البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

فإنّ مع العلّة شرائط كثيرة ولوازم لا مدخل لها في العلّيّة كحمرة النار ، فإنّها لا تأثير لها في الإحراق ، وكذا ما يصاحب المعلول ويلازمه ؛ فإنّه لا يجب صدق نسبة المعلوليّة عليه ، بل لا يجوز ذلك ؛ لامتناع أن يكون لشيء واحد فاعلان في مرتبة واحدة ، وامتناع تأثير العلّة في معلولين من جهة واحدة.

قيل : قال الشيخ أبو عليّ ابن سينا : إنّ الفلك الحاوي يصاحب علّة المحويّ ، ولا يجب أن يكون متقدّما بالعلّيّة على المحويّ لأجل مصاحبته لعلّة المحويّ (١).

فقد جعل ما مع القبل ليس قبلا.

ثمّ قال : عدم الخلاء ووجود المحويّ متقاربان ، فلو كان الحاوي علّة للمحويّ لكان متقدّما عليه ، فيكون متقدّما على ما يصاحبه أعني عدم الخلاء ، فيكون عدم الخلاء متأخّرا من حيث إنّه مصاحب للمتأخّر ، وهذا يدلّ على أنّ ما مع البعد يجب أن يكون بعدا (٢).

فتوهّم بعضهم (٣) أنّ الشيخ أوجب أن يكون ما مع القبل قبلا ، وهو مناف لما تقدّم.

وهذا فاسد ؛ لأنّه لا فرق بين ما مع القبل وما مع البعد من حيث البعديّة والمعيّة والقبليّة ، وإنّما الفرق في التقدّم بالعلّيّة.

والشيخ حكم في الصورة الخاصّة وكلّ ما يساويها بأنّ ما مع البعد يجب أن يكون بعدا ؛ لتحقّق الملازمة الطبيعيّة بين عدم الخلاء ووجود المحويّ ، بخلاف العقل والفلك المتباينين بالذات والاعتبار.

المسألة التاسعة : في أنّ أشخاص العناصر ليست عللا ذاتيّة بعضها لبعض.

قال : ( وليس الشخص من العنصريّات علّة ذاتيّة لشخص آخر منها ، وإلاّ لم تتناه

__________________

(١) نقل عنه العلاّمة قدس‌سره في « كشف المراد » : ١٢١ ؛ وراجع « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ١٢٦ وما بعدها و ٣ : ٢٢١ وما بعدها.

(٢) نقل عنه العلاّمة قدس‌سره في « كشف المراد » : ١٢١ ؛ وراجع « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ١٢٦ وما بعدها و ٣ : ٢٢١ وما بعدها.

(٣) هو الفخر الرازي. راجع المصدرين السابقين.

٢٤١

الأشخاص ، ولاستغنائه عنه بغيره ).

أقول : المراد أنّ الشخص من العناصر كهذه النار ـ مثلا ـ ليس علّة ذاتية لشخص آخر منها ، أي يكون علّة لوجوده ، وإلاّ لوجدت أشخاص لا تتناهى دفعة واحدة ؛ لأنّ العلل الذاتيّة تصاحب المعلولات.

وأيضا فإنّ الشخص من العناصر يستغني عن الشخص الآخر بغيره ؛ إذ ليس شخص ما من أشخاص النار ـ مثلا ـ أولى بأن يكون علّة لشخص آخر من بقيّة أشخاص النّوع ، بل الشخص الذي هو معلول سبيله سبيل سائر الأشخاص في أنّ الشخص الذي هو العلّة ليس هو أولى بالعلّيّة من الشخص الذي هو معلوله ، وما يستغنى عنه بغيره لا يكون علّة بالذات ، فهو إذن علّة بالعرض ، بمعنى أنّه معدّ.

وأورد عليه : بأنّ معنى العلّيّة الذاتيّة أن يكون الشخص علّة بماهيّته وحقيقته ، أي تكون العلّة هي الماهيّة بحيث لا يكون لخصوصيّة الأفراد مدخل في تلك العلّيّة (١).

وفيه : أنّ كون الشخص علّة ذاتيّة يقتضي مدخليّة الخصوصيّة.

قال : ( ولعدم تقدّمه ).

أقول : هذا وجه ثالث على امتناع تعليل أحد الشخصين بالآخر.

وتقريره : أنّ العلّة متقدّمة على المعلول بالذات ، والشخصان إذا كانا من نوع واحد ، استحال تقدّم أحدهما على الآخر تقدّما ذاتيّا ؛ لإمكان فرض تأخّره.

قال : ( ولتكافئهما ).

أقول : هذا دليل رابع.

وتقريره : أنّ الماء والنار ـ مثلا ـ متكافئان في أنّه ليس النار أولى بأن تكون علّة للماء من العكس ، والمتكافئان لا يصلح أن يكون أحدهما علّة للآخر.

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ١٢٧.

٢٤٢

قال : ( ولبقاء أحدهما مع عدم صاحبه ).

أقول : هذا دليل خامس.

وتقريره : أنّ ما يفرض علّة من شخصيّات النار قد يعدم ، وما يفرض معلولا يكون باقيا بعده ، ويستحيل بقاء المعلول بعد علّته الذاتيّة ، وبالعكس قد يعدم ما يفرض معلولا وما يفرض علّة يكون باقيا بعده ، ويستحيل بقاء العلّة منفكّة عن المعلول.

المسألة العاشرة : في كيفيّة صدور الأفعال.

قال : ( والفاعل منّا يفتقر الى تصوّر جزئي ليتخصّص الفعل ، ثمّ شوق ثمّ إرادة ، ثمّ حركة من العضلات ؛ ليقع منّا الفعل ) (١).

أقول : المراد أنّ الأفعال الاختياريّة المنسوبة إلى النفس الحيوانيّة لها مبادئ أربعة مترتّبة.

الأوّل : الخطور والتصوّر الجزئي للشيء الملائم أو المنافر تصوّرا مطابقا أو غير مطابق.

الثاني : اعتقاد النفع الموجب للشوق والميل إلى الفعل أو الترك ولو بالعرض ، كما في الدواء البشع.

الثالث : العزم الحاصل من شدّة الاعتقاد الموجب للجزم والقصد المسمّى بالإرادة.

الرابع : الحركة من القوّة المنبثّة في العضلات المحرّكة للأعصاب ؛ فإنّ القوّة البشريّة إنّما تفعل أثرها مع شعور وإدراك على الوجه النافع علما أو ظنّا ، فافتقر الفعل الصادر عنها إلى مبادئ أربعة : تصوّر جزئيّ لذلك الفعل ؛ فإنّ التصوّر الكلّيّ

__________________

(١) انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٤١١ ، وفيه شرح موسّع حول هذا المبحث.

٢٤٣

لا يكون سببا لفعل جزئي ؛ لأنّ نسبة كلّ كلّيّ إلى جزئيّاته واحدة ، فإمّا أن تقع كلّها وهو محال ، أو لا يقع شيء منها وهو المطلوب ، فلا بدّ من تصوّر جزئيّ يتخصّص به الفعل فيصير جزئيّا ، فإذا حصل التصوّر بالنفع الحاصل من الأثر اشتاقت النفس إلى تحصيله ، فحصلت الإرادة الجازمة بعد التردّد فتحرّكت العضلات إلى الفعل فوجد.

وفي بعض النسخ : « الفعل » مكان « الفاعل » والمعنى واحد ، كما لا يخفى.

قال : ( والحركة إلى مكان تتبع الإرادة بحسبها ، وجزئيّات تلك الحركة تتبع تخيّلات وإرادات جزئيّة يكون السابق من هذه علّة للسابق من تلك العدّة لحصول أخرى ، فتتّصل الإرادات في النفس ، والحركات في المسافة إلى آخرها ).

أقول : هذا إشارة إلى جواب سؤال ربّما يورد (١).

وتقريره : أنّ الحركة على مسافة يكفي فيها إرادة متعلّقة بقطع جميعها من غير أن يتصوّرها بخصوصها ؛ فتكفي الإرادة الكلّيّة من غير حاجة إلى إرادة جزئيّة ، مع أنّ الإرادة الجزئيّة أمر حادث يحتاج إلى علّة حادثة فيلزم التسلسل.

وتقرير الجواب : أنّ صدور الحركة عن الإرادة الكلّيّة يتوقّف على وجود الإرادة الجزئيّة ؛ فإنّ المتحرّك على مسافة يتخيّلها أوّلا وتنبعث منه إرادة كلّيّة متعلّقة بقطع جميعها ، ثمّ إنّه يتخيّل حدّا جزئيّا من حدودها ، وتنبعث من تخيّله إرادة جزئيّة متعلّقة بقطع جزء من المسافة ، وبعد قطعه يتخيّل حدّا آخر وهكذا. فتلك الحركة إلى مكان مفروض تتبع إرادة بحسبها ، أعني بحسب تلك الحركة ، وجزئيّات تلك الحركة تابعة لتخيّلات جزئيّة موجبة لحصول إرادات جزئيّة متعلّقة بحدود تلك المسافة ، فتكون الحركة في كلّ مسافة من تلك المسافات جزءا من الحركة الأولى ، وكلّ جزء من تلك الأجزاء يتبع تخيّلا خاصّا وإرادة جزئيّة متعلّقة به ، فإذا تعلّقت الإرادة بإيجاد الجزء الأوّل من الحركة ثمّ وجد الجزء الأوّل ، فإنّ وصول الجسم إلى

__________________

(١) انظر : « شرح تجريد العقائد » : ١٢٨.

٢٤٤

ذلك الجزء مع الإرادة الكلّيّة المتعلّقة بكمال الحركة علّة لتجدّد إرادة أخرى جزئيّة تتعلّق بجزء آخر. فإذا وجدت تلك الإرادة تعلّقت بذلك الجزء ، فيتحرّك الجسم ، وعلى هذا تتّصل التخيّلات والإرادات في النفس والحركة في الخارج إلى آخر المسافة ، فيكون التخيّل السابق علّة مؤثّرة للإرادة الجزئيّة السابقة وعلّة معدّة للتخيّل اللاحق الذي هو علّة مؤثّرة للإرادة الجزئيّة اللاحقة وهكذا إلى آخر المسافة ، فتكون كلّ حركة جزئيّة سابقة علّة لإرادة خاصّة لاحقة ، وكلّ إرادة خاصّة علّة لحركة جزئيّة لا حقة من غير دور.

المسألة الحادية عشرة : في أنّ القوى الجسمانية إنّما تؤثّر بمشاركة الوضع.

قال : ( ويشترط في صدق التأثير على المقارن الوضع ).

أقول : يشترط في صدق التأثير ـ أعني صدق كون الشيء علّة ـ على المقارن ـ أعني الصور المقارنة للمادّة والأعراض المقارنة لها ـ الوضع الخاصّ بينه وبين ما يؤثّر هو فيه ، أعني النسبة الواقعة بينهما.

وذلك لأنّ القوى الجسمانيّة ـ أعني الصور والأعراض المؤثّرة ـ إنّما تؤثّر بواسطة الوضع على معنى أنّها تؤثّر في محلّها أوّلا ، ثمّ فيما يجاور محلّها بواسطة تأثيرها في محلّها ، ثمّ فيما يجاور ذلك المجاور بواسطة المجاور وهكذا إنّما تؤثّر في البعيد بواسطة تأثيرها في القريب ، فإنّ النار لا تسخّن كلّ شيء بل مادّتها أوّلا ثمّ ما يجاورها وهذا الحكم بيّن لا يحتاج إلى برهان.

المسألة الثانية عشرة : في تناهي آثار القوى الجسمانيّة.

قال : ( والتناهي بحسب المدّة والعدّة والشدّة التي باعتبارها يصدق التناهي وعدمه الخاصّ على المؤثّر بالنظر إلى آثاره ).

أقول : قوله : « والتناهي » عطف على « الوضع » باعتبار الاستلزام اللازم للاشتراط ،

٢٤٥

بمعنى أنّ التأثير مستلزم في المقارن ـ أعني الصور والأعراض ـ لتناهي آثاره ؛ لأنّه لا يمكن وجود قوّة جسمانيّة تقوى على ما لا يتناهى.

بيان ذلك : أنّ التناهي وعدمه الخاصّ به ـ أعني عدم الملكة وهو عدم التناهي عمّا من شأنه أن يكون متناهيا ـ إنّما يعرضان بالذات للكمّ (١) إمّا المتّصل القارّ كتناهي المقدار ولا تناهيه ، أو غير القارّ كتناهي الزمان ولا تناهيه ، أو المنفصل كتناهي العدد ولا تناهيه. ويعرضان لغيره بواسطته كالجسم ذي المقدار والعلل ذوات العدد ، فإذا وصف مؤثّر بالتناهي أو اللاتناهي ، كان بالنظر إلى آثاره ، ولا بدّ أن يعتبر عدد الآثار ـ وهو التناهي أو اللاتناهي بحسب العدّة ـ أو زمانها بحسب الزيادة ـ وهو التناهي بحسب المدّة ـ أو بحسب القوّة من جهة قلّة الزمان ، وهو التناهي بحسب الشدّة.

وبالجملة ، فأصناف القوى ثلاثة :

الأوّل : قوى يفرض صدور عمل واحد منها في أزمنة مختلفة كرماة تقطع سهامهم مسافة محدودة في أزمنة مختلفة ، ولا شكّ أنّ الذي زمانه أقلّ أشدّ قوّة من الذي زمانه أكثر ، فيكون التأثير على وجه الشدّة باعتبار قلّة الزمان ، ولكنّ اللاتناهي بحسب الشدّة ـ كما قيل (٢) ـ ظاهر البطلان ؛ إذ لا بدّ فيه من كون الحركة الصادرة عنها ـ مثلا ـ في زمان لم يوجد مثلها في زمان أقلّ منه ، لكن كلّ زمان قابل للقسمة ، فالحركة الواقعة في نصف ذلك الزمان مع اتّحاد المسافة تكون أسرع ، فمصدرها يكون أشدّ ، فلا يكون المصدر الأوّل غير متناه في الشدّة والمقدّر خلافه ؛ ولهذا لم يشتغل بالاحتجاج عليه ، وأقام الحجّة على امتناع اللاتناهي بحسب المدّة والعدّة.

__________________

(١) أي العرض الذي يقبل لذاته القسمة إلى أجزاء قارّة أو غير قارّة أو غير متلاقية ، والأولى كالسطح يسمّى كمّا متصلا قارّا ، والثاني كالزمان يسمّى كمّا متصلا غير قارّ ، والثالث كالعدد يسمّى كمّا منفصلا. ( منه رحمه‌الله ).

(٢) هذا القول للعلاّمة في « كشف المراد » : ١٢٥ ، وراجع « شرح تجريد العقائد » : ١٣٠.

٢٤٦

الثاني : قوى يفرض صدور عمل ما منها على الاتّصال في أزمنة مختلفة كرماة تختلف أزمنة حركات سهامهم في الهواء ، وهاهنا تكون التي زمانها أكثر أقوى من التي زمانها أقلّ ، فلو كان هنا عدم تناه لكان باعتبار الزمان ، وهذه قوّة بحسب المدّة.

الثالث : قوى يفرض صدور أعمال متوالية منها مختلفة بالعدد كرماة يختلف عدد رميهم ، ولا محالة تكون التي يصدر عنها عدد أكثر أقوى من التي يصدر عنها عدد أقلّ ، وهاهنا يكون عدم التناهي بحسب العدد ، وهذه قوّة بحسب العدّة.

فقد ظهر من هذا أنّ التناهي وعدمه الخاصّ به إنّما صدقا على المؤثّر بأحد الاعتبارات الثلاثة.

قال : ( لأنّ القسريّ يختلف باختلاف القابل ، ومع اتّحاد المبدأ يتفاوت مقابله ).

أقول : لمّا مهّد قاعدة كيفيّة عروض التناهي وعدمه في القوى شرع في الدليل على مطلوبه ، أعني وجوب تناهي تأثير القوى الجسمانيّة.

وتقريره : أنّ القوى الجسمانيّة إمّا أن تكون قسريّة أو طبيعيّة ، وكلاهما يستحيل صدور ما لا يتناهى عنهما.

أمّا الأولى : فلأنّ صدور ما لا يتناهى بحسب الشدّة بسببها من الحركات محال ؛ لما مرّ.

وأمّا بحسب العدّة والمدّة : فلأنّ التأثير القسريّ يختلف باختلاف القابل المقسور ، بمعنى أنّ كلّ ما كان أكبر كان تحريك القاسر له أضعف ؛ لكون معاوقته وممانعته أكثر وأقوى ، فحينئذ لو فرضنا جسما متناهيا يحرّك جسما آخر متناهيا من مبدأ مفروض حركات لا تتناهى بحسب المدّة والعدّة ، ثمّ حرّك بتلك القوّة جسما أصغر من ذلك الجسم من ذلك المبدأ ، فإنّ تحريكه للأصغر أكثر من تحريكه للأكبر ؛ لقلّة المعاوقة (١) هنا.

__________________

(١) أي الممانعة بحسب الطبيعة. ( منه رحمه‌الله ).

٢٤٧

ولمّا كان المبدأ واحدا كان التفاوت في الطرف الآخر الذي هو مقابل المبدأ ، فيلزم تناهي حركة الأكبر ، ويلزم منه تناهي حركة الأصغر ؛ لأنّها إنّما تزيد على حركة الأكبر بقدر زيادة مقداره على مقداره ، فيلزم تناهي ما فرض عدم تناهيه ، وهذا خلف.

قال العلاّمة رحمه‌الله : « وهاهنا سؤال صعب ، وهو أنّ التفاوت في التحريكين جاز أن يكون بحسب الشدّة (١).

وأجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا السؤال في شرحه للإشارات : بأنّ المراد بالقوّة هنا هي التي لا نهاية لها بحسب المدّة والعدّة لا الشدّة (٢).

وفيه نظر ؛ لأنّ أخذ القوّة بحسب الاعتبارين لا ينافي وقوع التفاوت بالاعتبار الثالث ». (٣)

قال : ( والطبيعي (٤) يختلف باختلاف الفاعل ؛ لتساوي الصغير والكبير في القبول ، فإذا تحرّكا مع اتّحاد المبدأ ، عرض التناهي ).

أقول : هذا بيان استحالة القسم الثاني (٥) ، وهو أن تكون القوّة المؤثّرة فيما لا يتناهى طبيعيّة.

وتقريره : أنّ التأثير الطبيعي يختلف باختلاف الفاعل ، بمعنى أنّه كلّما كان الجسم أعظم مقدارا كانت الطبيعة أقوى تأثيرا ؛ لأنّ القوى الجسمانيّة إنّما تختلف باختلاف محالّها بالصغر والكبر ؛ لكونها متجزّئة بتجزئتها.

وأمّا قبول الحركة فالصغير والكبير متساويان فيه ؛ لأنّ ذلك للجسميّة ، وهي

__________________

(١) هذا الاعتراض أورده الفخر الرازي على ابن سينا كما في « شرح الإشارات والتنبيهات ».

(٢) « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٩٦.

(٣) « كشف المراد » : ١٢٦.

(٤) معطوف على قوله المتقدّم : « لأنّ القسريّ ».

(٥) انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٩٩ وما بعدها ، وقد قرّر المحقّق الطوسي هذا البرهان بعد بيان تمهيد ثلاث مقدّمات أتى بها ابن سينا.

٢٤٨

فيهما على السويّة ، فإذا فرضنا حركة الصغير والكبير بالطبع من مبدأ معيّن لزم التفاوت في الجانب الآخر ؛ ضرورة أنّ الجزء لا يقوى على ما يقوى عليه الكلّ فتنقطع حركة الصغير ، فيلزم منه انتهاء حركة الكبير ؛ لأنّ نسبة الأثر إلى الآخر كنسبة المؤثّر إلى الآخر ، وهذه نسبة متناه إلى متناه فكذا الأولى ، فيعرض التناهي مع فرض عدم التناهي ، وهو باطل ؛ فعدم التناهي باطل ، وهو المطلوب.

ولا يخفى أنّ هذا البحث لا توجّه له عند من قال باستناد الممكنات إلى الله تعالى ، وأنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله ، خلافا للفلاسفة حيث يثبتون التأثير للقوى الجسمانيّة.

المسألة الثالثة عشرة : في العلّة المادّيّة.

قال : ( والمحلّ المتقوّم بالحالّ قابل له ومادّة للمركّب ).

أقول : المحلّ إمّا أن يتقوّم بالحالّ أو يقوّم الحالّ ، وإلاّ لزم استغناء أحدهما عن الآخر فلا حلول ، فالمحلّ المتقوّم بالحالّ هو الهيولى المتقوّمة بالصورة ، والمقوّم للحالّ هو الموضوع.

والهيولى باعتبار الحالّ تسمّى قابلة ، ولهذا يحكم بأنّه لا يكون فاعلا له ؛ لاستحالة كون الشيء فاعلا وقابلا. وباعتبار المركّب تسمّى مادّة.

قال : ( وقبوله ذاتي ).

أقول : كون المادّة قابلة أمر ذاتيّ لها لا غيريّ (١) يعرض بواسطة الغير ؛ لأنّه لو لا ذلك لكان عروض ذلك القبول في وقت حصوله يستدعي قبولا آخر ، ويلزم التسلسل وهو محال ، فهو إذن ذاتيّ يعرض للمادّة لذاتها.

قال : ( وقد يحصل القرب والبعد باستعدادات يكسبها باعتبار الحالّ فيه ).

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : ١٢٨ هكذا « لا غريب ... ».

٢٤٩

أقول : لمّا ذكر أنّ قبول المادّة لما يحلّ فيها ذاتيّ ، استشعر أن يعترض عليه بما يظنّ أنّه مناقض له ، وهو أن يقال : إنّ المادّة قد تقبل شيئا ولا تقبل آخر ، ثمّ يعرض لها قبول الآخر ويزول عنها القبول الأوّل ، كالنطفة ؛ فإنّها لا تقبل الصورة الإنسانيّة ابتداء ، ثمّ إذا صارت جنينا قبلتها ، وهذا يعطي أنّ القبول من الأمور العارضة الحاصلة بسبب الغير ، لا من الأمور الذاتيّة اللازمة لها لذاتها.

فأجاب بأنّ القبول ثابت في كلا الحالين ، لكنّ القبول منه قريب ومنه بعيد ؛ فإنّ قبول النطفة للصورة الإنسانيّة بعيد ، وقبول الجنين قريب ، فإذا حصل القرب بالنظر إلى عرض من الأعراض نسب القبول إليه ونفي عن غيره. وفي الحقيقة إنّما حصل قرب القبول بعد بعده ، وسبب القرب والبعد هو الأعراض والصور الحالّة في المادّة ؛ فإنّ الحرارة إذا دخلت في المادّة واشتدّت ، أعدّت قرب قبول الصورة الناريّة وخلع غيرها.

المسألة الرابعة عشرة : في العلّة الصوريّة.

قال : ( وهذا الحالّ صورة للمركّب وجزء فاعل لمحلّه ).

أقول : هذا الحالّ ـ يعني به الحالّ في المادّة ـ وهو صورة للمركّب لا للمادّة ؛ لأنّه بالنظر إلى المادّة جزء فاعل ؛ لأنّ الفاعل في المادّة هو المبدأ الفيّاض بواسطة الصورة المطلقة بناء على أنّ كلّ متلازمين لا بدّ أن يكون أحدهما علّة للآخر ، وحيث ثبت عدم كون الهيولى علّة تعيّن كون الصورة علّة ، ولمّا استحال كونها علّة مستقلّة ؛ لأنّ الصورة والشكل يوجدان معا ، والهيولى متقدّمة على الشكل ؛ لأنّه من لوازم المادّة ، والمتقدّم على ما مع الشيء متقدّم على ذلك الشيء ، تعيّن كونها جزء علّة لها ، وهذا معنى قوله : « وجزء فاعل لمحلّه ».

وفيه : نظر.

قال : ( وهو واحد ).

٢٥٠

أقول : ذكر الأوائل أنّ الصورة المقوّمة للمادّة لا تكون فوق واحدة ؛ لأنّ الواحدة إن استقلّت بالتقويم استغنت المادّة عن الأخرى. وإن لم تستقلّ كان المجموع هو الصورة ، وهو واحد فالصورة واحدة (١).

المسألة الخامسة عشرة : في العلّة الغائيّة.

قال : ( والغاية علّة بماهيّتها لعلّيّة العلّة الفاعليّة ، معلولة في وجودها للمعلول ) (٢).

أقول : العلّة الغائيّة هي المحرّكة للفاعل على الفعل والداعية إليه المترتّبة عليه غالبا ، وهي المسمّاة بالغرض. والفائدة ما يترتّب على الفعل وإن لم يكن محرّكا للفاعل. وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فعلى هذا الغاية لها اعتباران يحصل لها باعتبارهما التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى المعلول ؛ وذلك لأنّ الفاعل إذا تصوّر الغاية فعل الفعل ، ثمّ حصلت الغاية بحصول الفعل ، فماهيّة الغاية علّة لعلّية الفاعل ؛ إذ لو لا تلك الماهيّة وحصولها في علم الفاعل لما أثّر ولا فعل الفعل ؛ فإنّ الفاعل للبيت يتصوّر الإسكان أوّلا فيتحرّك إلى إيجاد البيت ، ثمّ يوجد الإسكان بحصول البيت ، فماهيّة الإسكان علّة لعلّيّة الفاعل ، ووجوده معلول للبيت. ولا امتناع في أن يكون الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا باعتبارين ، بمعنى أنّ الغاية متقدّمة في التصوّر والوجود الذهني ؛ لكونها بهذا الوجود علّة فاعليّة لعلّيّة الفاعل ، ومتأخّرة بحسب الوجود الخارجي ، فلا دور ، ولهذا يقال : أوّل الفكر آخر العمل.

قال : ( وهي ثابتة لكلّ قاصد ).

أقول : كلّ فاعل بالقصد والإرادة فإنّه إنّما يفعل لغرض وغاية ما ، وإلاّ لكان عابثا ،

__________________

(١) انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٦٤٧.

(٢) هذا تعريف للعلّة قريب من كلام الشيخ الرئيس في « الإشارات والتنبيهات » حيث قال : « والعلّة الغائيّة التي لأجلها الشيء علّة بماهيّتها ومعناها ... » إلى آخره ، كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٥.

وفي « الشفاء » الإلهيّات : ٢٥٧ قال : « ونعني بالغاية : العلّة التي لأجلها يحصل وجود شيء مباين لها ».

٢٥١

على أنّ العبث لا يخلو من غاية.

أمّا الحركات الأسطقسيّة فقد أثبت الأوائل (١) لها غايات ؛ لأنّ الحبّة من البرّ إذا رميت في الأرض الطيّبة وصادفها الماء وحرّ الشمس فإنّها تنبت سنبلة ، وهذه على سبيل الدوام أو الكثرة ، فيكون ذلك غاية طبيعيّة.

ومنع جماعة (٢) من ذلك ؛ لعدم الشعور في الطبيعة ، فلا تعقل لها غاية.

وأجابوا بأنّ الشعور يفيد تعيين الغاية لا تحصيلها.

قال : ( أمّا القوّة الحيوانيّة المحرّكة فغايتها الوصول إلى المنتهى ، وهو قد يكون غاية (٣) وقد لا يكون ، فإن لم يحصل فالحركة باطلة ، وإلاّ فهو إمّا خير أو عادة أو قصد ضروريّ أو عبث وجزاف ).

أقول : القوّة الحيوانيّة لها مبادئ على ما تقدّم :

أحدها : القوّة المحرّكة المنبثّة في العضلات.

وثانيها : القوّة الشوقيّة.

وثالثها : التخيّل والفكر.

وغاية القوّة المحرّكة إنّما هي الوصول إلى المنتهى ، وقد تكون هي بعينها غاية القوّة الشوقيّة ، كمن طلب مفارقة مكانه والحصول في الآخر لإزالة ضجره. وقد تكون غيرها كمن يطلب غريما في موضع معيّن ؛ فإنّ غاية الشوقيّة هنا لقاؤه غير الوصول إلى ذلك المكان.

وفي هذا القسم إن لم تحصل غاية القوّة الشوقيّة سمّيت الحركة باطلة بالنسبة إليها ، وإن حصلت الغايتان وكان المبدأ التخيّل لا غير فهو الجزاف والعبث ، وإن كان مع طبيعة كالتنفّس فهو القصد الضروري ، وإن كان مع خلق وملكة نفسانيّة كاللعب

__________________

(١) انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٦٥٣.

(٢) منهم الفخر الرازي في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٧.

(٣) في « كشف المراد » : ١٣٠ هكذا : « غاية الشوقية ».

٢٥٢

باللحية فهو العادة ، وإن كان المبدأ الفكر فهو الخير المعلوم أو المظنون.

قال : ( وأثبتوا للطبيعيّات غايات وكذا للاتّفاقيّات ).

أقول : قد تطلق الغاية عند الحكماء (١) على ما ينتهي إليه الفعل ويتأدّى إليه وإن لم يكن مقصودا ، إذا كان بحيث لو كان الفاعل مختارا لفعل ذلك الفعل لأجله ، والغاية بهذا المعنى أعمّ من العلّة الغائيّة المحرّكة للفاعل على الفعل.

وبهذا الاعتبار أثبتوا للقوى الطبيعيّة غايات مع أنّه لا شعور لها ولا قصد ، وكذا للأسباب الاتّفاقيّة وهي الأفعال المؤدّية إلى ثمرة تأدية مساوية لعدمها أو أقلّ ، فإنّ ما يؤدّي تأدية دائميّة أو أكثريّة يسمّى سببا ذاتيّا ، وتسمّى غايته غاية ذاتيّة ، كما مرّ.

أمّا إثبات الغايات للحركات الطبيعيّة فقد تقدّم البحث فيه.

وأمّا العلل الاتّفاقيّة فقد نفاها قوم (٢) ؛ لأنّ السبب إن استجمع جهات المؤثّريّة لزم حصول مسبّبه قطعا ، وإلاّ لكان منفيّا ، فلا مدخل للاتّفاق.

والجواب : أنّ المؤثّر قد يتوقّف تأثيره على أمور خارجة عن ذاته غير دائمة الحصول معه ، فيقال لمثل ذلك السبب من دون الشرائط : إنّه اتّفاقي إذا كان انفكاكه مساويا أو راجحا ، ولو أخذناه مع تلك الشرائط ، كان سببا ذاتيّا.

المسألة السادسة عشرة : في أقسام العلّة بقسمة أخرى لا حقة.

قال : ( والعلّة مطلقا (٣) قد تكون بسيطة وقد تكون مركّبة ).

أقول : يعني بالإطلاق ما يشمل العلل الأربع ، أعني المادّيّة والصوريّة والفاعليّة والغائيّة ؛ فإنّ كلّ واحدة من هذه الأربع تنقسم بهذه القسمة.

والعلّة الفاعليّة عند المحقّقين قد تكون بسيطة كتحريك الواحد منّا جسما ما

__________________

(١) انظر : « الشفاء » الطبيعيات ١ : ٦٧.

(٢) « الشفاء » الطبيعيات ١ : ٦٠.

(٣) أي سواء كانت فاعليّة أو مادّيّة أو صوريّة أو غائيّة. ( منه رحمه‌الله ).

٢٥٣

وطبائع البسائط العنصريّة. وقد تكون مركّبة كتحريك جماعة جسما أكبر ، ومنع العقل والصورة بالنسبة إلى الهيولى ، ومنع بعض من التركيب في العلل ، وإلاّ لزم نفيها ؛ لأنّ كلّ مركّب فإنّ عدم كلّ جزء من أجزائه علّة مستقلّة في عدمه ، فلو عدم جزء من العلّة المركّبة لزم عدم العلّة ، فإذا عدم جزء آخر لم يكن له تأثير البتّة ؛ لتحقّق العدم بالجزء الأوّل ، ولأنّ الموصوف بالعلّيّة إمّا كلّ واحد من أجزائه ، فيلزم تعدّد العلل وانتفاء التركيب وهو المطلوب ، أو بعضها وهو المطلوب أيضا مع انتفاء الأولويّة أو المجموع ، وهو باطل ؛ لأنّ كلّ جزء لم يكن علّة فعند الاجتماع إن لم يحصل أمر لم يكن المجموع علّة ، وإن حصل عاد الكلام في علّة حصوله.

وهذان ضعيفان ؛ لاقتضائهما انتفاء المركّبات سواء كانت عللا أو لا وهو باطل بالضرورة.

والمادّة البسيطة كهيولى العناصر ، والمركّبة كالعناصر الأربعة بالنسبة إلى صور المركّبات.

والصوريّة البسيطة كصور العناصر ، والمركّبة كالصورة الإنسانيّة المركّبة من صور أعضائها.

والغائيّة البسيطة كوصول كلّ عنصر إلى مكانه الطبيعي والمركّبة كشراء المتاع ولقاء الحبيب.

قال : ( وأيضا بالقوّة أو بالفعل ).

أقول : هذه المبادئ الأربعة قد تكون بالقوّة ، فإنّ الخمر فاعل للإسكار في البدن بالقوّة ، وقد تكون بالفعل كالخمر مع الشرب.

والمادّة قد تكون بالفعل كالجنين للإنسانيّة ، وقد تكون بالقوّة كالنطفة.

والصورة بالقوّة كالمائيّة الحالّة في الهواء بالقوّة ؛ وقد تكون بالفعل كالمائيّة الحالّة في مادّتها.

والغاية بالقوّة وهي التي يمكن جعلها كذلك ، كحصول القوّة من أكل القوت قبل

٢٥٤

أكله ، وبالفعل وهي التي حصل فيها ذلك.

قال : ( وكلّيّة أو جزئيّة ).

أقول : هذه العلل قد تكون كلّيّة ، كالبنّاء المطلق للبيت في الفاعليّة ، والنطفة في المادّيّة وكذا الباقيتين ، وقد تكون جزئيّة كهذا البنّاء وهذه النطفة ونحوهما.

قال : ( وذاتيّة أو عرضيّة ).

أقول : العلّة قد تكون ذاتيّة ، وهي التي يستند المعلول إليها بالحقيقة وتكون علّة حقيقيّة بالقياس إلى ما هو معلول حقيقة كالناريّة في الإحراق. وقد تكون عرضيّة ، وهي أن تقتضي العلّة شيئا ويتبع ذلك الشيء شيء آخر ، كقوله : السقمونيا مبرّد ، فإنّه بالعرض كذلك ؛ لأنّه يقتضي بالذات إزالة الصفراء والسخونة ، ويتبعها حصول البرودة من جهة الطبيعة.

وكذلك البواقي ؛ فإنّ المادّة الذاتيّة هي محلّ الصورة ، والعرضيّة هي تلك مأخوذة مع عوارض خارجة ، والصورة الذاتيّة هي المقوّمة كالإنسانيّة والعرضيّة هي مع ما يلحقها من الأعراض اللازمة أو المفارقة ، والغاية الذاتيّة هي المطلوبة لذاتها ، والعرضيّة هي ما يتبعها.

وقد تطلق العلّة العرضيّة على ما مع العلّة.

قال : ( وعامّة أو خاصّة ).

أقول : العلّة العامّة هي التي تكون جنسا للعلّة الحقيقيّة كالصانع للبنّاء في البناء ، والخاصّة كالباني فيه ، وكذا الباقي ، ولكن لا يتحقّق العموم والخصوص في الصور.

قال : ( وقريبة أو بعيدة ).

أقول : العلّة القريبة هي التي لا واسطة بينها وبين المعلول ، كالميل في الحركة ؛ والبعيدة وهي علّة العلّة كالقوّة الشوقيّة وكذا البواقي.

قال : ( ومشتركة أو خاصّة ).

أقول : المشترك كالنجّار لأبواب متعدّدة ، والخاصّة كالنجّار لهذا الباب.

٢٥٥

قال : ( والعدم للحادث من المبادئ العرضيّة ).

أقول : الحادث الزماني هو الموجود بعد أن لم يكن ، وهو إنّما يتحقّق بعد سبق عدم علّته ، فلمّا توقّف تحقّقه على العدم السابق ، أطلقوا على العدم اسم المبدأ بالعرض مع أنّه مقارن لما هو علّة ذاتيّة لوجود الحادث ؛ فإنّ المبدأ بالذات هو الفاعل لا غير.

قال : ( والفاعل في الطرفين واحد ).

أقول : الفاعل في الوجود هو بعينه الفاعل في العدم ، على ما بيّنّاه (١) أوّلا من أنّ علّة العدم هي عدم العلّة لا غير ، فالمؤثّر في طرفي المعلول هو العلّة لا غير ، لكن مع حصولها تقتضي الوجود ، ومع عدمها تقتضي العدم.

قال : ( والموضوع كالمادّة ).

أقول : الموضوع ـ وهو المحلّ المستغني عن الحالّ ـ أيضا من العلل التي يتوقّف عليها وجود الحادث ، ونسبته إلى الحالّ مثل نسبة المادّة ـ أعني المحلّ المتقوّم بالحالّ ـ إلى الصورة في أنّ كلّ واحد منهما علّة مادّيّة بالنسبة إلى ما يتركّب منه ومن الحالّ ، فهو من جملة العلل.

المسألة السابعة عشرة : في أنّ افتقار المعلول إنّما هو في الوجود أو العدم.

قال : ( وافتقار الأثر إنّما هو في أحد طرفيه ).

أقول : الأثر له وجود وعدم ، فافتقاره إلى المؤثّر إنّما هو في أن يجعله موجودا أو معدوما ؛ إذ التأثير إنّما يعقل في أحد الطرفين بناء على أنّ الماهيّة لا يعقل التأثير فيها بأن يجعلها تلك الماهيّة ، لعدم تصوّر جعل بين الشيء ونفسه كما مرّ ، فليس السواد سوادا بالفاعل ، بل وجوده وعدمه بالفاعل.

__________________

(١) في الفصل الأوّل ، المسألة الثامنة عشرة والمسألة الثالثة والأربعون.

٢٥٦

قال : ( وأسباب الماهيّة غير أسباب الوجود ).

أقول : أسباب الماهيّة باعتبار الوجود الذهني هي الجنس والفصل ، وباعتبار الخارج هي المادّة والصورة ، وأسباب الوجود هي الفاعل والغاية ، فهما متغايران.

قال : ( ولا بدّ للعدم من سبب وكذا في الحركة ).

أقول : قد بيّنّا أنّ نسبة طرفي الوجود والعدم إلى الممكن واحدة ، فلا يعقل اتّصافه بأحدهما إلاّ لسبب ، فلمّا افتقر الممكن في وجوده إلى السبب ، افتقر في عدمه إليه وإلاّ لكان ممتنع الوجود لذاته.

لايقال : الموجود منه ما هو قارّ ، ومنه ما هو غير قارّ ، كالحركات والأصوات.

والأوّل يفتقر عدمه إلى السبب. أمّا النوع الثاني فإنّه يعدم لذاته.

لأنّانقول : يستحيل أن يكون العدم ذاتيّا لشيء ، وإلاّ لم يوجد.

ولمّا توهّم بعض القاصرين أنّ العدم أولى بالأعراض السيّالة كالحركة من الوجود بدليل امتناع البقاء عليها فيكفي في وقوعها تلك الأولويّة فلا حاجة إلى سبب خصّها بالذكر بعد ذكر العامّ ، وأجاب بأنّ الحركة لها علّة في الوجود ، فإذا عدمت أو عدم أحد شرائطها عدمت ؛ لما سبق من عدم كفاية الأولويّة الذاتيّة مطلقا وكذا الأصوات ، فلا فرق بين الحركات وغيرها.

المسألة الثامنة عشرة : في بيان بعض أحكام العلّة المعدّة.

قال : ( ومن العلل المعدّة ما يؤدّي إلى مثل أو خلاف أو ضدّ ).

أقول : العلل تنقسم إلى المعدّ وإلى المؤثّر ، والمعدّ يعنى به ما يقرّب العلّة إلى معلولها بعد بعدها عنه ، وهو قريب من الشرائط.

والعلّة المعدّة إمّا أن تؤدّي إلى ما يماثلها ، كالحركة إلى المنتصف ؛ فإنّها معدّة للحركة إلى المنتهى وليست فاعلة لها ، بل الفاعل للحركة إمّا الطبيعة أو النفس ، لكن فعل كلّ واحد منهما في الحركة إلى المنتهى بعيد ، وعند حصول الحركة إلى

٢٥٧

المنتصف يقرب تأثير أحدهما في المعلول الذي هو الحركة إلى المنتهى. وإمّا أن تؤدّي إلى خلافها ، كالحركة المعدّة للسخونة التي هي خلاف الحركة وغيرها من غير تضادّ. وإمّا أن تؤدّي إلى ضدّ ، كالحركة المعدّة للسكون عند الوصول إلى المنتهى.

قال : ( والإعداد قريب وبعيد ).

أقول : الإعداد منه ما هو قريب وذلك كالجنين المستعدّ لقبول الصورة الإنسانيّة ، ومنه ما هو بعيد كالنطفة لقبولها ، وكذلك العلّة المعدّة قد تكون قريبة وهي التي يحصل المعلول عقيبها ، وقد تكون بعيدة وهي التي لا تكون كذلك وتتفاوت العلل في القرب والبعد على حسب تفاوت الإعداد ، وهو قابل للشدّة والضعف.

قال : ( ومن العلل العرضيّة ما هو معدّ ).

أقول : قد بيّنّا أنّ العلّة العرضيّة تقال باعتبارين :

أحدهما : أن تؤثّر العلّة شيئا ، ويتبع ذلك الشيء شيء آخر ، كقولنا : « الحرارة تقتضي الجمع بين المتماثلات » فإنّها لذاتها تقتضي الخفّة ، فما هو أخفّ في المركّب يقبل السخونة أشدّ ، فينفصل عن صاحبه ويطلب الصعود فعرض له أن يجتمع [ مع ] (١) مماثله.

والثاني : أن يكون للعلّة (٢) وصف ملازم ، فيقال له : علّة عرضيّة. والأوّل علّة معدّة ذاتيّة للخفّة مع كونها علّة عرضيّة للسخونة ، وكذا شرب السقمونيا علّة فاعليّة عرضيّة لحصول البرودة مع أنّه علّة معدّة ذاتيّة لحصول البرودة ، فظهر أنّ بعض ما يقال له : العلّة الفاعليّة العرضيّة يكون علّة معدّة ذاتيّة بالنسبة إلى ما هي علّة فاعليّة عرضيّة له ، لا جميع أقسامها.

فظهر أنّ العلل خمس : الفاعليّة ، والمادّيّة ، والصوريّة ، والغائيّة ، والمعدّة.

__________________

(١) الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : ١٣٥.

(٢) في جميع النسخ : « العلّة » وما أثبتناه موافق لما في « كشف المراد » : ١٣٥.

٢٥٨

قال :

( المقصد الثاني

في الجواهر والأعراض

وفيه فصول :)

[ الفصل الأوّل : في الجواهر

الفصل الثاني : في الأجسام

الفصل الثالث : في بقية أحكام الأجسام

الفصل الرابع : في الجواهر المجرّدة ]

٢٥٩
٢٦٠