البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

كالحكم باستفادة نور القمر من الشمس. وتفتقر إلى المشاهدة المتكرّرة والقياس الخفيّ.

إلاّ أنّ الفارق بين هذه وبين المجرّبات أنّ السبب في المجرّبات معلوم السببيّة غير معلوم الماهيّة ، وفي الحدسيّات معلوم بالاعتبارين.

الخامس : المتواترات ، وهي قضايا تحكم بها النفس ؛ لتوارد أخبار المخبرين ، والتواطؤ المانع عن احتمال الكذب والخطأ.

السادس : الفطريّات ، وهي قضايا قياساتها معها ، بمعنى أنّه تحكم بها النفس باعتبار وسط لا ينفكّ الذهن عنه.

قال : ( وواجب وممكن ).

أقول : العلم ينقسم إلى واجب وهو علم واجب الوجود بذاته ، وإلى ممكن هو ما عداه.

وإنّما كان الأوّل واجبا ؛ لأنّه نفس ذاته الواجبة.

قال : ( وهو تابع ، بمعنى أصالة موازيه في التطابق ).

أقول : اعلم أنّ الأشاعرة استدلّوا على كون أفعال العباد اضطراريّة على وجه الجبر : بأنّ الله تعالى عالم في الأزل بصدورها عنهم ، فيستحيل انفكاكهم عنها ، وإلاّ يلزم كون علمه تعالى جهلا ، فهي لازمة لهم ، وهم مجبورون عليها كالمنشار للنّجار (١).

وأجاب عنه المعتزلة (٢) والإماميّة (٣) بأنّ العلم تابع للمعلوم ، فلا يكون علّة له.

فأورد الأشاعرة (٤) بأنّه كيف يجوز أن يكون علمه تعالى تابعا لما هو متأخّر عنه ،

__________________

(١) هذا أحد الوجوه التي استدلّوا بها في المقام ، انظر : « المطالب العالية » ٩ : ٤٦ ـ ٤٨ ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : ١٢٢ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٥٥ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٤ و ٣٤١ ـ ٣٦٦.

(٢) « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٤.

(٣) « نقد المحصّل » : ٣٢٨ ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : ١٢٣ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٦٧.

(٤) نقله القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٤.

٤٢١

فإنّه يستلزم الدور؟

فأجاب المعتزلة (١) والإماميّة (٢) بأن لا نعني بالتابعيّة التأخّر حتّى يلزم الدور ؛ فإنّ التابع يطلق على ما يكون متأخّرا عن المتبوع ، وعلى ما يكون مستفادا منه ، وهما غير مرادين في قولنا : « العلم تابع للمعلوم » فإنّ العلم قد يتقدّم المعلوم زمانا ، وقد يفيد وجوده كالعلم الفعلي. وإنّما المراد هنا كون العلم والمعلوم متطابقين ، بحيث إذا تصوّرهما العقل حكم بأصالة المعلوم في هيئة التطابق ؛ فإنّ العلم تابع له وحكاية له ، فنسبته إليه كنسبة الصورة المنقوشة على الجدار إلى ذات الفرس ، فكما أنّ الفرس أصل للصورة فكذا المعلوم أصل للعلم. ولذا يصحّ أن يقال : إنّما علمت زيدا شرّيرا ؛ لأنّه كان في نفسه شرّيرا ، ولا يصحّ أن يقال : كان زيد في نفسه شرّيرا ؛ لأنّي علمته شريرا. وكذا علمه تعالى في الأزل ؛ لأنّهم كانوا فيما لا يزال كذلك ، لا أنّ الأمر بالعكس.

مضافا إلى أنّه تعالى كما كان عالما بأنّهم يفعلون كذلك ، كان عالما بأنّهم يفعلون بالاختيار ، ولا أقلّ من الاحتمال المنافي للاستدلال ، فلو لم يكونوا مختارين لزم كون علمه تعالى جهلا.

قال : ( فزال الدور ).

أقول : الذي يفهم من هذا الكلام أمران :

أحدهما : أن يقال : قد قسّمتم العلم إلى أقسام من جملتها : الفعلي الذي هو العلّة في وجود المعلول ، وهاهنا جعلتم جنس العلم تابعا فلزمكم الدور ؛ إذ تبعيّة الجنس تستلزم تبعيّة أنواعه.

وتقرير الجواب عن هذا : أن نقول : نعني بتبعيّة العلم ما قرّرناه من كون العلم والمعلوم متطابقين على وجه إذا تصوّرهما العقل ، حكم بأنّ الأصل في هيئة التطابق

__________________

(١) نقله القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٤.

(٢) « نهج الحقّ وكشف الصدق » : ١٢٣ ـ ١٢٤ ؛ « مناهج اليقين » : ٩٠ ـ ٩١.

٤٢٢

هو المعلوم ، وأنّ العلم فرع.

ووجه الخلاص من الدور بهذا التحقيق أنّ العلم الفعلي محصّل للمعلوم في الخارج لا مطلقا.

الثاني : أن يقال : المتبوع يجب أن يتقدّم على التابع بأحد أنواع التقدّم الخمسة ، وهاهنا لا تقدّم لا بالشرف ولا بالوضع ؛ لأنّهما غير معقولين ، فبقي أن يكون التقدّم هنا بالذات أو بالعلّيّة أو بالزمان.

وعلى هذه التقادير الثلاثة يمتنع الحكم بتأخّر المتبوع عن التابع في الزمان ، ولا شكّ أنّ علم الله تعالى الأزليّ والعلوم السابقة على الصور الموجودة في الخارج متقدّمة بالزمان ، والمتأخّر عن غيره بالزمان يمتنع أن يكون متقدّما عليه بنوع ما من أنواع التقدّمات بالاعتبار الذي كان به متأخّرا عنه.

والجواب عنه ما تقدّم أيضا من ملاحظة الوجود الخارجي والظلّيّ.

المسألة الخامسة عشرة : في تقديم (١) العلم على الاستعداد.

قال : ( ولا بدّ فيه من الاستعداد ، أمّا الضروري فبالحواسّ ، وأمّا الكسبي فبالأوّل ).

أقول : قد بيّنّا أنّ العلم إمّا ضروريّ وإمّا كسبي ، وكلاهما حصل بعد عدمه ؛ إذ الفطرة البشريّة خلقت أوّلا عارية من العلوم ، ثمّ يحصل لها العلم بقسميه ، ولا بدّ من استعداد سابق مغاير للنفس وسبب موجد فاعل للعلم ، فالضروري فاعله هو الله تعالى ؛ إذ القابل لا يخرج القبول من القوّة إلى الفعل بذاته ، وإلاّ لم ينفكّ عنه.

وللمقبول درجات مختلفة في القرب والبعد ، وإنّما تستعدّ النفس للقبول على التدريج ، وتنتقل من أقصى مراتب البعد إلى أدناها قليلا قليلا لأجل المعدّات ، التي

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » المطبوع : « توقّف » بدل « تقديم ».

٤٢٣

هي الإحساس بالحواسّ الظاهرة والباطنة على اختلافها ، والتمرّن عليها وتكرارها مرّة بعد أخرى ، فيتمّ الاستعداد لإفاضة العلوم البديهيّة الكلّيّة من التصوّرات والتصديقات بين كلّيّات تلك المحسوسات.

وأمّا النظريّة فإنّها مستفادة من النفس أو من الله تعالى ـ على اختلاف الآراء ـ لكن بواسطة الاستعداد بالعلوم البديهيّة.

أمّا في التصوّرات فبالحدّ والرسم.

وأمّا في التصديقات فبالقياسات المستندة إلى المقدّمات الضروريّة.

المسألة السادسة عشرة : في المناسبة بين العلم والإدراك.

قال : ( وباصطلاح يفارق الإدراك مفارقة الجنس النوع ، وباصطلاح آخر مفارقة النوعين ).

أقول : اعلم أنّ العلم يطلق على الإدراك للأمور الكلّيّة ، كاللون والطعم مطلقا.

ويطلق الإدراك على الحضور عند المدرك مطلقا ، فيكون شاملا للعلم والإدراك الجزئي ، أعني إدراك المدرك بالحسّ ، كهذا اللون وهذا الطعم ، ولا يطلق العلم على هذا النوع من الإدراك. ولذلك لا يصفون الحيوانات العجم بالعلم وإن وصفوها بالإدراك ، فيكون الفرق بين العلم والإدراك مطلقا ـ على هذا الاصطلاح ـ فرق ما بين النوع والجنس ، فإنّ العلم هو النوع ، والإدراك هو الجنس الشامل للأقسام الأربعة :

الإحساس الذي هو إدراك الشيء الموجود في المادّة الحاضرة عند المدرك مكفوفة بهيئات مخصوصة من الأين والكمّ والكيف وغيرها.

والتخيّل الذي هو إدراك ذلك الشيء مع تلك الهيئات في حال غيبته بعد حضوره.

والتوهّم الذي هو إدراك معان جزئيّة مخصوصة متعلّقة بالمحسوسات.

٤٢٤

والتعقّل الذي هو إدراك المجرّد عنها ، سواء كان جزئيّا أو كلّيّا ، وهذا القسم هو المسمّى بالعلم ، فيكون العلم أخصّ مطلقا من الإدراك المطلق بهذا الاصطلاح.

وقد يطلق الإدراك باصطلاح آخر على الإحساس لا غير ، فيكون الفرق بينه وبين العلم هو الفرق ما بين النوعين الداخلين تحت الجنس ، وهو الإدراك ، وهو المعنى الأوّل.

المسألة السابعة عشرة : في أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.

قال : ( وتعلّقه على التمام بالعلّة يستلزم تعلّقه كذلك بالمعلول ، ولا عكس ) (١).

أقول : العلم بالعلّة يقع باعتبارات ثلاثة :

الأوّل : العلم بماهيّة العلّة من حيث هي ذات وحقيقة لا باعتبار آخر ، وهذا لا يستلزم العلم بالمعلول لا على التمام ولا على النقصان إلاّ إذا كان لازما بيّنا للماهيّة.

الثاني : العلم بها من حيث إنّها مستلزمة لذات أخرى ، وهو علم ناقص بالعلّة ، فيستلزم علما ناقصا بالمعلول من حيث إنّه لازم للعلّة من جهة كون العلّيّة والمعلوليّة من المتضايفات التي يكون (٢) تعقّل أحدهما مستلزما لتعقّل الآخر ، لا من حيث ماهيّته.

الثالث : العلم بذاتها وماهيّتها ولوازمها وملزوماتها وعوارضها ومعروضاتها وما لها في ذاتها وما لها بالقياس إلى الغير ، وهذا هو العلم التامّ بالعلّة ، وهو يستلزم العلم التامّ بالمعلول ؛ فإنّ ماهيّة المعلول وحقيقته لازمة لماهيّة العلّة ، وقد فرض تعلّق العلم بها من حيث ذاتها ولوازمها.

هذا في العلم التامّ بالعلّة.

__________________

(١) كلمة : « ولا عكس » غير موجودة في « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » المطبوعين.

(٢) في الأصل : « يستلزم » بدل « يكون » وما أثبتناه هو الأنسب لسياق العبارة.

٤٢٥

وأمّا العلم التامّ بالمعلول فهو لا يستلزم العلم بالعلّة على ما حكي (١) عن المشهور ؛ لأنّ معروضات العلّة ليست بملزومة للمعلول.

وقيل بالاستلزام (٢) ؛ لأنّ العلّة وملزوماتها من ملزومات المعلول.

ولا يخلو من قوّة كما لا يخفى.

وقد يقال (٣) : العلم بالعلّة يستلزم العلم بماهيّة المعلول وإنّيّته ، والعلم بالمعلول يستلزم العلم بإنّيّة العلّة.

وبالجملة ، فالواجب بالذات لمّا كان عالما بالعلم التامّ بذاته ـ التي هي العلّة التامّة للممكنات الخارجيّة والذهنيّة ، كلّ بحسبه ولو بواسطة معلوله ـ كان عالما في مقام العلم بالذات بجميع الممكنات حتّى المعدومات ، بل الممتنعات التي هي من الممكنات الذهنيّة ، ولذا يقال : إنّه عالم ولا معلوم والعلم ذاته.

المسألة الثامنة عشرة : في مراتب العلم.

قال : ( ومراتبه ثلاث ).

أقول : ذكر الشيخ أبو عليّ (٤) ـ على ما حكي (٥) ـ أنّ للتعقّل ثلاث مراتب :

الأولى : أن يكون بالقوّة المحضة ، وهو عدم التعقّل عمّا من شأنه ذلك ، كما في العقل الهيولاني.

الثانية : أن يكون بالفعل التامّ ، كما إذا علم الشيء علما تفصيليّا.

الثالثة : العلم بالشيء إجمالا ، كمن علم مسألة ثمّ غفل عنها ، ثمّ سئل عنها ، فإنّه

__________________

(١) الحاكي هو القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٥ ، ونسبه اللاهيجي إلى المشهور في « شوارق الإلهام » : ٤٢٣.

(٢) نسبه القوشجي إلى القيل في « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٥.

(٣) القائل هو المحقّق الطوسي في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٣٠١.

(٤) « الشفاء » الطبيعيّات ٢ : ٢١٣ وما بعدها.

(٥) الحاكي هو العلاّمة في « كشف المراد » : ٢٣٣.

٤٢٦

يحضر الجواب عنها في ذهنه ، وليس ذلك بالقوّة المحضة ؛ فإنّه في الوقت عالم باقتداره على الجواب ، وهو يستلزم علمه بذلك الجواب ، وليس علما به على جهة التفصيل بمعنى أنّ صور التفاصيل حاصلة في الذهن مجتمعة معا من غير التفات العقل إلاّ إلى الجملة ، وعند إرادة البيان يلاحظ كلّ واحد تفصيلا ، فيتحقّق الاستحضار التفصيلي ، وهو ظاهر.

المسألة التاسعة عشرة : في كيفيّة العلم بذي السبب.

قال : ( وذو السبب إنّما يعلم به كلّيّا ).

أقول : اعلم أنّ الشيء إذا كان ذا سبب فإنّه إنّما يعلم بسببه ؛ لأنّه بدون السبب ممكن ، وإنّما يجب بسببه ، فإذا نظر إليه من حيث هو هو لم يحكم العقل بوقوعه ولا بعدمه ، وإنّما يحكم بأحدهما إذا عقل وجود السبب أو عدمه ، فذو السبب إنّما يحكم بوجوده أو عدمه بالنظر إلى سببه.

إذا ثبت هذا فإنّ ذا السبب إنّما يعلم كلّيّا ؛ لأنّ كونه صادرا عن الشيء تقييد له بأمر كلّيّ أيضا ، وتقييد الكلّيّ بالكلّيّ لا يقتضي الجزئيّة.

وتحقيق هذا أنّك إذا عقلت كسوفا شخصيّا من جهة سببه وصفاته الكلّيّة ـ التي يكون كلّ واحد منها نوعا مجموعا في شخصه ـ كان العلم به كلّيّا ، والكسوف وإن كان شخصيّا فإنّه عند ذلك يصير كلّيّا ، ويكون نوعا مجموعا في شخص ، والنوع المجموع في شخص له معقول كلّيّ لا يتغيّر ، وما يستند إليه من صفاته وأحواله يكون مدركا بالعقل فلا يتغيّر ؛ لأنّه كلّما حصلت علل الشخصي وأسبابه ، وجب حصول ذلك الجزئي ، فيقال : إنّ هذا الشخصيّ أسبابه كذا ، وكلّما حصلت هذه الأسباب كان هذا الشخصي أو مثله ، فيكون كلّيّا بعلله.

والحاصل أنّ العلم بذي السبب لا يحصل إلاّ من العلم بسببه ، وأنّ ما يعلم بسببه يعلم كلّيّا.

٤٢٧

واعترض (١) على ذلك بإمكان العلم بذي السبب بالحسّ أو الحدس أو إخبار مخبر صادق أو نحوها مع عدم العلم بالسبب ، وأنّ العلم بالسبب الجزئي يستلزم العلم بالمسبّب الجزئي.

اللهمّ إلاّ أن يخصّص بالكلّيّ النظريّ ، فتأمّل.

المسألة العشرون : في تفسير العقل.

قال : ( والعقل غريزة يلزمها العلم بالضروريّات عند سلامة الآلات ).

أقول : اتّفق أصحاب الشرائع والملل على أنّ مناط التكاليف الشرعيّة هو العقل ، واختلفوا في تعريفه.

فالمصنّف رحمه‌الله ـ وفاقا لجماعة (٢) ـ عرّفه بأنّه غريزة يلزمها العلم بالضروريّات عند سلامة الآلات.

والغريزة هي الطبيعة التي جبل عليها الإنسان.

والآلات هي الحواسّ الظاهرة والباطنة.

وسلامتها عبارة عن عدم زوالها أو تعطّلها بنحو السكر والنوم.

فالحاصل أنّه حالة من أحوال النفس الناطقة بها يدرك الضروريّات ، كحسن بعض الأشياء وقبح بعض آخر. وهو الحقّ.

وفي الحديث المعتبر أنّ « العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان » (٣).

__________________

(١) المعترض هو الفخر الرازي في « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ؛ ولمزيد الاطّلاع حول هذه المسألة راجع « نهاية المرام » ٢ : ١٩١ ـ ١٩٤ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ؛ « شوارق الإلهام » : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) منهم الفخر الرازي في « المحصّل » : ٢٥١ والمصنّف في « نقد المحصّل » : ١٦٣ ، والعلاّمة في « مناهج اليقين » : ١٠١ و « نهاية المرام » ٢ : ٢٢٩ و « كشف المراد » : ٢٣٤ ، والتفتازاني في « شرح المقاصد » ٢ : ٣٣٣ ، والفاضل المقداد في « اللوامع الإلهيّة » : ٥٦.

(٣) « الكافي » ج ١ ، ص ١١ من كتاب العقل والجهل ، ح ٣ ؛ « معاني الأخبار » : ٢٣٦ ، ح ١ من باب معنى العقل.

٤٢٨

وعن جماعة أنّه ما يعرف به حسن المستحسنات وقبح المستقبحات (١).

وحكي تفسيره عن قوم (٢) بأنّه العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ؛ لامتناع انفكاك أحدهما عن الآخر.

وهو ضعيف ؛ لعدم الملازمة بين التلازم والاتّحاد.

قال : ( ويطلق على غيره بالاشتراك ).

أقول : لفظ « العقل » مشترك بين قوى النفس الإنسانيّة وبين الموجود المجرّد في ذاته وفعله معا عن المادّة ، ويندرج تحته عند الأوائل (٣) عقول عشرة سبق البحث فيها.

وأمّا القوى النفسانيّة ، فيقال : عقل علميّ ، وعقل عمليّ.

أمّا العلميّ : فأوّل مراتبه : الهيولاني ، وهو الذي من شأنه الاستعداد المحض من غير حصول علم ضروريّ أو كسبيّ.

وثانيها : العقل بالملكة ، وهو الذي استعدّ بحصول العلم الضروريّ لإدراك النظريّات ، فصار له بتلك الأوّليّات ملكة الانتقال إلى النظريّات.

وأعلى درجات هذه المرتبة ما يسمّى بالفطانة والذكاوة المستندة إلى القوّة القدسيّة ، وأدناها البلادة التي هي مرتبة البليد الذي ينسى (٤) أفكاره دون حصولها.

وبين هاتين الدرجتين درجات متفاوتة في القرب والبعد بحسب شدّة الاستعداد وضعفه.

وثالثها : العقل بالفعل ، وهو أن تكون النفس بحيث متى شاءت استحضرت

__________________

(١) هم المعتزلة على ما في « نهاية المرام » ٢ : ٢٢٦ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٤٧ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٢٥.

(٢) حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : ٢٣٤ ، وفي « المحصّل » : ٢٥٠ و « نهاية المرام » ٢ : ٢٢٥ نسباه إلى المشهور.

(٣) انظر : « الشفاء » الإلهيّات : ٤٠٢ ـ ٤٠٩ ؛ « النجاة » : ٢٧٣ ـ ٢٨٠ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٣ : ١٤٨ وما بعدها ؛ « المطالب العالية » ٤ : ٣٨٠ ـ ٣٨٩ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٢٤٣ ـ ٢٦٣ ؛ « شرح الهداية الأثيرية » للميبدي : ١٨٨ ـ ١٩٣.

(٤) كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : ٢٣٥ وردت هكذا : « تثبت » بدل « ينسى ».

٤٢٩

العلوم النظريّة من العلوم الضروريّة ، لا على أنّها بالفعل موجودة.

ورابعها : العقل المستفاد ، وهو حصول تلك النظريّات بالفعل ، وهو آخر درجات كمال النفس في هذه القوّة.

وأمّا العمليّ : فيطلق على القوّة التي باعتبارها يحصل التميز بين الأمور الحسنة والقبيحة ، وعلى فعل الأمور الحسنة وترك القبيحة ، وقد أشرنا إلى بيان ذلك سابقا.

المسألة الحادية والعشرون : في الاعتقاد والظنّ وغيرهما.

قال : ( والاعتقاد يقال لأحد قسميه ).

أقول : المراد أنّ الاعتقاد يطلق على التصديق الذي هو أحد قسمي العلم ؛ وذلك لأنّا قد بيّنّا أنّ العلم يقال على التصوّر وعلى التصديق ؛ لأنّه جنس لهما ، والاعتقاد هو التصديق ، وهو قسم من قسمي العلم.

ولكن لا يخفى أنّ التصديق ـ الذي جعله المصنّف أحد قسمي العلم ـ كان مقيّدا بكونه جازما مطابقا ثابتا ـ أعني اليقين ، والاعتقاد يطلق على مطلق التصديق جازما كان أم لا ، مطابقا كان أم لا ، ثابتا كان أم لا.

نعم ، الإطلاق على المطلق يستلزم الإطلاق على المقيّد ؛ لوجود المطلق فيه ، بل قد يطلق الاعتقاد على خصوص اليقين كما قيل (١) ، ففيه اصطلاحات وله إطلاقات.

قال : ( فيتعاكسان في العموم والخصوص ).

أقول : هذا نتيجة ما مضى.

والذي نفهمه منه أنّ الاعتقاد قد ظهر أنّه يطلق على أحد قسمي العلم ، فهو أخصّ بهذا المعنى ؛ لأنّ العلم شامل للتصوّر والتصديق الذي هو الاعتقاد.

والاعتقاد ـ باعتبار آخر واصطلاح آخر ـ أعمّ من العلم ؛ لأنّه شامل للظنّ

__________________

(١) نسبه في « المطوّل » : ٣٩ إلى المشهور ، ونسبه القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٩ إلى القيل ، واللاهيجي في « شوارق الإلهام » : ٤٢٦ إلى غير المشهور.

٤٣٠

والجهل المركّب واعتقاد المقلّد.

فهذا ما ظهر لنا من قوله : « فيتعاكسان » أي الاعتقاد والعلم « في العموم والخصوص » فباعتبار الاصطلاحين أو ما يؤدّي معناهما يتحقّق التعاكس.

وفيه : أنّ الاعتقاد باصطلاح آخر أيضا ليس أعمّ مطلقا من العلم الشامل للتصوّر والتصديق بل أعمّ من وجه ، وهو خلاف ظاهر التعاكس ؛ لكون العلم بأحد الاصطلاحين أعمّ مطلقا من الاعتقاد من غير أن يكون الاعتقاد أعمّ مطلقا باصطلاح آخر.

اللهمّ إلاّ أن يحمل العلم حينئذ على اليقين ، أو يكتفى بالعموم من وجه في التعاكس ، فتأمّل.

قال : ( ويقع فيه التضادّ بخلاف العلم ).

أقول : المراد أنّ الاعتقاد قد يقع فيه التضادّ بأن يتعلّق أحد الاعتقادين بإيجاب نسبة ، والآخر بسلبها بعينها ، فيكون التضادّ لتعلّقه بالإيجاب والسلب لا غير.

وأمّا العلم فلا يقع فيه تضادّ ؛ لوجوب المطابقة فيه ، والمطابق للواقع لا يكون إلاّ أحدهما ، فلا يتصوّر علمان تعلّق أحدهما بإيجاب نسبة والآخر بسلبها ؛ فإنّ غير المطابق لا يكون علما وإن أطلق عليه العلم قبل ظهور المخالفة لاعتقاد المطابقة ؛ وذلك لصحّة السلب بعد ظهور المخالفة ، فيقال : ما كان علما بل اعتقادا مخالفا.

قال : ( والسهو عدم ملكة العلم ، وقد يفرق بينه وبين النسيان ).

أقول : قد أفيد (١) أنّ هذا هو المشهور عند الأوائل والمتكلّمين.

وذهب الجبّائيان (٢) إلى أنّ السهو معنى يضادّ العلم.

__________________

(١) المفيد هو العلاّمة في « كشف المراد » : ٢٣٦.

(٢) نقله عنهما العلاّمة في « كشف المراد » : ٢٣٦ و « مناهج اليقين » : ٩٦ ، وفي « شرح المواقف » ٦ : ٢٧ نقله عن الآمدي.

٤٣١

وقد فرّق الأوائل (١) بينه وبين النسيان ، فقالوا : إنّ السهو زوال الصورة عن المدركة خاصّة ، دون الحافظة التي هي الخزانة ، والنسيان زوالها عنهما معا.

وعلى هذا فالسهو حالة متوسّطة بين التذكّر والنسيان ؛ إذ فيه زوال الصورة من وجه وبقاؤها من وجه ؛ ولهذا لا يحتاج إلى تجشّم كسب جديد بخلاف النسيان.

هذا بحسب الاصطلاح الخاصّ ، وإلاّ فظاهر العرف الترادف أو التساوي عموما أو خصوصا.

وكيف كان فالظاهر أنّ النسيان كالسهو عبارة عن المحو بعد حصول العلم ، لا مطلق عدم ملكة العلم ؛ ولهذا فيكون التقابل على وجه التضادّ.

قال : ( والشكّ تردّد الذهن بين الطرفين ).

أقول : الشكّ هو عدم الاعتقاد وتردّد الذهن بين طرفي النقيض على التساوي ، وليس معنى قائما بالنفس عند الأوائل وأبي هاشم (٢).

وقال أبو عليّ (٣) : إنّه معنى يضادّ العلم. واختاره البلخي (٤) ؛ لتجدّده بعد أن لم يكن.

وهو الأصحّ ؛ لظهور كونه حالة وجوديّة مضادّة للعلم.

قال : ( وقد يصحّ تعلّق كلّ من العلم والاعتقاد بنفسه وبالآخر ، فيتغاير الاعتبار لا التصوّر ).

أقول : اعلم أنّ العلم والاعتقاد من قبيل الإضافات يصحّ تعلّقهما بجميع الأشياء حتّى بأنفسهما ، فيصحّ تعلّق الاعتقاد بالاعتقاد وبالعلم ، وكذا العلم يتعلّق بنفسه وبالاعتقاد.

__________________

(١) نقله العلاّمة عن الأوائل في « كشف المراد » : ٢٣٦ ، وذكره في « شرح المواقف » ٦ : ٢٦ دون أن ينسبه لأحد ، وفي « كشّاف اصطلاحات الفنون » ١ : ٩٨٧ نسبه إلى البعض.

(٢) نقله عنهما العلاّمة في « كشف المراد » : ٢٣٧.

(٣) ذكره في « كشف المراد » : ٢٣٧ ونقل خلافه في « مناهج اليقين » : ٩٧.

(٤) انظر : « كشف المراد » : ٢٣٧.

٤٣٢

إذا عرفت هذا ، فإذا تعلّق العلم بنفسه وجب تعدّد الاعتبار ؛ إذ العلم كان آلة ينظر به ، وباعتبار تعلّق العلم به يصير شيئا منظورا ، فيكون الشيء معلوما مغايرا لاعتبار كونه علما ، فلا بدّ من تغاير الاعتبار.

أمّا التصوّر بالاحتياج إلى صورة أخرى فلا ، وإلاّ لزم وجود صور لا تتناهى بالنسبة إلى معلوم واحد ؛ لأنّ العلم بالشيء لا ينفكّ عن العلم بالعلم بذلك الشيء عند اعتبار المعتبرين.

واعلم أنّ العلم بالعلم علم بكيفيّة وهيئة للعالم تقتضي النسبة إلى معلوم ذلك العلم ، وليس علما بالمعلوم.

قال : ( والجهل بمعنى يقابلهما ، وبآخر قسم لأحدهما ).

أقول : اعلم أنّ الجهل يطلق على معنيين : بسيط ومركّب.

فالبسيط هو عدم العلم عمّا من شأنه أن يكون عالما ، وبهذا المعنى يقابل العلم والاعتقاد مقابلة العدم والملكة.

والمركّب هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه ، وهو قسم من الاعتقاد ؛ إذ الاعتقاد جنس للجهل وغيره.

وسمّي الأوّل بسيطا ؛ نظرا إلى عدم تركّبه ، والثاني مركّبا ؛ لتركّبه من اعتقاد وعدم مطابقة الواقع ، فيكون مركّبا من العلم الظاهري والجهل الواقعي ، أو من الجهلين : الجهل بالشيء ، والجهل بأنّه جاهل باعتقاده أنّه عالم ، فهو لا يدري ولا يدري أنّه لا يدري ، وهو أقبح من الجهل البسيط وأضرّ ؛ فإنّ صاحبه لا يطلب العلم الذي هو خير.

قال : ( والظنّ ترجيح أحد الطرفين ، وهو غير اعتقاد الرجحان ).

أقول : الظنّ ترجيح أحد الطرفين ـ أعني طرف الوجود وطرف العدم ـ ترجيحا غير مانع من النقيض ، ولا بدّ من هذا القيد لإخراج الاعتقاد الجازم ، فكأنّ المصنّف اكتفى بالظهور من الخارج أو ممّا سبق ، وإلاّ فالتعريف غير مانع.

٤٣٣

واعلم أنّ رجحان الاعتقاد مغاير لاعتقاد الرجحان ؛ لأنّ الأوّل ظنّ لا غير ، والثاني قد يكون علما.

قال : ( ويقبل الشدّة والضعف وطرفاه علم وجهل ).

أقول : لمّا كان الظنّ عبارة عن ترجيح الاعتقاد من غير منع للنقيض ، وكان للترجيح مراتب داخلة بين طرفي شدّة في الغاية وضعف في الغاية ، كان قابلا للشدّة والضعف. وطرفاه العلم ـ الذي لا مرتبة بعده للرجحان ـ والجهل البسيط الذي لا ترجيح معه البتّة ، أعني الشكّ المحض.

المسألة الثانية والعشرون : في النظر وأحكامه.

قال : ( وكسبيّ العلم يحصل بالنظر مع سلامة جزأيه ضرورة ).

أقول : قد بيّنّا أنّ العلم ضربان : ضروريّ لا يفتقر إلى طلب وكسب. ونظري يفتقر إليه.

فالثاني هو المكتسب بالنظر ، وهو « ترتيب أمور ذهنيّة للتوصّل بها إلى أمر مجهول ».

فالترتيب جنس بعيد ؛ لأنّه كما يقع في الأمور الذهنيّة كذلك يقع في الأشياء الخارجيّة ، فالتقييد بالأمور الذهنيّة يخرج الآخر عنه.

ثمّ الترتيب الخاصّ قد يكون لاستحصال ما ليس بحاصل ، وقد لا يكون كذلك ، فالثاني ليس نظرا.

وهذا الحدّ قد اشتمل على العلل الأربعة للنظر ، أعني المادّة ، والصورة ، والغاية ، وفيه إشارة إلى الفاعل.

وهذه الأمور قد تكون تصوّرات هي إمّا حدود أو رسوم يستفاد منها علم بمفرد ، وقد تكون تصديقات يكتسب بها تصديق مجهول.

واعلم أنّ النظر لمّا كان متعلّقا بما يكون مركّبا ، اشتمل بالضرورة على جزء مادّي

٤٣٤

وجزء صوري ، فالجزء المادّي هو المقدّمات والمبادئ ، والصوري هو الترتيب بينها. فإذا سلم هذان الجزءان ـ بأن كان الحمل والوضع والوسط والجهة على ما ينبغي ـ وكان الترتيب على ما ينبغي ، حصل العلم بالمطلوب بالضرورة ، وهو الغاية.

والمرتّب الذي هو النفس الناطقة بمنزلة العلّة الفاعليّة ، بل يمكن استفادة العلّة المعدّة ، وهي العلّة الخامسة ، أعني ما يوجب استعداد النفس الناطقة لترتيب أمور معلومة.

هذا في التصديقات ، وكذا في التصوّرات ؛ فإنّه اذا كان الحدّ مشتملا على جنس قريب وفصل أخير ، وقدّم الجنس على الفصل ، حصل تصوّر المحدود قطعا.

وإليه أشار المصنّف رحمه‌الله بقوله : « مع سلامة جزأيه » يعني الجزء المادّي والجزء الصوري.

واعلم أيضا أنّ الناس اختلفوا هنا ، فقال من (١) لا مزيد تحصيل له : إنّ النظر لا يفيد العلم ؛ فإنّ إفادته العلم إن كان ضروريّا ، لزم اشتراك العقلاء فيه ، وإن كان نظريّا ، تسلسل. ولأنّ النظر لو استلزم العلم لم يختلف الناس في آرائهم ؛ لاشتراكهم في العلوم الضروريّة التي هي مبادئ للنظر.

وذهب المحقّقون (٢) إلى أنّه يفيد العلم بالضرورة ؛ فإنّا إذا اعتقدنا أنّ العالم ممكن ، وكلّ ممكن محدث ، حصل لنا العلم بالضرورة بأنّ العالم محدث.

فخرج الجواب عن الشبهة الأولى بقوله : « ضرورة » ولا يجب اشتراك العقلاء في الضروريّات ؛ فإنّ كثيرا من الضروريّات يتشكّك فيها بعض الناس إمّا للخفاء في التصوّر أو لغير ذلك.

وخرج الجواب عن الشبهة الثانية بقوله : « مع سلامة جزأيه » وذلك لأنّ اختلاف

__________________

(١) نسبه إلى السمنيّة في « المحصّل » : ١٢٢ و « مناهج اليقين » : ١٠٣ و « شرح المواقف » ١ : ٢١٨ وما بعدها.

(٢) انظر : « المحصّل » : ١٢٢ وما بعدها ؛ « مناهج اليقين » : ١٠٣ وما بعدها ؛ « نقد المحصّل » : ٤٩ ؛ « شرح المواقف » : ٢٠٧ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٢٣٥ وما بعدها ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

٤٣٥

الناس في الاعتقاد إنّما كان بسبب تركهم الترتيب الصحيح ، وغفلتهم عن شرائط الحمل ، وغير ذلك من أسباب الغلط إمّا في الجزء المادّي أو الصوري ، فإذا سلما حصل المطلوب لكلّ من حصل له سلامة الجزءين.

ثمّ اعلم أنّ النظر قد يحصل العلم به من غير كسب بواسطة الوحي أو الإلهام أو نحو ذلك ، وهذا هو العلم الموهبي واللدنّي ، والمراد غير ذلك ، كما لا يخفى.

قال : ( ومع فساد أحدهما قد يحصل ضدّه ).

أقول : النظر إذا فسد ـ إمّا من جهة المادّة أو من جهة الصورة لم يحصل العلم ، وقد يحصل ضدّه ، أعني الجهل.

والضابط في ذلك أن نقول : إن كان الفساد من جهة الصورة لم يستلزم النتيجة الباطلة ، وإن كان من جهة المادّة لا غير كان القياس منتجا ، فإن كانت الصغرى في الشكل الأوّل صادقة والكبرى كاذبة ، كانت النتيجة كاذبة قطعا ، وإلاّ جاز أن تكون صادقة وأن تكون كاذبة.

وبهذا التحقيق ظهر بطلان ما يقال من أنّ النظر الفاسد لا يستلزم الجهل ، وإلاّ لكان المحقّ إذا نظر في شبهة المبطل أفاده الجهل ، وليس كذلك ؛ وذلك لأنّه معارض بالنظر الصحيح ، وفاقد لشرط الإفادة ؛ فإنّ شرط اعتقاد حقّيّة المقدّمات في الصحيح شرط في الفاسد أيضا.

قال : ( وحصول العلم عن الصحيح واجب ).

أقول : اختلف الناس هنا ، فالمعتزلة على أنّ النظر مولّد العلم وسبب له (١).

والأشاعرة (٢) قالوا : إنّ الله تعالى أجرى عادته بخلق العلم عقيب النظر ، وليس النظر موجبا ولا سبب للعلم.

__________________

(١) « المغني » ١٢ : ٦٩ ـ ٩٩ ؛ « مناهج اليقين » : ١٠٥ ؛ « شرح المواقف » : ١ : ٢٤٣ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٢٣٧.

(٢) « المحصّل » : ١٦٣ ؛ « شرح المواقف » ١ : ٢٤١ ـ ٢٤٣ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٢٣٧ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٤٣٦

واستدلّوا (١) على ذلك بأنّ العلم الحادث أمر ممكن ، والله تعالى قادر على كلّ الممكنات وفاعل لها ـ على ما يأتي في خلق الأعمال ـ فيكون العلم من فعله.

والمعتزلة (٢) لمّا أبطلوا القول باستناد الأفعال الحيوانيّة إلى الله تعالى ، بطل عندهم هذا الاستدلال. ولمّا رأوا العلم يحصل عقيب النظر بحسبه وينتفي عند انتفائه ، حكموا بأنّه سبب له كما في سائر الأسباب.

والحقّ أنّ النظر الصحيح يجب عنده حصول العلم ، ولا يمكن تخلّفه ؛ فإنّا نعلم قطعا أنّه متى حصل لنا اعتقاد المتقدّمتين فإنّه يجب حصول النتيجة.

وقالت الأشاعرة (٣) : التذكّر لا يولّد العلم وكذا النظر إلى القياس (٤).

والجواب : أنّ الفرق بينهما ظاهر.

قال : ( ولا حاجة إلى المعلّم ).

أقول : ذهب الملاحدة (٥) إلى أنّ النظر غير كاف في حصول المعارف (٦) ، بل لا بدّ من معونة المعلّم للعقل ؛ لتعذّر العلم بأظهر الأشياء وأقربها ـ يعني معرفة الله ـ من دون مرشد.

وأطبق العقلاء (٧) على خلافه ؛ لأنّا متى حصلت المقدّمتان لنا على الترتيب المخصوص حصل لنا الجزم بالنتيجة ، سواء كان هناك معلّم أو لا.

__________________

(١) « المحصّل » : ١٣٦ ـ ١٣٧ ؛ « شرح المواقف » ١ : ٢٤١ ـ ٢٤٢ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٢٣٧ ؛ « شرح تجريد العقائد » ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٢) انظر : « المغني » ٨ : ٣ وما بعدها و ١٧٧ وما بعدها.

(٣) « شرح المواقف » ١ : ٢٤٣ ـ ٢٤٥ ، ونسب إلى بعض الأشاعرة في « شرح المقاصد » ١ : ٢٣٧ و « شرح تجريد العقائد » : ٢٦١.

(٤) في « كشف المراد » : « بالقياس عليه » بدل « إلى القياس ».

(٥) منهم الإسماعيلية. من حاشية نسخة الأصل.

(٦) « المحصّل » : ١٢٦ ـ ١٢٧ ؛ « شرح المواقف » ١ : ٢٣٨ ؛ « شرح المقاصد » : ١ : ٢٥٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٦٢.

(٧) انظر المصادر المتقدّمة.

٤٣٧

وصعوبة تحصيل المعرفة بأظهر الأشياء ـ وهو الله ـ ممنوعة ؛ ولهذا قال الله تعالى : ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١) ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (٢) ونحو ذلك ، وورد « أنّ العقل ما عبد به الرحمن » (٣) وغير ذلك.

ولو سلّمت فهي لا تدلّ على امتناعها مطلقا من دون المعلّم ؛ لحصول المعارف الإلهيّة لمن كان له قلب بالنظر ، ولغيره إذا ألقى السمع وهو شهيد.

وقد ألزمهم المعتزلة والأشاعرة (٤) الدور والتسلسل ؛ لتوقّف العلم بتصديق الله تعالى إيّاه بواسطة المعجزة على معرفة الله ، فلو توقّفت معرفة الله تعالى عليه دار ؛ ولأنّ احتياج كلّ عارف إلى معلّم يستلزم حاجة المعلّم إلى آخر ويتسلسل.

وهذان الإلزامان ضعيفان ؛ لأنّ الدور لازم على تقدير استقلال المعلّم بتحصيل المعارف ، وليس كذلك ، بل هو مرشد إلى استنباط الأحكام من الأدلّة التي من جملتها ما يدلّ على صدقه من المقدّمات ، بمعنى أنّه يحصل العلم بصدق المعلّم بوضع المعلّم مقدّمات منبّهة للعقل ، فيكون موقوفا عليهما ، ومعرفة الله موقوفة على إخباره والعلم بصدقه ، فلا دور.

والتسلسل يلزم لو وجب مساواة عقل المعلّم لعقولنا ، أمّا على تقدير الزيادة فلا ، فإنّ كمال عقله بتأييد الله يقتضي استقلاله وعدم احتياجه إلى غيره ، مضافا إلى احتمال الانتهاء إلى النبيّ العالم بالوحي ونحوه.

قال : ( نعم ، لا بدّ من الجزء الصوري ).

أقول : يشير بذلك إلى ترتيب المقدّمات ، فإنّه لا بدّ ـ بعد حضور المقدّمتين في الذهن ـ من ترتيب حاصل بينهما ، ليحصل العلم بالنتيجة ، وهو الجزء الصوري

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ٦٧ ؛ المؤمنون (٢٣) : ٨٠.

(٢) لقمان (٣١) : ٢٥ ؛ الزمر (٣٩) : ٣٨.

(٣) « الكافي » ١ : ١١ من كتاب العقل والجهل ، ح ٣ ؛ « معاني الأخبار » : ٢٣٩.

(٤) « المحصّل » : ١٢٧ ؛ « شرح المواقف » ١ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

٤٣٨

للنظر ؛ إذ لو لا اشتراط الترتيب ـ بأن كان العلم بالمقدّمات مطلقا كافيا ـ لحصلت العلوم الكسبيّة لجميع العقلاء ولم يقع خلل لأحد في اعتقاده ، وليس كذلك ؛ فإنّ كثيرا من العقلاء يعلمون مقدّمات كثيرة ولا شعور لهم بالنتيجة ؛ لفقدان الترتيب.

وقيل (١) : لا حاجة إليه ، وإلاّ لزم التسلسل أو اشتراط الشيء بنفسه.

وهو خطأ ؛ فإنّ التسلسل يلزم لو قلنا بافتقار كلّ زائد إلى ترتيب ، وليس كذلك ، بل المفتقر إلى الترتيب إنّما هو الأجزاء المادّية خاصّة.

قال : ( وشرطه عدم الغاية وضدّها ، وحضورها ).

أقول : الظاهر أنّ المراد أنّ شرط النظر عدم العلم بالمطلوب الذي هو غاية النظر ، وإلاّ لزم تحصيل الحاصل.

وأمّا ما يصدر من العقلاء من إيراد أدلّة متعدّدة فهو في الظنّيّات ، لحصول زيادة قوّة ظنّ الظانّ ، وفي العلميّات لزيادة الاطمئنان.

ويشترط أيضا عدم ضدّها ، أعني الجهل المركّب ؛ لأنّه اعتقاده حصول العلم له لا يطلبه ، فلا يتحقّق النظر.

ويشترط أيضا حضورها والشعور بها ، بمعنى حضور المطلوب الذي هو الغاية ؛ إذ الغافل عن الشيء لا يطلبه ؛ لامتناع طلب المجهول مطلقا ، والنظر فرع الطلب.

ولا يخفى أنّ ما ذكره المصنّف إنّما يتمّ بحسب الغالب ، وإلاّ فقد يرتّب الجاهل مقدّمات منتجة لما هو الحقّ المخالف لمعتقده أو ما لم يكن ملتفتا إليه.

قال : ( ولوجوب ما يتوقّف عليه العقليّان ، أو انتفاء ضدّ المطلوب على تقدير ثبوته كان التكليف به عقليّا ).

أقول : اختلف الناس في أنّ وجوب النظر في معرفة الله ، والتكليف به ، هل هو عقليّ أو سمعيّ؟

__________________

(١) القائل هو الفخر الرازي في « المحصّل » : ١٣٨ ـ ١٣٩ ، ولمزيد التوضيح انظر : « نقد المحصّل » : ٦٣ ؛ « مناهج اليقين » : ١١٣ ؛ « شرح المواقف » ١ : ٢٨٥ ـ ٢٨٨ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٢٤٠ وما بعدها.

٤٣٩

فذهب المعتزلة (١) إلى الأوّل ، وهو مختار المصنّف ، وهو الحقّ. والأشاعرة (٢) إلى الثاني.

أمّا المصنّف والمعتزلة فاستدلّوا على وجوب النظر عقلا بوجهين (٣) :

الأوّل : أنّ معرفة الله تعالى ـ التي يتوقّف عليها شكره ودفع الضرر الواجبان عقلا ـ واجبة مطلقا ، ولا تتمّ إلاّ بالنظر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به واجب ، فالنظر واجب ، فها هنا ثلاث مقدّمات :

إحداها : أنّ معرفة الله تعالى واجبة مطلقا والدليل على ذلك :

أوّلا : أنّ معرفة الله دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف وغيره ، ودفع الخوف والضرر عن النفس واجب عقلا.

وثانيا : أنّ شكر الله تعالى واجب عقلا ؛ لأنّ نعمه على العبد كثيرة فإنّ كلّ عاقل إذا راجع نفسه يرى أنّ عليه نعما ظاهرة وباطنة ، أصليّة وفرعيّة ، دقيقة وجليلة ، روحانيّة وجسمانيّة من الوجود والحياة والإدراك والمآكل والمشارب والملابس والمساكن ونحوها ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (٤) ولا شكّ أنّها ليست منه ، فهي من غيره ، فإن لم يلتفت إلى منعمه ولم يعترف له بكونه منعما ذمّه العقلاء ، وإلاّ مدحوه ، وهذا معنى الوجوب العقلي ، فيكون الشكر واجبا عقلا.

مضافا إلى أنّ عدم الشكر موجب لاستحقاق سلب النعم ، وهو ضرر على النفس ، ودفع الضرر واجب عقلا ، فالمقدّمتان ضروريّتان ، والشكر لا يتمّ إلاّ

__________________

(١) انظر : « المغني » ١٢ : ٢٣٦ وما بعدها ؛ « شرح الأصول الخمسة » : ٦٦ ـ ٦٩ ؛ ونقل عنهم في « المحصّل » : ١٣٤ و « شرح المواقف » ١ : ٢٥١ و « شرح المقاصد » ١ : ٢٦٢.

(٢) انظر : « المحصل » : ١٣٤ ـ ١٣٦ ؛ « شرح المواقف » ١ : ٢٥١ ـ ٢٧٥ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٢٦٢ ـ ٢٧٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٦٤ ـ ٢٦٨.

(٣) راجع المصادر المتقدّمة و « مناهج اليقين » : ١٠٩ ـ ١١١ ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » ١٠٩ ـ ١١١ ؛ « اللوامع الإلهيّة » : ٩ ـ ١١.

(٤) إبراهيم (١٤) : ٣٤ ؛ النحل (١١٦) : ١٨.

٤٤٠