البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

امتدادهما عشرين ذراعا ـ ذراعين.

وهكذا لو فرض خطّان منفرجان كما في المثلّث بحيث يكون البعد بينهما بقدر ذهابهما على سبيل البرهان السلّمي ، أو الترسي بفرضهما على الجسم المستدير كالترس على وجه التقاطع في مركز الدائرة مثلا.

وبالجملة ، فإذا استمرّت زيادة الضلعين إلى ما لا يتناهى استمرّت زيادة البعد بينهما إلى ما لا يتناهى مع وجوب اتّصاف الثاني ـ أعني البعد بينهما ـ بالتناهي ؛ لامتناع انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين ، فيلزم أن تكون نسبة المتناهي ـ أعني الامتداد الأوّل ـ إلى المتناهي ـ أعني البعد الأوّل ـ كنسبة غير المتناهي ـ أعني الامتداد الذاهب إلى غير النهاية ـ إلى المتناهي ، أعني البعد المتوسّط ، وهذا محال بالضرورة ؛ للزوم ارتفاع النسبة مع أنّها محفوظة.

المسألة الثانية : في أنّ الأجسام متماثلة ومتّحدة في الحقيقة وإن اختلفت بالعوارض.

قال : ( واتّحاد الحدّ وانتفاء القسمة فيه يدلّ على الوحدة ).

أقول : ذهب الجمهور من الحكماء والمتكلّمين إلى أنّ الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمية وإن اختلفت بصفات وعوارض (١) ، وعليه أكثر قواعد الإسلام كإثبات القادر المختار وكثير من أحوال (٢) النبوّة والمعاد ؛ فإنّ اختصاص كلّ جسم بصفاته المعيّنة لا بدّ أن يكون لمرجّح مختار ؛ لتساوي نسبة الموجب إلى الكلّ. ولمّا جاز على كلّ جسم ما يجوز على الجسم الآخر كالبرد على النار والخرق على السماء ، ثبت جواز ما نقل من المعجزات وأحوال القيامة.

__________________

(١) انظر : « المحصّل » : ٣٠٣ ـ ٣٠٥ ؛ « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » : ٧٤ ـ ٧٦ ؛ « رسالة في اعتقاد الحكماء » : ٢٦٣ ؛ « أوائل المقالات » : ٩٥ ؛ « المطالب العالية » ٦ : ١٨٦ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٨٣.

(٢) في « ج » : « أصول » بدل « أحوال ».

٣٢١

وذهب النظّام (١) إلى أنّها مختلفة ؛ لاختلاف خواصّها (٢).

وهو باطل ؛ لأنّ ذلك يدلّ على اختلاف الأنواع ، لا على اختلاف المفهوم من الجسم من حيث هو جسم ، بل المشهور هو المنصور كما اختاره المصنّف رحمه‌الله ، واستدلّ عليه بأنّ الجسم من حيث هو جسم يحدّ بحدّ واحد عند الجميع ، أمّا عند الأوائل فإنّ حدّه : الجوهر القابل للأبعاد (٣). وأمّا المتكلّمون فإنّهم يحدّونه بأنّه الطويل العريض العميق (٤).

وهذا الحدّ الواحد لا قسمة فيه ، فالمحدود واحد ؛ لاستحالة اجتماع المختلفات في حدّ واحد من غير قسمة ، بل متى جمعت المختلفات في حدّ واحد وقع فيه التقسيم ضرورة ، كقولنا : « الحيوان إمّا ناطق أو صاهل » ويراد بهما الإنسان والفرس.

المسألة الثالثة : في أنّ الأجسام باقية.

قال : ( والضرورة قضت ببقائها ).

أقول : المشهور عند العقلاء أنّ الأجسام باقية زمانين وأكثر بحكم الضرورة ، بمعنى أنّا نعلم بالضرورة أنّ كتبنا وثيابنا ودوابّنا هي بعينها التي كانت قبل الزمان الثاني وما بعده من غير تبدّل في الذات وإن اختلفت العوارض والهيئات ، فلا يتوجّه الإشكال باحتمال تجدّد الأمثال.

ونقل عن النظّام خلافه (٥) ؛ بناء منه على امتناع إسناد العدم إلى الفاعل ، وأنّه لا ضدّ

__________________

(١) هو إبراهيم بن سيّار بن هانئ البصري أبو إسحاق النظّام من أئمّة المعتزلة ، كان من المتبحّرين في الفلسفة ، وله آراء خاصّة تميّز بها ، تابعته فيها فرقة من المعتزلة سمّيت النظّامية نسبة إليه ، توفّي سنة ٢٣١.

انظر : « تاريخ بغداد » ٦ : ٩٧ ؛ « أمالي المرتضى » ١ : ١٣٢.

(٢) نقله عنه الفخر الرازي في « المحصّل » : ٣٠٥ ، والخواجة في « نقد المحصّل » : ٢١٠.

(٣) « رسالة الحدود » لابن سينا : ٢٢ ؛ « التعريفات » للجرجاني : ١٠٣ ، الرقم ٤٩١ ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » ١ : ٥٦١.

(٤) « شرح المقاصد » ٣ : ٦ ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » ١ : ٥٦٢ ـ ٥٦٣.

(٥) « المحصّل » : ٣٠٥ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٣ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٨٤ ـ ٨٧.

٣٢٢

للأجسام حتّى يقال : إنّها تنتفي بطريان الضدّ مع وجوب فنائها يوم القيامة ، فالتزم بعدم بقائها وأنّها تتجدّد حالا فحالا كالأعراض غير القارّة.

والمحقّقون على خلاف ذلك ، واعتمادهم على الضرورة فيه.

وقيل : إنّ النظّام ذهب إلى احتياج الجسم حال بقائه إلى المؤثّر ، فتوهّم الناقل أنّه كان يقول بعدم بقاء الأجسام (١) ؛ ولهذا قال المصنّف : إنّ هذا النقل من النظّام غير معتمد » (٢). بل هو وهم النقلة على ما حكي (٣).

المسألة الرابعة : في أنّ الأجسام يجوز خلوّها عن الطعوم والروائح والألوان.

قال : ( ويجوز خلوّها عن الكيفيّات المذوقة (٤) والمرئية (٥) والمشمومة (٦) كالهواء ).

أقول : ذهب المعتزلة إلى جواز خلوّ الأجسام عن الطعوم والروائح والألوان. ومنعت الأشعريّة منه.

أمّا المعتزلة فاحتجّوا بمشاهدة بعض الأجسام كذلك كالهواء ؛ فإنّه خال عن الكيفيّات ، بشهادة عدم الإحساس من غير مانع.

واحتجّت الأشعرية بقياس اللون على الكون ؛ فإنّه كما امتنع خلوّ الجسم عن الكون كذلك امتنع خلوّه عن اللون ، وبقياس ما قبل الاتّصاف على ما بعده ، فإنّه كما امتنع خلوّ الجسم عن اللون بعد الاتّصاف عادة امتنع خلوّه عنه قبله (٧).

__________________

(١) نسبه الخواجة في « نقد المحصّل » : ٢١١ إلى البعض.

(٢) « نقد المحصّل » : ٢١١.

(٣) الحاكي هو العلاّمة في « كشف المراد » : ١٦٩.

(٤) أي الطعوم. ( منه رحمه‌الله ).

(٥) أي الألوان. ( منه رحمه‌الله ).

(٦) أي الروائح. ( منه رحمه‌الله ).

(٧) لمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « المحصّل » : ٢٧٥ ؛ « نقد المحصّل » : ١٦٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ١٨٢ ـ ١٨٣.

٣٢٣

وهما ضعيفان ؛ لأنّ القياس الأوّل خال عن الجامع ، والقياس المشتمل على الجامع لا يفيد اليقين ، فكيف الخالي عنه!؟ مع قيام الفرق ؛ فإنّ الكون لا يقبل خلوّ متحيّز عنه بالضرورة ، بخلاف اللون فإنّه يمكن أن يتصوّر الجسم خاليا عنه.

وأمّا امتناع الخلوّ عنها بعد الاتّصاف فهو ممنوع. ولو سلّم لظهر الفرق أيضا ؛ لأنّ الخلوّ بعد الاتّصاف إنّما امتنع لافتقار الزوال بعد الاتّصاف إلى طريان الضدّ ، بخلاف ما قبل الاتّصاف ؛ لعدم الحاجة إليه.

المسألة الخامسة : في أنّ الأجسام تجوز رؤيتها.

قال : ( وتجوز رؤيتها بشرط الضوء واللون ، وهو ضروريّ ).

أقول : ذهب الحكماء إلى أنّ الأجسام مرئيّة ، لكنّه لا بالذات بل بالعرض ، فإنّها لو كانت مرئيّة بالذات لرئي الهواء ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

وإنّما يمكن رؤيتها بتوسّط الضوء واللون ، بمعنى أنّ المرئيّ أوّلا وبالذات هو الألوان والأضواء القائمة بسطوح الأجسام ، ثمّ العقل بمعونة هذا الإحساس يحكم بأنّ ما بين تلك السطوح جواهر ممتدّة في الجهات ـ أعني الأجسام ـ فهي مرئيّة ثانيا وبالعرض.

وذهب المتكلّمون إلى أنّها مرئيّة بذواتها بشرط تكيّفها بالأضواء والألوان ، واختاره المصنّف فأفاد أنّ هذا حكم ضروريّ يشهد به الحسّ (١).

المسألة السادسة : في أنّ الأجسام حادثة.

قال : ( والأجسام كلّها حادثة ؛ لعدم انفكاكها من جزئيّات متناهية حادثة ؛ فإنّها لا تخلو عن الحركة والسكون ، وكلّ منهما حادث ، وهو ظاهر ).

__________________

(١) راجع « المحصّل » : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ؛ « نقد المحصّل » : ٢١٣ ـ ٢١٤ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٥٩٣ ـ ٥٩٦ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ١٨٣.

٣٢٤

أقول : هذه المسألة من أجلّ المسائل وأشرفها ، وهي المعركة العظيمة بين الحكماء والمتكلّمين ، وقد اضطربت أنظار العقلاء فيها ، وعليها مبنى القواعد الإسلاميّة.

وقد اختلف الناس فيها.

فذهب أرباب الملل والنحل ـ وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس ـ إلى أنّ الأجسام محدثة.

وذهب جمهور الحكماء إلى أنّها قديمة (١). والمراد قدم أصول العالم كالأفلاك والعناصر ، ضرورة فساد دعوى قدم المواليد كالحوادث اليوميّة.

ودليل المتكلّمين على أنّ الأجسام حادثة : أنّها لا تخلو عن أمور متناهية حادثة ، وكلّ ما لم يخل عن أمور متناهية حادثة فهو حادث ، فالأجسام حادثة.

أمّا الصغرى ؛ فلأنّ الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون ، وهما من الأمور الحادثة المتناهية.

أمّا بيان عدم انفكاك الجسم عنهما فضروريّ ؛ لأنّ الجسم لا يعقل موجودا في الخارج منفكّا عن المكان ، فإن كان لابثا فيه غير منتقل عنه فهو الساكن ، وإن كان منتقلا عنه فهو المتحرّك.

وأمّا بيان حدوثهما فظاهر ؛ لأنّ الحركة هي حصول الجسم في الحيّز بعد أن كان في حيّز آخر.

وبعبارة أخرى : كون الشيء في الآن الثاني في المكان الثاني ، والسكون هو حصول الجسم في الحيّز بعد أن كان في ذلك الحيّز.

وبعبارة أخرى : كون الشيء في الآن الثاني في المكان الأوّل ، وكلّ منهما مسبوق بحصول الحال المنتقل إليها ، والمسبوقيّة تقتضي الحدوث ، فإذا كان اللازم حادثا

__________________

(١) راجع « المحصّل » : ٢٧٦ ـ ٣٠٣ ؛ « نقد المحصّل » : ١٨٩ وما بعدها ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣ وما بعدها ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٢٠ ـ ٢٣١ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ١٠٧ ـ ١٢٧ ؛ « الأسفار الأربعة » ٥ : ٢٠٥ وما بعدها.

٣٢٥

كان الملزوم أيضا حادثا ، وإلاّ يلزم عدم كون الملزوم ملزوما وتخلّف اللازم عن الملزوم ، وذلك باطل بالضرورة ، فتثبت الكبرى أيضا فتلزم النتيجة.

ويرد عليه : أنّ مقتضى تعريف الحركة والسكون وجود حالة ثالثة في الآن الأوّل وخلوّ الجسم عنهما فيه ، فتكون الصغرى ممنوعة ، فلا يثبت المدّعى.

والجواب : أنّ الكون في الآن الأوّل من جهة عدم تصوّر عدم التناهي ، بل التكثّر والتعدّد فيه حادث بالبديهة ، فيكون للجسم أكوان حادثة ولا يخلو عنها فيكون حادثة ؛ لما أشرنا إليه. فلا بدّ من اعتبار ضميمة في الدليل بأن يقال : إنّ الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وما في حكمهما ، فيتمّ الدليل.

وأمّا الاعتراض بأنّ مسبوقيّة ماهيّة الحركة بالغير ممنوعة ، ومسبوقيّة كلّ فرد مسلّمة غير نافعة ؛ لجواز كون ماهيّة الحركة قديمة محفوظة بتعاقب الأفراد.

ففيه : أنّ كون الشيء في الآن الثاني لا يتصوّر كونه قديما ، فحدوثه ضروريّ.

مضافا إلى كفاية حدوث كلّ جزئيّ للمستدلّ بعد إثبات تناهي الجزئيّات بما سيأتي. فلا حاجة إلى الجواب السخيف المذكور في شرح القوشجي (١).

وقد يستدلّ على حدوث الحركة والسكون بأنّ كلّ واحد منهما يجوز عليه العدم ، والقديم لا يجوز عليه العدم.

أمّا الصغرى ؛ فلأنّ كلّ متحرّك على الإطلاق فإنّ كلّ جزء من حركته يعدم ويوجد عقيبه جزء آخر منها ، وكلّ ساكن فإنّه إمّا بسيط أو مركّب. وكلّ بسيط ساكن تمكن عليه الحركة ؛ لتساوي الجانب الملاقي منه لغيره من الأجسام والجانب الذي لا يلاقيه في قبول الملاقاة ، فأمكن على غير الملاقي الملاقاة ، كما أمكنت على الملاقي ، وذلك إنّما يكون بواسطة الحركة ، فكانت الحركة جائزة عليه فيكون العدم أيضا جائزا عليه كما مرّ.

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ١٨٣ ـ ١٨٤.

٣٢٦

وأمّا المركّب فإنّه مركّب من البسائط ، ونسوق الدليل الذي ذكرناه في البسيط إلى كلّ جزء من أجزاء المركّب.

وأمّا الكبرى ؛ فلأنّ القديم إن كان واجب الوجود لذاته استحال عدمه. وإن كان جائز الوجود استند إلى علّة موجبة ؛ لاستحالة صدور القديم عن المختار ؛ لأنّ المختار إنّما يفعل بواسطة القصد والداعي ، والقصد إنّما يتوجّه إلى إيجاد المعدوم ، فكلّ أثر المختار حادث ، فلو كان القديم أثر المؤثّر ، لكان ذلك المؤثّر موجبا ، فإن كان واجبا لذاته استحال عدم معلوله. وإن كان ممكنا نقلنا الكلام إليه ، فإمّا أن يتسلسل وهو محال ، أو ينتهي إلى مؤثّر موجب يستحيل عدمه فيستحيل عدم معلوله.

فقد ظهر أنّ القديم يستحيل عليه العدم ، وقد بيّنّا جواز العدم على الحركة والسكون فيستحيل قدمهما ، فيكونان حادثين يجوز عليهما العدم. ويتوجّه عليه أيضا الإيراد المذكور ، فيحتاج إلى الجواب المذكور.

قال : ( وأمّا تناهي جزئيّاتها فلأنّ وجود ما لا يتناهى محال ؛ للتطبيق ، ولو صف كلّ حادث بالإضافتين (١) المتقابلتين ، ويجب زيادة المتّصف بإحداهما من حيث هو كذلك على المتّصف بالأخرى ، فينقطع الناقص والزائد (٢) أيضا ).

أقول : لمّا بيّن حدوث الحركة والسكون ، شرع الآن في بيان تناهيهما ؛ لأنّ بيان حدوثهما غير كاف في الدلالة. وهذا المقام هو المعركة بين الحكماء والمتكلّمين ؛ فإنّ المتكلّمين يمنعون من اتّصاف الجسم بحركات لا تتناهى ، والحكماء جوّزوا ذلك (٣).

__________________

(١) أي السابقيّة والمسبوقيّة. ( منه رحمه‌الله ).

(٢) الناقص هو الذي اتّصف بالسبق ـ مثلا ـ وحده ، والزائد هو ما اتّصف بالسبق واللحوق معا.

(٣) حول هذا المبحث راجع « نقد المحصّل » : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ١٥ ـ ٨١ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٢٣ ـ ٢٢٧.

٣٢٧

والمتكلّمون استدلّوا على قولهم بوجوه :

الأوّل : أنّ كل فرد حادث ، فالمجموع كذلك.

واستضعفه العلاّمة بأنّه لا يلزم من حدوث كلّ فرد حدوث المجموع (١).

وفيه نظر.

الثاني : أنّها قابلة للزيادة والنقصان ، فتكون متناهية.

وأورد عليه النقض بمعلومات الله تعالى ومقدوراته ، فإنّ الأولى أزيد من الثانية ؛ لأنّ ذاته تعالى وصفاته الذاتيّة معلومة لله تعالى وليست مقدورة مع أنّه لا يلزم تناهيهما.

الثالث : برهان التطبيق ، وهو أن تؤخذ جملة الحركات من الآن إلى الأزل جملة ، ومن زمان الطوفان إلى الأزل جملة أخرى ، ثمّ تطبّق إحدى الجملتين بالأخرى ، فإن استمرّ إلى ما لا يتناهى كان الزائد مثل الناقص ، وهذا خلف. وإن انقطع الناقص فيكون متناهيا فيتناهى الزائد أيضا ؛ لأنّه إنّما زاد بمقدار متناه ، والزائد على المتناهي بمقدار متناه يكون متناهيا.

الرابع : برهان التضايف ، وهو أنّ كلّ حادث يوصف بإضافتين متقابلتين هما السابقيّة والمسبوقيّة ؛ لأنّ كلّ واحد من الحوادث غير المتناهية يكون سابقا على ما بعده ولاحقا لما قبله ، والسبق واللحوق إضافتان متقابلتان ، وإنّما صحّ اتّصافه بهما ؛ لأنّهما أخذتا بالنسبة إلى شيئين ، واختلاف الجهة كاف في عدم امتناع اجتماع المتقابلين في ذات واحدة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إذا اعتبرنا الحوادث المبتدأة من الآن تارة من حيث إنّ كلّ واحد منها سابق ، وتارة من حيث إنّه بعينه لاحق ، كانت السوابق واللّواحق المتباينتان بالاعتبار متطابقتين في الوجود ، ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهّم

__________________

(١) « كشف المراد » : ١٧٢.

٣٢٨

تطبيق ، ومع ذلك يجب كون السوابق أكثر من اللواحق في الجانب الذي وقع فيه النزاع بواحدة.

وإلى هذا أشار بقوله : « وتجب زيادة المتّصف بإحداهما ـ أعني بإحدى الإضافتين وهو إضافة السبق ـ على المتّصف بالأخرى » أعني إضافة اللحوق.

فإذن اللواحق منقطعة في الماضي قبل انقطاع السوابق فتكون متناهية ، والسوابق أيضا تكون متناهية ؛ لأنّها زادت بمقدار متناه ، فيلزم تناهي ما فرض أنّه غير متناه ، وهذا خلف.

وهذا البرهان لا يتوقّف على اجتماع الأجزاء في الوجود ، بخلاف برهان التطبيق.

قال : ( والضرورة قضت بحدوث ما لا ينفكّ عن حوادث متناهية ).

أقول : لمّا بيّن أنّ الأجسام لا تنفكّ عن الحركة والسكون وبيّن حدوثهما وتناهيهما ، وجب القول بحدوث الأجسام ؛ لأنّ الضرورة قضت بحدوث ما لا ينفكّ عن حوادث متناهية ؛ لأنّ تلك الحوادث المتناهية المتعاقبة لها أوّل قطعا ، والذي لا ينفكّ عن تلك الحوادث لا يوجد قبل ذلك الأوّل ، وإلاّ لكان منفكّا عنها ، وإذا لم يوجد قبله كان حادثا مثله.

قال : ( فالأجسام حادثة ، ولمّا استحال قيام الأعراض إلاّ بها ثبت حدوثها ).

أقول : هذا نتيجة ما ذكر من الدليل ، وهو القول بحدوث الأجسام.

وأمّا الأعراض فإنّه يستحيل قيامها بنفسها ، وتفتقر في الوجود إلى محلّ تحلّ فيه ، وهي إمّا جسمانيّة أو غير جسمانيّة والكلّ حادث.

أمّا الجسمانيّة : فلامتناع قيامها بغير الأجسام ، وإذا كان الشرط حادثا كان المشروط كذلك بالضرورة.

أمّا غير الجسمانيّة : فبالدليل الدالّ على حدوث كلّ ما سوى الله تعالى.

والمصنّف إنّما قصد الأعراض الجسمانيّة ؛ لقوله : « لمّا استحال قيام الأعراض

٣٢٩

إلاّ بها ثبت حدوثها ».

قال : ( واختصّ الحدوث بوقته ؛ إذ لا وقت قبله ، والمختار يرجّح أحد مقدوريه لا لأمر مرجّح عند بعضهم ).

أقول : لمّا بيّن حدوث العالم شرع في الجواب عن شبه الفلاسفة (١) ، وأقوى شبههم ثلاثة أجاب المصنّف رحمه‌الله عنها في هذا الكتاب :

الشبهة الأولى ـ وهي أعظمها ـ أنّهم قالوا : إنّ المؤثّر التامّ في العالم إمّا أن يكون أزليّا أو حادثا.

فإن كان أزليّا لزم قدم العالم ؛ لأنّه عند وجود المؤثّر التامّ يجب وجود الأثر ؛ لأنّه لو تأخّر عنه ثمّ وجد ، لم يخل : إمّا أن يكون لتجدّد أمر أو لا ، والأوّل يستلزم كون ما فرضناه مؤثّرا تامّا ليس بتامّ ، وهذا خلف. والثاني يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن لا بمرجّح ؛ لأنّ اختصاص وجود الأثر بالوقت الذي وجد فيه دون ما قبله وما بعده ـ مع حصول المؤثّر التامّ ـ يكون ترجيحا من غير مرجّح.

وإن كان المؤثّر في العالم حادثا نقلنا الكلام إلى علّة حدوثه ، ويلزم التسلسل أو الانتهاء إلى المؤثّر القديم ، وهو محال ؛ للزوم تخلّف الأثر عنه ، وهذا المحال إنّما نشأ من فرض حدوث العالم.

وقد أجاب المتكلّمون عن هذه الشبهة بوجوه :

أحدها : أنّ المؤثّر التامّ قديم ، لكنّ الحدوث اختصّ بوقت الإحداث ؛ لانتفاء وقت قبله ، والأوقات التي يطلب فيها الترجيح معدومة ولا تتمايز إلاّ في الوهم ، وأحكام الوهم في مثل ذلك غير مقبولة ، بل الزمان يبتدئ وجوده مع أوّل وجود العالم ، ولم يمكن وقوع ابتداء سائر الموجودات قبل ابتداء وجود الزمان أصلا.

__________________

(١) لمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « شرح الأصول الخمسة » : ١١٥ ـ ١١٨ ؛ « المطالب العالية » ٤ : ٢٣٩ ـ ٢٤٥ ؛ « المحصّل » : ٢٩٩ ـ ٣٠٣ ؛ « نقد المحصّل » : ٢٠٥ ـ ٢٠٨ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ١٣٦ ـ ١٧٩ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٢٨ ـ ٢٣١ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ١٢٠ ـ ١٢٧.

٣٣٠

الثاني : أنّ المؤثّر التامّ إنّما يجب وجود أثره معه لو كان موجبا ، أمّا إذا كان مختارا فلا ؛ لأنّ المختار يرجّح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجّح ، فالعالم قبل وجوده كان ممكن الوجود وكذا بعد وجوده ، لكنّ المؤثّر المختار أراد إيجاده وقت وجوده دون ما قبله وما بعده لا لأمر يترجّح به الإيجاد على تركه حتّى لا يلزم كونه مستكملا بذلك الإيجاد المستلزم لحصول تلك الأولويّة ؛ لتجويز بعض المتكلّمين ـ وهم الأشاعرة (١) ـ ترجيح المختار لأحد مقدوريه بلا مرجّح يدعوه إليه ، كما في قدحي العطشان ورغيفي الجوعان وطريقي الهارب من السبع مع فرض المساواة من جميع الجهات بل المرجّح هو الإرادة.

الثالث : أنّه لم لا يجوز اختصاص بعض الأوقات بمصلحة تقتضي وجود العالم فيه دون ما قبل ذلك الوقت وبعده؟ فالمؤثّر التامّ وإن كان حاصلا في الأزل لكن لا يجب وجود العالم فيه تحصيلا لتلك المصلحة.

الرابع : أنّ الله تعالى علم بوجود العالم وقت وجوده ، وخلاف علمه محال ، فلم يمكن وجوده قبل وقت وجوده ، فتأمّل.

الخامس : أنّ الله تعالى أراد إيجاد العالم وقت وجوده ، والإرادة مخصّصة لذاتها.

السادس : أنّ العالم محدث ؛ لما تقدّم ، فيستحيل وجوده في الأزل ؛ لأنّ المحدث هو ما يسبقه العدم ، والأزل ما لم يسبقه العدم ، فالجمع بينهما محال.

ثمّ عارضوهم بالحادث اليومي ؛ فإنّه معلول إمّا لقديم فيستلزم قدمه ، أو لحادث فيتسلسل.

قال : ( والمادّة منتفية ).

أقول : هذا جواب عن الشبهة الثانية.

__________________

(١) « المحصّل » : ٣٩١ ـ ٣٩٨ ؛ « المطالب العالية » ٣ : ٣٧ وما بعدها ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٦٧ ـ ٧٠ ، و ٧ : ٢٣٠ ، و ٨ : ٥٤ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٣٧ ـ ٣٤٠.

٣٣١

تقريرها : أنّهم قالوا : كلّ حادث فهو مسبوق بإمكان وجوده ، وذلك الإمكان ليس أمرا عدميّا ، وإلاّ فلا فرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفيّ ، ولا قدرة القادر ؛ لأنّا نعلّلها به ، فهو مغاير. وليس جوهرا ؛ لأنّه نسبة وإضافة ، فمحلّه يكون سابقا عليه وهو المادّة ، فتلك المادّة إن كانت قديمة ويستحيل انفكاكها عن الصورة لزم قدم الصورة فيلزم قدم الجسم ، وإن كانت حادثة تسلسل.

والجواب : أنّا قد بيّنّا أنّ المادة منتفية ، وقد سلف تحقيقه.

قال : ( والقبليّة لا تستدعي الزمان ، وقد سبق تحقيقه ).

أقول : هذا جواب عن الشبهة الثالثة.

وتقريرها : أنّهم قالوا : كلّ حادث فإنّ عدمه سابق على وجوده ، وأقسام السبق منفيّة هنا إلاّ الزمانيّ ، فكلّ حادث يستدعي سابقيّة الزمان عليه ، فالزمان إن كان حادثا لزم أن يكون زمانيّا ، وهو محال ، وإن كان قديما ـ وهو مقدار الحركة ـ لزم قدمها ، لكنّ الحركة صفة للجسم ، فيلزم قدمه.

والجواب : ما تقدّم في مبحث السبق من أنّ السبق لا يستدعي الزمان ، وإلاّ تسلسل.

٣٣٢

[ الفصل الرابع : في الجواهر المجرّدة ]

قال : ( الفصل الرابع : في الجواهر المجرّدة. أمّا العقل فلم يثبت دليل على امتناعه ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الجواهر المقارنة للمادّة ، شرع في البحث عن الجواهر المجرّدة عنها ، ولبعدها عن الحسّ أخّرها عن المقارنات.

وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى : في العقول المجرّدة.

اعلم أنّ جماعة من المتكلّمين نفوا هذه الجواهر ، واحتجّوا بأنّه لو كان هاهنا موجود ليس بجسم ولا جسماني لكان مشاركا لواجب الوجود في هذا الوصف ، فيكون مشاركا له في ذاته (١).

وهذا كلام سخيف ؛ لأنّ الاشتراك في الصفات السلبيّة لا يقتضي الاشتراك في الذات ؛ فإنّ كلّ بسيطين يشتركان في سلب ما عداهما عنهما مع انتفاء الشركة بينهما في الذات. بل الاشتراك في الصفات الثبوتيّة لا يقتضي اشتراك الذوات ؛ لأنّ الأشياء المختلفة قد يلزمها لازم واحد كالشمس والنار والحركة بالنسبة إلى الحرارة ، فإذا

__________________

(١) انظر : « المحصّل » : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ؛ « المطالب العالية » ٧ : ٢٥ ـ ٢٨ ، وقد نسبه في الأوّل إلى جمهور المتكلّمين ، وفي الثاني إلى أكثر المتكلّمين. ولمزيد المعرفة راجع « شرح المواقف » ٦ : ٢٧٢ ـ ٢٧٧ و ٧ : ٢٤٧ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ١٤١ ـ ١٤٤ و ٣ : ٥ ـ ٨.

٣٣٣

ثبت ذلك لم يلزم من كون هذه الجواهر المجرّدة مشاركة للواجب تعالى في وصف التجرّد ـ وهو سلبيّ ـ مشاركتها له في الحقيقة ، فلهذا لم يجزم المصنّف بنفي هذه الجواهر المجرّدة.

قال : ( وأدلّة وجوده مدخولة كقولهم : « الواحد لا يصدر عنه أمران » ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده ، وإلاّ لما انتفت صلاحية التأثير عنه ؛ لأنّ المؤثّر هنا مختار ).

أقول : لمّا بيّن انتفاء الجزم بعدم الجوهر المجرّد الذي هو العقل ، شرع في بيان انتفاء الجزم بثبوته ، وذلك ببيان ضعف أدلّة المثبتين.

اعلم أنّ أكثر الفلاسفة (١) ذهبوا إلى أنّ المعلول الأوّل هو العقل الأوّل ، وهو موجود مجرّد عن الأجسام والموادّ في ذاته وتأثيره معا ، ثمّ إنّ ذلك العقل يصدر منه عقل وفلك ؛ لتكثّره باعتبار كثرة الجهات الحاصلة عن ذاته باعتبار التجرّد والإمكان الموجب إلى افتقاره إلى فاعله ، فباعتبار التجرّد يؤثّر في العقل الثاني ، وباعتبار الإمكان [ يؤثّر ] في الفلك الأعظم ، ثمّ يصدر عن العقل الثاني عقل ثالث وفلك ثان ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الأخير ، وهو المسمّى بالعقل الفعّال والعقل العاشر ، وإلى الفلك الأخير التاسع وهو فلك القمر ، فيكون تعيين العدد بملاحظة الأفلاك التي هي من الآثار.

واستدلّوا على إثبات الجواهر المجرّدة ـ التي هي العقول ـ بوجوه (٢) :

الأوّل : أنّ الله تعالى واحد من جميع الجهات ذاتا وصفة ، فلا يكون علّة للمتكثّر ، فيكون الصادر عنه واحدا ، فلا يخلو إمّا أن يكون جسما أو مادّة أو صورة أو نفسا

__________________

(١) انظر : « الشفاء » الإلهيات : ٤٠٢ ـ ٤٠٩ ؛ « النجاة » : ٢٧٣ ـ ٢٨٠ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٣ : ١٤٥ ـ ١٦٨ ؛ « المباحث المشرقية » ٢ : ٤٥٣ ـ ٤٦٣ ، و ٥٢٦ ـ ٥٣٥ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٢٤٣ ـ ٢٦٣ ؛ « شرح الهداية الأثيرية » للميبدي : ١٨٢ ـ ١٩٣.

(٢) انظر : المصادر السابقة في الهامش المتقدّم.

٣٣٤

أو عرضا أو عقلا ، والأقسام كلّها باطلة سوى الأخير.

أمّا الأوّل : فلأنّ كل جسم مركّب من المادّة والصورة ، وقد بيّنّا أنّ المعلول الأوّل يكون واحدا.

وإلى هذا القسم أشار بقوله : « الواحد لا يصدر عنه أمران ».

وامّا الثاني : فلأنّ المادّة هي الجوهر القابل ، فلا تصلح للفاعليّة ؛ لأنّ نسبة القبول نسبة الإمكان ، ونسبة الفاعليّة نسبة الوجوب ، ويستحيل أن تكون نسبة الشيء الواحد إلى الواحد نسبة إمكان ووجوب. وإذا لم تصلح المادّة للفاعليّة لم تكن هي المعلول الأوّل والسابق على غيره ؛ لأنّ المعلول الأوّل يجب أن يكون علّة فاعليّة لما بعده.

وإلى هذا القسم أشار بقوله : « وإلاّ لما انتفت صلاحية التأثير عنه » أي لا يكون المعلول الأوّل هو المادّة التي لا تصلح أن تكون فاعلا ، وإلاّ لم تكن سابقة على غيرها ؛ لعدم صلاحية الفاعليّة ، فلم تكن هي المعلول الأوّل ؛ لما بيّنّا أنّ المعلول سابق على غيره من المعلولات.

وأمّا الثالث : فلأنّ الصورة مفتقرة في فاعليّتها وتأثيرها إلى المادّة ؛ لأنّها إنّما تؤثّر إذا كانت موجودة شخصيّة ، وإنّما تكون كذلك إذا كانت مقارنة للمادّة ، فلو كانت الصورة هي المعلول الأوّل السابق على غيره ، لكانت مستغنية علّيّتها عن المادّة ، وهو محال.

فالحاصل : أنّ الصورة محتاجة في وجودها الشخصي إلى المادّة ، فلا تكون سابقة عليها وعلى غيرها من الممكنات ؛ لاستحالة اشتراط السابق باللواحق.

وإلى هذا أشار بقوله : « ولا سبق لمشروط » أي الصورة المشروطة « باللاحق » أي بالمادّة « في وجوده ».

وأمّا الرابع : فلأنّ النفس إنّما تفعل بواسطة البدن ، فلو كانت هي المعلول الأوّل لكانت علّة لما بعدها من الأجسام فتكون مستغنية في فعلها عن البدن ، فلا تكون

٣٣٥

نفسا بل عقلا ، وهو محال ؛ لأنّها مشروط تأثيرها بالأجسام ، فلو كانت سابقة عليها لكان السابق مشروطا باللاحق في تأثيره المستند إليه ، وهو محال ؛ لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه.

وإلى هذا أيضا أشار بقوله : « ولا سبق لمشروط » أي النفس المشروطة « باللاحق » أي الجسم « في تأثيره ».

وأمّا الخامس : فلأنّ العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر ، فلو كان المعلول الأوّل عرضا لكان علّة للجواهر كلّها ، فيكون السابق مشروطا في وجوده باللاحق ، وهو باطل بالضرورة.

وإليه أشار بقوله : « ولا سبق لمشروط باللاحق في وجوده ».

فالحاصل : أنّ الصورة والعرض مشروطان بالمادّة والجوهر ، فلا يكونان سابقين عليهما. والنفس إنّما تؤثّر بواسطة الجسم ، فلا تكون متقدّمة عليه تقدّم العلّة على المعلول ، وإلاّ لاستغنت في تأثيرها عنه. فتعيّن أن يكون المعلول الأوّل هو العقل ، وهو المطلوب.

إذا عرفت هذا الدليل ، فنقول ـ بعد تسليم أصوله ـ : إنّه إنّما يتمّ لو كان المؤثّر موجبا ، أمّا إذا كان مختارا فلا ؛ فإنّ المختار تتعدّد آثاره وأفعاله بتعدّد إرادته أو تعلّقاتها أو تعدّد متعلّقها كما ورد أنّه تعالى « خلق الأشياء بالمشيئة وخلق المشيئة بنفسها » (١). وسيأتي الدليل على أنّه مختار.

قال : ( وقولهم : استدارة الحركة توجب الإرادة المستلزمة للتشبّه بالكامل ؛ إذ طلب الحاصل فعلا أو قوّة يوجب الانقطاع ، وغير الممكن محال ؛ لتوقّفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه ، وعلى حصر أقسام الطلب ، مع المنازعة في امتناع طلب المحال ).

__________________

(١) « التوحيد » : ١٤٨ / ١٩ باب صفات الذات وصفات الأفعال ، و ٣٣٩ / ٨ باب المشيئة والإرادة.

٣٣٦

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدلّوا بها على إثبات العقول المجرّدة مع الجواب عنه.

وتقرير الدليل : أن نقول : حركات السماوات إراديّة ؛ لأنّها مستديرة ، لأنّ الحركة إمّا طبيعيّة أو قسريّة ، والمستديرة لا تكون طبيعيّة ؛ لأنّ المطلوب بالطبع لا يكون متروكا بالطبع ، وكلّ جزء من المسافة في الحركة المستديرة فإنّ تركه بعينه هو التوجّه إليه ، وإذا انتفت الطبيعيّة انتفت القسريّة ؛ لأنّ القسر على خلاف الطبع ، وحيث لا طبع فلا قسر ، فثبت أنّها إراديّة. وكلّ حركة إراديّة فإنّها تستدعي مطلوبا ؛ لأنّ العبث لا يدوم ، وذلك المطلوب يجب أن يستكمل الطالب به ، وإلاّ لم يتوجّه بالطلب نحوه.

وذلك المطلوب إمّا محسوس أو معقول ، لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّ طلب المحسوس إمّا أن يكون للجذب أو للدفع ، وجذب الملائم شهوة ودفع المنافر غضب ، وهما على الفلك محالان ؛ لأنّهما مختصّان بالجسم الذي ينفعل ويتغيّر من حالة ملائمة إلى غيرها وبالعكس ، والأجرام السماويّة لا تنخرق ولا تلتئم ولا تتغيّر من حالة إلى أخرى ، فتعيّن أن يكون ذلك المطلوب معقولا.

وذلك المعقول إمّا محال أو ممكن حاصل ، أو ممكن الحصول الذي لا ينال أصلا ، وهو المراد من الحاصل قوّة ، أو ينال مستقرّا أو متعاقبا مع الانتهاء أو بدون الانتهاء ، وطلب المحال محال ، وطلب ما ينال يوجب انقطاع الحركة ، وكذا ما لا ينال ؛ لحصول اليأس ، وكذا ما ينال مستقرّا أو متعاقبا مع الانتهاء ، كما سيأتي ، فتعيّن الأخير ، فإمّا أن يكون ذلك المطلوب كمالا في نفسه أو لا. والثاني محال ، وإلاّ لجاز انقطاع الحركة ؛ لأنّه لا بدّ وأن يظهر أنّ المطلوب ليس بكمال في ذاته فيترك الطلب ، وإذا كان المطلوب كمالا حقيقيّا فإمّا أن يحصل بالكلّيّة ، وهو محال ، وإلاّ لوقفت الحركة كما مرّ ، فيجب أن يحصل على التعاقب.

ولمّا كانت كمالات الفلك حاضرة بأسرها سوى الوضع ؛ لأنّه كامل في جوهره ،

٣٣٧

وباقي مقولاته غير الوضع ؛ فإنّ أوضاعه الممكنة ليست حاضرة بأسرها ؛ إذ لا وضع يحصل له إلاّ وهناك أوضاع لا نهاية لها معدومة عنه ، ولا يمكن حصولها دفعة ، فهي إنّما تحصل على التعاقب.

ثمّ إنّ الفلك لمّا تصوّر كمال العقل وأنّه لم يبق فيه شيء بالقوّة إلاّ وقد خرج إلى الفعل ، اشتاق إلى التشبّه به في ذلك ؛ ليستخرج باقيه من القوّة إلى الفعل ، ولمّا تعذّر ذلك دفعة استخرج كماله في أوضاعه على التعاقب.

فقد ظهر من هذا وجود عقل يتشبّه به الفلك في حركته ، فإن كان واحدا لزم تشابه الحركات الفلكيّة في الجهات والسرعة والبطء ، وليس كذلك ، فيجب وجود عقول متكثّرة بحسب تكثّر الحركات في الجهة والسرعة والبطء.

لايقال : لم لا يتحرّك لأجل نفع السافل؟ أو لم لا تختلف السرعة والبطء والجهة كذلك؟

لأنّا نقول : الفلكيّات أشرف من هذا العالم ، ويستحيل أن يفعل العالي شيئا لأجل السافل ، وإلاّ لكان مستكملا به ، فالكامل مستكمل بالناقص ، وهذا خلف ، فلا يمكن أن تكون الحركة في أصلها ولا في هيئتها لأجل نفع السافل.

وبالجملة ، فهذا تقرير الدليل.

والجواب : أنّ هذا مبنيّ على دوام الحركة ، وقد بيّنّا حدوث العالم فيجب انقطاعها ، فبطل هذا الدليل من أصله.

وأيضا فهذا الدليل يتوقّف على حصر أقسام الطلب ، والأقسام التي ذكروها ليست حاصرة ؛ لاحتمال كون طلب المحسوس لمعرفته أو نحوها.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون الطلب لما يستحيل حصوله أو لما هو حاصل ولا شعور للطالب بذلك ، ويمنع وجوب الشعور بذلك؟

ثمّ نقول : لا نسلّم أنّ الحركة الفلكيّة دوريّة فلم لا يتحرّك على الاستقامة؟

سلّمنا أنّها دوريّة ، لكنّ الحركة ليست مقصودة بالذات بل إنّها تراد لغيرها ،

٣٣٨

فلم حصرتم ذلك الغير في استخراج الأوضاع؟ ولم لا يجوز أن يكون للفلك كمالات غير الأوضاع معدومة كالتعقّلات المتجدّدة؟

وأيضا فلم أوجبتم الحركة في الوضع للتشبيه باستخراج أنواع الأوضاع ، ولم توجبوا استخراج باقي الأعراض من الكمّ والكيف؟ ولم أوجبتم وجود عقل يشبّه به الفلك ولم توجبوا وجود نور غيره؟ ولم لا يقال : إنّ خروج الأوضاع كمال مفقود ، فيتحرّك لطلبه من غير حاجة إلى متشبّه به؟

سلّمنا ، لكن لم أحلتم نفع السافل؟ وحديث الاستفادة ـ مع أنّه خطابيّ ـ غير لازم.

وبالجملة ، فهذا الوجه ضعيف جدّا.

إذا عرفت هذا ، فنرجع إلى تطبيق ألفاظ الكتاب :

فقوله : « وقولهم » يقرأ بالجرّ عطفا على قوله : « قولهم » في قوله : « كقولهم ».

وقوله : « استدارة الحركة توجب الإرادة » إشارة إلى ما نقلناه عنهم من أنّ الحركة المستديرة لا تكون إلاّ إذا أراد بها شيئا.

وقوله : « المستلزمة للتشبّه بالكامل » إشارة إلى أنّ الغاية من الحركة ليس كمالا لا يحصل دفعة ولا ممتنع الحصول ، بل هو التشبّه الحاصل على التعاقب.

وقوله : « إذ طلب الحاصل فعلا أو قوّة يوجب الانقطاع » إشارة إلى أنّ ذلك الكمال ليس حاصلا بالفعل وإلاّ لوقفت الحركة ، ولا بالقوّة التي يمكن حصولها دفعة أو نحو ذلك ؛ لذلك أيضا.

وقوله : « وغير الممكن محال » إشارة إلى أنّ الكمال إذا امتنع استحال طلبه.

وقوله : « لتوقّفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه » إشارة إلى بيان ضعف هذا الدليل ؛ فإنّه مبنيّ على دوام الحركة ، وقد بيّنّا وجوب انقطاعها حيث بيّنّا حدوثها.

وقوله : « على حصر أقسام الطلب » عطف على قوله : « على دوام » وإشارة إلى اعتراض ثان ، وهو أن نمنع حصر أقسام الطلب فيما ذكر.

وقوله : « مع المنازعة في امتناع طلب المحال » إشارة إلى اعتراض آخر ، وهو أنّا

٣٣٩

نمنع استحالة طلب المحال بجواز الجهل على الطالب.

قال : ( وقولهم (١) : لا علّيّة بين المتضايفين ، وإلاّ لأمكن الممتنع وعلّل الأقوى بالأضعف ؛ لمنع الامتناع الذاتي ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدلّوا بها على إثبات العقول.

وتقريره أن يقال : إنّ الأفلاك ممكنة فلها علّة ، فهي إن كانت غير جسم ولا جسمانيّ ثبت المطلوب.

وإن كانت العلّة أمرا جسمانيّا لزم الدور ؛ لتوقّفه على الجسم المتوقّف على علّة الأفلاك.

وإن كانت جسما ، فإمّا أن يكون الحاوي علّة للمحويّ أو بالعكس ، والثاني محال ؛ لأنّ المحويّ أضعف من الحاوي ، فلو كان علّة لزم تعليل الأقوى ـ الذي هو الحاوي ـ بالأضعف الذي هو المحويّ ، وهو محال. والأوّل ـ وهو أن يكون الحاوي علّة في المحويّ ـ محال أيضا.

وبيانه يتوقّف على مقدّمات :

إحداها : أنّ الجسم لا يكون علّة إلاّ بعد صيرورته شخصا معيّنا ، وهو ظاهر ؛ لأنّه إنّما يؤثّر إذا صار موجودا بالفعل ولا وجود لغير الشخص.

الثانية : أنّ المعلول حال فرض العلّة ووجوبها (٢).

الثالثة : أنّ الأشياء المتصاحبة لا تتخالف في الوجوب والإمكان.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لو كان الحاوي علّة للمحويّ لكان متقدّما بشخصه المعيّن على وجود المحويّ ، فيكون المحويّ حينئذ ممكنا ، فيكون انتفاء الخلاء ممكنا ؛ لأنّه

__________________

(١) لفظة « وقولهم » ساقطة من بعض نسخ « التجريد » ، والظاهر أنّها من سهو النسّاخ ، ويؤيّد ذلك أنّ الشارح رحمه‌الله قد أسقطها عند تطبيق ألفاظ الكتاب ، كما سيأتي في الصفحة ٣٤١.

(٢) كذا في الأصل ، والعبارة ـ كما يبدو ـ ناقصة. وفي « كشف المراد » : ١٨١ هكذا وردت : « الثانية : أنّ المعلول حال فرض وجود العلّة يكون ممكنا ، وإنّما يلحقه الوجوب بعد وجود العلّة ووجوبها ».

٣٤٠