون له أي مبرّر.

وإن قيل بعدم حجّيّته ، فلو فرضنا أنّنا قلنا باستحالة ثبوت الحكمين المتضادّين ولو على وجه الترتّب ، فإنّ هذه الاستحالة عقليّة ، وهي تنفي ثبوت الحكم الشرعي. فإذا لم يكن الدليل العقلي حجّة فاللازم أن يحكم الشارع بعدم ثبوت هذه الاستحالة ؛ لأنّ الدليل عليها كان من العقل وبالتالي يحكم بلزوم الأخذ بالحكمين المتضادّين ، فهل هذا معقول؟!

فالصحيح إذا أنّ المنع شرعا عن حجّيّة الدليل العقلي القطعي غير معقول لا بصورة مباشرة ولا بتحويله من القطع الطريقي إلى الموضوعي.

وبهذا يتبيّن أنّ الصحيح ما ذكرناه من كون الدليل العقلي القطعي حجّة في نفسه من باب حجّيّة القطع.

ولا يمكن أن يقال بعدم حجّيّته لا بسلب الحجّيّة عنه مباشرة والردع عن العمل به ؛ لأنّه مستحيل كما تقدّم ، ولا بتحويله من قطع طريقي إلى قطع موضوعي بمعنى أخذ عدمه قيدا في الحكم الشرعي ؛ لأنّنا أثبتنا عدم جدوى ذلك.

ولكنّ القائلين بعدم حجّيّة الدليل العقلي استندوا إلى جملة من الروايات (١) التي ندّدت بالعمل بالأدلّة العقليّة ، وأكّدت على عدم قبول أي عمل غير مبنيّ على الاعتراف بأهل البيت عليهم‌السلام ونحو ذلك من الألسنة.

الدليل الآخر على عدم حجّيّة الدليل العقلي :

استدلّ الأخباريّون على عدم حجّيّة الدليل العقلي القطعي بالروايات الدالّة على ذلك ، فإنّ الروايات ندّدت بالعمل بالأدلّة العقليّة ، وأكّدت على لزوم العمل بما يصدر من أهل البيت عليهم‌السلام وكلّ عمل غير مبني على الاعتراف بهم فلا يكون مقبولا.

__________________

(١) انظر : وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦.

٤٥٣

وهذا معناه أنّ دليل العقل وغيره لا يثبت الحكم الشرعي ولا يجوز العمل بالحكم الشرعي ؛ لأنّه طريق آخر غير أهل البيت عليهم‌السلام.

فالروايات التي ندّدت بالعمل بالأدلّة العقليّة كثيرة جدّا كقوله عليه‌السلام : « إنّ دين الله لا يصاب بالعقول » ، والروايات التي أكّدت على لزوم العمل بما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام دون غيرهم ، وأنّه لا يقبل أي عمل من دون الاعتراف بهم كثيرة جدّا أيضا ، كقوله عليه‌السلام : « بني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية ».

والحاصل : أن الروايات دلّت على أنّ أي عمل لا يكون مصدره أهل البيت عليهم‌السلام فلا يكون مقبولا.

والصحيح : أنّ الروايات المذكورة لا دلالة فيها على ما يدّعى ، وإنّما هي بصدد أمور أخرى ، فبعضها بصدد المنع من التعويل على الرأي والاستحسان ونحو ذلك من الظنون العقليّة.

وبعضها بصدد بيان كون الولاية شرطا في صحّة العبادة.

وبعضها بصدد بيان عدم جواز الانصراف عن الأدلّة الشرعيّة والتوجّه رأسا إلى الاستدلالات العقليّة ، مع أنّ التوجّه إلى الأدلّة الشرعيّة كثيرا ما يحول دون حصول القطع من الاستدلال العقلي ، كما هو الحال في رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة.

والصحيح : أنّ الروايات التي استندوا إليها ليست حجّة على مدّعاهم من عدم حجّيّة الدليل العقلي القطعي ، وذلك لأنّ هذه الروايات يمكن تصنيفها إلى عدّة طوائف :

الأولى : الروايات التي تنهى عن العمل بالظنّ والرأي والاستحسان ونحو ذلك من الأدلّة العقليّة الظنيّة ، ونحن قلنا بأنّ دليل العقل إن كان ظنّيّا فهو ليس حجّة في نفسه ، بل يحتاج إلى دليل على حجّيّته. فتكون هذه الروايات دليلا على عدم ثبوت الحجّيّة لمثل هذه الظنون العقليّة.

الثانية : الروايات التي تدلّ على أنّ الولاية شرط لقبول العمل وصحّة العبادة ، وهذه معناها أنّ سائر العبادات من دون أن تكون مقرونة بولاية أهل البيت عليهم‌السلام لا تجدي نفعا لصاحبها.

٤٥٤

الثالثة : الروايات التي تمنع من التوجّه ابتداء إلى الأدلّة العقليّة ، وهذه مفادها أنّه لا بدّ من طلب حكم الله تعالى من الكتاب والسنّة أوّلا ، فمع عدم وجوده فيهما حينئذ يتوجّه إلى الأدلّة العقليّة. والسرّ في ذلك هو أنّ الأدلّة الشرعيّة كثيرا ما تحول دون حصول القطع من الاستدلالات العقليّة ؛ لأنّ العقل قد يخطئ في اكتشافه للملاك بتمامه مع كلّ ما أخذ فيه ، كما هو الحال في رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة ، حيث استغرب أبان كيف تكون دية الأربع أصابع عشرين مع كون دية الثلاثة أصابع ثلاثين ، فإنّ استغرابه هذا ناشئ من استدلاله بعقله على الحكم من دون أن يرجع فيه أوّلا إلى أهل البيت عليهم‌السلام.

وهكذا يظهر أنّ الروايات ليست دليلا على المنع من الأخذ بدليل العقل القطعي.

وبهذا ينتهي البحث في الدليل العقلي وبذلك نختم الكلام في مباحث الأدلّة من الحلقة الثالثة.

وقد كان الشروع فيها في اليوم التاسع عشر من جمادى الثانية ١٣٩٧ ه‍. ق ، وكان الفراغ في اليوم الثالث والعشرين من شهر رجب ٣٩٧ ه‍. ق.

وبما ذكرناه يتمّ الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، ويتلوه الجزء الثاني الذي تكتمل به هذه الحلقة إن شاء الله تعالى ، وهو في مباحث الأصول العمليّة. وإلى المولى سبحانه نبتهل أن يتقبّل منّا هذا بلطفه ، ويوفّقنا لمراضيه ، والحمد لله أوّلا وآخرا.

* * *

٤٥٥
٤٥٦

الفهرس

الدليل العقلي................................................................... ٥

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور............................................ ٢١

شرطيّة القدرة ومحلّها ........................................................ ٢٣

حالات ارتفاع القدرة......................................................... ٣٥

الجامع بين المقدور وغيره....................................................... ٤٥

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ..................................................... ٥٣

[ ثمرات بحث الترتّب ]........................................................ ٧١

ما هو الضدّ؟................................................................. ٨١

إطلاق الواجب لحالة المزاحمة................................................... ٨٧

التقييد بعدم المانع الشرعي..................................................... ٩٥

قاعدة إمكان الوجوب المشروط.............................................. ١٠١

المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات............................................... ١١٧

القسم الأوّل : المقدّمات الوجوبيّة :.......................................... ١٢٠

القسم الثاني : المقدّمات الوجوديّة الشرعية.................................... ١٢١

القسم الثالث : المقدّمات الوجوديّة العقلية.................................... ١٢٢

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد [ أو مبحث الشرط المتأخر ].................... ١٣١

زمان الوجوب والواجب..................................................... ١٤٩

المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت [ أو المقچمات المفوتة ]..................... ١٦٣

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم......................................... ١٧٧

تمهيد :................................................................... ١٧٩

٤٥٧

أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه ......................................... ١٨٠

أخذ العلم بالحكم في موضوع ضده أو مثله .................................. ١٩٥

الواجب التوصّلي والتعبّدي.................................................. ٢٠١

بيان الاشتباه والمغالطة في البرهان المتقدّم ..................................... ٢٠٨

اعتراض السيّد الخوئي على هذا البرهان...................................... ٢١٦

ثمرة هذا البحث .......................................................... ٢١٩

التخيير في الواجب.......................................................... ٢٢٥

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب............................................ ٢٣٩

تعريف الواجب الغيري .................................................... ٢٤١

خصائص الوجوب الغيري................................................... ٢٤٧

مقدّمات غير الواجب........................................................ ٢٥٧

الثمرة الفقهيّة للنزاع في الوجوب الغيري...................................... ٢٦١

شمول الوجوب الغيري....................................................... ٢٧٣

تحقيق حال الملازمة........................................................... ٢٨٣

حدود الواجب الغيري....................................................... ٢٨٩

مشاكل تطبيقيّة.............................................................. ٢٩٩

دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء.............................. ٣٠٧

دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا................................... ٣١٣

دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا...................................... ٣٢٣

ويرد على ذلك ........................................................... ٣٢٨

امتناع اجتماع الأمر والنهي.................................................. ٣٣٥

الفارق بين المسلكين ....................................................... ٣٤٥

حكم الخروج في نفسه ..................................................... ٣٦٣

حدود امتناع اجتماع الأمر والنهي .......................................... ٣٧١

ثمرة البحث في مسألة الاجتماع............................................. ٣٧٢

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه........................................... ٣٧٩

٤٥٨

المقام الأول : في الضدّ العام................................................. ٣٨٢

المقام الثاني : في الضدّ الخاصّ................................................ ٣٨٧

الفرق بين المانعيّة والتمانع .................................................. ٣٩٥

ثمرة البحث............................................................... ٣٩٧

اقتضاء الحرمة للبطلان....................................................... ٤٠١

موضوع البحث .......................................................... ٤٠٣

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة................................................. ٤٠٥

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة................................................. ٤١٥

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع....................................... ٤٢٣

المصلحة والمفسدة ......................................................... ٤٢٧

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع..................................... ٤٢٩

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع..................................... ٤٣٥

حجّيّة الدليل العقلي......................................................... ٤٤٧

الدليل الآخر على عدم حجّيّة الدليل العقلي .................................. ٤٥٣

الفهرس..................................................................... ٤٥٧

٤٥٩