شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

الخصوصيّة الأولى : أن نفترض تعلّق الأمر بالطبيعة على نحو التخيير العقلي بين حصصها ، وتعلّق النهي بحصّة معيّنة من حصصها ، من قبيل ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمّام ).

وهذا الافتراض يوجب اختلاف المتعلّقين بالإطلاق والتقييد. ولا شكّ في أنّ ذلك يوجب زوال السبب الثاني للتنافي وهو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين الامتثالين ؛ وذلك لأنّه إذا كان بإمكان المكلّف أن يصلّي في غير الحمّام فهو قادر على الجمع بين الامتثالين.

وإنّما المهمّ تحقيق حال السبب الأوّل للتنافي وهو التضادّ في عالم المبادئ ، فقد يقال بزواله أيضا ؛ لأنّ الوجوب بمبادئه متعلّق بالجامع ولا يسري إلى الحصّة ، والحرمة بمبادئها قائمة بالحصّة ، فلم يتّحد المعروض لهما.

الخصوصيّة الأولى : فيما إذا كان الأمر متعلّقا بالجامع البدلي والنهي متعلّق بحصّة معيّنة منه.

كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمّام ) ، فهنا الأمر متعلّق بالطبيعة ، وهي بعد إجراء الإطلاق فيها ومقدّمات الحكمة يثبت كونها مطلقة على نحو البدليّة ، بحيث تشمل أفرادا وحصصا من الصلاة في عمود الزمان الممتد من الزوال إلى الغروب ، ويكون المطلوب فردا واحدا وحصّة واحدة من هذه الحصص ، وهكذا يثبت إطلاقها بلحاظ المكان أيضا ، فأيّة حصّة في أي مكان أو زمان تعتبر مصداقا للمأمور به ، ولذلك يحكم العقل بالتخيير بين أفرادها وحصصها. ولم يكن إطلاقها شموليّا للعلم من الخارج بأنّه لا تجب أكثر من خمس صلوات في اليوم والليلة.

بينما النهي متعلّق بحصة خاصّة منها وهي الصلاة في المكان المعيّن أي الصلاة في الحمام دون سائر الحصص الأخرى.

وهنا يبحث في كفاية التغاير العنواني بين متعلّق الأمر والنهي ؛ لأنّ الأمر متعلّق بالإطلاق والنهي متعلّق بالتقييد ، فهل الاختلاف في الإطلاق والتقييد يكفي لدفع غائلة التضادّ واجتماع الأمر والنهي على شيء واحد أم لا؟

وللإجابة عن هذا التساؤل لا بدّ من ملاحظة الملاكين السابقين والذي كان الامتناع مبنيا على تحقّق أحدهما ، فنقول :

٣٤١

أمّا الملاك الثاني وهو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين التكليفين بلحاظ عالم الامتثال والمتطلّبات فهو غير وارد هنا ؛ وذلك لأنّ المكلّف يمكنه أن يجمع بين الامتثالين فيصلي في مكان آخر غير ما تعلّق به النهي ، فيكون قد جمع بين التكليفين ممّا يعني أنّه قادر على امتثالهما معا من دون أي محذور.

وأمّا الملاك الأوّل وهو التنافي والتضادّ بين الأمر والنهي بلحاظ الملاكات والمبادئ.

فقد يقال بأنّ هذا الملاك منتف أيضا ؛ وذلك لأنّ الأمر لمّا كان متعلّقا بالجامع ـ والمفروض أنّه لا يسري إلى الفرد أو الحصّة ـ فسوف تكون مبادئ الأمر من المصلحة والمحبوبيّة متعلّقة بالجامع ، والنهي لمّا كان متعلّقا بالفرد أو الحصّة المعيّنة فسوف تكون مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضيّة متعلّقة بالفرد أو الحصّة.

ولكن حيث إنّ الأمر والنهي يعرضان على الصورة الذهنيّة المفروضة والمقدّرة الوجود بما هي حاكية عن الخارج ، فمتعلّق الأمر حيث إنّه متعلّق بالجامع فهو لا يري إلا الطبيعة مجرّدة. بينما متعلّق النهي يري الحصّة أو الفرد مع المشخّصات الخارجيّة.

ومن الواضح أنّ الطبيعة كصورة مرئيّة بالجامع غير الفرد المشخّص المرئي بالتقييد. وعليه ، فيكون متعلّق الأمر والنهي متغايرين ليس فقط بلحاظ المفهوم ، بل بلحاظ ما ينطبق عليه المفهوم ، وحينئذ لا تكون مبادئهما قد اجتمعت على شيء واحد.

وبعبارة أخرى : أنّ المعروض للأمر والنهي مختلف فمعروض الأمر هو الجامع البدلي وهو لا ينطبق إلا على الطبيعة ، بينما معروض النهي هو الحصّة أو الفرد وهو لا ينطبق إلا على الفرد مع المشخّصات الخارجيّة ، فلا يلزم اجتماع المبادئ والملاكات على شيء واحد ؛ لعدم اتّحاد معروضهما.

إلا أنّ السيّد الشهيد يعلّق على هذا القول بقوله :

وهذا مبنيّ على بحث تقدّم في التخيير العقلي ، وأنّه هل يستبطن تخييرا شرعيّا ووجوبات مشروطة للحصص ولو بلحاظ عالم المبادئ؟

فإن قيل باستبطانه ذلك لم يجد اختلاف المتعلّقين بالإطلاق والتقييد في التغلّب على السبب الأوّل للتنافي ؛ لأنّ وجوب الجامع يسري ولو بمبادئه إلى الحصص.

وإن أنكرنا الاستبطان المذكور اتّجه القول بعدم التنافي وجواز الأمر بالمطلق

٣٤٢

والنهي عن الحصّة.

ويلاحظ على الافتراض المذكور أنّه مبنيّ على ما هو المختار في مسألة التخيير العقلي حيث يوجد فيها قولان ، هما :

القول الأوّل : أنّ التخيير العقلي متعلّق بالجامع ، فهناك وجوب واحد ومتعلّق واحد ، وهذا الوجوب لا يسري من الجامع إلى الأفراد والحصص ؛ لأنّ السريان القهري ممنوع حيث إنّ الجعل والإيجاب فعل اختياري للجاعل ، والسريان الاختياري لازمه القول بالوجوبات المشروطة للحصص والأفراد وهي مستحيلة ؛ لاستلزامها تعدّد العقاب حال ترك الجميع لفعليّة كلّ منهما في هذا الفرض ، أو لعدم تحقّق الامتثال حال التقارن.

القول الثاني : أنّ التخيير العقلي يرجع إلى التخيير الشرعي ، فيكون مرجع تعلّق الأمر بالجامع إلى تعلّقه بكلّ حصّة منه بنحو مشروط ؛ لأنّ وجوب الجامع يسري إلى الفرد. أو يقال ـ كما اختاره السيّد الشهيد ـ أنّ السراية من الجامع إلى الفرد لا تكون بلحاظ الحكم والوجوب وإنّما بلحاظ المبادئ ، فمن أحبّ الجامع أحبّ أفراده بنحو مشروط لا محالة.

فعلى القول الأوّل ، يقال هنا : إنّ الأمر لمّا تعلّق بالجامع والجامع لا يسري إلى الفرد ، فسوف يكون متعلّق الأمر مغايرا لمتعلّق النهي سواء في ذلك عالم الإيجاب والمبادئ. فيندفع محذور اجتماع الأمر والنهي بلحاظ المبادئ.

وأمّا على القول الثاني ، فسوف يكون الفرد واجدا لوجوب مشروط أو على الأقلّ فيه محبوبيّة مشروطة ، وحينئذ يكون متعلّق الأمر ومتعلّق النهي متّحدين بلحاظ المبادئ أو الإيجاب ؛ لأنّ الحصّة المنهي عنها قد سرى الوجوب أو المحبوبيّة إليها أيضا فيلزم المحذور (١).

__________________

(١) وحيث إنّ السيّد الشهيد قبل هناك دعوى وجدانيّة الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ أفراده بنحو مشروط ، فلا محالة سوف يختار هنا امتناع اجتماع الأمر والنهي ، والنتيجة على ضوء ذلك هي كون دليل النهي مقيّدا لدليل الأمر بالجامع في غير الحصّة التي تعلّق بها النهي.

بينما لو اخترنا القول الأوّل فاجتماع الأمر والنهي لمّا كان جائزا في هذا المورد ـ أي تعلّق الأمر بالجامع والنهي بالحصّة ـ فالمكلّف إذا جاء بالجامع ضمن الحصّة التي تعلّق بها النهي يكون ممتثلا من جهة وعاصيا من جهة أخرى.

٣٤٣

هذا هو التصوّر الصحيح للمسألة ، غير أنّه يوجد تصوّر آخر ذكره الميرزا ولذلك قال :

غير أنّ مدرسة المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) برهنت على التنافي بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة بطريقة أخرى منفصلة عن الاستبطان المذكور وهي :

إنّ الأمر بالمطلق يعني أنّ الواجب لوحظ مطلقا من ناحية حصصه ، والإطلاق مؤدّاه الترخيص في تطبيق الجامع على أيّة واحدة من تلك الحصص ، وهذا متعدّد بعدد الحصص ، وعليه فالترخيص في تطبيق الجامع على الحصّة المنهيّ عنها ينافي هذا النهي لا محالة ؛ لأنّ نفس الحصّة معروضة لهما معا.

فالتنافي لا يقع بالذات بين النهي عن الحصّة والأمر بالمطلق ، بل بين النهي عن الحصّة والترخيص فيها الناتج عن إطلاق متعلّق الأمر.

ذهب الميرزا ومدرسته إلى امتناع الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة لاستلزامه اجتماع النهي والترخيص معا ، وهما متضادّان سواء في عالم المبادئ والملاكات أم في عالم الامتثال والمتطلّبات والقدرة.

وبيان ذلك أن يقال : إنّ الأمر لمّا كان متعلّقا بالجامع وبالطبيعة بنحو صرف الوجود أي الإطلاق البدلي ، فهذا يعني أنّ الواجب وهو ما تعلّق به الأمر مطلق أيضا ، وهنا العقل ينتزع من هذا الإطلاق جواز تطبيق الجامع أو الطبيعة على أيّ فرد أو حصّة ، فهو يرخّص للمكلّف في تطبيق الجامع على هذا أو ذاك ، فهو ترخيص يشمل تمام الأفراد والحصص.

وحينئذ نقول : إنّ الحصّة التي تعلّق بها النهي قد شملها هذا الترخيص والجواز ، ممّا يعني أنّها منهيّ عنها وفي نفس الوقت يجوز فعلها ؛ لأنّ العقل قد رخّص في تطبيق الجامع عليها. ومن الواضح أنّ اجتماع النهي مع الجواز أو الترخيص كاجتماعه مع سائر الأحكام التكليفيّة ممتنع في نفسه بلحاظ المبادئ والملاكات.

وبتعبير آخر : إنّ التنافي بلحاظ المبادئ والملاكات لا يكون أوّلا وبالذات بين الأمر والنهي ؛ لأنّنا لا نقول بسراية الوجوب أو الحبّ من الجامع إلى الفرد ، وإنّما هو بلحاظ ما يستلزمه الأمر بالجامع عقلا من جواز تطبيق الجامع على كلّ أفراده على حدّ واحد

__________________

(١) راجع فوائد الأصول ٢ : ٤٣٥ ـ ٤٣٦.

٣٤٤

حتّى الحصّة التي تعلّق بها النهي ، فتكون هذه الحصّة معروضة للنهي وللجواز معا ، فيمتنع اجتماع الأمر والنهي ثانيا وبالعرض بلحاظ هذا المدلول الالتزامي.

والنتيجة هي تقييد متعلّق الأمر بغير الحصّة التي تعلّق بها النهي.

والفرق بين إثبات التنافي بطريقة الميرزا هذه وإثباتها بدعوى الاستبطان المذكور سابقا : أنّه على طريقة الميرزا لا يكون هناك تناف بين وجوب المطلق والنهي على نحو الكراهة عن حصّة من حصصه ؛ لأنّ الكراهة لا تنافي الترخيص. وبهذا فسّر الميرزا كراهة الصلاة في الحمّام وأمثالها.

وأمّا على مسلك الاستبطان المذكور سابقا فالتنافي واقع بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة ، سواء كان تحريميّا أو كراهيّا.

الفارق بين المسلكين :

تقدّم المسلك الذي يختاره السيّد الشهيد من أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة والجامع بنحو البدل وصرف الوجود يستبطن تخييرا شرعيّا بلحاظ المبادئ ، وعلى أساسه يقال بالامتناع.

بينما اختار الميرزا طريقا آخر وهو دعوى وجود دلالة التزاميّة عقليّة من الأمر بالجامع ، وهي جواز تطبيق الجامع على كلّ حصّة حصّة من أفراده وحصصه. وعليه أيضا يقال بالامتناع.

إلا أنّه مع ذلك يوجد فارق بينهما وهو أنّه على مسلك الميرزا لا يحكم بالامتناع إلا إذا كان النهي تحريميّا ؛ لأنّ النهي التحريمي يمتنع اجتماعه مع الجواز.

وأمّا إذا كان النهي كراهيّا كما في الصلاة في الحمام أو صوم يوم عاشوراء ، فما ذكره من دليل لا يتمّ ؛ لأنّ الكراهة تجتمع مع الجواز ؛ لأنّ معنى الكراهة جواز الفعل والترك مع كون الترك أولى أو أفضل. ولذلك ذكر هذا الوجه في تفسير كراهة العبادة ، ولم يذكره هنا وإنّما ذكرته مدرسته.

بينما على المسلك المتقدّم والذي اختاره السيّد الشهيد ، من دعوى الملازمة الوجدانيّة بين حبّ الجامع وحبّ أفراده بنحو مشروط ، فالامتناع يشمل ما إذا كان النهي تحريميّا أم كراهيّا من دون فرق بينهما ؛ لأنّ الكراهة بلحاظ المبادئ تعني وجود المفسدة أو الحزازة ، والمفسدة والمصلحة لا يمكن اجتماعهما معا على شيء واحد.

٣٤٥

وحينئذ يحتاج تخريج كراهة العبادة إلى علاج آخر كقيام الإجماع ونحوه على ثبوت الكراهة في العبادة.

وهكذا أيضا لو قيل بأنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوبات مشروطة بعدد الحصص والأفراد ، فإنّ الحصّة المنهي عنها سوف تكون متعلّقة للأمر والنهي معا ، وهما متضادّان بلحاظ المبادئ وبلحاظ الامتثال أيضا وضيق قدرة المكلّف عن الجمع بينهما.

ولكنّ التحقيق : أنّ طريقة الميرزا هذه في إثبات التنافي غير وجيهة ؛ لأنّ الإطلاق ليس ترخيصا في التطبيق ولا يستلزمه.

أمّا إنّه ليس ترخيصا فلأنّ حقيقة الإطلاق ـ كما تقدّم (١) ـ عدم لحاظ القيد مع الطبيعة عند ما يراد جعل الحكم عليها.

وأمّا أنّه لا يستلزم الترخيص ، فلأنّ عدم لحاظ القيد إنّما يستلزم عدم المانع من قبل الأمر في تطبيق متعلّقه على أيّة حصّة من الحصص ، وعدم المانع من قبل الأمر شيء وعدم المانع من قبل جاعل الأمر المساوق للترخيص الفعلي شيء آخر ، وما ينافي النهي عقلا هو الثاني دون الأوّل.

وعلى أيّة حال فإذا تجاوزنا هذه الخصوصيّة وافترضنا الامتناع والتنافي على الرغم من الاختلاف بالإطلاق والتقييد بين المتعلّقين نصل حينئذ إلى الخصوصيّة الأخرى كما يلي.

والتحقيق أن يقال : إنّ ما ذكره الميرزا أو مدرسته من البرهان على الامتناع غير تامّ ، وذلك لعدم تماميّة ما ذكره من الملازمة العقليّة بين ثبوت الأمر بالجامع وبين الترخيص في التطبيق على الأفراد.

وتوضيحه : أنّ الميرزا ذكر أنّ الأمر إذا تعلّق بالطبيعة على نحو صرف الوجود ولم يتعلّق بجميع حصصها على نحو الشمول والسريان ، فإنّ هذا الأمر يقتضي الترخيص في إيجاد الطبيعة في ضمن أيّة حصّة ، بمعنى أنّ الأمر بإطلاقه يقتضي الرخصة في تطبيق الجامع والطبيعة على كلّ أفراده ، حتّى الحصّة التي تعلّق بها النهي.

__________________

(١) في بحث الإطلاق من أبحاث تحديد دلالات الدليل الشرعي ، تحت عنوان : التقابل بين الإطلاق والتقييد.

٣٤٦

ومن هنا فإذا كان النهي المتعلّق بالحصّة المعيّنة نهيا كراهيّا أو تنزيهيّا فلا تنافي بين الأمر والنهي ؛ لأنّ النهي يقتضي الرخصة أيضا.

وأمّا إذا كان النهي تحريميّا فيقع التنافي بين الرخصة المستفادة من إطلاق الأمر وبين عدم الرخصة في إتيان تلك الحصّة الخاصة المستفادة من النهي فيحصل التدافع بينهما.

وحينئذ نقول : ما هو المقصود من قوله : ( إنّ الأمر بإطلاقه يقتضي الرخصة ... )؟ ، فهل مقصوده من ذلك أنّ الإطلاق نفسه معناه الرخصة في تطبيق الجامع على الأفراد ، أو أنّ الإطلاق يستلزم الترخيص المذكور؟

فإن قيل : إنّ الإطلاق معناه الترخيص ، فهذا واضح البطلان ؛ لأنّ الإطلاق كمفهوم ذهني معناه عدم لحاظ القيد مع الطبيعة على ما هو الصحيح ، أو لحاظ الطبيعة مجرّدة عن القيد كما هي مقالة السيّد الخوئي من أنّه رفض القيد.

وإن قيل : إن الإطلاق يستلزم الترخيص ، فهذا وإن كان صحيحا في نفسه إلا أنّنا نتساءل مجدّدا فيما هو المراد من الترخيص ، فهل المراد منه الترخيص الشرعي الذي هو أحد الأحكام التكليفيّة أو هو الترخيص الوضعي؟

فإذا كان المراد من الترخيص الترخيص الشرعي الذي هو أحد الأحكام التكليفيّة فما ذكره الميرزا صحيح ؛ لأنّ الترخيص التكليفي يكون من قبل الجاعل والشارع ، ممّا يعني أنّ الحصّة التي تعلّق بها النهي قد تعلّق بها الترخيص التكليفي من قبل الشارع أيضا ، فيلزم التنافي بين الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر وبين عدم الترخيص المستفاد من دليل النهي ، لعدم إمكان اجتماعهما على شيء واحد للتضادّ بين الملاكات والمبادئ فيهما.

وأمّا إذا كان المراد من الترخيص الترخيص الوضعي ، بمعنى أنّ إطلاق الأمر يستفاد منه جواز تطبيق هذا الجامع على أيّة حصّة وفرد منه ، فأيّة حصّة أو فرد من الجامع يأتي به المكلّف يكون صحيحا ومجزيا ويحقّق الامتثال. وهذا معناه أنّ الأمر المتعلّق بالجامع بنحو صرف الوجود لا يأبى ولا يوجد أي مانع من قبله في تطبيق هذا الجامع على أي فرد من أفراده ، فعلى هذا لا تتمّ مقالة الميرزا ؛ لأنّ هذا الترخيص إنّما هو حكم عقلي منتزع من الأمر بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، ولا

٣٤٧

يتضمّن أيّة مبادئ أو ملاكات ، فلا يقع التنافي بين الأمر بالجامع وبين النهي عن الحصّة.

والصحيح هو : أنّ الترخيص المستفاد من الأمر بالجامع بنحو صرف الوجود هو الترخيص الوضعي أي الترخيص المستفاد من قبل الأمر نفسه وليس الترخيص التكليفي المستفاد من جاعل الأمر ؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بذلك ؛ لأنّه يرى أن الأمر لمّا تعلّق بالطبيعة بنحو صرف الوجود فالمراد هو إيجاد الطبيعة في الخارج وإيجادها كذلك يتحقّق ضمن أي فرد من أفرادها على حدّ سواء فلا مانع من تطبيقها على أي فرد من أفرادها ، وكذلك فيما لو تعلّق النهي بالطبيعة فإنّ العقل يحكم بأنّ إعدام الطبيعة لا يكون إلا بإعدام تمام أفرادها ، وهكذا نلاحظ أنّ العقل هو الذي يحكم بذلك ؛ لأنّ الترخيص إنّما كان بلحاظ عالم الامتثال لا بلحاظ عالم الجعل والتشريع.

وبهذا يظهر أنّ هذه الخصوصيّة أي ( تعلّق الأمر بالجامع البدلي وتعلّق النهي بالحصّة المعيّنة ) لا توجب زوال التنافي بين الأمر والنهي ، بناء على مسلك الميرزا وبناء على ما اخترناه من كون التخيير العقلي يستبطن الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ أفراده بنحو مشروط ، أو أنّه يستبطن الوجوبات المشروطة بناء على القول الآخر.

وأمّا إذا قلنا بأنّ التخيير العقلي لا يستبطن هذه الملازمة لا في عالم الحبّ ولا في عالم الإيجاب ولم نقبل طريقة الميرزا أيضا ، فسوف تكون هذه الخصوصيّة وافية لمنع التنافي ؛ لأنّ مبادئ الأمر تكون في الجامع ولا تسري إلى الفرد بينما مبادئ النهي والحرمة تكون في الحصّة المعيّنة ، والنتيجة هي أنّه لو أتى بالحصّة المنهي عنها لكان امتثالا من جهة وعصيانا من جهة أخرى. ولا يلزم التقييد لعدم التنافي بينهما.

وبهذا ينتهي البحث حول الخصوصيّة الأولى.

الخصوصيّة الثانية : أن نفترض تعدّد العنوان وتعلّق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر ، وتعدّد العنوان قد يسبّب جواز الاجتماع ورفع التنافي بأحد وجهين :

الأوّل : أن تعدّد العنوان يبرهن على تعدّد المعنون.

والثاني : دعوى الاكتفاء بمجرّد تعدّد العنوان في دفع التنافي ، مع الاعتراف بوحدة المعنون والوجود خارجا.

٣٤٨

الخصوصيّة الثانية : فيما إذا كان العنوانان متغايرين مفهوما مع اتّحادهما مصداقا ، كما إذا تعلّق الأمر بالصلاة وتعلّق النهي بالغصب ، فقيل : ( صلّ ) و ( لا تغصب ) فإنّهما عنوانان متغايران ذاتا ؛ لأنّ المفهوم مختلف فيهما ، ولكن بلحاظ الصدق الخارجي النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فيجتمعان في الصلاة في الأرض المغصوبة.

إذا فالبحث هنا مورده حالة الاجتماع لا الافتراق ، فهل يكفي التغاير العنواني والمفهومي أو لا يكفي؟

قد يقال : إنّ التغاير العنواني إذا أدّى إلى التغاير في المعنون فهو يكفي لرفع التنافي ، إذ ما دام الوجود الخارجي متغايرا فلن يتحقّق الاجتماع أصلا.

وقد يقال : إنّ التغاير العنواني يكفي سواء أدّى إلى تعدّد المعنون أم كان المعنون واحدا في الصدق الخارجي.

أمّا الوجه الأوّل ، فهو إذا تمّ يرفع التنافي بكلا تقريبيه ، أي بتقريب استبطان الأمر بالجامع للوجوبات المشروطة بالحصص وبتقريب استلزامه الترخيص في التطبيق على الحصّة المنافي للنهي ، إذ مع تعدّد الوجود الخارجي لا يجري كلا هذين التقريبين.

الوجه الأوّل : أنّ تعدّد العنوان يؤدّي إلى تعدّد المعنون.

وتقريبه أن يقال : إنّ تعدّد العنوان إذا كان موجبا لتعدّد المعنون في الخارج ، فهذا معناه أنّ ما هو موجود في الخارج شيئان لا شيء واحد ، غايته أنّ أحدهما انضمّ إلى الآخر فكان التركيب بينهما انضماميّا لا اتّحاديّا. ففي مثل ( صلّ ) و ( لا تغصب ) إذا صلّى المكلّف في الأرض المغصوبة ففي الخارج يوجد فعلان أحدهما الصلاة والآخر الغصب إلا أنّهما انضمّا معا.

وحينئذ يقال : إنّ الحبّ ومبادئ الأمر تعلّقت بالحيثيّة الصلاتيّة بينما البغض وملاكات النهي تعلّقت بالحيثيّة الغصبيّة ، وهاتان حيثيّتان متغايرتان بحسب الصدق الخارجي فلا يلزم الاجتماع.

وأمّا متى يكون تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون في الخارج؟

فهذا جوابه ـ كما عن الميرزا ـ : أنّ العنوانين إذا كانا من العناوين المبدئيّة ( أي

٣٤٩

العناوين التي هي مبدأ الاشتقاق كالطول فإنّه مبدأ لاشتقاق الطويل والضحك والعلم ، فإنّهما المبدأ لاشتقاق الضاحك والعالم ) وكانت النسبة بينهما هي العموم من وجه فيكون في مورد الاجتماع ما به تحقّق هذا العنوان مغايرا لما به تحقّق العنوان الآخر ، بدليل أنّنا إذا أخذنا عنوانين مبدئيّين النسبة بينهما هي العموم من وجه ولاحظنا موردي الافتراق فيكون لكلّ منهما ماهيّة وحقيقة مباينة للآخر.

وأمّا بلحاظ مورد الاجتماع فإن كان لكلّ منهما ماهيّة وحقيقة مباينة للأخرى فهو المطلوب ؛ لأنّه يثبت في الخارج وجود حقيقتين متباينتين ، غايته انضمّت إحداهما إلى الأخرى ، وإن كانت لهما ماهيّة وحقيقة واحدة ، فهذا لازمه أن يكون لكلّ منهما حقيقتان :

إحداهما في مورد الافتراق : وهي توجب المباينة والمغايرة مع الأخرى.

والثانية في مورد الاجتماع : وهي توجب الاتّحاد والوحدة في الوجود ، وهذا اللازم مستحيل ؛ لأنّ العنوان ليس فيه إلا مقولة ماهويّة واحدة ، فيتعيّن الأوّل وبه يثبت عدم تحقّق الاجتماع في مصداق واحد ، وإنّما لكلّ عنوان مصداقه الخارجي انضمّ أحدهما إلى الآخر.

وفي مقامنا نقول : إنّ ( الغصب ) و ( الصلاة ) من العناوين المبدئيّة ؛ لأنّه يشتقّ منهما المصلّي والغاصب ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه ، فيكون مورد اجتماعهما مركّبا من مصداقين انضمّ أحدهما إلى الآخر.

وعلى هذا الأساس سوف تنحلّ مشكلة اجتماع الأمر والنهي بكلا التقريبين :

أمّا التقريب القائل بأنّ الامتناع منشؤه كون الأمر بالجامع يستبطن الوجوبات المشروطة للحصص ففي كلّ حصّة وجوب مشروط ، أو على الأقلّ يستبطن الأمر بالجامع الحبّ المشروط للأفراد. فهنا الأمر بالصلاة معناه وجوب كلّ فرد فرد منها مشروطا بترك البقيّة أو معناه تعلّق الحبّ بكلّ فرد منها مشروطا بترك البقيّة ، والنهي عن الغصب لمّا كان شموليّا بمعنى أنّه ينحلّ إلى كلّ فرد فرد من أفراد الغصب فكلّ فرد فيه حرمة ؛ لأنّ النهي عن الطبيعة لا يكون إلا بإعدام كلّ أفرادها إذ لو وجد فرد منها لم تكن منعدمة. وحينئذ ففي مورد الاجتماع سوف يكون هذا المصداق متعلّقا للأمر الصلاتي وللنهي عن الغصب وفيه مبادئ الأمر ومبادئ النهي فيمتنع.

٣٥٠

وهذا جوابه : أنّ ما هو موجود في الخارج لمّا كان متعدّدا فيكون الأمر متعلّقا بالفرد وبالمصداق المغاير لمّا تعلّق به النهي فلا تجتمع مبادئهما على شيء واحد ، فلا وجه للامتناع.

وأمّا التقريب القائل : بأنّ الأمر بالجامع يستلزم الترخيص في تطبيق الجامع على كلّ فرد ، وحيث إنّ النهي شمولي ، ففي مورد الاجتماع يكون هذا المجمع مصداقا للجامع المأمور به ومصداقا للغصب المنهي عنه ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي أو يلزم اجتماع الترخيص مع عدم الترخيص المستفاد من الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة.

وهذا جوابه : ما تقدّم من أنّه في الخارج يوجد مصداقان لا مصداق واحد فلا يلزم اجتماع الترخيص وعدم الترخيص على شيء واحد ، بل لكلّ منهما مصداقه الخاصّ به.

وبهذا يظهر أنّ هذا الوجه يحلّ مشكلة الامتناع بكلا تقريبيها ، هذا فيما إذا كان تامّا في نفسه ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكن الإشكال في تماميّة هذا الوجه ، إذ لا برهان على أنّ مجرّد تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد المعنون خارجا ؛ لأنّ بالإمكان انتزاع عنوانين من موجود خارجي واحد.

نعم ، إذا ثبت أنّ العنوان ماهيّة حقيقيّة للشيء تمثّل حقيقيته النوعيّة ، فمن الواضح أنّ تعدّده يساوق تعدّد الشيء خارجا ؛ إذ لا يمكن أن يكون للشيء الخارجي الواحد ماهيّتان نوعيّتان ، ولكن ليس كلّ عنوان يشكّل الماهيّة النوعيّة لمعنونه ، بل كثيرا ما يكون من العناوين العرضيّة المنتزعة.

الإشكال على الوجه الأوّل : أنّه لا يوجد برهان يثبت أنّ مجرّد تعدّد العنوان موجب لتعدّد المعنون على إطلاقه ، بمعنى أنّه ليس دائما تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ؛ وذلك لأنّنا نجد أنّه بالإمكان انتزاع أكثر من عنوان من معنون واحد في الخارج.

فمثلا يمكننا انتزاع عنوان الطويل والعالم والأبيض من زيد الموجود في الخارج ، فلو كان تعدّد العنوان مطلقا موجبا لتعدّد المعنون لكان هذا نقضا عليه ، إذا فالمدّعى أنّ بعض العناوين توجب تعدّد المعنون لا مطلقا.

٣٥١

وهذا يمكن فرضه فيما إذا كان العنوان ماهيّة حقيقيّة للشيء ، أي كان العنوان يمثّل الحقيقة النوعيّة للشيء كالجنس أو النوع أو الفصل ، فإنّه حينئذ يكون الوجود الخارجي متعدّدا بسبب تعدّد العنوان الماهوي النوعي.

فمثلا إذا أمر المكلّف برسم خطّ ونهي عن الانحناء ، فإنّه إذا رسم خطّا منحنيا كان هذا الفعل الخارجي متعدّدا ؛ وذلك لتعدّد العنوان الماهوي ، فإنّ رسم الخطّ عنوان ماهوي حقيقي ؛ لأنّه جنس له ما بإزاء في الخارج ، وفعل الانحناء في الخطّ عنوان ماهوي حقيقي ؛ لأنّه فصل للخطّ فهذا له ما بإزاء في الخارج أيضا ، وما دام العنوانان يمثّلان حقيقة نوعيّة فيكون الشيء في الخارج متعدّدا ؛ لأنّه يكون مصداقا لكلا هاتين المقولتين أي الجنس والفصل.

وأمّا إذا كان العنوان من العناوين العرضيّة الانتزاعيّة وهي ( غير الجنس والفصل والنوع ) كمقولة الكيف أو الوضع أو الأين أو المكان والزمان أو الملك أو الإضافة ، فهنا يمكن أن تنتزع هذه العناوين من معنون واحد في الخارج ؛ لأنّ هذه العناوين يمكن عروضها أو انتزاعها من الذات الواحدة البسيطة ؛ وذلك لأنّها لا تشكّل حقيقة ماهويّة للشيء ليقال بتعدّد الحقيقة الماهويّة فيه ، وإنّما هي تعرض على حقيقة ماهويّة واحدة كالإنسان أو الحيوان أو زيد ، حيث تقبل هذه الحقائق عروض أكثر تلك العناوين العرضيّة الانتزاعيّة كما هو واضح.

وبهذا يظهر أنّ ما ذكره الميرزا إنّما يتمّ فيما إذا كان العنوانان من المقولات الماهويّة الحقيقيّة لا غير.

وفي مقامنا الصلاة والغصب وإن كانا من العناوين المبدئيّة ، إلا أنّ هذا لا يخرجهما عن كونهما من الأعراض الانتزاعيّة التي تعرض على مقولة ماهويّة واحدة كالإنسان النوع ، فإنّه ينتزع من فعله الواحد عنوان الصلاة والغصب وغيرهما أيضا ولا يوجب ذلك تعدّد الشيء والمعنون في الخارج ؛ لأنّها ليست حقائق ماهويّة.

وأمّا الوجه الثاني فحاصله : أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالعناوين والصور الذهنيّة لا بالوجود الخارجي مباشرة. فإذا كان العنوان في أفق الذهن متعدّدا كفى ذلك في عدم التنافي.

٣٥٢

الوجه الثاني : أنّ تعدّد العنوان يكفي وإن كان المعنون واحدا.

ففي مثال الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، حيث إنّ عنوان الصلاة مغاير ذاتا ومفهوما لعنوان الغصب ؛ وذلك لأنّ عنوان الصلاة عبارة عن تلك الأفعال من قراءة وركوع وسجود ... وإلى آخره ، بينما عنوان الغصب عبارة عن التصرّف في ملك الغير من دون إذنه أو رضاه ، فالمكلّف إذا صلّى في مكان مغصوب تكون صلاته صحيحة ومجزية وفي نفس الوقت يكون عاصيا ؛ لأنّ هذا الفعل حتّى وإن كان واحدا حقيقة ولكنّه ينطبق عليه عنوانان متغايران هما الصلاة والغصب.

والوجه في كفاية تغاير العنوان هو أنّ الأحكام تتعلّق بالعناوين والصور الذهنيّة لا بالوجود الخارجي ، فالأمر متعلّق بعنوان الصلاة بما يحمله من إيجاب وشوق ومحبوبيّة ومصلحة ، والنهي متعلّق بعنوان الغصب بما يحمله من تحريم ومفسدة ومبغوضيّة ، والمفروض أنّهما متغايران ولذلك لم تتّحد مبادئ الأمر والنهي على عنوان واحد.

وأمّا لما ذا كانت الأحكام متعلّقة بالصورة الذهنيّة لا بالوجود الخارجي؟

فهذا جوابه ما تقدّم سابقا في بحث القضايا الحقيقيّة والخارجيّة وهناك قلنا : إنّ الحاكم لا بدّ أن يصبّ حكمه على الصورة الذهنيّة لا على الموضوع الحقيقي الموجود في الخارج ؛ وذلك لأنّ الحكم أو الجعل عبارة عن أمر ذهني فلا يمكن أن يتعلّق إلا بما هو في الذهن وليس ذاك إلا الصورة الذهنيّة.

ولو قيل بتعلّقه بالموضوع لزم من ذلك عدّة محاذير :

منها : عدم ثبوت الحكم إلا بعد فرض تحقّق الموضوع في الخارج ؛ لأنّ الموضوع سابق على الحكم رتبة ، فإذا تحقّق الموضوع في الخارج كان الأمر به لغوا وتحصيلا للحاصل.

ومنها : يلزم انتفاء الحكم وعدم ثبوته فيما إذا لم يتحقّق موضوعه في الخارج ، ممّا يعني عدم تحقّق المعصية ؛ لأنّ المكلّف لم يخالف الحكم الثابت.

ومنها : كون الحكم داعيا إلى إيجاد متعلّقه وهو الموضوع الخارجي ، والمفروض أنّه متوقّف عليه توقّف الحكم على موضوعه فيلزم التقدّم والتأخّر أو التهافت.

وبهذا ظهر أنّ الأحكام متعلّقة بالعناوين والصور الذهنيّة ، فإذا كانت متغايرة فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي على عنوان واحد حتّى وإن كان الموضوع الخارجي واحدا.

٣٥٣

فإن قيل : إنّ العناوين في الذهن إنّما يعرض لها الأمر والنهي بما هي مرآة للخارج ، وهذا يعني استقرار الحكم في النهاية على الوجود الخارجي بتوسّط العنوان ، والوجود الخارجي واحد فلا يمكن أن يثبت أمر ونهي عليه ولو بتوسّط عنوانين.

كان الجواب على ذلك : أنّ ملاحظة العنوان في الذهن مرآة للخارج عند جعل الحكم عليه لا يعني أنّ الحكم يسري إلى الخارج حقيقة ، وإنّما يعني أنّ العنوان ملحوظ بما هو صلاة أو غصب لا بما هو صورة ذهنيّة.

إشكال وجوابه :

أمّا الإشكال فهو أنّ الأحكام وإن كانت معروضة أوّلا وبالذات على الصور الذهنيّة لا على الموضوع الخارجي ، إلا أنّها لا بدّ أن تكون معروضة عليها بما هي مرآة وحاكية عن الخارج ثانيا وبالعرض ؛ وذلك لأنّ الجاعل أو الحاكم لا يريد الصورة الذهنيّة والمفهوم بما هو كذلك ، وإلا لزم ألاّ يتحقّق الامتثال في الخارج ؛ إذ يكفي تصوّر ذاك المفهوم لتحقّق الامتثال وهذا واضح البطلان.

وعليه ، فالموضوع الخارجي أو الفرد هو المقصود النهائي من متعلّق الأحكام بالصور والعناوين ، وحينئذ فإن كان الموضوع والمعنون الخارجي واحدا فيلزم اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل. وهذا الإشكال طرحه صاحب ( الكفاية ) وغيره.

والحاصل عندهم عدم كفاية تعدّد العنوان ، بل لا بدّ من تعدّد المعنون.

وجوابه : أنّنا نسلّم أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالصور الذهنيّة بوصفها مرآة وحاكية عن الخارج ، إلا أنّ المرآتيّة والحكاية ليست بمعنى تعلّق الأحكام بالأفراد والموضوع الخارجي بتوسّط العنوان والصورة ، وإنّما معنى ذلك أنّ الذهن يدرك الواقع ويراه من خلال هذه الصور والعناوين ؛ لأنّه لا يمكنه أن يتعلّق بالواقع الخارجي مباشرة ؛ لأنّ الحكم من شئون الذهن فلا يتعلّق إلا بما هو موجود في الذهن للزوم السنخيّة.

وهذا معناه أنّ الذهن يلاحظ مفهوم الصلاة بالحمل الأوّلي ، أي بما هي صورة ذهنيّة حاكية عن الخارج ، لا بالحمل الشائع بما هي صورة ذهنيّة قائمة في الذهن

٣٥٤

فقط. فهو يريد أن يرى الخارج بتوسّط هذه الصور وهذا لا يكون إلا بتجريد الخارج عن خصائصه ومشخّصاته ، وبتجريد ما في الذهن عن قيوده الذهنيّة ، فحينئذ يكون ما في الذهن عين ما في الخارج وحاكيا عنه ومرآة له.

ولا يلزم من ذلك سريان الحكم إلى الخارج حقيقة ، بل الحكم موضوعه واحد وهو العنوان ، فهناك حكم واحد وموضوع واحد ، إلا أنّ هذا الموضوع الواحد يري الخارج حقيقة بالحمل الأوّلي فيري الصلاة الواقعيّة لا صورة الصلاة فقط.

وهذا الوجه إذا تمّ إنّما يدفع التنافي بالتقريب الأوّل ، أي بدعوى الاستبطان المذكور سابقا ، فإنّ الأمر بجامع الصلاة إذا كان يستبطن وجوبات مشروطة بعدد الحصص فكلّ وجوب متعلّق بحصّة من حصص الصلاة بهذا العنوان ، لا بها بما هي حصّة من حصص الغصب ، فلا تنافي بين الوجوبات المشروطة والنهي بعد افتراض تعدّد العنوان.

ثمّ إنّه على القول بتماميّة هذا الوجه وأنّ تعدّد العنوان وحده يكفي حتّى لو كان المعنون واحدا ، فهل يندفع محذور اجتماع الأمر والنهي أو لا؟

والجواب عن ذلك : هو أنّ محذور الامتناع كان له تقريبان :

الأوّل : ما تقدّم من أنّ الأمر بالجامع يستبطن الوجوبات المشروطة بعدد الحصص ، أو أنّ تعلّق الحبّ بالجامع يسري إلى أفراده بنحو مشروط.

الثاني : ما تقدّم عن الميرزا من أنّ الأمر بالجامع يستلزم الترخيص في تطبيق الجامع على كلّ أفراده وحصصه.

أمّا المحذور الأوّل فيندفع بناء على كفاية تعدّد العنوان ، وذلك أنّنا قلنا : إنّ الجامع يستبطن الوجوبات المشروطة أو المحبوبيّة المشروطة بعدد الحصص والأفراد ، وهذا يعني أنّ كلّ حصّة وفرد فيه محبوبيّة ووجوب ، ومن ناحية النهي فهو شمولي لكلّ الأفراد والحصص.

فإذا ورد الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب واجتمعا معا في موضوع واحد بأن صلّى في مكان مغصوب ، فهنا إذا قلنا بكفاية تعدّد العنوان ، فسوف يكون هذا الموضوع بوصفه حصّة وفردا من الجامع واجبا أو محبوبا ، وفي نفس الوقت بوصفه حصّة وفردا من متعلّق النهي فسوف يكون مبغوضا وحراما ، إلا أنّ كونه واجبا أو

٣٥٥

محبوبا كان لأجل أنّه حصّة من حصص الجامع لا لأجل كونه حصّة من حصص الغصب.

وهكذا العكس ، فلم يتعلّق الوجوب والحرمة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة بحصّة واحدة وفرد واحد ، وإنّما الوجوب والمحبوبيّة متعلّقهما الحصّة الصلاتيّة والحرمة والمبغوضيّة متعلّقهما الحصّة الغصبيّة ، وهما عنوانان متغايران وتعدّد العنوانين يكفي لرفع غائلة التضادّ والتنافي.

إذا لا تنافي بين الوجوبات المشروطة أو المحبوبيّة المشروطة المتعلّقة بالحصص مع النهي ، بناء على كفاية تعدّد العنوان ؛ لأنّ الإيجاب والتحريم أو المحبوبيّة والمبغوضيّة تتعلّق بالعنوان لا بالوجود الخارجي.

هذا كلّه بالنسبة للمحذور الأوّل.

ولكنّ الوجه المذكور لا يدفع التنافي بالتقريب الثاني الذي أفاده المحقّق النائيني ، وهو المنافاة بين النهي عن الحصّة والترخيص في التطبيق ؛ لأنّ إطلاق الواجب لحالة غصبيّة الصلاة إذا كان يعني الترخيص في تطبيقه على المقيّد بهذه الحالة فهو مناف لتحريم هذه الغصبيّة لا محالة.

وأمّا المحذور الثاني الذي أفاده الميرزا فهذا لا يندفع حتّى لو قلنا بكفاية تعدّد العنوان.

والوجه في ذلك : أنّ دعوى استلزام الأمر بالجامع الترخيص في تطبيق الجامع على كلّ فرد من أفراده ، معناه أنّ كلّ فرد يجوز تطبيق الجامع فيه ، وحيث إنّ النهي شمولي ففي كلّ حصّة وفرد لا يجوز تطبيق متعلّق النهي فيه.

وحينئذ يقال : إنّ الفرد الغصبي من الصلاة ينصبّ عليه عنوانان : أحدهما جواز تطبيق الجامع بعنوان كونه فردا غصبيّا من الصلاة ، والآخر عدم جواز تطبيق متعلّق النهي عليه بعنوان كونه فردا غصبيّا من الصلاة ، وهذا معناه أنّ الفرد الغصبي من الصلاة انصبّ عليه حكمان متضادّان متعلّقان بعنوانه الخاصّ وهو كونه فردا غصبيّا من الصلاة ، وهذان الحكمان المتضادّان هما الترخيص في التطبيق وعدم الترخيص في التطبيق ، فيلزم محذور اجتماع الضدّين.

وبتعبير آخر : إنّ الترخيص في التطبيق المستفاد من الأمر بالجامع انصبّ على عنوان غصبيّة الصلاة ، والحال أنّ هذا العنوان نفسه انصبّ عليه عدم الترخيص في التطبيق

٣٥٦

المستفاد من النهي الشمولي. فيكون هناك فرد واحد عنوانه الصلاة الغصبيّة موردا لحكمين متنافيين هما الترخيص في التطبيق وعدم الترخيص في التطبيق.

ولا يجدي هنا كون الصلاة بعنوانها مغايرة للغصب بعنوانه بناء على كفاية تعدّد العنوان ؛ لأنّ التنافي لم يكن بلحاظ نفس الصلاة كعنوان ، ونفس الغصب كعنوان آخر مباين للأوّل ذاتا ومفهوما ، وإنّما التنافي هنا بلحاظ ما يستفاد من الأمر بالجامع المتعلّق بالصلاة ومن النهي الشمولي المتعلّق بالغصب ، فإنّ المستفاد من الأوّل جواز تطبيق الجامع على كلّ فرد فرد ومنها عنوان الفرد الغصبي الصلاتي ، والمستفاد من الثاني عدم جواز تطبيق النهي على كلّ فرد فرد ومنها عنوان الفرد الغصبي الصلاتي ، فهذا العنوان الواحد انصبّ عليه حكمان متنافيان فيلزم المحذور.

وبهذا ظهر أنّ هذه الخصوصيّة تتمّ على ما اختاره السيّد الشهيد فيندفع محذور الاجتماع لكفاية تعدّد العنوان. بينما لا تكفي لدفع المحذور بناء على ما اختاره الميرزا من تقريب للتنافي.

الخصوصيّة الثالثة : أن نسلّم بأنّ الخصوصيّتين السابقتين غير نافعتين لدفع التنافي ، وأنّ الصلاة في المكان المغصوب لا يمكن أن يجتمع عليها أمر ونهي بعنوانين ، ولكنّنا نفترض أنّها متعلّقة للأمر والنهي مع عدم تعاصرهما في الفعليّة زمانا ، فيبحث عمّا إذا كان هذا نافعا في دفع التنافي أو لا.

ومثاله المقصود حالة طروّ الاضطرار بسوء الاختيار ، وتوضيحه : أنّ الإنسان تارة يدخل إلى الأرض المغصوبة بدون اختياره ، وأخرى يدخلها بسوء اختياره ، وفي كلتا الحالتين يصبح بعد الدخول مضطرّا إلى التصرّف في المغصوب بالمقدار الذي يتضمّنه الخروج ، غير أنّ هذا المقدار يكون مضطرّا إليه لا بسوء الاختيار في الحالة الأولى ، ومضطرّا إليه بسوء الاختيار في الحالة الثانية.

ويترتّب على ذلك : أنّ هذا المقدار في الحالة الأولى يكون مرخّصا فيه من قبل الشارع ، خلافا للحالة الثانية ؛ لأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي المسئوليّة والإدانة كما تقدّم (١) ، ولكنّ النهي ساقط على القول المتقدّم بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطابا.

__________________

(١) في بحث قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، تحت عنوان : حالات ارتفاع القدرة.

٣٥٧

الخصوصيّة الثالثة : فيما إذا كان الأمر والنهي غير متعاصرين في الفعليّة زمانا.

وهنا تارة يكون الاضطرار إلى الدخول في الأرض المغصوبة باختيار المكلّف بأن دخل باختياره وإرادته إلى الأرض ، وهذا ما يسمّى بالاضطرار بسوء الاختيار حيث اختار المعصية فكان اختياره سيّئا.

وأخرى لا يكون الاضطرار للدخول إلى المغصوب عن اختيار منه بأن أكره أو ألجئ على ذلك ، فهنا رغم إرادته واختياره حصل منه الدخول.

ففي الحالة الأولى لا إشكال في كونه عاصيا بالدخول بخلاف الحالة الثانية ، ولكنّهما يشتركان معا في مسألة وهي أنّه بعد أن تحقّق منه الدخول وصار موجودا في الأرض المغصوبة ، فكونه وبقاؤه في المغصوب يعتبر غصبا أيضا فيكون مأمورا بالخروج من أجل تخليص نفسه من الغصب الزائد ، وهذا الحكم عقلي ؛ لأنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، فلمّا كان تخليص النفس من المعصية واجبا وكان موقوفا على الخروج فيكون الخروج واجبا عقلا ، وعلى أساس الملازمة الشرعيّة بينهما يثبت وجوبه الشرعي أيضا.

وحيث إنّ الخروج يستلزم التصرّف في المغصوب أيضا ؛ لأنّه يتطلّب مقدارا من الزمان والمرور والمشي في المغصوب ، فيكون هذا التصرّف الغصبي الذي يستلزمه الخروج مضطرّا إليه المكلّف. نعم ، في حالة دخوله بسوء اختياره يكون هذا الاضطرار أيضا بسوء الاختيار بخلاف الدخول لا عن اختيار ، فإنّه يكون اضطرارا لا عن سوء اختيار.

والنتيجة هنا : هي أنّ المكلّف لمّا كان دخوله بسوء اختياره فيكون اضطراره إلى التصرّف الغصبي الزائد الذي يحتاجه الخروج الواجب عقلا أو عقلا وشرعا من سوء اختياره أيضا.

وقد تقدّم فيما سبق أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي التكليف عقابا وإدانة.

نعم ، هو ينافي التكليف خطابا ، بمعنى أنّه يستحقّ العقوبة ويكون مدانا ولكنّ الخطاب والتكليف من وجوب أو حرمة لا يشمله ؛ لأنّه مقيّد بالقدرة ، وهو هنا غير قادر على ترك الغصب كما هو واضح.

بخلاف ما إذا كان دخوله لا عن اختيار منه فإنّ هذا التصرّف الغصبي الزائد كما لا تكليف فيه كذلك لا إدانة ولا عقوبة عليه.

٣٥٨

إذا الدخول بسوء الاختيار يؤدّي إلى كون التصرّف الغصبي الزائد حال الخروج الواجب فيه مسئوليّة وإدانة وعقوبة وإن كان النهي والتحريم ساقطا بلحاظ هذا المقدار ؛ لأنّه مضطرّ إليه فلا قدرة له على الإطاعة وإن كان موجودا من أوّل الأمر.

بينما الدخول لا عن اختيار لا يؤدّي إلى العقوبة والإدانة كما لا يؤدّي إلى التحريم والنهي ، بل هنا المقدار مرخّص فيه من أوّل الأمر. ويترتّب على هذا نتيجة فقهيّة مهمّة ، وهي :

وعليه ، فلو كان وقت الصلاة ضيّقا وكان بإمكان المكلّف أن يصلّي حال الخروج بدون أن تطول بذلك مدّة الخروج ، فصلّى بنفس خروجه ، فهذه صلاة في المكان المغصوب.

ولا شكّ في وجوبها في الحالة الأولى ؛ لأنّ الخروج باعتباره مضطرا إليه لا بسوء الاختيار غير منهيّ عنه منذ البدء.

وأمّا في الحالة الثانية ، فقد يقال بأنّها منهيّ عنها ومأمور بها ، غير أنّ النهي والأمر غير متعاصرين زمانا ، ومن هنا جاز ثبوتهما معا ؛ وذلك لأنّ النهي سقط خطابا بالاضطرار الحاصل بسوء الاختيار وإن لم يسقط عقابا وإدانة ، والأمر توجّه إلى الصلاة حال الخروج بعد سقوط النهي ، فلم يجتمعا في زمان واحد.

الصلاة حال الخروج : فتارة يفرض سعة الوقت للصلاة بعد الخروج من المغصوب ، فهنا تجب الصلاة بعد الخروج ؛ لأنّه ليس مضطرّا للصلاة في المغصوب حينئذ ؛ لأنّ الأمر بالصلاة لمّا كان بدليّا فهو لا يتعيّن بهذا الفرد أو ذاك ، فإذا كان هناك مانع من تعلّقه بالفرد المعيّن ككونه غصبا ـ كما هنا ـ فإنّه لا يكون متعلّقا به ومنصرفا إلى غيره من الأفراد التي لا يوجد فيها أي مانع ولا محذور. ولكنّه لو صلّى في المغصوب حال الخروج مع سعة الوقت فهل صلاته صحيحة أم لا؟

والجواب : أنّ صلاته في المغصوب لو كانت أقلّ كمالا أو مساوية في الكمال للصلاة خارجه فهي باطلة ، كما لو كانت الصلاة في المغصوب إيمائيّة والصلاة خارجه اختياريّة أو كانتا معا إيمائيّتين أو اختياريّتين.

وإن كانت الصلاة في المغصوب أكمل بأن كانت اختياريّة وكانت الصلاة خارجه إيمائيّة ، فهنا إن استلزمت المكث الزائد عن الخروج فهي باطلة ، وإن لم تستلزم

٣٥٩

المكث الزائد كما إذا صلّى الصلاة الاختياريّة حال الخروج وهو على ظهر مركب مثلا فهي صحيحة. وهذا الفرض بشقوقه لم يذكره السيّد الشهيد هنا وإنّما اقتصر على الشقّ الثاني الآتي.

وأخرى يفرض ضيق وقت الصلاة ، بحيث لو أراد الانتظار إلى أن يخرج لفات وقتها ، فهنا إذا أراد أن يصلّي في المكان المغصوب فيكون قد اجتمع الأمر والنهي على موضوع واحد ؛ لأنّ صلاته تكون واجبة ومصداقا للمأمور به. وتكون حراما ومصداقا للمنهي عنه ؛ لأنّ ما يفعله يكون صلاة ويكون غصبا أيضا. وحينئذ ما هو حكم صلاته؟

وهنا صورتان :

الأولى : أن يبنى على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فتكون صلاته في المغصوب صحيحة. فيصلّي إيماء حال الخروج. وأمّا إذا صلّى الصلاة الاختياريّة فإن لم تستلزم المكث الزائد كما إذا كان على ظهر مركب فهي صحيحة أيضا ، وإن استلزمت المكث الزائد كانت صحيحة ولكنّه يعاقب على المكث الزائد ، وهذه الصورة ليست هي موضع البحث هنا.

الثانية : أن يبنى على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فهنا إن استلزمت الصلاة مكثا زائدا عن الخروج كما لو أراد الصلاة الاختياريّة فتقع باطلة ؛ لأنّ الوقوف والسجود يعتبران غصبا زائدا عن الخروج فتبطل ؛ لأنّه ليس مضطرّا للغصب الزائد.

وأمّا إن لم تستلزم صلاته المكث الزائد كما لو أراد أن يصلّي إيماء حال الخروج ، أو أراد أن يصلّي الصلاة الاختياريّة من على ظهر المركب مثلا ، فهنا تظهر ثمرة الفرق بين الدخول بسوء الاختيار وبين الدخول لا بسوء الاختيار ، وهذه الصورة هي موضع البحث هنا.

فنقول : إذا كان دخوله إلى الأرض المغصوبة لا بسوء اختياره ، فهنا تكون صلاته في المغصوب مع عدم استلزامها المكث الزائد عن الخروج صحيحة ؛ وذلك لأنّ الخروج لم يتعلّق به النهي لا قبل الدخول ولا بعده.

أمّا عدم تعلّق النهي بالخروج بعد الدخول إلى المغصوب فلأنّه بعد الدخول يصبح مضطرّا للخروج لكونه مقدّمة للتخلّص من الغصب الزائد ؛ لأنّ بقاءه في المغصوب غصب أيضا فيكون واجبا أو على الأقلّ مرخّصا فيه.

٣٦٠