شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

وحينئذ يكون زمان الواجب شرطا متأخّرا للوجوب مع كون الوجوب فعليّا من حين طلوع الهلال.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب الصوم له شرطان :

أحدهما : طلوع الهلال والذي هو شرط مقارن لحدوث الوجوب ، وبه يكون الوجوب فعليّا.

والآخر : هو طلوع الفجر والذي هو شرط متأخّر لفعليّة الوجوب ، بمعنى أنّ هذه الفعليّة لا تصير منجّزة إلا بتحقّق الشرط.

فمن حين طلوع الهلال يكون الصوم واجبا على المكلّف فيما إذا طلع عليه الفجر وكان قادرا بالغا عاقلا ، وهذا الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال وهو فعلي من ذاك الحين ، إلا أنّ امتثال متعلّقه لا يكون منجّزا على المكلّف من الآن ، بل من حين طلوع الفجر.

وأمّا ثمرة البحث في إمكان الواجب المعلّق فتأتي الإشارة إليها (١) إن شاء الله تعالى.

تقدّم أنّ الثمرة في البحث عن إمكان الواجب المعلّق تظهر في المقدّمات المفوّتة ، وكيفيّة تخريجها ، فإنّه على القول بإمكان الواجب المعلّق فتخريج وجوبها واضح ؛ لأنّ الوجوب لمّا كان فعليّا قبل زمان الواجب فهو يدعو ويحرّك نحو إيجاد سائر المقدّمات التي لو لم تتحقّق قبل حلول زمان الواجب لم يمكن امتثال الواجب عند حلول زمانه ، كالسفر إلى الميقات مثلا لمن كان بعيدا عن مكّة فيما إذا وجب عليه الحجّ.

وأمّا على القول بامتناع الواجب المعلّق فسوف تكون المقدّمات المفوّتة مشكلة لا بدّ من إيجاد حلّ لها ؛ لأنّه لمّا لم يكن الوجوب فعليّا فكيف كان المكلّف مسئولا عن إيجاد هذه المقدّمات؟ وما هو الداعي والمحرّك له؟

* * *

__________________

(١) في البحث القادم ، تحت عنوان : المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت.

١٦١
١٦٢

المسئوليّة

عن

المقدّمات قبل الوقت

١٦٣
١٦٤

المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت

[ أو المقدّمات المفوّتة ]

اتّضح ممّا تقدّم (١) أنّ المسئوليّة تجاه مقدّمات الواجب من قبل الوجوب إنّما تبدأ ببداية فعليّة هذا الوجوب ، ويترتّب على ذلك أنّ الواجب إذا كان له زمن متأخّر ، وكان يتوقّف على مقدّمة ولم يكن بالإمكان توفيرها في حينها ، ولكن كان بالإمكان إيجادها قبل الوقت ، فلا يجب على المكلّف إيجادها قبل الوقت ؛ إذ لا مسئوليّة تجاه مقدّمات الواجب إلا بعد فعليّة الوجوب ، وفعليّة الوجوب منوطة بالوقت ، وتسمّى المقدّمة في هذه الحالة بالمقدّمة المفوّتة.

ومثال ذلك : أن يعلم المكلّف قبل الزوال بأنّه إذا لم يتوضّأ الآن فلن يتاح له الوضوء بعد الزوال ، فيمكنه ألاّ يتوضّأ ولا يكون بذلك مخالفا للتكليف بالصلاة بوضوء ؛ لأنّ هذا التكليف ليس فعليّا الآن ، وإنّما يصبح فعليّا عند الزوال ، وفعليّته وقتئذ منوطة بالقدرة على متعلّقه في ذلك الظرف ؛ لاستحالة تكليف العاجز ، والقدرة في ذلك الظرف على الصلاة بوضوء متوقّفة بحسب الفرض على أن يكون المكلّف قد توضّأ قبل الزوال ، فالوضوء قبل الزوال إذن يكون من مقدّمات الوجوب ، وبترك المكلّف له يحول دون تحقّق الوجوب وفعليّته في حينه ، لا أنّه يتورّط في مخالفته.

مقدّمة البحث : عرفنا ممّا سبق أنّ قيود الواجب الشرعيّة أو العقليّة التكوينيّة يعتبر المكلّف مسئولا عن إيجادها وتحصيلها ؛ لأنّه لمّا كان ملزما عقلا بامتثال الواجب

__________________

(١) تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

١٦٥

لفعليّة وجوبه فهو ملزم أيضا بتوفير وتهيئة مقدّمات هذا الواجب ، وهذا الإلزام مترشّح من الوجوب ، ولذلك كانت المقدّمات للواجب واجبة وجوبا غيريّا ، بمعنى أنّه وجوب مترشّح من الوجوب النفسي ، وهذا معناه أنّ الوجوب الغيري إنّما يبدأ من حين ثبوت الوجوب النفسي لا قبله ؛ لأنّه قبل ثبوت الوجوب النفسي يكون الوجوب الغيري منتفيا من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وعلى هذا فإنّما يطالب المكلّف بالمقدّمات ويكون مسئولا عن إيجادها ومدانا على تركها فيما إذا ثبت الوجوب النفسي وصار فعليّا ، وأمّا إذا لم يثبت الوجوب النفسي فلا معنى للمطالبة بالمقدّمات ، وهذا واضح.

ولكن قد نفرض أنّ الوجوب صار فعليّا بينما زمان الواجب متأخّر وكان لهذا الواجب مقدّمات ، ونفرض أنّه لا يمكن إيجاد هذه المقدّمات وتوفيرها بعد حلول زمان الواجب ، بحيث إذا حلّ زمانه سوف يفوت امتثاله نتيجة عدم تهيئة مقدّماته من قبل ، فهنا هل يجب على المكلّف إيجاد هذه المقدّمات قبل حلول زمان الواجب أم لا؟

والجواب : أنّه لا يجب تهيئة مثل هذه المقدّمات وإن كان الواجب سوف يفوت عند حلول زمانه.

والوجه في ذلك واضح ؛ لأنّه قبل حلول زمان الواجب لا يكون المكلّف مسئولا عن إيجاد المقدّمات المرتبطة به ؛ لعدم وجود الداعي والمحرّك نحوها ، وبالتالي سوف يكون المكلّف عاجزا عن امتثال التكليف عند حلول زمانه ، ومع العجز عنه يسقط عن الفعليّة أو الفاعليّة.

ومثال ذلك : اشتراط الصلاة بالوضوء ، فإنّ مقدّميّة الوضوء للصلاة شرط يجب توفيره بعد دخول الوقت أي الزوال ، فإذا زالت الشمس دخل زمان الواجب فصار الوضوء واجبا على المكلّف ولا يجوز له تركه ؛ لأنّه يكون عاصيا بذلك ، وأمّا قبل زوال الشمس فلا يجب عليه الوضوء لعدم فعليّة الواجب قبل الزوال ، ولكن إذا فرضنا أنّ المكلّف كان يعلم من أوّل الأمر بأنّه لن يتمكّن من الوضوء بعد الزوال لمانع ، فهل يجب عليه تهيئة الوضوء قبل الزوال أم لا؟

والجواب : أنّه لا يجب عليه ذلك ، وإن كان بتركه للوضوء سوف يصبح عاجزا عن الإتيان بالصلاة مع الوضوء ولا يكون عاصيا بهذا الترك.

١٦٦

والوجه في ذلك : هو أنّ الوضوء قبل الزوال لا يترشّح عليه الوجوب ؛ لأنّ وجوبه الغيري إنّما يترشّح بعد فعليّة الواجب وهو مرتبط بالزوال ؛ فقبله لا فعليّة ، ومع عدم الفعليّة لا يكون المكلّف مطالبا ولا مسئولا عن شيء. وبعد دخول الزوال ـ والمفروض أنّه عاجز عن الوضوء ـ سوف يسقط الأمر بالصلاة عن الوضوء بسبب عجزه عن إيجاده ، ومع العجز لا تكليف وإلا كان من التكليف بغير المقدور وهو محال.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب الصلاة عن وضوء لا يبدأ قبل الزوال ، فترك الوضوء قبل الزوال لا يتّصف بأنّه ترك للواجب أو مخالفة للوجوب الفعلي. وإنّما يبدأ وجوب الصلاة عن وضوء بعد الزوال وهو في هذا الزمن غير قادر على الوضوء فيسقط هذا الوجوب ؛ لأنّه لا تكليف على العاجز وغير القادر.

إذا ترك المكلّف للوضوء قبل الزوال سوف يتسبّب برفع فعليّة وجوب الصلاة عن الوضوء بعد الزوال ، أو سوف يحول دون تحقّق مثل هذا الوجوب ؛ لأنّه فاقد لقيده ، والوجوب لا يتحقّق إلا بتحقّق قيوده وهذا ما يسمّى بالتعجيز ، أي أنّ المكلّف قد عجّز نفسه عن إيجاد متعلّق الوجوب في وقته ، ولكن هذا التعجيز كان قبل الوقت ولذلك لا يكون عاصيا ؛ لأنّه قبل الوقت لا يوجد ما يدعوه إلى إيجاد القيد.

ويطلق على الوضوء في مثل هذه الحالة عنوان المقدّمة المفوّتة ، أي أنّه من دونه سوف يفوّت الواجب في حينه.

ولكن هذه الصفة ليست دائميّة ، بل هي اتفاقيّة ؛ لأنّ الوضوء كما يمكن وجوده قبل الزوال يمكن وجوده بعده أيضا.

ولكن يلاحظ أحيانا أنّ الواجب قد يتوقّف على مقدّمة تكون دائما من هذا القبيل ، ومثالها وجوب الحجّ الموقوت بيوم عرفة ، ووجوب الصيام الموقوت بطلوع الفجر ، مع أنّ الحجّ يتوقّف على السفر إلى الميقات قبل ذلك ، والصيام من الجنب يتوقّف على الاغتسال قبل طلوع الفجر ، ولا شكّ في أنّ المكلّف مسئول عن طي المسافة من قبل وجوب الحجّ ، وعن الاغتسال قبل الطلوع من قبل وجوب الصيام.

ومن هنا وقع البحث في تفسير ذلك ، وفي تحديد الضوابط التي يلزم المكلّف فيها بإيجاد المقدّمات المفوّتة.

١٦٧

محل الكلام : وهو المقدّمة المفوّتة : وهي المقدّمة التي يتوقّف عليها إيجاد الواجب ، ولكن هذه المقدّمة لا يمكن توفيرها إلا قبل زمان الواجب ، بحيث إذا لم تتوفّر قبله فات الواجب عند حلول زمانه ، وهذه الصفة دائمة لها بمعنى أنّها دائما يجب أن تتوفّر قبل زمان الواجب ولا يمكن أن تتحقّق بعده ؛ لأنّه يفوت على المكلّف.

ومثالها : ما إذا وجب الحجّ على المستطيع فصار الوقوف بعرفة واجبا عليه ، إلا أنّ زمان هذا الواجب إنّما هو في اليوم التاسع من ذي الحجّة ، ولكن إذا كان المستطيع فرضه حجّ التمتّع لكونه بعيدا فيكون السفر إلى الميقات للإحرام منه واجبا عليه ؛ لكونه مقدّمة للوقوف في عرفات ، فإنّ من لا يسافر سوف يفوته الوقوف في حينه ، بل يجب أن يكون السفر قبل زوال اليوم التاسع بنحو يتمكّن المكلّف من القيام بسائر الأعمال الواجبة من إحرام وعمرة ، ولا يمكنه أن يسافر حين الزوال ؛ لأنّه سوف يفوته الواجب بذلك ، ومن هنا كان السفر المذكور مقدّمة مفوّتة دائما.

ومثالها أيضا : ما إذا هلّ هلال شهر رمضان فصار الصوم واجبا في الغد ، إلا أنّ زمانه هو طلوع الفجر ، وفرض أنّ مكلّفا كان جنبا في الليل فإنّه يجب عليه الاغتسال من الجنابة لكونه من مقدّمات الصوم الواجب ؛ لأنّه لا يصحّ الصوم من الجنب ، والمفروض أنّ زمان الواجب هو طلوع الفجر لا قبله.

ولكن إذا لم يغتسل المكلّف قبل طلوع الفجر سوف يفوته الواجب وهو الصوم عن طهارة من الحدث الأكبر ، ولو أراد أن ينتظر إلى أن يطلع الفجر ثمّ يغتسل فسوف يقع آن من الآنات مع الجنابة فيبطل الصوم ، وهذا معناه أنّ الاغتسال مقدّمة مفوّتة دائما يجب تحصيلها قبل طلوع الفجر ، مع أنّها من قيود الواجب وهو لم يحل زمانه بعد.

ومن هنا وقع البحث والكلام في كيفيّة تخريج وجوب المقدّمة المفوّتة ، فإنّ وجوبها لا إشكال فيه إثباتا ، ولكن ثبوتا كيف يمكن تخريج هذا الوجوب ؛ لأنّه على خلاف القاعدة؟

وقد ذكرت في المقام عدّة تفسيرات :

التفسير الأوّل : إنكار الوجوب المشروط رأسا ، وافتراض أنّ كلّ وجوب فعلي قبل تحقّق الشروط والقيود المحدّدة له في لسان الدليل ، وإذا كان فعليّا كذلك فتبدأ

١٦٨

محرّكيّته نحو مقدّمات الواجب قبل مجيء ظرف الواجب ، ومن هنا كان امتناع الوجوب المشروط يعني من الناحية العمليّة إلزام المكلّف بالمقدّمات المفوّتة للواجب من قبل ذلك الوجوب.

وهذه هي ثمرة البحث في إمكان الوجوب المشروط وامتناعه ، وقد تقدّم (١) أنّ الصحيح إمكان الوجوب المشروط ـ خلافا لما في تقريرات الشيخ الأنصاري (٢) ـ الذي تقدّم بالتفسير المذكور.

وهنا توجد عدّة تفسيرات وتخريجات للقول بوجوب المقدّمات المفوّتة :

التفسير الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري ، من أنّنا نثبت وجوب المقدّمات المفوّتة على أساس الوجوب الفعلي الثابت قبلها ، فيكون هذا الوجوب هو الداعي والمحرّك والباعث لإيجادها والتحريك نحو تحصيلها ، وهذا يتمّ بناء على كون الوجوب فعليّا دائما ، وإنكار ما يسمّى بالوجوب المشروط ، فكلّ وجوب فعلي عند تحقّق موضوعه.

وأمّا ما يؤخذ في لسان الدليل من قيود وشروط فهي راجعة إلى متعلّق الوجوب ، أي الواجب لا إلى الوجوب نفسه ، بناء على ما ذكره من أنّ الوجوب تابع لإرادة المولى ، فهو إمّا أن يريد جعل الوجوب أو لا يريد ، فإذا أراده فهو فعلي ؛ إذ لو كان مشروطا فهذا معناه أنّه لم يرد جعله بعد.

وعليه ، فما دام الوجوب فعليّا من حين تحقّق موضوعه فهو يحرّك ويبعث نحو إيجاد الواجب ، ولذلك كان المكلّف مسئولا عن إيجاد وتحقيق كلّ القيود التي يتوقّف عليها الواجب ، والتي تكون واقعة تحت اختياره قبل مجيء زمان الواجب ، وأمّا الزمان نفسه فهو ليس مسئولا عنه ؛ لأنّه خارج عن قدرته واختياره ، وحينئذ يجب على المكلّف الإتيان بالوضوء قبل الزوال ؛ لأنّ وجوب الصلاة فعلي قبل الزوال ؛ لأنّ وجوب الصلاة ثابت على كلّ مكلّف بالغ عاقل ... إلى آخره.

وأمّا الصلاة فهي مقيّدة ومشروطة بالزوال بالإضافة إلى اشتراطها بالوضوء ، ولكنّ الوضوء يجب الإتيان به بخلاف الزوال ؛ لأنّ الأوّل داخل تحت الاختيار والقدرة بخلاف الثاني.

__________________

(١) تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

(٢) مطارح الأنظار : ٤٩.

١٦٩

والحاصل : أنّ هذا التفسير يتمّ بناء على إنكار الوجوب المشروط.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ الوجوب المشروط ممكن ، ولذلك لا يتمّ هذا التفسير والتخريج ، ولذلك ذكرنا في بحث الوجوب المشروط أنّ الثمرة تظهر في تخريج المقدّمات المفوّتة والواجب المعلّق أيضا ، فمن ينكر الوجوب المشروط ينكر الواجب المعلّق أيضا ، ويؤمن بفعليّة الوجوب من حين حدوثه ، وبالتالي يخرّج وجوب المقدّمات المفوّتة ؛ لأنّ وجوبها يترشّح من الوجوب الفعلي الثابت قبلها ، وأمّا من يقول بإمكان الوجوب المشروط فهو لا يرى الوجوب فعليّا من حين حدوثه ما دام هناك قيد زماني استقبالي لم يتحقّق بعد ، ولذلك يحتاج إلى تخريج آخر لها.

التفسير الثاني : وهو يعترف بإمكان الوجوب المشروط ولكن يقول بإمكان الواجب المعلّق أيضا ، ويفترض أنّه في كلّ مورد يقوم فيه الدليل على لزوم المقدّمة المفوّتة من قبل وجوب ذيها نستكشف أنّ الوجوب معلّق ، أي أنّه سابق على زمان الواجب. وفي كلّ مورد يقوم فيه الدليل على أنّ الوجوب معلّق نحكم فيه بمسئوليّة المكلّف تجاه المقدّمات المفوّتة.

وهذه هي ثمرة البحث عن إمكان الواجب المعلّق وامتناعه.

التفسير الثاني : ما لعلّه يظهر من صاحب ( الفصول ) وحاصله أن يقال : إنّنا نؤمن بفكرة الوجوب المشروط كما نؤمن بفكرة الواجب المعلّق أيضا ، وبه تحلّ المشكلة ويتمّ تخريج وجوب المقدّمات المفوّتة.

وتوضيح ذلك : أنّ القول بإمكان الوجوب المشروط وإن كان يفترض فيه أنّ الوجوب ليس فعليّا قبل مجيء الزمان الاستقبالي ، وبالتالي لن يترشّح منه وجوب غيري على المقدّمات المفوّتة ، إلا أنّنا نؤمن أيضا بفكرة الواجب المعلّق ، والتي تفترض أنّ الوجوب يكون فعليّا قبل زمان الواجب ، والجمع بين الفكرتين ينتج أنّ الوجوب لا بدّ أن يكون فعليّا قبل زمان الواجب ، وإن كان لا يتحتّم أن يكون فعليّا من حين حدوثه.

والمثال التالي يوضّح الفكرة ، فنقول : إنّ وجوب الصيام يحدث حين طلوع الهلال ولكنّه ليس فعليّا من حينه ، بمعنى أنّه لا يحرّك المكلّف نحو إيجاد الواجب ، وهو الصوم من حين رؤية الهلال ، وإنّما من حين حلول زمان الواجب ، أي من حين طلوع

١٧٠

الفجر ، ففعليّة الوجوب بالنسبة إلى الواجب معلّقة على مجيء زمان الواجب ، ولذلك يقال : إنّ الواجب معلّق أو الوجوب الفعلي مشروط بحلول زمان الواجب.

ولكن لو لاحظنا المقدّمة المفوّتة للواجب وهي الاغتسال الليلي لمن كان جنبا ، فهذه المقدّمة وإن كانت مقدّمة للصوم الواجب والذي يبدأ زمانه من حين طلوع الفجر لا قبله ، ولذلك لا يكون الواجب محرّكا نحو إيجادها وتحصيلها لعدم فعليّته.

إلا أنّ الوجوب لمّا كان حادثا من حين طلوع الهلال فهو يحرّك نحو إيجاد هذه المقدّمة ؛ إذ لن يكون هناك ما يمنع من هذه المحرّكيّة والباعثيّة ؛ لأنّه فعلي بحسب الفرض ، وإن كانت فعليّته بالنسبة للواجب نفسه لا تبدأ إلا من حين زمان الواجب إلا أنّ فعليّته نحو المقدّمات المفوّتة تبدأ من حينه ؛ لأنّه فعلي فيترشّح عليها وجوب غيري من الوجوب النفسي للصيام الثابت حين طلوع الهلال.

ولذلك كان الجنب مطالبا بالاغتسال من حين طلوع الهلال إلى ما قبل طلوع الفجر ولو بآن ما.

إذا فالقول بالواجب المعلّق وإمكانه يترتّب عليه القول بوجوب المقدّمات المفوّتة ؛ لأنّه يفترض فيه فعليّة الوجوب في الزمان السابق على زمان الواجب ، فيكون وجوب المقدّمات المفوّتة مترشّحا من هذا الوجوب الفعلي. نعم ، هذا الوجوب بالنسبة للواجب نفسه لا يكون محرّكا للمكلّف ولا فعليّا بحقّه إلا حين حلول زمان الواجب ، وهذه هي ثمرة القول بإمكان الواجب المعلّق وامتناعه.

التفسير الثالث : أنّ القدرة المأخوذة قيدا في الوجوب إن كانت عقليّة بمعنى أنّها غير دخيلة في ملاكه ، فهذا يعني أنّ المكلّف بتركه للمقدّمة المفوّتة يعجّز نفسه عن تحصيل الملاك مع فعليّته في ظرفه ، وهذا لا يجوز عقلا ؛ لأنّ تفويت الملاك بالتعجيز كتفويت التكليف بالتعجيز.

وإن كانت القدرة شرعيّة بمعنى أنّها دخيلة في الملاك أيضا ، فلا ملاك في فرض ترك المكلّف للمقدّمة المفوّتة المؤدّي إلى عجزه في ظرف الواجب ، وفي هذه الحالة لا مانع من ترك المقدّمة المفوّتة.

وعلى هذا ، ففي كلّ حالة يثبت فيها كون المكلّف مسئولا عن المقدّمات المفوّتة نستكشف من ذلك أنّ القدرة في زمان الواجب غير دخيلة في الملاك ، كما أنّه في

١٧١

كلّ حالة يدلّ فيها الدليل على أنّ القدرة كذلك يثبت لزوم المقدّمات المفوّتة.

التفسير الثالث : ما لعلّه يظهر من كلمات الميرزا النائيني في المقام ، وحاصله أن يقال : إنّنا ننكر فكرة الشرط المتأخّر وفكرة الواجب المعلّق ، ولكنّنا نؤمن بالوجوب المشروط ، فيكون زمان الواجب قيدا للوجوب وليس الوجوب فعليّا من أوّل الأمر ، ولكنّه من حين مجيء زمان الواجب ، ولكن مع ذلك يمكننا حلّ مشكلة وجوب المقدّمات المفوّتة عن طريق آخر ، فنقول :

أوّلا : لا يجوز للمكلّف أن يترك التكليف المأمور به بعد أن يصبح فعليّا بحيث يكون قادرا على فعله فيتركه.

وثانيا : لا يجوز للمكلّف أن يعجّز نفسه عن امتثال التكليف بعد أن يصبح فعليّا ، كما إذا كان لديه ماء وبعد زوال الشمس أراقه فعجّز نفسه عن الوضوء.

وثالثا : لا يجوز للمكلّف أن يترك الملاك الفعلي فيما إذا كان قادرا على تحقيقه وإن لم يكن مخاطبا بالتكليف ، فإنّه إذا كان قادرا فأذهب قدرته فهو لا يخاطب بالتكليف لكونه عاجزا حينئذ ، لكنّه يطالب بتفويته الملاك الفعلي باختياره.

بعد ذلك نقول : إنّ المقدّمات المفوّتة التي يوجب فواتها عجز المكلّف وعدم قدرته على امتثال الواجب ، إنّما يجب تحصيلها فيما إذا كانت من المقدّمات العقليّة التكوينيّة لا الشرعيّة ، من قبيل السفر إلى الميقات وحفظ الماء للوضوء به لا من قبيل الوضوء قبل الوقت مثلا.

وعليه فالقدرة على هذه المقدّمات العقليّة المفوّتة إمّا أن تكون عقليّة وإمّا أن تكون شرعيّة.

فإذا كانت القدرة عليها عقليّة ـ والقدرة العقليّة هي التي لا تكون دخيلة في الملاك ، فيكون الملاك ثابتا حتّى بحقّ العاجز وإن لم يكن مخاطبا بالتكليف ـ فالمكلّف إذا ترك المقدّمات المفوّتة يكون قد أوقع نفسه في العجز عن تحصيل الملاك ، مع كون الملاك فعليّا حتّى مع فرض عجزه في زمان الواجب.

والتعجيز الذي هو فعل اختياري للمكلّف لا ينافي الاختيار ، فهو كترك الملاك رأسا مع قدرته عليه ، ولذلك يكون مدانا عقلا ؛ لأنّه قد فعل ما لا يجوز له فعله بحكم العقل ، ولا يختلف تفويت الملاك بسبب التعجيز عن تفويت التكليف الفعلي

١٧٢

بتركه رأسا أو بتعجيز نفسه عنه ، فإنّ العقل يستقلّ بلزوم حفظ القدرة على تحصيل هذه المقدّمات قبل زمان الواجب ؛ لأنّها معدّة له وهو موقوف عليها.

وأمّا إذا كانت القدرة شرعيّة ـ والقدرة الشرعيّة هي التي تكون دخيلة في الملاك لأخذ الشارع لها في لسان الدليل والخطاب ، ولذلك لا ملاك على العاجز كما لا تكليف عليه ـ فهي على أقسام :

فتارة تكون كالقدرة العقليّة تماما أي القدرة على الفعل وعلى تهيئة المقدّمات وحفظها ، غاية الأمر أنّ القدرة العقليّة ليست دخيلة في الملاك من أوّل الأمر بحكم العقل ، بينما هذه وإن كانت دخيلة في الملاك إلا أنّها لمّا كانت شاملة للمقدّمات وغيرها كانت النتيجة فيهما واحدة ، بحيث تكون من الناحية العمليّة كأنّها ليست دخيلة في الملاك ، كما إذا قيل : ( إذا قدرت فأكرم زيدا غدا ).

وأخرى لا تكون كالقدرة العقليّة ولكنّها اعتبرت بنحو يجب معه تحصيل المقدّمات قبل مجيء وقت الواجب ، فهي هنا كالقدرة العقليّة أيضا لا تكون من الناحية العمليّة دخيلة في الملاك وإن كانت دخيلة فيه ابتداء ، كما إذا قيل : ( أكرم عمرا غدا إذا قدرت على ذلك بعد مجيء زيد ) ، فهنا القدرة معتبرة بعد مجيء زيد ، فإذا جاء زيد اليوم لزم تحصيل مقدّمات إكرام عمرو من الآن فيما إذا كانت مفوّتة في الغد.

وثالثة تكون القدرة الشرعيّة معتبرة في زمان الواجب فقط ، كما إذا قال : ( إذا قدرت على إكرام زيد غدا فأكرمه ) ، فهنا القدرة كانت دخيلة في الإكرام في يوم الغد ، ولذلك لا يجب تحصيل مقدّمات الإكرام قبل مجيء يوم الغد ؛ لأنّه إذا لم يكن قادرا في الغد على الإكرام فكما لا يجب إكرامه فكذلك لا ملاك في إكرامه ؛ لأنّ القدرة الشرعيّة كانت مأخوذة في الخطاب مقيّدة بالغد لا مطلقة ، ولا بنحو يشمل المقدّمات من أوّل الأمر ، ومن هنا لم يكن مسئولا عن المقدّمات المفوّتة ، بل يجوز تركها ولا شيء عليه.

وبهذا يظهر لنا أنّه في كلّ حالة يثبت فيها كون المكلّف مسئولا عن تحصيل وإيجاد المقدّمات المفوّتة ، استكشف من ذلك كون القدرة إمّا عقليّة وإمّا شرعيّة بالمعنى الواسع المطلق الشامل للمقدّمات ، وإمّا شرعيّة بنحو خاصّ بحيث يكون

١٧٣

للمقدّمات المفوّتة دخالة فيه ، والعكس صحيح أيضا ؛ بمعنى أنّه في كلّ حالة تثبت القدرة بأحد هذه المعاني فيكون المكلّف ملزما بتحصيل المقدّمات المفوّتة وإن لم تؤخذ في لسان الدليل أو لم يدلّ عليها الخطاب.

وأمّا إذا كانت القدرة شرعيّة في زمان الواجب فقط أو استكشف من الدليل عدم مسئوليّة المكلّف عن المقدّمات المفوّتة ، ففي الحالتين لا يجب على المكلّف شيء ولا يلزم بالمقدّمات ؛ لأنّ القدرة الشرعيّة بهذا المعنى تكون دخيلة في الملاك بحيث لا يتحقّق الملاك من دونها.

غير أنّ هذا المعنى يحتاج إلى دليل خاصّ ولا يكفيه دليل الواجب العامّ ؛ لأنّ دليل الواجب له مدلول مطابقي وهو الوجوب ومدلول التزامي وهو الملاك ، ولا شكّ في أنّ المدلول المطابقي مقيّد بالقدرة ومع سقوط الإطلاق في الدلالة المطابقيّة يسقط في الدلالة الالتزاميّة أيضا للتبعيّة ، فلا يمكن أن نثبت به كون الملاك ثابتا في حالتي القدرة والعجز معا.

يرد على هذا التفسير أنّ معرفة كون القدرة عقليّة أو شرعيّة يحتاج إلى دليل خاصّ ولا يكفي فيه الدليل العامّ للواجب ، فإن تمّ الدليل الخاصّ على ذلك كان هذا التفسير وجها وتخريجا فنيّا وعمليّا أيضا ، وإن لم يتمّ الدليل الخاصّ فدليل الواجب العامّ لا يكفي لإثبات ذلك.

والوجه فيه هو أن يقال : إنّ دليل الواجب كالدليل الدالّ على وجوب الصوم : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أو الدليل الدالّ على وجوب الحج : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) له مدلولان :

أحدهما : المدلول المطابقي وهو الدلالة على الوجوب ، والآخر : وهو الدلالة على الملاك على أساس المدلول الالتزامي ؛ لأنّ ثبوت الوجوب في مورد لازمه أن يكون الملاك ثابتا فيه أيضا ، بناء على تبعيّة الأحكام للملاكات والمفاسد والمصالح.

وحينئذ نقول : إنّ المدلول المطابقي أي الوجوب لا إشكال ولا ريب في كونه مقيّدا بالقدرة ؛ لأنّه لا تكليف على العاجز كما هو واضح ، فإذا ترك المكلّف المقدّمات المفوّتة فصار عاجزا عن امتثال التكلّف فلا تكليف عليه جزما ، ولكن الملاك هل يبقى ثابتا بحقّه أم لا؟

١٧٤

فهذا لا يمكن إثباته من نفس الدليل المذكور ؛ لأنّ القاعدة تقتضي أنّه إذا سقط المدلول المطابقي سقط بتبعه المدلول الالتزامي ، فمع سقوط الوجوب والتكليف يسقط الملاك إلا إذا كانت القدرة المأخوذة عقليّة ، فإنّ الملاك يبقى ولو سقط المدلول المطابقي أي الوجوب بالعجز أو التعجيز ، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى دليل خاصّ غير دليل الواجب المذكور ، فإنّه لا يفيد أكثر من دخالة القدرة وأمّا على أي وجه هي فلا يتعرّض له.

إلا أنّه يعلّق على ذلك بأنّه قد تقدّم أنّ القدرة إذا أخذت في الخطاب وفي لسان الدليل كانت شرعيّة فتكون دخيلة في الملاك ، فيسقط الملاك تبعا لسقوط التكليف في حالات العجز والتعجيز ، وإن كانت غير مأخوذة في الدليل فهي عقليّة وهي لا تكون دخيلة في الملاك ؛ بمعنى أنّ الملاك فعلي حتّى مع العجز ، فمع سقوط الوجوب بسبب العجز لا يسقط الملاك ولا يتبعه في ذلك ؛ لأنّه يثبت في حالات العجز.

وبهذا يظهر لنا تماميّة الوجوه الثلاثة بناء على تماميّة مبانيها ، فإذا قبلنا المباني كانت هذه الوجوه وافية لتخريج وجوب المقدّمات المفوّتة (١).

__________________

(١) والصحيح برأي السيّد الشهيد هو أن يقال : إنّ الوجوه المذكورة كلّها ناظرة إلى الإرادة التشريعيّة ، أو الأوامر والأغراض التشريعيّة ، مع أنّ المشكلة نفسها موجودة في الأغراض والإرادة التكوينيّة.

ومن هنا إذا حللنا المشكلة بلحاظ الأغراض التكوينيّة فسوف تنحلّ المشكلة هناك أيضا ؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة ليست إلا الإرادة التكوينيّة عمليّا ، غاية الأمر أنّه في التكوينيّات يتحرّك الشخص نفسه بينما في التشريعيّات يحرّك غيره.

وعلى هذا فنقول : إنّ الإنسان إذا علم بأنّه سوف يعطش في زمان استقبالي ، فإنّه يهيئ مقدّمات الارتواء فيحمل معه الماء قبل أن يشرع في سفره فضلا عن زمان حدوث العطش ، وهنا نسأل لما ذا قام بتهيئة المقدّمات مع أنّها ليست مطلوبة نفسيّا ، وإنّما المطلوب النفسي هو الشرب والارتواء لا حمل الماء؟ تماما كالإنسان الذي يجب عليه الحجّ عند ما يستطيع ويكون بعيدا عن مكّة ، فإنّه يهيئ مقدّمات السفر للكون في الميقات والإحرام منه وللإتيان بالعمرة ليكون على تمام الاستعداد للوقوف بعرفات بزوال يوم التاسع من ذي الحجّة ، فإنّ السفر ومقدّماته إنّما هي لأجل الوقوف وهو لم يدخل زمانه بعد ، فلما ذا تجب؟

والجواب عن ذلك : أنّه في الأمور والأغراض التكوينيّة توجد إرادة استقباليّة ، وهذه الإرادة تنحلّ إلى إرادتين :

١٧٥

.........................................

__________________

إحداهما : إرادة الجزاء على تقدير الشرط ، أي إرادة الشرب على تقدير العطش ، وهذه الإرادة مشروطة بالعطش.

والأخرى : إرادة الجامع بين عدم الشرط وتحقّق الجزاء على تقدير الشرط ، أي عدم العطش أو الشرب على تقدير العطش ، وهذه الإرادة للجامع فعليّة ومنجّزة ؛ لأنّ المكلّف يريد فعلا أن يكون مرتويا إمّا بأن لا يعطش أو بالشرب عند العطش ، فهو يريد أن يبقى مرتويا على هذين التقديرين ، وهذه الإرادة فعليّة غير مشروطة ، وبهذه الإرادة الفعليّة يترشّح لدى المكلّف حبّ وإرادة لأجل تهيئة المقدّمات فيحمل معه الماء في سفره لأجل أن يشرب على تقدير عطشه.

وهكذا الحال في الأوامر والأغراض التشريعيّة ، فإنّنا لمّا قبلنا فكرة الوجوب المشروط ، فهذا معناه أنّه توجد إرادتان : إحداهما مشروطة والأخرى فعليّة ، فالإرادة المشروطة هي إرادة الوجوب على تقدير حصول شرطه ، والإرادة الفعليّة هي إرادة الجامع بين إرادة الوجوب على تقدير حصول شرطه ، أو إرادة عدم الشرط وهذه الإرادة فعليّة من أوّل الأمر ، وهي لذلك تدعو إمّا لعدم تحقّق الشرط ، أو لتحقيق الجزاء على تقدير تحقّق الشرط ، ولذلك يترشّح منها إرادة لتهيئة المقدّمات المفوّتة فيما لو علم بتحقّق الشرط في المستقبل.

١٧٦

أخذ القطع

بالحكم في موضوع الحكم

١٧٧
١٧٨

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم

قد يفترض تارة أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، وأخرى أخذه في موضوع حكم مضادّ له. وثالثة أخذه في موضوع مثله ، ورابعة أخذه في موضوع حكم مخالف.

ولا شكّ في إمكان الأخير ، وإنّما وقع الكلام في الافتراضات الثلاثة الأولى.

تمهيد :

الأحكام الشرعيّة سواء التكليفيّة أم الوضعيّة هي في الأغلب الأعمّ مشتركة بين العالم والجاهل ، ولا تختصّ بالعالم بها فقط ، إلا في بعض الموارد النادرة جدّا حيث دلّ الدليل الخاصّ على ثبوت الحكم بحقّ العالم به فقط ، كما في موارد الجهر والإخفات ، وموارد القصر والإتمام ، حيث يحكم بصحّة من قرأ جهرا مكان الإخفات أو العكس جهلا منه في الحكم.

وقد استدلّ على قاعدة الاشتراك هذه بإطلاق أدلّة الأحكام فإنّها مطلقة لم يؤخذ فيها قيد العلم بها ، إلا أنّه مع ذلك لم يكتف بهذا المقدار ، بل برهن على أنّه يستحيل أخذ العلم بالحكم قيدا لثبوت الحكم ، وهذا البحث معقود لبيان ذلك ، فإنّ أخذ الحكم في موضوع الحكم لا يخلو من حالات أربع ، هي :

أوّلا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجبت عليك ).

وثانيا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع حكم مضادّ له ، أي يؤخذ العلم بالحكم كالوجوب في موضوع الحكم بالحرمة ، مع كون الموضوع فيهما واحدا ، كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة فقد حرمت عليك ).

وثالثا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع حكم مماثل له ، أي يؤخذ العلم بالحكم

١٧٩

بالوجوب مثلا في موضوع الحكم بالوجوب أيضا ، ولكن لا الوجوب السابق بل وجوب آخر مماثل للوجوب السابق ؛ إذ لو كان هو نفسه لصار نفس الحالة الأولى ، كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجبت عليك بوجوب آخر مماثل للوجوب الأوّل لا نفسه ).

ورابعا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر مخالف لموضوع الحكم الأوّل ، فالمخالفة هنا صفة للموضوع لا للحكم ، بمعنى أنّ الموضوعين مختلفان لا نفس الحكم فقط مع وحدة موضوعهما ، وإلا لصار نفس الصورة الثانية.

ومثاله : كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجب عليك التصدّق على الفقير ، أو إذا علمت بوجوب الجهاد عليك فقد حرم عليك الفرار ) ، وهذه الصورة لا إشكال في إمكانها ووقوعها أيضا.

وإنّما الكلام وقع في الصور الثلاث الباقية.

أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه :

أمّا الافتراض الأوّل فقد يبرهن على استحالته بأدائه للدور ، إذ يتوقّف كلّ من الحكم والعلم به على الآخر.

وقد يجاب بأنّه لا دور ؛ لأنّ الحكم وإن كان متوقّفا على القطع لأنّه مأخوذ في موضوعه إلا أنّ القطع بالحكم لا يتوقّف على ثبوت الحكم.

الحالة الأولى : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع نفس هذا الحكم ، كما إذا قيل : ( تجب الصلاة جهرا على من يعلم بوجوب الجهر ). وفي هذه الحالة يقال بالاستحالة للدور.

وتقريبه : إنّ طبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه كالعلاقة بين السبب والمسبّب ، فالحكم مسبّب عن الموضوع بمعنى أنّ الحكم لا يوجد إلا إذا تحقّق موضوعه مع سائر القيود والشروط المأخوذة في موضوعه.

وعليه ، فإذا كان من جملة قيود الموضوع العلم بالحكم فهذا يفترض أنّ الحكم ثابت في رتبة سابقة ليعلم به ؛ لأنّ العلم لا بدّ أن يتعلّق بشيء موجود ولو في الذهن ، ممّا يعني أنّ الحكم قد فرغ عنه وافترض ثبوته مسبقا في مرحلة سابقة عن ثبوت الموضوع ، والحال أنّ الواقع يفترض أنّ الحكم متأخّر عن الموضوع ؛ لأنّه مسبّب عنه ،

١٨٠