محمّد جعفر الأسترآبادي
المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٦٨
الخارج ، وما ذكر من لوازم الماهيّة بالمعنى الثاني لا الأوّل.
ومن قال بأصالة الوجود إن كان مراده أنّ الوجود له مصداق خارجيّ ، كما أنّ له مفهوما ومصداقا ذهنيّا من غير أن ينفي أصالة الماهيّة ، وكونها أيضا موجودة في الخارج وذات مصداق خارجيّ باعتبار المعنى الثاني ، بمعنى أصالة الوجود والماهيّة معا بكونهما موجودين في الخارج بإيجاد واحد ، وكون الماهيّة موجودة بالوجود ، والوجود موجودا بنفسه دفعا للتسلسل من غير الحكم بكون الوجود أصلا من هذه الجهة والماهيّة حدّا له وسببا لتعيّنه ، بل تكون الماهيّة أصلا وجهة التقوّم بنفسه ، والوجود أصلا من جهة التحصّل بنفسه ، ويكون كلّ ممكن زوجا تركيبيّا ، فهو حقّ لا ينافي ما ذكرنا.
وإن كان مراده اعتباريّة الماهيّة بالمعنى الثاني ، فلا اعتبار به ؛ لبداهة حكم العقل بوجود الذات والماهيّة بالمعنى الثاني ، كما لا يخفى.
وإن كان مراده اعتباريّة الماهيّة بالمعنى الأوّل ، وأصالة الوجود بالمعنى المذكور سيّما بمعنى منشأ الأثر ، فهو حقّ.
ولكنّ النزاع لفظيّ ؛ فإنّ القائل بأصالة الماهيّة يقول بأصالة الماهيّة بالمعنى الثاني لا الأوّل ، وعرضيّة الوجود ، لا عدم كونه ذا مصداق حقيقيّ خارجيّ ، والقائل بأصالة الوجود يقول بكونه ذا مصداق حقيقيّ ، لا عدم كونه عرضا في الممكن مع اعتباريّة الماهيّة بالمعنى الأوّل لا الثاني ، فما يثبته أحد الفريقين لا ينفيه الآخر ، وما ينفيه الآخر لا يثبته الأوّلون ، فمتعلّق النفي والإثبات مختلف ، وليس النزاع إلاّ بحسب اللفظ ، وليس هذا ممّا يليق بالعلماء.
والحمل على أصالة الوجود بمعنى كون جميع الوجود وجود الواجب المتنزّل في الممكنات ـ كما يقوله أهل التصوّف ـ موجب للكفر والخروج عن الدين.
وقد نظمت هذا المطلب بقولي :
ينقسم الوجود بالوجدان |
|
للخارجي والكون في الأذهان |
إذ الحقيقيّة قطعا صادقه |
|
والذهن فيه صورة مفارقه |
المسألة الخامسة : في أنّ الوجود ليس هو معنى زائدا على الحصول العيني.
قال : ( وليس الوجود معنى به تحصل الماهيّة في العين ، بل الحصول ).
أقول : قد ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ الوجود معنى قائم بالماهيّة يقتضي حصول الماهيّة في الأعيان (١).
والظاهر أنّ المراد كون قيامه كقيام سائر الأعراض بالجواهر ، لا من باب « ضيق فم الركيّة ».
وهذا مذهب سخيف يشهد العقل ببطلانه ؛ لأنّ قيام ذلك المعنى بالماهيّة في الأعيان يستدعي تحقّق الماهيّة في الخارج ؛ لأنّ ثبوت الشيء للشيء فرع لثبوت المثبت له ، فلو كان حصولها في الخارج مستندا إلى ذلك المعنى لزم الدور المحال ، بل الوجود الأصلي هو نفس تحقّق الماهيّة وكونها في الأعيان ، لا ما به تكون الماهيّة في الأعيان.
المسألة السادسة : في أنّ الوجود لا تزايد فيه ولا اشتداد.
قال : ( ولا تزايد فيه ولا اشتداد ).
أقول : ذهب قوم إلى أنّ الوجود قابل للزيادة والنقصان (٢).
وردّ : بأنّ التزايد عبارة عن حركة جوهريّة على نحو الحركة العرضيّة كالأينيّة ، والحركة تقتضي بقاء المتحرّك من مبدئها إلى منتهاها وتبدّل أحواله ، فلو كان الوجود قابلا للزيادة لزم كونه باقيا قبل حصولها وبعدها ، فتلك الزيادة إن كانت
__________________
(١) هو ما ذهب إليه جماعة من أتباع المشّائين ، كما ذكر ذلك اللاهيجي في « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة الخامسة.
(٢) انظر : « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٥٠ ؛ « الأسفار الأربعة » ١ : ٤٢٣ وما بعدها.
وجودا لزم اجتماع المثلين ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين.
وأمّا نفي الاشتداد فهو مذهب أكثر المحقّقين.
قال بعضهم : لأنّه إن لم يحدث بعد الاشتداد شيء آخر لم يكن الاشتداد اشتدادا بل هو باق كما كان. وإن حدث فالحادث إن كان غير الحاصل فليس اشتدادا للوجود الواحد ، بل يرجع إلى أنّه حدث شيء آخر معه ، وإلاّ فلا اشتداد. وكذا البحث في جانب النقصان (١).
وقد نظمت هذا المطلب أيضا بقولي :
لا يقبل الوجود الاشتدادا |
|
ولا تزايدا كما أفادا |
المسألة السابعة : في أنّ الوجود خير ، والعدم شرّ.
قال : ( وهو خير محض ).
أقول : هذه قضيّة وجدانيّة لا برهانيّة ولا استقرائيّة.
والمراد أنّا إذا تأمّلنا في كلّ ما يقال له : « خير » وجدناه وجودا ، وإذا تأمّلنا في كلّ ما يقال له : « شرّ » وجدناه عدما ، ألا ترى إلى القتل فإنّ العقلاء يحكمون بكونه شرّا ، وإذا تأمّلنا وجدنا شرّيّته باعتبار ما يتضمّنه من العدم ؛ فإنّه ليس شرّا من حيث قدرة القادر عليه ؛ فإنّ القدرة كمال الإنسان ، ولا من حيث إنّ الآلة قاطعة (٢) ؛ فإنّه أيضا كمال لها ، ولا من حيث حركة أعضاء القاتل ، ولا من حيث قبول العضو للتقطيع ، بل من حيث هو إزالة كمال الحياة ، فليس الشرّ إلاّ هذا العدم ، وباقي القيود الوجوديّة خيرات ، فنحكم بأنّ الوجود خير محض ، والعدم شرّ محض ، ولهذا كان واجب الوجود أبلغ في الخيريّة والكمال من كلّ موجود ؛ لبراءته عن القوّة والاستعداد. وتفاوت غيره من الموجودات فيه باعتبار القرب من العدم والبعد عنه.
__________________
(١) انظر « كشف المراد » : ٢٩ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٥١ ؛ « الأسفار الأربعة » ١ : ٤٢٣ وما بعدها.
(٢) في جميع النسخ : « قطّاعة » وما أثبتناه موافق لما في « كشف المراد » و « شوارق الإلهام ».
وقد نظمت هذا المطلب أيضا بقولي :
وذاك خير في الحدوث والقدم |
|
فلا يكون الشرّ إلاّ في العدم |
المسألة الثامنة : في أنّ الوجود لا ضدّ له.
قال : ( ولا ضدّ له ).
أقول : الضدّ ذات وجوديّة تقابل ذاتا أخرى في الوجود ، بمعنى أنّه موجود معاقب لموجود آخر في الموضوع وإن كان عرضا ، كالسواد والبياض ، ولمّا استحال أن يكون الوجود ذاتا وأن يكون له وجود آخر استحال أن يكون ضدّا لغيره ، ولأنّه عارض لجميع المعقولات ؛ لأنّ كلّ معقول إمّا خارجيّ فيعرض له الوجود الخارجيّ ، أو ذهنيّ فيعرض له الذهنيّ ، ولا شيء من أحد الضدّين بعارض لصاحبه.
ومقابلته للعدم ليست تقابل الضدّين على ما يأتي تحقيقه في نفي المعدوم ، بل تقابل السلب والإيجاب إن أخذا مطلقين ، وإلاّ تقابل العدم والملكة.
المسألة التاسعة : في أنّه لا مثل للوجود.
قال : ( ولا مثل له ).
أقول : المثلان ذاتان وجوديّتان يسدّ كلّ منهما مسدّ صاحبه ، ويكون المعقول منهما شيئا واحدا بحيث إذا سبق أحدهما إلى الذهن ثمّ لحقه الآخر ، لم يكتسب العقل من الحاصل ثانيا غير ما اكتسبه أوّلا ، والوجود ليس بذات ، فلا يماثل شيئا آخر.
وأيضا فليس هاهنا معقول يساويه في التعقّل على ما ذكرناه ، إذ كلّ معقول مغاير لمعقول الوجود.
لايقال : إنّ كلّيّته وجزئيّته متساويتان في التعقّل ، فكان له مثل.
لأنّا نقول : إنّهما ليستا متساويتين في المعقوليّة وإن كان أحد جزأي الجزئي هو الكلّيّ ، لكنّ الاتّحاد ليس تماثلا.
وأيضا فإنّه عارض لكلّ المعقولات على ما قرّرناه أوّلا ، ولا شيء من المثلين بعارض لصاحبه.
وقد نظمت هذين المطلبين (١) بقولي :
ليس له ضدّ كما لا مثل له |
|
إذ الوجود واحد في الأمثله |
المسألة العاشرة : في أنّه مخالف لغيره من المعقولات ، وعدم منافاته لها.
قال : ( فتحقّقت مخالفته للمعقولات ).
أقول : لمّا حصروا النسبة بين الاثنين الوجوديّين في التضادّ والتماثل ولو على وجه التضايف والتخالف ، وثبت ممّا سبق أنّه انتفت نسبة التضادّ والتماثل بينه وبين غيره من المعقولات ، تعيّن المخالفة بينهما ؛ ولهذا جعله نتيجة لما سبق.
قال : ( ولا ينافيها ).
أقول : المتنافيان لا يمكن اجتماعهما ، وقد بيّنّا أنّ كلّ معقول على الإطلاق فإنّه يمكن عروض مطلق الوجود له واجتماعه معه وصدقه عليه ، فكيف ينافيه!؟
لايقال : العدم أمر معقول وقد قضى العقل بمنافاته له ، فكيف يصحّ قوله على الإطلاق : إنّه لا ينافيها!؟
لأنّا نقول : نمنع أوّلا كون العدم المطلق معقولا ، والعدم الخاصّ له حظّ من الوجود ، فلا ينافي الوجود ، ولهذا افتقر إلى موضوع خاصّ ، كافتقار الملكة إليه.
سلّمنا ، لكن نمنع استحالة عروض الوجود المطلق للعدم المعقول ؛ فإنّ العدم المعقول ثابت في الذهن ، فيكون داخلا تحت مطلق الثابت ، فيصدق عليه مطلق الثابت.
ومنافاته للموجود المطلق لا باعتبار صدق مطلق الثبوت عليه ، بل من حيث أخذه مقابلا له.
__________________
(١) في « أ ، ج » : « هذا المطلب ».
ولا امتناع في عروض أحد المتقابلين للآخر اذا أخذا لا باعتبار التقابل ، كالكلّيّة والجزئيّة ؛ فإنّهما قد يصدق أحدهما على الآخر باعتبار مغاير لا باعتبار مقابلتهما.
وهذا فيه دقّة.
وقد نظمت هذه المطلب أيضا بقولي :
وهو مخالف لغيره بلا |
|
تقابل كما أفاد العقلاء |
المسألة الحادية عشرة : في تلازم الشيئيّة والوجود.
قال : ( ويساوق الشيئيّة ، فلا تتحقّق بدونه ، فالمنازع مكابر مقتضى عقله ).
أقول : اختلف الناس في هذا المقام.
والمحقّقون كافّة ـ من الحكماء والمتكلّمين (١) ـ اتّفقوا على مساوقة الوجوديّة والشيئيّة وتلازمهما وتساويهما في الصدق وإن لم تتّحدا في المفهوم ، حتّى أنّ كلّ شيء على الإطلاق فهو موجود على الإطلاق ، وكلّ ما ليس بموجود فهو معدوم وليس بشيء.
وبالجملة ، لم يثبتوا للمعدوم ذاتا متحقّقة ، فالمعدوم الخارجي لا ذات له في الخارج ، والذهنيّ لا ذات له ذهنا.
وقال المعتزلة : إنّ للمعدوم الخارجي ذاتا ثابتة في الأعيان متحقّقة في نفسها ليست ذهنيّة ، بمعنى أنّ له ثبوتا في حدّ ذاته بحيث لا يترتّب عليه الأثر ؛ من جهة أنّا نحكم حكما إيجابيّا على المعدوم ، والحكم بثبوت أمر لأمر باعتبار نفس الأمر من غير خصوصيّة المدرك فرع ثبوت المثبت له ، فالثبوت أعمّ من الوجود الذي هو عبارة عن الثبوت الذي يترتّب عليه الأثر (٢).
ويرد عليه : القول بثبوت اجتماع النقيضين ، والقول بثبوت شريك البارئ ؛ لأنّا
__________________
(١) انظر : « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة التاسعة.
(٢) « المباحث المشرقيّة » ١ : ١٣٤ ؛ « المحصّل » : ١٤٩ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٥٣ ؛ « كشف المراد » : ٣٢.
نحكم بأنّ الأوّل محال ، والثاني ممتنع ، وهو حكم صادق خبريّ يقتضي أن يكون لنسبته خارج يطابقه مع أنّ الوجود الذهنيّ كاف في الحكم.
مضافا إلى أنّ هؤلاء يكابرون في الضرورة ؛ فإنّ العقل قاض بأنّه لا واسطة بين المعدوم والموجود ؛ فإنّ الثبوت هو الوجود.
قال : ( وكيف تتحقّق ) الشيئيّة ( بدونه مع إثبات القدرة وانتفاء الاتّصاف!؟ ).
أقول : لمّا استبعد مقالة هؤلاء القوم ونسبهم إلى المكابرة شرع في الاستدلال على بطلان قولهم ، وأنّ هؤلاء يذهبون إلى أنّ القدرة لا تأثير لها في الذوات أنفسها ؛ لأنّها ثابتة في العدم ، مستغنية عن المؤثّر في جعلها ذوات ، بل غير مقدورة ؛ لامتناع تحصيل الحاصل ، ولا في الوجود ؛ لأنّه عندهم حال والحال غير مقدورة ، وقد ثبت في نفس الأمر أنّ اتّصاف الماهيّة بالصفة غير ثابت في الأعيان ، بل هو أمر اعتباريّ ، وإلاّ لزم التسلسل ؛ لأنّ ذلك الاتّصاف لو كان ثابتا ، لكان متّصفا بالثبوت ، واتّصافه بالثبوت أيضا يكون ثابتا وهكذا ، فيلزم التسلسل.
والحاصل أنّ الماهيّات لو كانت ثابتة في العدم لاستغنت الممكنات في وجودها عن المؤثّر ، فانتفت القدرة أصلا ورأسا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطيّة : أنّ القدرة حينئذ لا تأثير لها في الذوات ولا في الوجود على مذهبهم ، ولا في اتّصاف الماهيّة بالوجود على ما ثبت في نفس الأمر ، وذلك يستلزم نفي التأثير أصلا.
وأمّا بطلان التالي فبالاتّفاق ، والبرهان دلّ عليه ، على ما يأتي.
فلهذا استبعد المصنّف رحمهالله هذه المقالة مع إثبات القدرة والمؤثّريّة ، والقول بكون الاتّصاف أمرا ذهنيّا وأنّه منتف في الخارج.
قال : ( وانحصار الموجود مع عدم تعقّل الزائد ).
أقول : هذا برهان آخر دالّ على انتفاء الماهيّات في العدم.
وتقريره : أنّ مذهبهم أنّ كلّ ماهيّة نوعيّة فإنّه ثبت من أشخاصها في العدم
ما لا يتناهى ، كالسواد والبياض والجواهر وغيرها من الحقائق ، فألزمهم المصنّف المحال ، وهو القول بعدم انحصار الموجودات ؛ لأنّ تلك الماهيّات ثابتة ، وهي غير محصورة في عدد متناه ، والثبوت هو الوجود ؛ لانتفاء تعقّل أمر زائد على الكون في الأعيان ، فلزمهم القول بوجود ما لا يتناهى من الماهيّات ، وهو عندهم باطل ، فإن جعلوا الوجود أمرا مغايرا للكون في الأعيان ، كان نزاعا في العبارة وقولا بإثبات ما لا يعقل ، مع أنّ البراهين الدالّة على استحالة ما لا يتناهى كما تدلّ على استحالته في الوجود تدلّ على استحالته في الثبوت ؛ إذ دلالتها إنّما هي على انحصار الكائن في الأعيان.
وقول المصنّف رحمهالله : « وانحصار الموجود » عطف على « إثبات القدرة » أي وكيف تتحقّق الشيئيّة بدون الوجود مع إثبات القدرة وانتفاء الاتّصاف وانحصار الموجود مع عدم تعقّل الزائد هكذا ، ينبغي أن يفهم كلامه هنا.
قال : ( ولو اقتضى التميّز الثبوت عينا ، لزم منه محالات ).
أقول : لمّا أبطل مذهب القائلين بثبوت المعدوم شرع في إبطال حججهم.
ولهم حجّتان رديئتان ذكرهما المصنّف وأبطلهما :
أمّا الحجّة الأولى فتقريرها : أنّ كل معدوم متميّز ، وكلّ متميّز ثابت.
أمّا المقدّمة الأولى : فدلّ عليها أمور ثلاثة :
أحدها : أنّ المعدوم معلوم ، والمعلوم متميّز.
الثاني : أنّ المعدوم مراد ؛ فإنّا نريد اللذّات ونكره الآلام ، فلا بدّ أن يتميّز المراد من المكروه.
الثالث : أنّ المعدوم مقدور ، وكلّ مقدور متميّز ؛ فإنّا نميّز (١) بين الحركة يمنة ويسرة وبين الحركة إلى السماء ، ونحكم بقدرتنا على إحدى الحركتين دون الأخرى ،
__________________
(١) في الأصل و « أ » : « تتميّز ».
فلولا نميّز كلّ واحدة منهما عن الأخرى لاستحال هذا الحكم.
وأما المقدّمة الثانية : فلأنّ التميّز صفة ثابتة للمتميّز ، وثبوت الصفة يستدعي الثبوت عينا.
فأجاب المصنّف بأنّ التميّز لا يقتضي الثبوت عينا ، وإلاّ لزم محالات :
أحدها : أنّ المعلوم قد يكون مستحيل الوجود لذاته ، كشريك البارئ ، واجتماع الضدّين وغيرهما ، ويتميّز أحدهما عن الآخر ، فلو اقتضى التميّز الثبوت العيني ، لزم ثبوت المستحيلات مع أنّهم وافقونا على انتفاء المستحيل.
الثاني : أنّ المعلوم قد يكون مركّبا خياليّا ، وليس ثابتا في العدم اتّفاقا.
الثالث : أنّ المقدوريّة لو استدعت الثبوت لانتفت ؛ إذ لا قدرة على الثابت ، وكذا المراديّة.
هذا على طريق النقض ، وأمّا الحلّ فبأن يقال : إن أريد التميّز الخارجي فالصغرى ممنوعة.
وإن أريد التميّز الذهني أو الأعمّ مع إرادة الثبوت الخارجي ، فالكبرى ممنوعة.
وإن أريد الذهنيّان ، فالنتيجة غير مثمرة.
قال : ( والإمكان اعتباريّ يعرض لما وافقونا على انتفائه ).
أقول : هذه إشارة إلى الحجّة الثانية لهم على ثبوت المعدوم ، وهي أنّهم قالوا : إنّ المعدوم ممكن ، وإمكانه ليس أمرا عدميّا ، وإلاّ لم يبق فرق بينه وبين الإمكان المنفيّ ، فيكون أمرا ثبوتيّا ، وليس جوهرا قائما بذاته ، فلا بدّ له من محلّ ثبوتيّ ، وهو الممكن ؛ لاستحالة قيام الصفة بغير موصوفها ، فيكون الممكن العدميّ ثابتا ، وهو المطلوب (١).
وأجاب المصنّف رحمهالله عنها : بأنّ الإمكان أمر اعتباريّ ليس شيئا خارجيّا ، وإلاّ لزم
__________________
(١) انظر : « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة العشرون ، في اعتباريّة الموادّ الثلاث.
التسلسل ، وأن يكون الثبوتيّ حالاّ في محلّ عدميّ ، وهو باطل قطعا.
وأيضا فإنّ الإمكان يعرض للممكنات العدميّة ، كالمركّبات الخياليّة ، وهم وافقونا على انتفائها خارجا ، فيبطل قولهم : « كلّ ممكن ثابت ».
وقد نظمت هذا المطلب أيضا بقولي :
تساوق الوجود والشيئيّة |
|
بمقتضى القدرة والعلّيّة |
كذا انحصار ما هو الموجود |
|
ودرك أمر زائد مفقود |
لو اقتضى التمييز والإمكان في |
|
ماهيّة كونا لكان ما نفي |
المسألة الثانية عشرة : في نفي الحال.
قال : ( وهو يرادف الثبوت ، والعدم النفي ، فلا واسطة ).
أقول : ذهب أبو هاشم وأتباعه من المعتزلة ، والقاضي والجويني من الأشاعرة ـ على ما حكي (١) ـ إلى ثبوت الواسطة بين الموجود والمعدوم في الصفات ، كالقول بثبوتها في الذوات في المسألة المتقدّمة ، وسمّوها الحال ، وحدّوها : بأنّها صفة لموجود لا توصف بالوجود والعدم وهي ثابتة ، فيكون الثابت أعمّ من الموجود ، والمعدوم أعمّ من المنفيّ.
وهذا المذهب باطل بالضرورة ؛ فإنّ العقل قاض بأنّه لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، وأنّ الثبوت هو الموجود مرادفا له ، وأنّ العدم والنفي مترادفان ، ولا شيء أظهر عند العقل من هذه القضيّة ، فلا يجوز الاستدلال عليها.
قال : ( والوجود لا ترد عليه القسمة ، والكلّيّ ثابت ذهنا ، ويجوز قيام العرض بالعرض ).
أقول : لمّا أبطل مذهبهم أشار إلى بطلان ما احتجّوا به من الوجوه الثلاثة :
__________________
(١) انظر : « محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين » : ١٦٣ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٨٠ ؛ « شوارق الإلهام » المسألة العاشرة من الفصل الأوّل.
[ الوجه ] الأوّل : أنّ الوجود زائد عن (١) الماهيّة ، فإمّا أن يكون موجودا أو معدوما أو لا موجودا ولا معدوما ، والأوّلان باطلان.
أمّا الأوّل ؛ فلأنّه يلزم التسلسل.
وأمّا الثاني ؛ فلأنّه يلزم اتّصاف الشيء بنقيضه ، فيبقى الثالث.
والجواب : أنّ الوجود غير قابل لهذه القسمة ؛ لاستحالة انقسام الشيء إلى نفسه وإلى غيره ، أو إلى الموصوف به وبما ينافيه ، فكما لا يقال : السواد إمّا أن يكون سوادا أو بياضا ، كذلك لا يقال : الوجود إمّا أن يكون موجودا أو لا يكون. ولأنّ المنقسم إلى الشيئين أعمّ منهما ، ويستحيل أن يكون الشيء أعمّ من نفسه.
مضافا إلى ما يقال من أنّ الوجود معدوم ؛ لجواز اتّصاف الشيء بنقيضه اشتقاقا وإن لم يخبر بـ « هو هو » كأن يقال : الوجود عدم في القضايا المتعارفة.
[ الوجه ] الثاني : أنّ الكلّي الذي هو ذاتيّ لجزئيّاته المحقّقة في الخارج مثل الحيوان ـ مثلا ـ ليس بموجود ؛ إذ لا وجود في الخارج إلاّ للأشخاص (٢) ، ولا معدوما ، وإلاّ لما كان جزءا لجزئيّاته الموجودة ، كزيد ؛ لامتناع تقوّم الموجود بالمعدوم.
والجواب : أنّ الكلّيّ جزء ذهنيّ لجزئيّاته ، وذلك يقتضي وجوده في الذهن ، وهو موجود فيه ، وليس جزءا خارجيّا حتّى يلزم تحقّقه في الخارج.
والحقّ أنّ الكلّيّ الطبيعيّ موجود في الخارج بوجود أشخاصه ، كما سيأتي إن شاء الله.
[ الوجه ] الثالث : أنّ اللونيّة أمر ثابت مشترك بين السواد والبياض ، فيكون كلّ واحد من السواد والبياض ممتازا عن الآخر بأمر زائد على ما به الاشتراك.
ثمّ الجزءان إن كانا موجودين ، لزم قيام العرض بالعرض. وإن كانا معدومين ، لزم أن يكون السواد أمرا عدميّا وكذلك البياض ، وهو باطل بالضرورة ، مع امتناع تقوّم
__________________
(١) كذا في جميع النسخ ، وفي « كشف المراد » : ٣٥ : « على ».
(٢) في « ج » : « الأشخاص ».
الموجود بالمعدوم ، فثبت الواسطة.
والجواب : أنّ العرض قد يقوم بالعرض على ما يأتي.
وأيضا فإنّ قيام الجنس بالفصل ليس هو قيام عرض بعرض.
قال : ( ونوقضوا بالحال (١) نفسها ).
أقول : اعلم أنّ نفاة الأحوال قالوا : وجدنا ملخّص (٢) أدلّة مثبتي الحال يرجع إلى أنّ هاهنا حقائق تشترك في بعض ذاتيّاتها وتختلف في البعض الآخر ، وما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز.
ثمّ قالوا : إنّ ذلك ليس بموجود ولا معدوم ، فوجب القول بالحال.
وهذا منتقض عليهم بالحال نفسها ، فإنّ الأحوال عندهم متعدّدة ومتكثّرة ، فلها جهة اشتراك هي مطلق الحاليّة ، وامتياز هي خصوصيّات تلك الأحوال ، وجهة الاشتراك مغايرة لجهة الامتياز ، فيلزم أن يكون للحال حال أخرى ويتسلسل.
قال : ( والعذر بعدم قبول التماثل والاختلاف ، والتزام التسلسل باطل ).
أقول : اعتذر المثبتون عن التزام النفاة بوجهين :
الأوّل : أنّ الحال لا يوصف بالتماثل والاختلاف.
الثاني : القول بالتزام التسلسل.
والعذران باطلان.
أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ معقول إذا نسب إلى معقول آخر. فإمّا أن يتّحدا في المعقوليّة ، ويكون المتصوّر من أحدهما هو المتصوّر من الآخر ، وإنّما يتعدّدان بعوارض لاحقة ، وهما المثلان ، أو لا يكون كذلك ، وهما المختلفان ، فلا يتصوّر نفيهما.
وأمّا الثاني : فإنّه يبطل الاستدلال بوجود الصانع تعالى. وبراهين إبطال التسلسل ـ سيّما برهان التطبيق ـ آتية هاهنا.
__________________
(١) الحال ـ كما عليه المتكلّمون ـ : وسط بين الموجود والمعدوم ، وهو صفة غير موجودة بذاتها وغير معدومة.
(٢) في جميع النسخ : « مخلص » وهو غلط ، وما أثبتناه موافق لـ « كشف المراد » : ٣٦.
وأجاب بعض المتأخّرين : بأنّ المختلفين إذا اشتركا في أمر ثبوتيّ ، لزم ثبوت أمرين بهما يقع الاختلاف والتماثل ، أمّا إذا اتّحدا في أمر سلبيّ فلا يلزم ذلك.
والأحوال وإن اشتركت في الحاليّة ـ كالسواديّة والبياضيّة ـ إلاّ أنّ ذلك المشترك أمر سلبيّ ، فلا يلزم التسلسل (١).
وهو غير مرضيّ عندهم ؛ لأنّ الأحوال عندهم ثابتة.
قال : ( فبطل ما فرّعوا عليهما من تحقّق الذوات غير المتناهية بأشخاصها في العدم ، وانتفاء تأثير المؤثّر فيها وتباينها ، واختلافهم في إثبات صفة الجنس وما يتبعها في الوجود ، ومغايرة التحيّز للجوهرية ، وإثبات صفة المعدوم بكونه معدوما وإمكان وصفه بالجسميّة ، ووقوع الشكّ في إثبات الصانع بعد اتّصافه بالقدرة والعلم والحياة ).
أقول : لمّا أبطل مذهب القائلين بثبوت المعدوم والحال ، أبطل ما فرّعوا عليهما.
وقد ذكر من فروع إثبات الذوات في العدم أحكاما اختلفوا في بعضها (٢) :
[ الفرع ] الأوّل : أنّهم اتّفقوا على أنّ تلك الذوات غير متناهية في العدم ، فلكلّ نوع عدد غير متناه ، وأنّ تلك الأعداد متباينة بأشخاصها.
[ الفرع ] الثاني : أنّ الفاعل لا تأثير له في جعل الجوهر جوهرا والعرض عرضا ، وإنّما تأثير الفاعل في جعل تلك الذوات موجودة ؛ لأنّ تلك الذوات ثابتة في العدم لم تزل ، والمؤثّر إنّما يؤثّر على طريقة الإحداث.
وقد صار إلى هذا الحكم جماعة من الحكماء ، قالوا : لأنّ كلّ ما بالفاعل ينتفي بانتفاء الفاعل ، فلو كان الجوهر جوهرا بالفاعل لانتفى بانتفائه ، لكن انتفاء الجوهر عن ذاته يستلزم التناقض.
[ الفرع ] الثالث : أنّهم اتّفقوا على انتفاء تباين الذوات ، بل جعلوا الذوات كلّها
__________________
(١) « محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين » : ١٦٧ ـ ١٦٨.
(٢) انظر : حول هذا المبحث « شرح المقاصد » ١ : ٣٧٤ وما بعدها.
متساوية في كونها ذوات ، وإنّما تختلف بصفات عارضة لها.
وهذا المذهب باطل ؛ لأنّ الصفات إن كانت لازمة كان اختلافها دليلا على اختلاف الملزومات ، وإلاّ جاز أن ينقلب السواد جوهرا وبالعكس ، وذلك باطل بالضرورة.
[ الفرع ] الرابع : أنّهم اختلفوا في صفات الأجناس هل هي ثابتة في العدم أم لا؟
ـ والمراد بصفات الأجناس ما يقع بها الاختلاف والتماثل ، كصفة الجوهريّة في الجوهر والسواديّة في السواد ، إلى غير ذلك من الصفات ـ فذهب ابن عيّاش (١) إلى أنّ تلك الماهيّات المعدومة عارية عن الصفات في العدم ، بل هي تحصل في حال الوجود (٢).
وأمّا الجمهور فإنّهم قالوا : إنّها في حال العدم متّصفة بصفات الأجناس (٣) ، وهي أربعة :
إحداها : الصفة الحاصلة حالتي الوجود والعدم ، وهي الجوهريّة.
والثانية : الوجود ، وهي الصفة الحاصلة بالفاعل.
والثالثة : التحيّز وهي الصفة التابعة للحدوث ، الصادرة عن صفة الجوهريّة بشرط الوجود.
[ و ] الرابعة : الحصول في التحيّز ، وهي الصفة المعلّلة بالمعنى ، وليس له صفة زائدة على هذه الأربع ، فليس له بكونه أسود أو أبيض صفات.
وأمّا الأعراض فلا صفات لها عائدة إلى الجملة ، بل لها ثلاث صفات راجعة إلى الأفراد :
إحداها : الصفة الحاصلة حالتي الوجود والعدم ، وهي صفة الجنس.
__________________
(١) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن عيّاش من كبار أئمّة المعتزلة ، له مؤلّفات كثيرة في علم المنطق والكلام ، منها : نقض كتاب ابن أبي بشر في إيضاح البرهان. انظر : « الفهرست » لابن النديم : ٢٢١.
(٢) « شرح المقاصد » ١ : ٣٧٦.
(٣) « شرح المقاصد » ١ : ٣٧٦.
الثانية : الصفة الصادرة عنها بشرط الوجود.
الثالثة : صفة الوجود.
[ الفرع ] الخامس : أنّهم اختلفوا في مغايرة التحيّز للجوهريّة :
فعن أبي عليّ الجبّائي وابنه أبي هاشم (١) وأبي الحسين الخيّاط (٢) وأبي القاسم البلخي (٣) والقاضي عبد الجبّار أنّ التحيّز مغاير للجوهريّة ، وهي علّة له بشرط الوجود.
وذهب أبو يعقوب الشحّام وأبو عبد الله البصري وأبو إسحاق بن عيّاش ـ على ما حكي ـ إلى أنّ الجوهريّة هي التحيّز.
ثمّ قال الشحّام والبصري : إنّ الذات موصوفة بالتحيّز كما توصف بالجوهريّة. ثمّ اختلفا :
فقال الشحّام : إنّ الجوهر حال عدمه حاصل في الحيّز.
وقال البصري : شرط الحصول في الحيّز الوجود ، فهو حال العدم موصوف بالتحيّز (٤) ، لا الحصول في الحيّز.
وزعم ابن عيّاش أنّه حال العدم غير موصوف بأحدهما ولا بغيره من الصفات (٥).
__________________
(١) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام ، من معتزلة البصرة ومن أئمّة الكلام ، أخذ عن أبي يعقوب الشحّام ، قصد بغداد وناظر المتكلّمين ثمّ عاد إلى العسكر وأوصى إلى ابنه أبي هاشم أن يدفنه في العسكر ، توفّي سنة ٣٠٣. انظر : « الفهرست » لابن النديم : ٢١٧.
(٢) هو عبد الرحيم بن محمّد بن عثمان الخيّاط أستاذ أبي القاسم البلخي ، وله كتب كثيرة في الردّ على ابن الراوندي ، وكان فقيها صاحب حديث عارفا بمذاهب المتكلّمين ، من كتبه الانتصار في الردّ على ابن الراوندي. كذا في « طبقات المعتزلة » : ٨٥.
(٣) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي ويعرف بالكعبي ، عالم متكلّم ، توفّي أوّل يوم من شعبان سنة تسع وثلاثمائة ، له مصنّفات كثيرة ، منها كتاب المقالات وكتاب الغرر والنوادر وكتاب التفسير الكبير للقرآن. انظر : « الفهرست » لابن النديم : ٢١٩.
(٤) أي كونه قابلا للحصول في الحيّز.
(٥) « المحصّل » : ١٦١ ـ ١٦٢ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧.
[ الفرع ] السادس : اتّفق المثبتون ـ إلاّ أبا عبد الله البصري ـ على أنّ المعدوم لا صفة له بكونه معدوما. والبصريّ أثبت له صفة بذلك (١).
[ الفرع ] السابع : اتّفقوا ـ إلاّ أبا الحسين الخيّاط ـ على أنّ الذوات المعدومة لا توصف بكونها أجساما. وجوّزه الخيّاط (٢).
[ الفرع ] الثامن : اختلفوا في أنّ من علم للعالم صانعا قادرا حكيما مرسلا للرسل ، هل يشكّ في كونه موجودا ويحتاج في ذلك إلى دليل ؛ بناء منهم على جواز اتّصاف المعدوم بالصفات المتغايرة ، أم لا (٣)؟
والعقلاء كافّة منعوا من ذلك ، وأوجبوا وجود الموصوف بالصفة الموجودة ؛ لأنّ ثبوت الشيء لغيره فرع على ثبوت ذلك الغير في نفسه.
قال : ( وقسمة الحال إلى المعلّل وغيره ، وتعليل الاختلاف بها ، وغير ذلك ممّا لا فائدة بذكره ).
أقول : لمّا ذكر تفريع القول بثبوت المعدوم شرع في تفاريع القول بثبوت الحال ، وذكر منها فرعين :
الأوّل : قسمة الحال إلى المعلّل وغيره.
قالوا : ثبوت الحال للشيء إمّا أن يكون معلّلا بموجود قائم بذلك الشيء ، كالعالميّة المعلّلة بالعلم ، أولا يكون كذلك ، كسواديّة السواد ، وقسّموا الحال إلى المعلّل وغيره.
الثاني : اتّفقوا على أنّ الذوات كلّها متساوية في الماهيّة ، وإنّما تختلف بأحوال تضاف إليها ، فالاختلاف معلول لها.
واتّفق أكثر العقلاء على بطلان هذا القول ؛ للزوم انتفاء المتخالفين في اللوازم
__________________
(١) « المحصّل » : ١٦٢ ؛ « شرح المقاصد » : ٣٧٧.
(٢) « المحصّل » : ١٦٢ ؛ « شرح المقاصد » : ٣٧٧ ـ ٣٧٨.
(٣) انظر : « المحصّل » : ١٦٢ ـ ١٦٣.
الذاتيّة ، فيجوز على القديم الانقلاب إلى الحدوث وبالعكس. ولأنّ التخصيص لا بدّ له من مرجّح ، وليس ذاتا ؛ لتساوي الذوات على هذا القول ، ولا صفة ذات وإلاّ تسلسلت الصفات ؛ لاحتياج ثبوت تلك الصفة لذات دون ذات إلى مرجّح آخر وهي الصفة الأخرى ، وهكذا.
وترك (١) سائر الفروع ؛ لعدم الفائدة في ذكرها.
والإنصاف أنّه لا فائدة في الاشتغال بأمثال ذلك بعد ظهور بطلان أصلها.
المسألة الثالثة عشرة : في الوجود المطلق والخاصّ.
قال : ( ثمّ الوجود قد يؤخذ على الإطلاق فيقابله عدم مثله ، وقد يجتمعان لا باعتبار التقابل ويعقلان معا ، وقد يؤخذ مقيّدا فيقابله عدم مثله ).
أقول : اعلم أنّ الوجود عبارة عن الكون في الأعيان ، ثمّ هذا الكون في الأعيان قد يؤخذ عارضا لماهيّة ما ، فيتخصّص الوجود حينئذ ، وقد يؤخذ مجرّدا عمّا عداه من غير التفات إلى ماهيّة معيّنة أو مبهمة ، فيكون وجودا مطلقا.
إذا عرفت هذا ، فالوجود العامّ يقابله عدم مطلق غير متخصّص بماهيّة خاصّة تقابل الإيجاب والسلب من جهة عدم اعتبار المحلّ القابل للوجودي فيه.
نعم ، التقابل بين الوجود المقيّد والعدم المقيّد تقابل العدم والملكة ؛ لأنّ جميع الماهيّات قابلة للوجود الأعمّ.
وهذا الوجود المطلق والعدم المطلق قد يجتمعان على الصدق ؛ فإنّ المعدوم في الخارج الموجود في الذهن يصدق عليه أنّه معدوم مطلق وأنّه موجود مطلق.
نعم ، إذا نظر إلى وحدة الاعتبار ، امتنع الاجتماع في الصدق على شيء واحد ، وإنّما يجتمعان إذا أخذا لا باعتبار التقابل ، ولهذا كان المعدوم المطلق متصوّرا ؛ للحكم عليه بالمقابلة للموجود المطلق ، وكلّ متصوّر ثابت في الذهن ، والثابت في
__________________
(١) عطف على قوله : « وذكر » في ص ٥٢.
الذهن أحد أقسام المطلق الثابت ، فيكون الثابت المطلق صادقا على المعدوم المطلق لا باعتبار التقابل.
وهذا الوجود المطلق والعدم المطلق أمران معقولان معا ، بمعنى أنّ العقل يفرض اتّصاف ذات واحدة بهما ، كما يتحقّق الاتّصاف بهما في الخارج باعتبار الوجود الخارجي والذهني ، لا باعتبار التقابل الموجب لامتناع اجتماع المتقابلين وإن كان قد نازع قوم في أنّ المعدوم المطلق يتصوّر (١).
وأمّا الوجود الخاصّ ـ وهو وجود الملكات المتخصّص باعتبار تخصيصها كالمقيّد بقيد الإنسان وغيره من الماهيّات ـ فإنّه يقابله عدم خاصّ مثله.
قال : ( ويفتقر إلى الموضوع كافتقار ملكته ).
أقول : عدم الملكة ليس عدما مطلقا ، بل له حظّ ما من الوجود من جهة اعتبار المحلّ القابل للوجودي فيه ، ويفتقر إلى الموضوع بذلك ، كالعمى ، فإنّه عدم البصر ، لا مطلقا ، بل عن شيء من شأنه أن يكون بصيرا ، فهو يفتقر إلى الموضوع الخاصّ المستعدّ للملكة ، كما تفتقر الملكة إليه ، ولهذا لمّا امتنع البصر على الحائط ـ لعدم استعداده ـ امتنع صدق العمى عليه.
قال : ( وقد يؤخذ (٢) شخصيّا ونوعيّا وجنسيّا ).
أقول : لمّا فسّر عدم الملكة بأنّه عدم شيء عن موضوع من شأنه أن يكون ذلك الشيء له ، وجب عليه أن يبيّن الموضوع ؛ فقد اختلف الناس في ذلك.
فذهب قوم إلى أنّ ذلك الموضوع موضوع شخصيّ ، فعدم اللحية عن الأمرد عدم ملكة ، وعدمها عن الكوسج كالمرأة ليس عدم الملكة.
__________________
(١) نسبة في « شوارق الإلهام » إلى « الشرح القديم » والحواشي الشريفة حيث قال : « قد يجتمع الوجود المطلق والعدم المطلق ؛ لأنّ العدم المطلق قد يتصوّر فيعرض له الكون المطلق ». انظر : « شوارق الإلهام » المسألة الثانية عشرة من الفصل الأوّل.
(٢) أي الموضوع.
وقوم جعلوه أعمّ من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع النوعي ، فعدم اللحية عن الكوسج أيضا عدم ملكة ؛ لكون نوع الإنسان قابلا لها ، وعدمها عن الحمار ليس عدم ملكة.
وقوم جعلوه أعمّ من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع الجنسي ، فعدم البصر عن العقرب أيضا عدم ملكة ؛ لكون جنس الحيوان قابلا له.
وبالجملة ، فإن اعتبر في الموضوع كونه قابلا للأمر الوجودي في وقت اتّصافه بالأمر العدمي ، يقال لهما : العدم والملكة المشهوران ، وإلاّ فالحقيقيّان.
ولا مشاحّة في ذلك ؛ لعدم فائدته.
المسألة الرابعة عشرة : في أنّ الوجود بسيط.
قال : ( والوجود لا جنس له ، بل هو بسيط ، فلا فصل له ).
أقول : قد بيّنّا أنّ الوجود عارض لجميع المعقولات ، فلا معقول أعمّ منه ، فلا جنس له ولا فصل له ؛ لأنّ الفصل هو المميّز لبعض أفراد الجنس عن البعض ، فإذا انتفت الجنسيّة ، انتفت الفصليّة بل هو بسيط.
قال : ( ويتكثّر بتكثّر الموضوعات ، ويقال بالتشكيك على عوارضها ).
أقول : الوجود طبيعة معقولة كلّيّة واحدة غير متكثّرة ، فإذا اعتبر عروضه للماهيّات تكثّر بحسب تكثّرها ؛ لاستحالة عروض العرض الشخصي لماهيّات متعدّدة ، وتكون طبيعة متحقّقة في كلّ واحدة من تلك الماهيّات ، أعني أنّ طبيعة الوجود متحقّقة في وجود الإنسان ووجود الفرس وغيرهما من وجودات الحقائق ، ويصدق عليها صدق الكلّيّ على جزئيّاته ، وعلى تلك الماهيّات صدق العارض على معروضاته.
ويقال على تلك الوجودات العارضة للماهيّات بالتشكيك ؛ وذلك أنّ الكلّيّ إن كان صدقه على أفراده على السواء ، كان متواطئا ، وإن كان لا على السواء ، بل يكون
بعض تلك الأفراد أولى بالكلّيّ من الآخر أو أقدم منه أو يوجد الكلّيّ في ذلك البعض أشدّ منه في الآخر ، كان مشكّكا.
والوجود من حيث هو بالنسبة إلى كلّ وجود خاصّ كذلك ؛ لأنّ وجود العلّة أولى بطبيعة الوجود من المعلول ، والوجود في العلّة مقدّم على الوجود في المعلول ، وعند بعضهم أشدّ ، يعني باعتبار التأثير حتّى لا يلزم قبوله الاشتداد المنفيّ ، فيكون مشكّكا (١).
قال : ( فليس جزءا من غيره مطلقا ).
أقول : هذا نتيجة ما تقدّم ؛ وذلك لأنّ المقول بالتشكيك لا يكون جزءا فيما يقال عليه ، ولا نفس حقيقته ؛ لامتناع التفاوت في الماهيّة وأجزائها على ما يأتي ، فيكون البتّة عارضا لغيره ، فلا يكون جزءا من غيره على الإطلاق.
أمّا بالنسبة إلى الماهيّات ؛ فلأنّه عارض لها ، على ما تقدّم من أنّه زائد على الحقائق.
وأمّا بالنسبة إلى وجوداتها ؛ فلأنّه مقول عليها بالتشكيك ، مع أنّ تكثّرها باعتبار الموضوعات ، وأصل الوجود طبيعة واحدة غير متكثّرة كما مرّ إليه الإشارة ، وهي بسيطة غير مركّبة فلا يتصوّر كونه جزءا ؛ فلهذا قال رحمهالله : « مطلقا ».
المسألة الخامسة عشرة : في الشيئيّة.
قال : ( والشيئيّة من المعقولات (٢) الثانية ، وليست متأصّلة (٣) في الوجود فلا شيء مطلقا ثابت ، بل هي تعرض لخصوصيّات الماهيّات ).
أقول : قال أبو عليّ بن سينا ـ على ما حكي ـ : « الوجود إمّا ذهنيّ وإمّا خارجيّ ،
__________________
(١) نسبه العلاّمة قدسسره إلى الأوائل في « مناهج اليقين » : ٩ ـ ١٠.
(٢) وهي ما لا يعقل إلاّ عارضا لمعقول آخر. ( منه رحمهالله ).
(٣) أي ليس لها وجود خارجيّ أصيل ؛ حذرا من التسلسل. ( منه رحمهالله ).