البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

ومنها : أنّ الافلاك شفّافة ؛ لأنّها بسائط.

ونقض بالقمر ، ولأنّها غير حاجبة عمّا وراءها ؛ فإنّا نبصر الثوابت وهي في الفلك الثامن.

وردّ : بأنّه ـ مع أنّه لا يتمّ في الفلك الأعظم ، وينحصر في غيره ـ ظنّي لا يفيد اليقين ؛ لجواز صفائها ؛ فإنّ الصفيف غير حاجب كما في البلّور (١).

ومنها : أنّ الفلك محدّد للجهات ؛ لأنّ تحدّد الجهات ليس في خلاء لاستحالته ، ولا ملاء متشابه لا توجد فيه أمور متخالفة بالطبع وإلاّ لما كانت إحدى الجهتين مطلوبة والأخرى متروكة ، كما نشاهد في النار والهواء فإنّهما طالبان بالطبع للفوق وهاربان عن التحت ، وفي الأرض والماء فإنّهما بعكس النار والهواء. فإذن تحدّد الجهات في أطراف ونهايات خارجة عن الملاء المتشابه فيكون بجسم كرويّ ، وإلاّ لا تتحدّد به جهة السفل ؛ لأنّها عبارة عن غاية البعد عن جهة الفوق ، وغير الكرويّ لا تتحدّد به غاية البعد ، وإلاّ لتبدّلت جهة السفل بالنسبة إلى ما هو أبعد فصارت فوقا بالقياس إلى ذلك الأبعد ، فتأمّل.

ومنها : أنّ الفلك لا يقبل الكون والفساد والخرق والالتئام ، وإلاّ لزم كون حركته بالاستقامة ، والفلك لا يقبل الحركة المستقيمة ، مضافا إلى لزوم اختلاف الأجزاء في الحركة ، فبعضها إلى جهة وبعضها إلى أخرى ، ولا يتصوّر ذلك في البسيط الذي لا قاسر فيه.

وفيه أوّلا : أنّه لو تمّ لتمّ في الفلك الأعظم خاصّة.

وثانيا : أنّ مشيئة الله من جهة المعجزة قاسرة ، وهو على ذلك قادر على ما يشاء كما أنّه قادر على الإيجاد من كتم العدم ، فافهم.

ومنها : أنّ الفلك يتحرّك على الاستدارة دائما كما هو المشاهد بالعيان ومعلوم

__________________

(١) انظر : « كشف المراد » : ١٥٨.

٣٠١

بالرصد بمعنى أنّ له الحركة الوضعيّة ، لا مثل حركة الجوّالة ؛ فإنّها تسمّى مستديرة عرفا لا اصطلاحا ، بل هي في الحقيقة حركة أينيّة للجوّالة يتوهّم منها الاستدارة.

واستدلّ على ذلك بأنّ الحركة المستقيمة إلى غير النهاية تقتضي وجود بعد غير متناه ، وهو محال ، وبالرجوع تقتضي السكون فتكون مستديرة ، وهي حافظة للزمان ، بمعنى أنّ الزمان مقدار لها ومنتزع منها كما سيأتي ، فتكون دائمة غير منقطعة لئلاّ يلزم انقطاع الزمان ، فتأمّل.

ومنها : أنّ الفلك يتحرّك بالإرادة. وتمسّكوا فيه بأنّ الحركة إمّا طبيعيّة أو قسريّة أو إراديّة. والحركة الطبيعيّة هرب عن حالة منافرة وطلب لحالة ملائمة ، وذلك في الحركة المستديرة محال ؛ لأنّ كلّ وضع يتحرّك عنه الجسم بتلك الحركة فحركته عنه توجّه إليه ، والهرب عن الشيء استحال أن يكون توجّها إليه ، مع أنّها تستلزم السكون بعد الوصول إلى المطلوب ، ولا يجوز أن تكون حركة الفلك قسريّة ؛ لأنّ القسر على خلاف ميل يقتضيه الطبع ، وحيث لا طبع ولا قسر فتعيّن كونها إراديّة.

وفيه نظر ؛ لجواز كونها بمشيئة الله تعالى للمصلحة من غير ميل الطبيعة والإرادة.

ثمّ اعلم أنّ صور دوائر كرة العالم والأفلاك الكلّيّة والجزئيّة مسطورة هنا لسهولة الأمر على الطلبة ، وهي هذه :

٣٠٢

٣٠٣

٣٠٤

المسألة الثانية : في العنصريّات والبحث عن العناصر البسيطة.

قال : ( وأمّا العناصر البسيطة فأربعة : كرة النار ، والهواء ، والماء ، والأرض. واستفيد عددها من مزاوجات الكيفيّات الفعليّة والانفعاليّة ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الأجرام الفلكيّة ، شرع في البحث عن الأجسام العنصريّة.

اعلم أنّ العنصريّات على قسمين : بسيط ومركّب.

والبسيط أربعة : الأوّل : كرة النار التي هي أقربها إلى الفلك. الثاني : الهواء. الثالث : الماء. الرابع : الأرض.

ووجه عدم زيادة لفظ « الكرة » في الثلاثة الأخيرة : أنّ غير النار خرجت عمّا تقتضيه طبائعها من الكرويّة الحقيقيّة ، من جهة نحو التلال والجبال والأنهار في الأرض ، وإخراج ربع الأرض من الماء وارتفاع الأدخنة في الهواء ، فتكون الثلاثة معطوفة على « كرة النار » لا على « النار ».

ويمكن اعتبار الكرويّة الحسّيّة بناء على عدم قدح ما ذكرنا فيها ، فتكون معطوفة على « النار » ولهذا يقال : إنّ هذه الأربعة كرات ينطبق بعضها على بعض لبساطتها ، ولذا يكون خسوف القمر في وقت معيّن في بعض البلاد ولا يكون في بلد يخالفه في الطول في ذلك الوقت بعينه ، والسائر على خطّ من خطوط نصف النهار إلى الجانب الشمالي يزداد عليه القطب الشمالي وينخفض الجنوبي وبالعكس ، ونحو ذلك من الآثار الدالّة على الكرويّة.

وكيف كان فالعنصر في اللغة العربيّة بمعنى الأصل كالأسطقس في اللغة اليونانيّة.

وهذه الأربعة من حيث إنّها تتركّب منها المركّبات تسمّى أسطقسّات ، ومن حيث إنّها تنحلّ إليها المركّبات تسمّى العناصر ، ومن حيث إنّها ممّا يحصل بنضدها عالم الكون والفساد تسمّى أركانا ، ومن حيث إنّها ينقلب كلّ منها إلى الآخر تسمّى أصول

٣٠٥

الكون والفساد.

ووجه انحصار عدد العناصر والبسائط في الأربعة : الاستقراء ؛ فإنّهم وجدوا العناصر بطريق التركيب والتحليل أنّها لا تخلو عن برودة وحرارة ورطوبة ويبوسة ، ولم يجدوا ما يشتمل على واحدة منها فقط ، ولم يمكن اجتماع الأربعة والثلاثة ؛ للتضادّ بين الحرارة والبرودة ، وبين الرطوبة واليبوسة ، فتعيّن اجتماع اثنتين من الكيفيّات الأربع في كلّ بسيط عنصريّ بازدواج كيفيّة من الكيفيّتين الفعليّتين ، أعني الحرارة والبرودة ، بمعنى اجتماعها مع كيفيّة أخرى من الكيفيّتين الانفعاليّتين ، أعني الرطوبة واليبوسة ـ كما سيأتي وجه التسمية في الأعراض ـ بمعنى أنّ العنصر إمّا حارّ أو بارد ، وعلى التقديرين إمّا رطب أو يابس ، فاليابس الحارّ هو النار ولهذا طلبت العلو والمحيط ، والرطب الحارّ هو الهواء ، والبارد الرطب هو الماء ، والبارد اليابس هو الأرض ولهذا طلبت المركز.

وعلى هذا فلا يرد أنّه يجوز أن يكون فيما غاب عنّا عنصر خال عن الكيفيّات الأربع أو مشتمل على واحدة منها فقط.

وكيف كان فلها أحوال مشتركة ومختصّة :

منها : أنّ كلّ واحد منها يخالف الآخر في الصورة النوعيّة ، وإلاّ لشغل حيّز الآخر بالطبع ، والتالي باطل ؛ إذ كلّ واحد منها يهرب بطبعه عن حيّز غيره بالعيان.

ومنها : ما أشار إليه المصنّف حيث قال : ( وكلّ منها ينقلب إلى الملاصق وإلى الغير بواسطة أو بوسائط ).

أقول : المراد أنّ كلّ واحد من هذه العناصر الأربعة ينقلب إلى الآخر إمّا ابتداء وبلا واسطة أو بواسطة واحدة أو زائدة ، فالصور اثنتا عشرة حاصلة من مقايسة كلّ من الأربعة مع الثلاثة الباقية ، فستّة منها لا واسطة فيها ، وهي انقلاب الأرض ماء وبالعكس ، والماء هواء وبالعكس ؛ والهواء نارا وبالعكس.

وأمّا الستّة الباقية فبعضها يحصل بواسطة واحدة ، كانقلاب الأرض هواء

٣٠٦

وبالعكس ، والماء نارا وبالعكس. وبعضها يحصل بواسطتين ، وهو انقلاب الأرض نارا وبالعكس.

وعن الشيخ (١) أنّ الصاعقة تتولّد من أجسام ناريّة فارقتها السخونة وصارت لاستيلاء البرودة على جوهرها متكاثفة تنقلب النار إلى الأرض بلا واسطة أيضا ، كما يقال : إنّ النار القويّة تجعل الأجزاء الأرضيّة نارا.

نعم ، الغالب انقلاب العنصر إلى ملاصقه ابتداء وإلى البعيد بواسطته.

ويشهد على الانقلاب ما نشاهد من صيرورة النار هواء عند الانطفاء في المصباح ، فإنّ ما ينفصل من شعلته لو بقيت لرئيت ولأحرقت سقف الخيمة ؛ وصيرورة الهواء نارا عند إلحاح النفخ في كير الحدّادين إذا سدّت المنافذ التي يدخل فيها الهواء الجديد ؛ وصيرورة الهواء ماء لشدّة البرودة ، كما يرى في قلل الجبال من غير سحاب ، وفي الطاس المكبوب على الجمد ؛ فإنّه تركبه قطرات الماء ونحو ذلك ؛ والماء هواء بالحرّ ، كما في غليان القدر والثوب المبلول المطروح في الشمس ؛ وصيرورة الماء حجرا يقرب منه في الحجم ، كما يعاين في قرية من قرى « مراغة » من بلاد آذربايجان ؛ لانقلاب مائه حجرا مرمرا ؛ وصيرورة الحجر بالحيل الإكسيريّة ماء ، فقد يقال : إنّ أرباب الإكسير يتّخذون مياها حارّة ويحلّون فيها أجسادا صلبة حجريّة حتّى تصير مياها جارية.

قال : ( فالنار حارّة يابسة شفّافة متحرّكة بالتبعيّة ، لها طبقة واحدة وقوّة على إحالة المركّب إليها ).

أقول : هذا بيان للأحوال المختصّة بالنار ، وهي ستّ :

الأولى : أنّها حارّة بشهادة الحسّ في النار الموجودة عندنا ، فالنار الصرفة الخالية عن العائق بطريق أولى ؛ لوجود الطبيعة من غير مخالطة بما يتكيّف بالبرودة.

__________________

(١) « الشفاء » الطبيعيّات : ٧٠ ـ ٧١ ، الفصل الخامس من المقالة الثانية من الفنّ الخامس.

٣٠٧

الثانية : أنّها يابسة بشهادة الحسّ أيضا إن أريد باليبوسة ما لا يلتصق بغيره. وإن أريد ما يعسر به تشكّله بالأشكال الغريبة ، فالنار غير يابسة.

الثالثة : أنّها شفّافة ، وإلاّ لحجبت الأبصار عن إبصار الثوابت.

الرابعة : أنّها متحرّكة بتبعيّة حركة الفلك بدلالة حركة ذوات الأذناب حركة بطيئة فيما بين المشرق والشمال ، وبالحركة اليوميّة أيضا.

الخامسة : أنّها ذات طبقة واحدة ؛ لقوّتها على إحالة ما يمازجها لو فرض الممازجة ، فلا يوجد في مكانها غيرها.

السادسة : أنّ لها قوّة على إحالة المركّب إليها ـ ولو غالبا ـ كما هو المعلوم بالمشاهدة ، فعدم انفعال الحيوان المسمّى بسمندر بتأثير النار غير ضارّ.

قال : ( والهواء حارّ رطب شفّاف له أربع طبقات ).

أقول : هذا بيان للأحوال المختصّة بالهواء ، وهي أربع :

الأولى : أنّه حارّ ، له الكيفيّة الفعليّة ، كما عن الأكثر ؛ لأنّ الماء بالتسخين يصير هواء ، وإحساس البرودة من الهواء المجاور لأبداننا من جهة امتزاج الأبخرة المائيّة.

الثانية : أنّه رطب ، له الكيفية الانفعاليّة ، بمعنى سهولة قبول الأشكال ، لا بمعنى البلّة.

الثالثة : أنّه شفّاف ؛ إذ لا يمنع نفوذ الشعاع فيه ولا يحجب عمّا وراءه.

الرابعة : أنّه ذو طبقات أربع :

الأولى : طبقة ما يمتزج مع النار ، وهي التي تتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة عن السفل وتتكوّن فيه الكواكب ذوات الأذناب وما يشبهها.

الثانية : طبقة الهواء الغالب ، وهي التي تحدث فيها الشهب.

الثالثة : طبقة الهواء البارد الممتزج بالأجزاء المائيّة ولا يصل إليها أثر شعاع الشمس بالانعكاس من وجه الأرض ، وتسمّى طبقة زمهريريّة ، وهي منشأ السحب والرعد والبرق والصاعقة.

٣٠٨

الرابعة : طبقة الهواء الكثيف الذي يصل إليه أثر الشعاع ، ويستفيد كيفيّة البرد من مخالطة الأجزاء المائيّة ولا يبقى على صرافة برودتها المكتسبة منها ؛ لوصول أثر شعاع الشمس إليه بالانعكاس.

قال : ( والماء بارد رطب شفّاف محيط بثلاثة أرباع الأرض تقريبا ، له طبقة واحدة ).

أقول : هذا بيان لأحوال الماء ، وهي خمس :

الأولى : أنّه بارد بشهادة الحسّ عند زوال المسخّنات الخارجة ، ولا خلاف في ذلك ، ولكنّهم اختلفوا في أنّ الماء أبرد ؛ للحسّ من الأرض ، أو الأرض أبرد ؛ لأنّها أكثف وأبعد من المسخّنات والحركة الفلكيّة.

الثانية : أنّه رطب بمعنى البلّة وسهولة التشكّل معا.

وقيل : إنّه يقتضي الجمود ؛ لأنّه بارد بالطبع ، والبرد يقتضي الجمود ، وإنّما عرض السيلان له بسبب سخونة الأرض والهواء ، ولو خلّي وطبعه ، لاقتضى الجمود ، فتأمّل.

الثالثة : أنّه شفّاف ؛ لأنّه مع صرافته لا يحجب عمّا وراءه.

الرابعة : أنّه محيط بأكثر الأرض وهو ثلاثة أرباعها تقريبا بمقتضى تعادل العناصر وإحاطتها.

الخامسة : أنّه ذو طبقة واحدة ، وهو البحر المحيط.

قال : ( والأرض باردة يابسة ساكنة في الوسط شفّافة ، لها ثلاث طبقات ).

أقول : هذا بيان لأحكام الأرض ، وهي خمسة :

الأوّل : أنّها باردة ؛ لأنّها كثيفة ، ولأنّها لو خلّيت وطباعها ولم تسخّن بسبب غريب ، ظهر عنها برد محسوس.

الثاني : أنّها يابسة بشهادة الحسّ.

الثالث : أنّها ساكنة في الوسط خلافا لمن زعم أنّها متحرّكة إلى السفل ، ومن زعم أنّها متحرّكة إلى العلو ، ومن زعم أنّها متحرّكة بالاستدارة.

٣٠٩

والحقّ خلاف ذلك كلّه ، وإلاّ لما وصل الحجر المرميّ إليها إن كانت هاوية ، ولما نزل الحجر المرميّ إلى فوق إن كانت صاعدة ، ولما سقط على الاستقامة إن كانت متحرّكة على الاستدارة.

وأشار بقوله : « في الوسط » إلى الردّ على من زعم أنّها ساكنة بسبب عدم تناهيها من جانب السفل. ووجه الردّ أنّ الأجسام متناهية.

الرابع : أنّها شفّافة ، وفاقا لجماعة ذهبوا إلى أنّها بسيطة.

وأورد (١) عليه بأنّ الحكم بأنّ الأرض شفّافة يوجب الحكم بأن لا يقع خسوف أصلا ؛ لاقتضائه نفوذ شعاع الشمس في الأرض ، فأيّ شيء يحجب نورها من القمر؟ والحمل على ما لا لون له ولا ضوء خلاف الاصطلاح.

الخامس : أنّ لها طبقات ثلاثا :

الأولى : الأرض المخالطة لغيرها التي تتولّد منها الجبال والمعادن وكثير من النباتات والحيوانات.

الثانية : الطبقة الطينيّة.

الثالثة : الطبقة الصرفة ، وهي الأرض المحضة المحيطة بالمركز. ويشهد عليه الاستقراء والتدبّر ، فتدبّر.

المسألة الثالثة : في البحث عن المركّبات.

قال : ( وأمّا المركّبات فهذه الأربعة أسطقسّاتها ).

أقول : المركّب على قسمين :

الأوّل : الناقص ، وهو الذي لم تكن له صورة نوعيّة تحفظ تركيبه.

الثاني : المركّب التامّ ، وهو الذي له صورة نوعيّة تحفظ تركيبه سواء كان غير ذي

__________________

(١) الإيراد للقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١٧٣.

٣١٠

نشوء ونموّ وهو المعادن والجمادات ، أو ذا نشوء من غير حسّ وحركة وهو النباتات ، أو ذا نشوء وحسّ وحركة وهو الحيوانات. وهي المواليد الثلاثة (١).

والمركّب غير التامّ على أقسام ذكرها مع سببها بعض (٢) الحكماء العظام :

منها : السحاب والمطر ونحوه ، وسبب حدوثهما ـ على ما أفاد ـ أنّ الأجزاء الهوائيّة الممزوجة مع المائيّة الصغيريّة غير المحسوسة المسمّاة بالبخار إذا صعدت بالحرارة إلى الطبقة الزمهريريّة تبقى باردة فتصير متكاثفة ، فإن لم يكن البرد قويّا اجتمع ذلك البخار وتقاطر ، للثقل الحاصل من التكاثف والانجماد ، فالمجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر. وإن كان البرد قويّا ، فإن وصل قبل اجتماع أجزاء السحاب نزل ثلجا وإلاّ نزل بردا. وأمّا إذا لم يصل البخار إلى الطبقة الباردة الزمهريريّة ؛ لقلّة حرارته الموجبة للصعود ، فإن كان كثيرا فقد ينعقد سحابا ماطرا إذا أصابه برد ، وقد لا ينعقد ويسمّى ضبابا. وإن كان قليلا فإذا ضربه برد الليل ، فإن لم ينجمد فهو الطلّ ، وإن انجمد فهو الصقيع ، ونسبته إلى الطلّ كنسبة الثلج إلى المطر.

ومنها : الرعد والبرق ، وسببهما أنّ الدخان ـ الذي هو أجزاء ناريّة تخالطها أجزاء صغار أرضيّة تلطّفت بالحرارة ـ إذا ارتفع واحتبس فيما بين السحاب ، فما صعد إلى العلو لبقاء حرارته أو نزل إلى السفل لزوالها يمزّق السحاب تمزيقا عنيفا فيحصل صوت هائل هو الرعد ، وإن اشتعل الدخان لما فيه من الدهنيّة بالحركة العنيفة المقتضية للحرارة كان برقا إن كان لطيفا وينطفئ بسرعة ، وصاعقة إن كان غليظا ولا ينطفئ حتّى يصل إلى الأرض ، فربما يصير لطيفا ينفذ ولا يحرق ، وربّما كان كثيفا غليظا فيحرق كلّ شيء أصابه ويدكّ الجبل دكّا.

ومنها : الرياح ، فقد تكون بسبب تموّج الهواء الحاصل من اندفاع السحاب الثقيل

__________________

(١) وعلى ذلك يكون المقصود من المواليد الثلاثة : المعدن والنبات والحيوان.

(٢) هو أثير الدين المفضّل بن عمر الأبهري في « الهداية الأثيرية » ، انظر : « شرح الهداية الأثيرية » للميبدي : ١١٩ ـ ١٢٦ ، الفصل الثاني من الفنّ الثالث في العنصريّات.

٣١١

الموجب لتحرّك الهواء. وقد تكون لاندفاع يعرض بسبب تراكم السحب وتزاحمها وانتقالها من جهة إلى أخرى. وقد تكون لانبساط الهواء بالتخلخل واندفاعه من جهة إلى أخرى ، وكذا تكاثف الهواء الموجب لذلك. وقد تكون بسبب برد الدخان المتصاعد إلى الطبقة الزمهريريّة ونزوله.

وأمّا السموم المتكيّف بكيفيّة سمّيّة فهو لاحتراقه في نفسه بالأشعّة ، أو باختلاطه ببقيّة مادّة الشهب ، أو لمروره بالأرض الحارّة جدّا كالكبريتيّة.

وقد تحدث رياح مختلفة الجهة فترفع الأجزاء الأرضيّة ، فتنضغط بينها كأنّها تلتوي على نفسها وهي الأعصار.

ومنها : قوس قزح (١) ، وسببها ارتسام ضوء الشمس في أجزاء رشّية صغيرة صيقليّة متقاربة غير متّصلة مستديرة ، موجبة لانعكاس الشعاع البصري عن كلّ منها إلى الشمس ، فيرى ضوؤها ولونها دون شكلها إذا كان وراء تلك الأجزاء جسم كثيف كالجبل ، واختلاف ألوانها بسبب اختلاط ضوء النيّر وألوان الغمام المختلفة.

ومنها : الهالة ، وسببها ارتسام ضوء النيّر في أجزاء صغيرة صيقليّة غير متقاربة غير متّصلة مستديرة حول النيّر ، على وجه ينعكس الشعاع البصري من كلّ منها إلى النيّر ويرى ضوؤه من كلّ من تلك الأجزاء دون شكله ، وتدلّ على المطر قريبا أو بعيدا.

ومنها : الشهب ، وسببها أنّ الدخان إذا بلغ حيّز النار وكان لطيفا غير متّصل بالأرض اشتعل فيه النار فانقلب إلى النار ، وتلهّبت من طرفه العالي بسرعة حتّى يرى كالمنطفئ من جهة استحالة الأجزاء الأرضيّة نارا صرفة.

ومنها : الزلزلة وانفجار العيون ، وسببها أنّ البخار إذا احتبس في الأرض يميل إلى جهة ويتبرّد بها فينقلب مياها مختلطة بأجزاء أرضيّة فإذا كثر البخار بحيث لا تسعه

__________________

(١) وينشأ في السماء أو على مقربة من مسقط الماء من الشلاّل ونحوه ، ويكون من ناحية الأفق المقابلة للشمس وترى فيه ألوان الطيف متتابعة ، وسببه انعكاس أشعّة الشمس من رذاذ الماء المتطاير من ماء المطر ، أو من مياه الشلاّلات وغيرها من مساقط الماء المرتفعة.

٣١٢

الأرض أوجب انشقاق الأرض وانفجار العيون. وإذا غلظ البخار بحيث لا ينفذ في مجاري الأرض ـ أو كانت الأرض كثيفة عديمة المسامّ ، ـ اجتمع طالبا للخروج ولم يمكنه النفوذ فزلزلت الأرض. ومقتضى ما ورد من الأخبار غير ذلك.

ولعلّ سبب عدم ذكر المصنّف لتلك الأقسام عدم الاعتماد بكونها من الأسباب المذكورة ، كما يستفاد من الأدلّة الشرعيّة فتأمّل.

وأمّا المركّب التامّ فهو يحصل من هذه العناصر الأربعة باعتبار الكيفيّات الأربع ـ أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ـ بشهادة الاستقراء ، فكانت الأسطقسّات هذه العناصر الأربعة لا غير ، وهذه العناصر من حيث هي أجزاء العالم تسمّى أركانا ، ومن حيث إنّها تركّب عنها المركّبات من المعادن والنبات والحيوانات تسمّى أسطقسّات.

قال : ( وهي حادثة عند تفاعل بعضها في بعض ).

أقول : المركّبات عند محقّقي الأوائل (١) تحدث عند تفاعل هذه العناصر الأربعة بعضها في بعض بكيفيّاتها المختلفة ، فتحصل ـ ولو بالإفاضة من المبدأ ـ الكيفيّة المتوسّطة المتشابهة المسمّاة بالمزاج ، وذلك لا يتمّ إلاّ بالحركة المسبوقة بالزمان فتكون حادثة.

ومعنى تشابه الكيفيّة المزاجيّة أنّ الحاصل في كلّ جزء من أجزاء الممتزج يماثل الحاصل في الجزء الآخر ويساويه في الحقيقة النوعيّة من غير تفاوت إلاّ بالمحلّ ، حتّى أنّ الجزء الناريّ كالجزء المائيّ في الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة وكذا الهوائيّ والأرضيّ.

ومعنى توسّطها أن تكون أقرب إلى كلّ من الكيفيّتين المتقابلتين ممّا يقابلهما بسبب انكسار سورة الحرارة ـ مثلا ـ بسورة البرودة ، كما في صورة امتزاج الماء

__________________

(١) منهم الشيخ الرئيس في « الإشارات والتنبيهات » ، راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٧٥ ـ ٢٨١.

٣١٣

الحارّ بالبارد ، بمعنى أنّه يتسخّن بالقياس إلى البارد ويستبرد بالقياس إلى الحارّ.

وحكي عن بعض الحكماء (١) مثل انكساغورس (٢) وأتباعه [ ذهابهم ] إلى نفي ذلك وأنّهم قالوا : إنّ هاهنا أجزاء هي لحم وأجزاء هي عظام وغير ذلك من جميع المركّبات ، وهي مبثوثة في العالم غير متناهية ، فإذا اجتمعت أجزاء من طبيعة واحدة ظنّ أنّ تلك الطبيعة حدثت ، وليس كذلك بل تلك الطبيعة كانت موجودة والحادث التركيب لا غير.

والضرورة قاضية ببطلان هذه المقالة ؛ فإنّا نشاهد تبدّل ألوان وطعوم وروائح وغير ذلك من الصفات الحادثة.

قال : ( فتفعل الكيفيّة في المادّة فتكسر صرافة كيفيّتها وتحصل كيفيّة متشابهة في الكلّ متوسّطة هي المزاج ) (٣).

أقول : لمّا ذكر أنّ المركّبات إنّما تحصل عند تفاعل هذه العناصر بعضها في بعض شرع في كيفيّة هذا التفاعل.

واعلم أنّ الحارّ والبارد أو الرطب واليابس إذا اجتمعا وفعل كلّ منهما في الآخر أثرا لم يخل إمّا أن يتقدّم فعل أحدهما على انفعاله أو يقترنا ، ويلزم من الأوّل صيرورة المغلوب غالبا وهو محال ، ومن الثاني كون الشيء الواحد غالبا مغلوبا دفعة واحدة وهو محال ، فلم يبق إلاّ أن يكون الفاعل في كلّ واحد منهما غير المنفعل. فقيل : الفاعل هو الصورة ، والمنفعل هو المادّة (٤).

__________________

(١) الحاكي هو الخواجة في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٢) فيلسوف يوناني ، كان أوّل من أدخل الفلسفة إلى مدينة أثينا ، كي تصبح من بعد المهد الأكبر للفلسفة اليونانيّة ، ابتدأ من فكرة الوجود وأنكر فكرة التغيّر المطلق. وقد فسّر الحركة بإرجاعها إلى علّة غير مادّية ، هي العقل. لمزيد المعرفة راجع « موسوعة الفلسفة » ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٣) المزاج : كيفيّة متشابهة تحصل من تفاعل عناصر منافرة لأجزاء مماسّة ، بحيث تكسر سورة كلّ منهما سورة كيفيّة الآخر. كذا عرّفه الجرجاني في « التعريفات » : ٢٧٠ ، الرقم ١٣٤٢.

(٤) قال به الشيخ ابن سينا في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٧٥ و ٢٧٨.

٣١٤

وينتقض بالماء الحارّ إذا امتزج بالماء البارد واعتدلا ؛ فإنّ الفعل والانفعال بين الحارّ والبارد هناك موجود مع أنّه لا صورة تقتضي الحرارة في البارد.

وقيل : الفاعل هو الكيفيّة ، والمنفعل هو المادّة (١) ، مثلا : تفعل حرارة الماء الحارّ في مادّة الماء البارد فتكسر البرودة التي هي كيفيّة الماء البارد ، وتحصل كيفيّة متشابهة متوسّطة بين الحرارة والبرودة وهي المزاج. وهذا اختيار المصنّف رحمه‌الله.

وفيه نظر ؛ لأنّ المادّة إنّما تقبل (٢) في الكيفيّة الفاعليّة لا في غيرها ، ويعود البحث من كون المغلوب يصير غالبا أو اجتماع الغالبيّة والمغلوبيّة للشيء الواحد في الوقت الواحد بالنسبة [ إلى شيء واحد ] (٣) وهو باطل.

ولهذا ذهب جماعة ـ على ما حكي (٤) ـ إلى أنّه لا فعل ولا انفعال بين العناصر المجتمعة ، بل اجتماعها على صرافة كيفيّاتها معدّ تامّ لزوال تلك الكيفيّات الصرفة ووجود كيفيّة أخرى متوسّطة بينها فائضة من المبدأ على تلك العناصر.

قال : ( مع حفظ صور البسائط ).

أقول : نقل عن الشيخ في هذا الموضع أنّه قال في كتاب « الشفاء » : إنّ هنا مذهبا غريبا ، وهو أنّ البسائط إذا اجتمعت وتفاعلت بطلت صورها النوعيّة المقوّمة لها ، وحدثت صورة أخرى نوعيّة مناسبة لمزاج ذلك المركّب.

واحتجّوا بأنّ العناصر لو بقيت على طبائعها حتّى اتّصف الجزء الناريّ ـ مثلا ـ بالصورة اللحميّة ، أمكن أن تعرض للنار بانفرادها أيضا ، فتصير النار البسيطة لحما.

__________________

(١) قال به أثير الدين الأبهري ، وهو ما ذهب إليه بعض المحقّقين ، كما عن الميبدى في « شرح الهداية الأثيرية » : ١١٩.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : « تنفعل ».

(٣) الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : ١٦٤. وهي موجودة في الأصل ، لكن شطب عليها.

(٤) الحاكي هو القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١٧٥.

٣١٥

وأبطله الشيخ بأنّ هناك كونا وفسادا وامتزاجا والمزاج إنّما يكون عند بقاء الممتزجات ، وبأنّ الكاسر باق عند انكسار الكيفيّات.

ونقض ما ذكروه بوروده عليهم ؛ لأنّ مذهبهم أنّ الجزء الناريّ تبطل ناريّته عند امتزاجه ويتّصف بالصورة اللحميّة ، فيجوز عروض هذا العارض للنار البسيطة ، فإن شرطوا التركيب كان هو جوابنا ، فلا بدّ من كون صور البسائط محفوظة (١).

قال : ( ثمّ تختلف الأمزجة في الإعداد بحسب قربها وبعدها من الاعتدال ).

أقول : العناصر المتعدّدة إذا امتزجت وتفاعلت بكيفيّاتها على الوجه المذكور واستقرّت على كيفيّة وحدانيّة ، صارت واحدة من هذه الجهة ، فيحصل ـ ولو بإفاضة المبدأ ـ ما يحفظ تركيبها ويقرّها على الاجتماع وعدم الافتراق سريعا ، كما هو مقتضى طباعها ، ومن هذا يطلق عليه الجبّار ، كما يظهر من بعض الأخبار.

وتلك الكيفيّة المسمّاة بالمزاج تختلف باختلاف الامتزاج ، ولهذا تكون للمركّبات أمزجة متعدّدة مختلفة متفاوتة بحسب القرب من الاعتدال والبعد عنه في الإعداد ، فتتفاوت محالّها في الاستعداد ، فهي المعدّة لقبول المركّب للصورة والقوى المعدنيّة والنباتيّة والحيوانيّة ؛ إذ المركّبات كلّها اشتركت في الطبيعة الجسميّة ، ثمّ اختلفت في القوى ، فبعضها اتّصف بصورة حافظة لبسائطه عن التفرّق جامعة لمتضادّات مفرداته من غير أن تكون مبدأ لشيء آخر ، وهذه هي الصورة المعدنيّة. وبعضها اتّصف بصورة تفعل ـ مع ما تقدّم ـ التغذية والتنمية والتوليد لا غير ، وهي النفس النباتيّة. وبعضها اتّصف بصورة تفعل ـ مع ذلك ـ الحسّ والحركة الإراديّة ، وهي النفس الحيوانيّة. فلا بدّ وأن يكون هذا الاختلاف بسبب اختلاف القوابل المستندة إلى

__________________

(١) « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ١٣٣ ـ ١٣٩ ، وخلاصة كلام الشيخ هنا هو ما ذكره بهمنيار في « التحصيل » : ٦٩٣ من أنّ الجواهر العنصريّة ثابتة في الممتزج بصورها متغيّرة في كيفيّاتها فقط ، وكيف لا تكون ثابتة فيه والمركّب إنّما هو مركّب عن أجزاء فيه مختلفة ، وإلاّ لكان بسيطا لا يقبل الأشدّ والأضعف. وأمّا كيفيّاتها ولواحقها فتكون قد توسّطت ونقصت عند حدّ الصرافة.

٣١٦

اختلاف الاستعداد المستفاد من اختلاف الأمزجة بسبب قربها وبعدها عن الاعتدال ، فكلّ ما كان مزاجه أقرب إلى الاعتدال قبل نفسا أكمل.

قال : ( مع عدم تناهيها بحسب الشخص وإن كان لكلّ نوع طرفا إفراط وتفريط ، وهي تسعة ).

أقول : الأمزجة تختلف باختلاف صغر أجزاء البسائط وكبرها ، وهذا الاختلاف بسبب الصغر والكبر غير متناه ، فكانت الأمزجة أيضا كذلك غير متناهية بحسب الشخص وإن كان لكلّ نوع طرفا إفراط وتفريط ؛ فإنّ نوع الإنسان ـ مثلا ـ له مزاج خاصّ معتدل بين طرفين هما إفراط وتفريط ، لكن ذلك المزاج الخاصّ (١) يشتمل على ما لا يتناهى من الأمزجة الشخصيّة ولا يخرج عن حدّ المزاج الإنساني ، وكذلك كلّ نوع من الأنواع المركّبة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الأمزجة تسعة ؛ لأنّ البسائط إمّا أن تتساوى في المزاج وهو المعتدل ، أو يغلب أحدهما فإمّا الحارّ مع اعتدال الانفعاليّين ، أو البارد معه ، أو الحارّ مع غلبة الرطب ، أو اليابس ، أو البارد معهما ، أو يغلب الرطب مع اعتدال الفعليّين ، أو اليابس معه. وهي تسعة : واحد منها الاعتدال ، وأربعة منها الخروج عن الاعتدال في كيفيّة مفردة من الكيفيّات الأربع ، وأربعة أخرى الخروج عن الاعتدال في كيفيّتين غير متضادّتين ، أحدها في الحرارة واليبوسة ، وثانيها في الحرارة والرطوبة ، وثالثها في البرودة واليبوسة ، ورابعها في البرودة والرطوبة.

__________________

(١) أي المزاج الخاصّ النوعي.

٣١٧
٣١٨

[ الفصل الثالث : في بقيّة أحكام الأجسام ]

قال : ( الفصل الثالث : في بقيّة أحكام الأجسام ، وتشترك الأجسام في وجوب التناهي ؛ لوجوب اتّصاف ما فرض له ضدّه به عند مقايسته بمثله مع فرض نقصانه عنه ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن أقسام الأجسام وانجرّ البحث عنها إلى البحث عن بعض أحكامها ، شرع في البحث عن باقي أحكامها.

وهذا الفصل يشتمل على مسائل :

المسألة الأولى : في تناهي الأجسام وأنّ الأجسام كلّها متناهية الأبعاد.

اعلم أنّه اتّفق أكثر العقلاء على ذلك ، وإنّما خالف فيه حكماء الهند على ما حكي (١) عنهم.

واستدل المصنّف رحمه‌الله على ذلك بوجهين :

الأوّل : برهان التطبيق.

وتقريره : أنّ الأبعاد لو كانت غير متناهية يلزم أن تكون متناهية ، وكلّ ما يلزم من فرضه عدمه يكون محالا ، فوجود بعد غير متناه محال.

بيان ذلك أنّه يمكن أن نفرض خطّين غير متناهيين مبدؤهما واحد ، ثمّ نفصل من أحدهما قطعة أو مع كون فرض أحد الخطّين بعد الآخر بذراع مثلا ، ثمّ نطبّق أحد

__________________

(١) حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : ١٦٧.

٣١٩

الخطّين على الآخر بأن يجعل مبدأ أحدهما مقابلا لأوّل الآخر ، وثاني الأوّل مقابلا لثاني الثاني ، والثالث للثالث وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فإن استمرّا كذلك كان الناقص مثل الزائد وهو محال ، وإن انقطع الناقص انقطع الزائد ؛ لأنّ الزائد إنّما زاد بمقدار متناه وهو القدر المقطوع مثلا ، والزائد على المتناهي بقدر متناه يكون متناهيا فالخطّان متناهيان ، فيلزم تناهيهما على تقدير لا تناهيهما ، فيكون لا تناهيهما محالا ، وهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فنرجع إلى ألفاظ الكتاب ، فقوله : « وتشترك الأجسام في وجوب التناهي » إشارة إلى الدعوى مع [ التنبيه ] (١) على كون هذا الحكم واجبا لكلّ جسم.

وقوله : « لوجوب اتّصاف ما فرض له ضدّه عند مقايسته بمثله » معناه لاتّصاف الخطّ الناقص ـ الذي فرض له ضدّ التناهي وفرض أنّه غير متناه ـ بالتناهي عند مقايسته بالخطّ الكامل المماثل له في عدم المتناهي. ومعنى المقايسة هنا مقابلة كلّ جزء من الناقص بجزء من الكامل.

وقوله : « مع فرض نقصانه عنه » يعني فرض قطع شيء من الخطّ الناقص حتّى صار ناقصا أو فرضه بعد الكامل ، كما أشرنا إليه.

قال : ( ولحفظ النسبة بين ضلعي الزاوية وما اشتملا عليه مع وجوب اتّصاف الثاني به ).

أقول : هذا هو الدليل (٢) الثاني على تناهي الأبعاد.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا زاوية خرج ضلعاها إلى ما لا يتناهى على الاستقامة ، فإنّ النسبة بين زيادة الضلعين وزيادة الأبعاد التي اشتمل عليها الضلعان محفوظة بحيث كلّما زاد الضلعان زادت الأبعاد على نسبة واحدة ، بمعنى أنّه إذا امتدّا عشرة أذرع ـ مثلا ـ وكان بعد ما بينهما حينئذ ذراعا مثلا ، لا بدّ أن يكون بعد ما بينهما ـ بعد

__________________

(١) في الأصل : « البيّنة » وما أثبتناه موافق لما في « كشف المراد » : ١٦٨.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : « الوجه الثاني ».

٣٢٠