البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

الفصل الأوّل : في الجواهر

الممكن إمّا أن يكون موجودا في الموضوع وهو العرض ، أو لا وهو الجوهر ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الأمور الكلّيّة المعقولة ، شرع في البحث عن الموجودات الممكنة ، وهي الجواهر والأعراض ، وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى : في قسمة الممكنات بقول كلّيّ.

اعلم أنّ كلّ ممكن موجود إمّا أن يكون موجودا لا في موضوع وهو الجوهر ، وإمّا أن يكون موجودا في موضوع وهو العرض.

ونعني بالموضوع المحلّ المتقوّم بذاته المقوّم لما يحلّ فيه ؛ فإنّ المحلّ إمّا أن يتقوّم بالحالّ ؛ أو يقوّم الحالّ ؛ إذ لا بدّ من حاجة أحدهما إلى الآخر ، والأوّل يسمّى المادّة ، والثاني يسمّى الموضوع. والحالّ في الأوّل يسمّى صورة ، وفي الثاني يسمّى عرضا.

فالموضوع والمادّة يشتركان اشتراك أخصّين تحت أعمّ واحد ، وهو المحلّ ؛ والصورة والعرض يشتركان اشتراك أخصّين تحت أعمّ واحد هو الحالّ ، والموضوع أخصّ من المحلّ ، وعدم الخاصّ أعمّ من عدم العامّ ، فكلّ ما ليس في محلّ ليس في موضوع ، ولا ينعكس ؛ ولهذا جاز أن يكون بعض الجواهر حالاّ في غيره كالصورة النوعيّة الحالّة في الهيولى.

ولمّا كان تعريف العرض يشتمل على القيد الثبوتي ، قدّمه في القسمة على الجوهر.

٢٦١

ولا يخفى أنّ الواجب خارج عن تعريف الجوهر حيث جعل المقسم هو الممكن ، بل قيل (١) : وكذلك إذا جعل المقسم الموجود المطلق ، كما وقع في عبارة الإمام (٢) ؛ لأنّ تعريف الجوهر حينئذ هو الموجود لا في موضوع ، ومعناه ماهيّة إذا وجدت كانت لا في موضوع ، وليس للواجب ماهيّة ووجود زائد عليها ؛ لأنّ وجوده عين ذاته.

وهكذا إذا جعلنا الجوهر عبارة عن محلّ العرض أو المتقوّم بنفسه ؛ لعدم كون الواجب محلّ العرض كما سيأتي ، وعدم كونه قابلا للقوام لاستلزامه الوجود بعد العدم ، وهو الحدوث المنافي لوجوب الوجود.

ولو تنزّلنا وسلّمنا عموميّة الجوهر ، فنقول : عدم الإطلاق للمنع الشرعي حذرا عن توهّم الإمكان من جهة الغلبة.

قال : ( وهو إمّا يفارق عن المادّة (٣) في ذاته وفعله وهو العقل ، أو في ذاته وهو النفس ، أو مقارن ، فإمّا أن يكون محلاّ وهو المادّة ، أو حالاّ وهو الصورة ، أو ما يتركّب منهما وهو الجسم ).

أقول : هذه قسمة الجوهر إلى أنواع ؛ فإنّ الجوهر إمّا أن يكون مفارقا في ذاته وفعله للمادّة والمحلّ المتقوّم بالحالّ بمعنى عدم احتياجه إليهما فيهما ، وهو المسمّى بالعقل ، أو مفارقا في ذاته لا في فعله ، وهو النفس الناطقة ، فإنّها مفارقة للمادّة في ذاتها وجوهرها دون فعلها ؛ لاحتياجها إلى الآلة في التأثير ، ولا يمكن أن يكون مفارقا في فعله غير ذاته ؛ لأنّ الاستغناء في التأثير يستدعي الاستغناء في الذات ، وإمّا أن يكون غير مفارق عن المادّة ، فإمّا أن يكون محلاّ لجوهر آخر وهو الهيولى ، أو حالاّ في جوهر آخر وهو الصورة ، أو يتركّب من الجوهرين : الحالّ والمحلّ وهو الجسم ، فهذه أقسام الجوهر.

__________________

(١) نسبه التفتازاني إلى القيل أيضا ، كما في « شرح المقاصد » ٢ : ١٤٣.

(٢) « المباحث المشرقيّة » ١ : ٢٣٥.

(٣) في « كشف المراد » : ١٣٩ العبارة هكذا : « وهو إمّا مفارق في ذاته ».

٢٦٢

قال : ( والموضوع والمحلّ يتعاكسان وجودا وعدما في العموم والخصوص.

وكذا الحالّ والعرض ).

أقول : قد بيّنّا أنّ الموضوع أخصّ مطلقا من المحلّ ، فعدمه يكون أعمّ من عدم المحلّ ؛ لأنّ نقيض الأخصّ مطلقا أعمّ مطلقا من نقيض الأعمّ مطلقا ، فقولنا : « الله تعالى ليس محلاّ للحوادث » ينفي كونه موضوعا أيضا من غير عكس. فقد يتعاكس الموضوع والمحلّ في العموم والخصوص باعتبار الوجود والعدم ، وكذا الحالّ والعرض ؛ فإنّ العرض أخصّ من الحالّ ، فعدمه أعمّ.

قال : ( وبين الموضوع والعرض مباينة ).

أقول الموضوع هو المحلّ المتقوّم بذاته المقوّم لما يحلّ فيه ، والعرض لا يتقوّم بذاته ، فبينهما مباينة.

قال : ( ويصدق العرض على المحلّ والحالّ جزئيّا ).

أقول : المحلّ قد يكون جوهرا وهو ظاهر ، وقد يكون عرضا كالحركة للسرعة ، على خلاف بين الناس فيه ، فيصدق « بعض المحلّ عرض ».

والحالّ أيضا قد يكون جوهرا كالصورة الحالّة في المادّة ، وقد يكون عرضا وهو ظاهر ، فيصدق « بعض الحالّ عرض ».

فقد ظهر صدق العرض على المحلّ والحالّ جزئيّا لا كلّيّا ، وكذا الجوهر.

المسألة الثانية : في أنّ الجوهر والعرض ليسا جنسين لما تحتهما.

قال : ( والجوهريّة والعرضيّة من ثواني المعقولات ؛ لتوقّف نسبة أحدهما إلى (١) الوسط ).

أقول : قال العلاّمة الحلّي رحمه‌الله : « اتّفق العقلاء على أنّ العرض من حيث هذا المفهوم

__________________

(١) في « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » : « على » بدل « إلى ».

٢٦٣

ليس جنسا لما تحته ، بل هو أمر عرضيّ ، واختلفوا في الجوهر هل هو جنس لما تحته أو عارض؟ فالذي اختاره المصنّف رحمه‌الله أنّه عارض ، وجعل الجوهريّة والعرضيّة من ثواني المعقولات ؛ فإنّ كون الذات مستغنية عن المحلّ أو محتاجة إليه أمر زائد على نفس الذات ومن الأمور الاعتباريّة وحكم من أحكامها الذهنيّة.

واستدلّ عليه بأنّ الذهن يتوقّف في نسبة أحدهما إلى الذات وحمله عليها على وسط وبرهان ، ولهذا احتجنا إلى الاستدلال على عرضيّة الكلّيّات (١) والكيفيّات وجوهريّة النفوس وأشباه ذلك ، وجنس الشيء لا يجوز أن يتوقّف ثبوته له على البرهان ؛ لأنّ ذاتيّ الشيء بيّن الثبوت لذلك الشيء » (٢).

وأنا أقول : يمكن أن يردّ ذلك الاستدلال بأنّ ذاتيّ الشيء إنّما يكون بيّن الثبوت له إذا كان ذلك الشيء متصوّرا بالكنه لا بالوجه ، كتصوّر النفس بكونها مدبّرة للبدن وأيضا المعقولات الثانية عبارة عمّا لا يعقل إلاّ عارضا لمعقول آخر ولم يكن في الأعيان ما يطابقه ، أو عبارة عن العوارض المخصوصة بالوجود الذهني ولم يصدق شيء منهما على الجوهر ، كما لا يخفى.

نعم ، الجوهريّة ـ بالياء والتاء المصدريّتين ـ مفهوم اعتباريّ يصدق عليه أنّه معقول ثان لا الجوهر ، ولهذا يعدّ الجوهر جنس الأجناس ، ويعرّف الجسم الطبيعي بالجوهر القابل للأبعاد الثلاثة ، بمعنى إمكان تحقّق الخطوط الثلاثة المتقاطعة على زوايا قوائم.

فإن قلت : لو كان الجوهر جنسا للجواهر لكان تمايزها بفصول ، على ما هو شأن الأنواع المندرجة تحت جنس ، فتلك الفصول إن كانت جواهر ، ننقل الكلام إلى ما به تمايزها فيلزم التسلسل وامتناع التعقّل ، وإن كانت أعراضا يلزم افتقار الجوهر

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : « الكمّيّات ».

(٢) « كشف المراد » : ١٤٠ ، وقد نقل عنه بتصرّف.

٢٦٤

إلى الموضوع.

قلت : ـ مضافا إلى النقض بغيره من الأجناس ، ولزوم كون النوع بلا جنس ـ : إنّ المراد أنّ الجوهر جنس لما تحته من الحقائق المحصّلة النوعيّة لا لكلّ ما يصدق عليه ، بل الجنس بالنسبة إلى الفصل الذي يحصّله عرض عامّ ، فلا يلزم التسلسل وامتناع التعقّل ، مع أنّ الذي ذكره رحمه‌الله يدلّ على الزيادة لا على كونه من المعقولات الثانية.

قال : ( واختلاف الأنواع في الأولويّة ).

أقول : هذا دليل ثان على كون الجوهر عرضا عامّا لجزئيّاته لا جنسا لها ؛ وذلك لأنّ بعض الجزئيّات أولى بالجوهريّة من بعض ولا تفاوت في الأجناس والذاتيّات ، وهو يدلّ على كون العرض أيضا عرضيّا ؛ لوقوع التفاوت فيه بين جزئيّاته فإنّ الأعراض القارّة أولى بالعرضيّة من غيرها.

وردّ بأنّا لا نسلّم اختلاف أنواعهما في حقيقة الجوهريّة والعرضيّة بالأولويّة وعدمها ، ولو سلّم فغايته عدم كونهما ذاتيّين لجميع ما تحتهما ، فجاز كونهما جنسين لبعض ما تحتهما من الأنواع.

قال : ( والمعقول اشتراكه عرضيّ ).

أقول : هذا دليل ثالث على عدم جنسيّتهما ، ومعناه أنّا نعقل بين الجسم والعقل والنفس والمادّة والصورة أمرا مشتركا ، أعني الاستغناء عن الموضوع ، ولا نعقل بينها اشتراكا في غيره ، وهذا القدر أمر عرضيّ مع أنّه أمر سلبيّ ؛ لأنّه عبارة عن عدم الحاجة إلى الموضوع ، والعدميّ لا يكون جنسا للأنواع المحصّلة ، فالجوهريّة إن جعلت عبارة عن هذا الاعتبار كانت عرضا عامّا ، وإن جعلت عبارة عن الماهيّة المقتضية لهذا الاعتبار ، فليس هاهنا ماهيّة للجسم وراء كونه جسما ، وكذلك البواقي ، وهذه الماهيّات تقتضي هذا الاعتبار وإن اختلفت مع اشتراكه.

وكذلك البحث في العرض ؛ فإنّا نعقل الاشتراك بين الكمّ والكيف وباقي

٢٦٥

الأعراض في الحاجة إلى المحلّ والعرضيّة في الوجود ، وهذا المعنى أمر اعتباريّ ، فليست العرضيّة جنسا لما تحتها.

وفيه : أنّ الجوهر والعرض كسائر الأجناس ممّا ينتزع منه أو يقوم به ذلك المعنى المصدري الذي يعتبر في التعريف الذي هو رسم لا حدّ.

المسألة الثالثة : في نفي التضادّ عن الجواهر.

قال : ( ولا تضادّ بين الجواهر ولا بينها وبين غيرها ).

أقول : لمّا فرغ من تعريف الجوهر والعرض وبيان أنّهما ليسا بجنسين ، شرع في باقي أحكامهما ، فبيّن انتفاء الضدّيّة عن الجواهر ، على معنى أنّه لا ضدّ للجواهر من الجواهر ولا من غيرها.

وبيانه : أنّ الضدّ هو الذات الوجوديّة المعاقبة لذات أخرى وجوديّة في الموضوع مع كونها في غاية البعد عنها ، وقد بيّنّا أنّ الجوهر لا موضوع له ، فلا يعقل فيه هذا المعنى لا بالنظر إلى جواهر أخر ولا بالنظر إلى غيره من الأعراض.

قال : ( والمعقول من الفناء العدم ).

أقول : لمّا بيّن انتفاء الضدّ من الجواهر ، أخذ يردّ على أبي هاشم وأتباعه ـ حيث جعلوا للجواهر أضدادا هي الفناء (١) ؛ فإنّه إذا خلق الفناء انتفت الأجسام بأسرها ، وهذا دليل التضادّ ـ فقال : « إنّ المعقول من الفناء العدم » وليس الفناء أمرا وجوديّا يضادّ الجواهر ؛ لأنّه إمّا جوهر أو عرض ، والقسمان باطلان ، فلا تحقّق له.

قال : ( وقد يطلق التضادّ على البعض باعتبار آخر ).

أقول : من اعتبر في التقابل امتناع الاجتماع في الموضوع ، حكم بأن لا تضادّ بين الجواهر ولا بينها وبين غيرها ؛ إذ الجوهر لا موضوع له.

__________________

(١) انظر : « شرح المقاصد » ٣ : ٨٧.

٢٦٦

ومن اعتبر المحلّ محلّ الموضوع ، أثبت التضادّ بين الصور النوعيّة للعناصر ، فقال : إنّ بعض الجواهر قد يطلق عليه أنّه ضدّ للبعض الآخر ، لكن يوجد التضادّ باعتبار آخر ، وهو التنافي في المحلّ مطلقا ، وحينئذ يكون بعض الصور الجوهريّة يضادّ البعض الآخر.

المسألة الرابعة : في أنّ وحدة المحلّ لا تستلزم وحدة الحالّ.

قال : ( ووحدة المحلّ لا تستلزم وحدة الحالّ إلاّ مع التماثل ، بخلاف العكس ).

أقول : المحلّ الواحد قد يحلّ فيه أكثر من حالّ واحد مع الاختلاف ، كالجسم الذي يحلّ فيه أعراض متعدّدة : السواد والحركة والحرارة ، وكالمادّة التي يحلّ فيها جوهران : الصورة الجسميّة والنوعية.

هذا مع الاختلاف ، وإمّا مع التماثل فإنّه لا يجوز أن يحلّ المثلان في محلّ واحد ؛ لاستلزامه رفع الاثنينيّة ؛ لانتفاء الامتياز بالذاتيّات واللوازم ؛ لاتّفاقهما فيهما على ما هو مقتضى التماثل ، وبالعوارض ؛ لتساوي نسبتها إليهما.

فقد ظهر أنّ وحدة المحلّ لا تستلزم وحدة الحالّ إلاّ مع التماثل. وأمّا العكس فإنّه يستلزم ؛ فإنّ وحدة الحالّ تستلزم وحدة المحلّ ؛ لاستحالة حلول عرض واحد أو صورة واحدة في محلّين وهو ضروريّ.

وكلام أبي هاشم من المعتزلة في التأليف (١) وبعض الأوائل من الفلاسفة (٢) في الإضافات خطأ ؛ فإنّ التأليف عرض واحد قائم بمجموع شيئين متجاورين صارا بالاجتماع محلاّ واحدا له ، كالوحدة القائمة بالعشرة الواحدة والحياة القائمة ببنية

__________________

(١) ذهب أبو هاشم إلى أنّ التأليف عرض واحد قائم بجوهرين فردين ، وأنّ هذا هو الموجب لصعوبة الانفكاك بين أجزاء الجسم. انظر « المحصّل » : ٢٦٧ ؛ « نقد المحصّل » : ١٨٢ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ١٥٠ ـ ١٥٢.

(٢) نسبه الرازي إلى جمع من قدماء الفلاسفة ، كما في « نقد المحصّل » : ٢٦٧ ونسبه التفتازاني إلى بعض القدماء ، كما في « شرح المقاصد » ٢ : ١٥٠.

٢٦٧

متجزّئة إلى أجزاء ونحو ذلك ، والكلام في امتناع قيام عرض واحد قائم بمحلّ بعينه بمحلّ آخر.

وأمّا الإضافات كالقرب القائم بالمتقاربين والجوار بالمتجاورين والأخوّة بالأخوين فوحدتها نوعيّة لا شخصيّة ؛ لأنّ قرب كلّ غير قرب الآخر شخصا وإن كان مثله نوعا ، وكذلك الجوار والأخوّة ، والكلام في الوحدة الشخصيّة لا النوعيّة ، كما لا يخفى.

قال : ( وأمّا الانقسام فغير مستلزم في الطرفين ).

أقول : يعني أنّ طبيعة انقسام المحلّ لا تستلزم انقسام الحالّ ؛ فإنّ الوحدة والنقطة والإضافات كالأبوّة والبنوّة أعراض قائمة بمحالّ منقسمة وهي غير منقسمة ، أمّا الوحدة والنقطة فظاهر ، وكذا الإضافات ؛ فإنّه لا يعقل حلول نصف الأبوّة والبنوّة في نصف ذات الأب أو الابن.

وذهب قوم (١) إلى أنّ انقسام المحلّ يقتضي انقسام الحالّ ؛ لاستحالة قيامه مع وحدته بكلّ واحد من الأجزاء ؛ لما ظهر من امتناع حلول الواحد الشخصي في محالّ متعدّدة كاستحالة حلوله في واحد منها فقط وانتفاء حلوله فيها ، فتعيّن حلول بعضه في بعضها ، فيكون منقسما إلى أجزاء متباينة في الوضع كالمحلّ.

وأمّا الحالّ فإنّه لا يقتضي انقسامه طبيعة انقسام المحلّ ؛ فإنّ الحرارة والحركة إذا حلّتا محلاّ واحدا ، لم يقتض ذلك أن يكون بعض المحلّ حارّا غير متحرّك ، وبعضه متحرّكا غير حارّ.

واعلم أنّ الأعراض السارية الحالّة حلولا سريانيّا ، كالسواد الحالّ في الجسم إذا حلّت محلاّ منقسما ، انقسمت بانقسامه ، والأعراض المنقسمة بالمقدار لا بالحقائق إذا حلّت محلاّ انقسم المحلّ بانقسامها ؛ فإنّ انقسام السواد إلى الأجزاء المقداريّة

__________________

(١) منهم الشيخ ابن سينا ، كما في « المباحثات » : ١٩٦ ، الرقم ٥٨٩ ـ ٥٩٠.

٢٦٨

يوجب انقسام الجسم إلى أجزاء كذلك ؛ لكون كلّ جزء من الحالّ في كلّ من المحلّ ، فالانقسام الذي لا يستلزم انقساما آخر انقسام إلى أجزاء غير متباينة في الوضع والإشارة الحسّيّة ، سواء كانت خارجيّة كالهيولى والصورة ، أو عقليّة كالجنس والفصل.

المسألة الخامسة : في استحالة انتقال الأعراض.

قال : ( والموضوع من جملة المشخّصات ).

أقول : قال العلاّمة : « الحكم بامتناع انتقال الأعراض قريب من البيّن ، والدليل عليه أنّ العرض إن لم يتشخّص لم يوجد ، فتشخّصه ليس معلول ماهيّته ولا لوازمها وإلاّ لكان نوعه منحصرا في شخصه ، ولا ما يحلّ فيه وإلاّ لاكتفى بموجده ومشخّصه عن موضوعه ، فيقوم بنفسه وهو محال. فتعيّن أن يكون معلول محلّه ، بمعنى كون الموضوع علّة تامّة لتشخّص العرض ووجوده ، فيستحيل انتقاله عنه ، وإلاّ لم يكن ذلك الشخص ذلك الشخص ؛ لانتفاء التشخّص الأوّل بانتفاء المشخّص الذي هو الموضوع المعيّن ، فلا بدّ من حصول تشخّص آخر فيحصل شخص آخر » (١).

وفيه نظر ؛ لإمكان كون المشخّص موجد المحلّ المعدّ بعد حصول القابليّة به ، وكون المحالّ المتعدّدة عللا متعاقبة ، كما نشاهد في الألوان السارية والريح المتعدّية.

قال : ( وقد يفتقر الحالّ إلى محلّ متوسّط ).

أقول : الحالّ قد يحلّ في الموضوع من غير واسطة ، كالحركة القائمة في الجسم ، وقد يفتقر إلى محلّ متوسّط فيه ثمّ يحلّ ذلك المحلّ في الموضوع كالسرعة القائمة بالجسم ؛ فإنّها تفتقر إلى حلولها في الحركة ، ثمّ تحلّ الحركة في الجسم.

__________________

(١) « كشف المراد » : ١٤٣ ، نقله بتصرّف.

٢٦٩

المسألة السادسة : في نفي الجزء الذي لا يتجزّأ.

قال : ( ولا وجود لوضعيّ لا يتجزّأ بالاستقلال ).

أقول : هذه مسألة اختلف الناس فيها.

بيان ذلك : أنّهم عرّفوا الجسم الطبيعي بـ « الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة » (١) وهي الخطوط الثلاثة المتقاطعة على زوايا قوائم ، المعبّر عنها بالعرض والطول والعمق ، وهي التي يطلق عليها الجسم التعليمي ؛ لكون أوّل التعليم في الأوائل متعلّقا بها.

والجسم الطبيعي إمّا مفرد لم يتألّف من أجسام أو مركّب متألّف من أجسام مختلفة ، كالحيوان ، أو غير مختلفة ، كالسرير.

والجسم المفرد قابل للانقسام ، فلا يخلو إمّا أن تكون جميع الانقسامات الممكنة حاصلة فيه بالفعل ، أو لا.

وعلى الأوّل تكون فيه (٢) أجزاء بالفعل قطعا ، ولا يكون شيء من تلك الأجزاء قابلا للانقسام ، وإلاّ لم تكن جميع الانقسامات حاصلة بالفعل ، وكلّ جزء من تلك الأجزاء يقال له : الجزء الذي لا يتجزّأ ، وقد اختلفوا فيها :

فذهب جماعة من المتكلّمين والحكماء إلى أنّ الجسم مركّب من أجزاء لا تتجزّأ (٣) ، ويقال لها : الجواهر المفردة ، بمعنى أنّ جميع الانقسامات الممكنة حاصلة فيه بالفعل. فذهب بعضهم إلى تناهيها ، كما عن جمهور المتكلّمين (٤) ، وبعضهم إلى عدمه ، كما عن النظّام (٥).

__________________

(١) انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٥.

(٢) في « ج » : « في » بدل « فيه ».

(٣) انظر : « المحصّل » : ٢٩٦ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٨ ـ ٩ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢١ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٥.

(٤) انظر : « المحصّل » : ٢٩٦ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٩.

(٥) انظر : « المحصّل » : ٢٩٦ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٩ و ٣٠ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٥.

٢٧٠

وذهب الباقون إلى أنّ الجسم بسيط في نفسه متّصل كاتّصاله عند الحسّ ، بمعنى أنّه لا يكون شيء من الانقسامات حاصلا فيه بالفعل ، لكنّه يقبل الانقسام إلى ما يتناهى ، كما عن محمد الشهرستاني (١) صاحب « الملل والنحل » (٢) أو إلى ما لا يتناهى ، كما عن جمهور الحكماء (٣).

وقد نفى المصنّف الجزء الذي لا يتجزّأ بقوله : « لا وجود لوضعي لا يتجزّأ بالاستقلال » وذلك لأنّ ما لا يتجزّأ من ذوات الأوضاع ـ أعني الأشياء المشار إليها بالحسّ ـ قد يوجد لا بالاستقلال ، كوجود النقطة في طرف الخطّ أو مركز الدائرة ، ولكن لا يمكن وجوده بالاستقلال ؛ لأنّ المتحيّز بالذات لا بدّ أن يكون ما يحاذى منه بعض الجهات كالفوق غير ما يحاذي منه بعضا آخر كالتحت ، فلا بدّ أن يكون منقسما في الجهات الثلاث ، فيستحيل وجود الجزء الذي لا يتجزّأ والخطّ الجوهري ، وكذا السطح الجوهري ، فيستحيل تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ.

وقد يتمسّك في إبطاله بما يدلّ على امتناع تركّب الجسم منها.

والمصنّف رحمه‌الله قد استدلّ عليه بوجوه :

قال : ( لحجب المتوسّط ).

أقول : هذا أحد الأدلّة على نفي الجزء.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا جوهرا متوسّطا بين جوهرين فإمّا أن يحجبهما عن التماسّ أو لا. والثاني باطل ، وإلاّ لزم التداخل وهو محال ، وإلاّ لم يفد التأليف زيادة في الحجم. والأوّل يوجب الانقسام ؛ لأنّ الطرف الملاقي لأحدهما مغاير للطرف الملاقي للآخر ، فيلزم خلاف المفروض.

__________________

(١) هو أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم بن أحمد ، الفيلسوف الأشعري ، له كتب كثيرة أشهرها « الملل والنحل » توفّي أواخر شعبان سنة ٥٤٨. انظر : « الكنى والألقاب » ٢ : ٣٧٤.

(٢) انظر : « نقد المحصّل » : ١٨٣ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٩ نقلا عن كتابه « المناهج والبيانات » ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢١ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٥.

(٣) « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٩ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢١ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٦.

٢٧١

قال : ( ولحركة الموضوعين على طرفي المركّب من ثلاثة ).

أقول : هذا وجه ثان.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا جسما مركّبا من ثلاثة جواهر أو نحوها من الأوتار ، ووضعنا على طرفيه جزءين ، تحرّك كلّ منهما متوجّها إلى الآخر حركة على السواء في السرعة والبطء والابتداء ، فلا بدّ أن يتلاقيا ، ولا يمكن أن يكون ذلك التلاقي بكون أحد الجزءين بأسره على الطرف ، والآخر بأسره على الوسط ؛ وإلاّ لم تتحقّق الحركتان فضلا عن تساويهما ، بل لا بدّ أن يكون شيء من الوسط مشغولا بأحدهما وشيء آخر منه مشغولا بالآخر ، فيلزم انقسامه قطعا ، وحيث كانت تلك الأجزاء غير متفاوتة في الحجم ، وجب أن يكون بعض من كلّ واحد من الجزءين على الوسط ، وبعض آخر منه على بعض من الطرف ، فيلزم انقسام تمام الخمسة مع فرضها غير منقسمة ، وهو محال لازم من وجود الجزء الذي لا يتجزّأ لا من غيره كفرض الاجتماع المذكور ، كما لا يخفى.

قال : ( أو من أربعة على التبادل ).

أقول : هذا وجه ثالث.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا جسما مركّبا من أربعة جواهر أو نحوها من الأشفاع ، ووضعنا على أحد طرفيه جزءا وتحت طرفه الآخر جزءا وتحرّكا على التبادل ـ بكون محلّ حركة كلّ منهما غير محلّ حركة الآخر وبدلا منه ، وبكون حركة كلّ منهما من أوّل الخطّ إلى آخره حركة على السواء في الابتداء والسرعة ـ فإنّهما لا يقطعان الخطّ إلاّ بعد المحاذاة ، فموضع المحاذاة إن كان هو الثاني أو الثالث كان أحدهما قد قطع الأكثر ، فلا بدّ وأن يكون بينهما ، وذلك يقتضي انقسام الجميع من الجزءين المتحرّكين والوسطين.

قال : ( ويلزمهم ما يشهد الحسّ بكذبه من التفكّك وسكون المتحرّك وانتفاء الدائرة ).

٢٧٢

أقول : هذه وجوه أخر تدلّ على نفي الجزء الذي لا يتجزّأ من مفاسد لازمة للقول به ، وأصحابه التزموها مع أنّ الحسّ يكذّبها :

أحدها : تفكيك أجزاء الرحى.

بيانه : أنّ الحسّ يشهد بأنّ المتحرّك على الاستدارة ـ كالرحى ـ باق على وضعه ونسبة أجزائه ، فإذا فرضنا خطّا خارجا من مركز الرحى إلى الطوق العظيم منها ، فذلك الخطّ يكون مركّبا من أجزاء لا تتجزّأ على هذا القول ، فإذا تحرّك الجزء الأبعد الواقع على الطوق جزءا واحدا من مسافته ، فالجزء الذي يلي المركز إمّا أن يتحرّك أقلّ من جزء أو جزءا أو يسكن.

وعلى الأوّل يلزم انقسام الجزء ، وهو خلاف الفرض.

وعلى الثاني يلزم تساوي حركة الجزء الذي على الطوق ومسافته مع الجزء الذي يلي المركز ، وهو محال بالضرورة.

وعلى الثالث يلزم انفصال الجزء الذي يلي المركز عن الجزء الذي على الطوق ، فيلزم تفكيك أجزاء الرحى ، وهو باطل بالضرورة.

الثاني : سكون المتحرّك.

بيانه أنّ السرعة والبطء كيفيّتان قائمتان بالحركة لا باعتبار تخلّل السكنات وعدمه ؛ لأنّه لو كان بسبب تخلّل السكنات ، لزم أن يكون فضل سكنات الفرس السائر من أوّل النهار إلى آخره خمسين فرسخا على حركاته ، بقدر فضل حركات الشمس من أوّل النهار إلى آخره على حركات الفرس ، لكن فضل حركات الشمس أضعاف أضعاف حركات الفرس ، فتكون سكنات الفرس أضعاف أضعاف حركاته ، لكنّ الحسّ يكذّب ذلك.

إذا ثبت هذا فنقول : إذا فرضنا أنّ فرسا ـ مثلا ـ سار من أوّل النهار إلى آخره خمسين فرسخا ، ولا شكّ أنّ الشّمس قد سارت في هذه المدّة نصف الدورة ، فعند حركة الشمس وقطعها مسافة مساوية لجزء واحد لا يخلو إمّا أن يتحرّك الفرس

٢٧٣

جزءا أو أقلّ أو يسكن.

والأوّل يوجب أن تكون حركة الفرس مساوية لحركة الشمس مع أنّ المسافة التي قطعتها الشمس زائدة على خمسين فرسخا بآلاف ألوف.

والثاني يوجب انقسام الجزء.

والثالث يوجب سكون المتحرّك دائما ولا أقلّ من أن يرى تارة ساكنا وأخرى متحرّكا ، لكنّا لا نحسّ سكونه أصلا.

الثالث : انتفاء الدائرة مع أنّها موجودة بالحسّ.

بيانه : أنّا لو قلنا بكون الخطّ مركّبا من الأجزاء التي لا تتجزّأ يلزم انتفاء الدائرة ؛ فإنّه لو فرضنا حينئذ دائرة ، فإمّا أن تتلاقى ظواهر أجزائها كما تلاقت بواطنها ، أو لا.

ولا سبيل إلى الأوّل ؛ إذ يلزم أن تكون مساحة ظاهرها كمساحة باطنها على هذا القول ، وكذا ظواهر الدوائر المحيط بعضها ببعض إلى أن تبلغ دائرة تساوي منطقة الفلك الأعظم ، فيلزم تساوي الدائرة العظيمة والصغيرة ، وهذا باطل بالضرورة.

وعلى الثاني ـ وهو عدم تلاقي ظواهرها مع تلاقي بواطنها ، مع لزوم الانقسام والتجزّي المنافي للقول بالجزء الذي لا يتجزّأ ـ يلزم كون ما فرض دائرة شكلا مضرّسا لا دائرة حقيقيّة ، فيلزم انتفاء الدائرة مع أنّ الحسّ يكذّبه.

واحتمال عدم إحساس ما به التضرّس كالذرّات المبثوثة مدفوع بأنّه إن كان أصغر من الجزء لزم انقسامه ، وإلاّ لزم إحساسه.

قال : ( والنقطة عرض قائم بالمنقسم باعتبار التناهي ).

أقول : هذا جواب عن حجّة من أثبت الجزء.

وتقريرها : أنّ النقطة موجودة ؛ لأنّها نهاية الخطّ ، فإن كانت جوهرا فهو المطلوب ، وإن كانت عرضا فمحلّها إن انقسم انقسمت ؛ لأنّ الحالّ في أحد الجزءين مغاير للحالّ في الآخر ، وإن لم ينقسم فهو المطلوب.

والجواب : أنّها عرض قائم بالمنقسم ، ولا يلزم انقسامها لانقسام المحلّ ؛ لأنّ

٢٧٤

الحالّ في المنقسم إذا كان حلوله من حيث ذاته المنقسمة يلزم من انقسام المحلّ انقسام الحالّ ، وإلاّ فلا. وهاهنا النقطة حلّت في المنقسم باعتبار عروض التناهي له.

قال : ( والحركة لا وجود لها في الحال ، ولا يلزم نفيها مطلقا ).

أقول : هذا جواب عن حجّة أخرى لهم ، وهي أنّ الحركة موجودة بالضرورة ، وهي من الموجودات غير القارّة ، فإمّا أن يكون وجودها في الحال أو في غيرها.

والثاني باطل ؛ لأنّ الماضي والمستقبل معدومان ، فلو لم تكن في الحال موجودة لزم نفيها مطلقا.

وإذا كانت موجودة في الحال ، فإن كانت منقسمة كان أحد طرفيها سابقا على الآخر ، فلا يكون الحاضر كلّه حاضرا ، وهذا خلف. وإن لم تكن منقسمة كانت المسافة غير منقسمة ؛ لأنّها لو انقسمت لانقسمت الحركة ؛ لأنّ الحركة في أحد الجزءين مغايرة للحركة في الجزء الآخر فتكون الحركة منقسمة ، مع أنّا فرضناها غير منقسمة.

والجواب : أنّ الحركة لا وجود لها في الحال ، ولا يلزم من نفيها في الحال نفيها مطلقا ؛ لأنّ الماضي والمستقبل وإن كانا معدومين في الحال لكن كلّ واحد منهما له وجود في حدّ نفسه ؛ فإنّ الماضي من الحركة موجود في الماضي من الزمان وإن لم يكن موجودا في الحال والاستقبال ، وكذا المستقبل من الحركة موجود في المستقبل من الزمان وإن لم يكن في الماضي والآن.

قال : ( والآن (١) لا تحقّق له خارجا ).

أقول : هذا جواب عن حجّة أخرى لهم ، وهي أنّ الآن موجود ؛ لانتفاء الماضي والمستقبل ، فإن كان الآن منفيّا كان الزمان منتفيا مطلقا ، ويستحيل انقسامه ، وإلاّ لزم

__________________

(١) الآن ـ بالألف واللام ـ : الوقت الحاضر ، وعند الحكماء هو نهاية الماضي وبداية المستقبل ، به ينفصل أحدهما عن الآخر ، فهو فاصل بينهما بهذا الاعتبار وواصل باعتبار أنّه حدّ مشترك بين الماضي والمستقبل ، به يتّصل أحدهما بالآخر. انظر : « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » ١ : ٧٤.

٢٧٥

أن يكون الحاضر بعضه ، فلا يكون الآن كلّه آنا ، وهذا خلف. وإذا كان موجودا فالحركة الواقعة غير منقسمة ، وإلاّ لكان أحد طرفيها واقعا في زمان والآخر في زمان آخر ، فينقسم ما فرضناه غير منقسم ، وهذا خلف.

ويلزم من عدم انقسام الحركة عدم انقسام المسافة ، على ما مرّ تقريره.

وتقرير الجواب : أنّ الماضي والمستقبل موجودان في حدّ نفسهما لا في شيء من الأزمنة ليلزم أن يكون للزمان زمان ، ويكون الشيء ظرفا لنفسه ، كما أنّ المكان موجود في نفسه وإن لم يكن موجودا في شيء من الأمكنة.

نعم ، هما معدومان في الآن لا مطلقا ، والآن لا تحقّق له في الخارج ، بل هو شيء منتزع من آخر الماضي وأوّل المستقبل.

قال : ( ولو تركّبت الحركة ممّا لا يتجزّأ لم تكن موجودة ).

أقول : لمّا فرغ من النقض شرع في المعارضة ، فاستدلّ على أنّ الحركة لا تتركّب ممّا لا يتجزّأ ؛ لأنّها لو تركّبت ممّا لا يتجزّأ لم تكن موجودة ، والتالي باطل اتّفاقا فكذا المقدّم.

بيان الشرطيّة : أنّ الجزء إذا تحرّك من جزء إلى جزء فإمّا أن يوصف بالحركة حال كونه في الجزء الأوّل وهو باطل ؛ لأنّه حينئذ لم يأخذ في الحركة ، أو حال كونه في الجزء الثاني وهو باطل أيضا ؛ لأنّ الحركة حينئذ قد انتهت وانقطعت ، ولا واسطة بين الأوّل والثاني ليوصف بالحركة فيها ، فيلزم عدم وجود الحركة ، وهو محال ، وهذا المحال نشأ من إثبات الجوهر الفرد (١) ؛ لأنّه على تقدير عدمه تثبت الواسطة.

ويمكن أن يقرّر بيان الشرطية من وجه آخر ، وهو أنّ الحركة إمّا أن تكون عبارة عن المماسّة الأولى أو الثانية وهما محالان ؛ لما مرّ ، أو مجموعهما وهو باطل ؛ لانتفائه.

__________________

(١) يطلق الجوهر عند الفلاسفة على عدّة معان ، فقد عرّفه ابن سينا في « النجاة » بأنّه كلّ ما وجود ذاته ليس في موضوع ، أي في محلّ قريب ، قد قام بنفسه دونه لا بتقويمه. أمّا الجوهر عند المتكلّمين فهو الجوهر الفرد المتميّز الذي لا ينقسم ، أما المنقسم فيسمّونه جسما لا جوهرا ؛ ولذا لا يطلقون اسم الجوهر على المبدأ الأوّل.

٢٧٦

قال : ( والقائل (١) بعدم تناهي الأجزاء يلزمه مع ما تقدّم (٢) النقض بوجود المؤلّف (٣) ممّا يتناهى ويفتقر في التعميم (٤) إلى التناسب (٥) ).

أقول : لمّا فرغ من إبطال مذهب القائلين بالجوهر الفرد ، شرع في إبطال مذهب القائلين بعدم تناهي الأجزاء فعلا كالنظّام ، فإنّه ومن يحذو حذوه لمّا وقفوا على أدلّة نفاة الجزء ـ كلزوم تفكيك الرحى ـ ولم يقدروا على ردّها ، اضطرّوا إلى الحكم بأنّ كلّ جسم فهو قابل للانقسام لا إلى نهاية. ولمّا كان مذهبهم أنّ حصول الانقسام من لوازم قبول الانقسام ، ظنّوا أنّ جميع الانقسامات التي لا تتناهى حاصل في الجسم بالفعل ، فصرّحوا بأنّ في الجسم أجزاء غير متناهية موجودة بالفعل ، فلزمهم القول بالجزء الذي لا يتجزّأ ؛ لأنّه إذا كان كلّ انقسام ممكن حاصلا فيه بالفعل ، فالانقسام الذي ليس بحاصل غير ممكن ، فتكون أجزاؤه غير قابلة للانقسام ، فقد وقعوا فيما كانوا هاربين عنه من إثبات الجزء ومفاسده ، مضافا إلى النقض بالجسم الذي فرض أنّه مركّب من أجزاء متناهية كالثمانية ، فإنّه جسم مع تناهي أجزائه.

وهذا هو الوجه الأوّل الدالّ على إبطال القول بعدم تناهي الأجزاء.

وأمّا قوله : « ويفتقر في التعميم إلى التناسب » فمعناه أنّا إذا أردنا تعميم القضيّة بأن يحكم أنّه لا شيء من الأجسام بمؤلّف من أجزاء غير متناهية فطريقه أن ينسب هذا المؤلّف الذي ألّفناه من الأجزاء المتناهية إلى بقيّة الأجسام ، فنقول : كلّ جسم فإنّه متناه في المقدار فله إلى هذا المؤلّف نسبة ، وهي نسبة متناهي المقدار إلى متناهي المقدار نعلم أنّ المقدار يزيد بزيادة الأجزاء أو ينقص بنقصانها ، فنسبة المقدار إلى المقدار كنسبة الأجزاء إلى الأجزاء ، لكن نسبة المقدار إلى المقدار نسبة متناه إلى

__________________

(١) أي النظّام. ( منه رحمه‌الله ).

(٢) من مفاسد إثبات الجزء. ( منه رحمه‌الله ).

(٣) أي الجسم الذي فرض أنّه مركّب من أجزاء متناهية كالثمانية. ( منه رحمه‌الله ).

(٤) أي الحكم بكون كلّ جسم متناهي الأجزاء. ( منه رحمه‌الله ).

(٥) أي ملاحظة كون نسبة حجم إلى حجم آخر كنسبة الأجزاء إلى الأجزاء في كونها نسبة المتناهي إلى المتناهي.

٢٧٧

متناه ، فكذا نسبة الأجزاء إلى الأجزاء فيكون كلّ جسم مؤلّفا من أجزاء متناهية.

قال : ( ويلزم عدم لحوق السريع البطيء ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني الدالّ على إبطال القول بعدم تناهي الأجزاء.

وتقريره : أنّ الجسم لو تركّب من أجزاء غير متناهية لزم أن لا يلحق السريع البطيء ، والتالي باطل بالضرورة ، فكذا المقدّم.

بيان الشرطية : أنّ البطيء إذا قطع مسافة ثمّ ابتدأ السريع وتحرّك فإنّه إذا قطع ذلك الجزء من المسافة يكون البطيء قد قطع جزأ من آخر ؛ لعدم تخلّل السكون بشهادة الحسّ ، فإذا قطع السريع جزءا قطع البطيء جزءا آخر وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فلا يلحق السريع البطيء.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه جار فيما إذا كان الأجزاء متناهية أيضا.

والأولى أن يجعل وجها لإبطال الجزء الذي لا يتجزّأ ، كما لا يخفى.

قال : ( وأن لا يقطع المسافة المتناهية في زمان متناه ).

أقول : هذا وجه ثالث قريب من الوجه الثاني.

وتقريره : أنّا لو فرضنا الجسم يشتمل على ما لا يتناهى من الأجزاء ، لزم أن لا يقطع المتحرّك المسافة المتناهية في زمان متناه ؛ لأنّه لا يمكن قطعها إلاّ بعد قطع نصفها ، ولا يمكنه قطع نصفها إلاّ بعد قطع ربعها ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فتكون هناك أزمنة غير متناهية ، فامتنع قطعها إلاّ في زمان غير متناه ، فيلزم أن لا يلحق السريع البطيء إذا توسّط بينهما مسافة قليلة ؛ ولهذا جعل الوجهان وجها واحدا.

قال : ( والضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل ).

أقول : اعلم أنّ القائلين بعدم تناهي الأجزاء اعتذروا عن الأوّل بالتداخل ، فقالوا : لا يلزم من عدم تناهي الأجزاء عدم تناهي المقدار ؛ لأنّ الأجزاء تتداخل باندراج بعضها في بعض من غير زيادة في الحجم ، فيصير جزءان أو أزيد جزءا واحدا وفي قدره ، فلا يلزم بقاء النسبة وكون نسبة الحجم إلى الحجم كنسبة الأجزاء إلى الأجزاء

٢٧٨

حتّى يلزم كون كلّ جسم مؤلّفا من أجزاء متناهية.

واعتذروا عن الوجهين الآخرين بالطفرة بأن يحاذي المتحرّك بعض أجزاء المسافة دون بعض ؛ فإنّ المتحرّك إذا قطع مسافة غير متناهية الأجزاء في زمان متناه فإنّه يطفر بعض الأجزاء فلا يحاذيه ويتحرّك عن البعض الآخر ، وكذلك السريع يطفر بعض الأجزاء فيلحق بالبطيء ، كما أنّ الشمس وقت طلوعها يبلغ ضوؤها إلى أقصى نصف كرة الأرض ونحو ذلك ، مع استحالة قطع هذه المسافة في الزمان اليسير.

ولا يخفى أنّ الضوء ليس جسما متحرّكا كما توهّموا ، بل الأجزاء الهوائيّة لكونها مستعدّة للاستضاءة تستضيء بتمام أجزائها بمجرّد المقابلة ، فيتوهّم حركة الضوء والشعاع.

وبالجملة ، فهذان العذران باطلان بالضرورة.

قال : ( والقسمة بأنواعها تحدث اثنينيّة تساوي طباع كلّ واحد منهما طباع المجموع ).

أقول : يريد أن يبطل مذهب ذيمقراطيس (١) في هذا الموضوع.

بيانه : أنّ القسمة إمّا أن توجب انفصالا في الخارج أو لا.

والأولى هي القسمة الانفكاكيّة المنقسمة إلى الكسريّة والقطعيّة بالاحتياج إلى الآلة المفصّلة بالنفوذ وعدمه.

والثانية هي القسمة الفرضيّة ، وربّما تسمّى وهميّة أيضا.

وقد يفرّق بينهما بأنّ الفرضيّة ما هو يفرض العقل كلّيّا ، والوهميّة ما هو بحسب المتوهّم جزئيّا.

والفرضيّة إمّا أن تكون بمجرّد الفرض من غير سبب حامل عليه أو تكون بسبب حامل عليه كاختلاف عرضين قارّين أو غير قارّين أو نحو ذلك.

__________________

(١) انظر : « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ١٨٤ ـ ١٨٧ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ١٨ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٥٤.

٢٧٩

وحيث لم تكن الأدلّة السابقة دالّة على أنّ كلّ جسم مفرد قابل للقسمة الانفكاكيّة ، بل إنّما تدلّ على أنّه قابل للقسمة الوهميّة ، أراد أن يبيّن أنّ كلّ جسم كما هو قابل للقسمة الوهميّة كذلك قابل للقسمة الانفكاكيّة ؛ فإنّ القسمة بأنواعها الثلاثة ـ أعني الانفكاكيّة والوهميّة والتي تكون من جهة اختلاف الأعراض الإضافيّة أو الحقيقيّة ـ تحدث في المقسوم اثنينيّة تكون طبيعة كلّ واحد من القسمين مساوية لطبيعة المجموع ولطبيعة الخارج عنه الموافق له في الماهيّة.

وكلّ واحد من القسمين لمّا صحّ عليه الانفكاك عن صاحبه وكذا كلّ واحد من قسمي القسمين إلى ما لا يتناهى ، فجواز القسمة الوهميّة ملزوم لجواز القسمة الانفكاكيّة ، فبطل مذهب ذيمقراطيس وأتباعه ، وهو أنّ مبادئ الأجسام البسيطة أجسام صغار صلبة متجزّئة في الوهم لا الخارج ، فالجسم المتّصل بالحقيقة غير قابل للانفصال الفكّي وما يقبله كالماء واتّصاله بحسب الحسّ لا بالحقيقة (١) ووجه البطلان واضح.

قال : ( وامتناع الانفكاك لعارض لا يقتضي الامتناع الذاتي ).

أقول : بعض الأجسام قد يمتنع عليه القسمة الانفكاكيّة لا بالنظر إلى ذاتها ، بل بالنظر إلى عارض خارج عن الحقيقة الجسميّة : إمّا صغر المقسوم بحيث لا يتناوله الآلة القاسمة ، أو صلابته ، أو حصول صورة تقتضي ذلك ، كما في الفلك عندهم ، ولكن ذلك الامتناع لا يقتضي الامتناع الذاتي ، فلا يلزم عدم كونه غير قابل للقسمة الانفكاكيّة.

قال : ( فقد ثبت أنّ الجسم شيء واحد متّصل يقبل الانقسام إلى ما لا يتناهى ).

أقول : هذا نتيجة ما مضى ؛ لأنّه قد أبطل القول بتركّب الجسم من الجواهر المفردة ، سواء كانت متناهية أو غير متناهية ، وثبت أنّه واحد في نفسه متّصل لا مفاصل له بالفعل ، ولا شكّ في أنّه يقبل الانقسام ، فإمّا أن يكون لما يتناهى من

__________________

(١) انظر : نفس المصادر المتقدّمة.

٢٨٠