البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

والمشترك بينهما هو الشيئيّة » (١).

فإن أراد حمل الشيئيّة على القدر المشترك وصدقها عليه ، فهو صواب ، وإلاّ فهو ممنوع.

إذا عرفت هذا ، فنقول : الشيئيّة والذاتيّة والجزئيّة وأشباهها من المعقولات الثانية ، وهي ما لا يعقل إلاّ عارضا لمعقول آخر ، وليست متأصّلة في الوجود كتأصّل الحيوانيّة والإنسانيّة فيه ، بل هي تابعة لغيرها في الوجود من غير أن يكون لها وجود خارجيّ أصيل ، وإلاّ لكانت لها شيئيّة أخرى وتسلسلت الموجودات الخارجيّة ، وليست الشيئيّة المطلقة ـ التي لم تقيّد بما يعرضها ـ ثابتة في العقل ، بمعنى أنّها لا تعقل غير عارضة لأمر ، بل هي إنّما تعقل عارضة لخصوصيّات الماهيّات المعقولة ، كما هو شأن المعقولات الثانية ، فلا يكون شيء مطلق ثابتا ؛ لأنّ الشيئيّة تصدق على الوجود ، وليست نفسه حتّى يرد أنّه مناف لما سبق من أنّ الوجود قد يؤخذ على الإطلاق.

المسألة السادسة عشرة : في تمايز الأعدام وحكمها.

قال : ( وقد تتمايز الأعدام ؛ ولهذا استند عدم المعلول إلى عدم العلّة لا غير ، ونافى عدم الشرط وجود المشروط ، وصحّح عدم الضدّ وجود الآخر ، بخلاف باقي الأعدام ).

أقول : لا شكّ في أنّ الملكات متمايزة.

وأمّا العدمات (٢) فقد منع قوم من تمايزها بناء على أنّ التميّز إنّما يكون للثابت خارجا (٣).

__________________

(١) نقله عنه في « كشف المراد » : ٤٢.

(٢) كذا ، وصوابه : الأعدام.

(٣) « شرح المواقف » ٢ : ١٨٤ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٣٨٢ وما بعدها ؛ « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة ١٦.

١٢١

وهو خطأ ؛ فإنّها تتمايز بتمايز ملكاتها.

واستدلّ المصنّف رحمه‌الله بوجوه ثلاثة :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ عدم المعلول يستند إلى عدم العلّة ، ولا يستند إلى عدم غيرها ، فلو لا امتياز عدم العلّة عن عدم غيرها ، لم يكن عدم المعلول مستندا إليه دون غيره.

وأيضا فإنّا نحكم بأنّ عدم المعلول لعدم علّته ، ولا يجوز العكس ، فلو لا تمايزهما لما كان كذلك.

[ الوجه ] الثاني : أنّ عدم الشرط ينافي وجود المشروط ؛ لاستحالة الجمع بينهما ، لأنّ المشروط لا يوجد إلاّ مع شرطه ، وإلاّ لم يكن الشرط شرطا. وعدم غيره لا ينافيه ، فلو لا الامتياز لم يكن كذلك.

[ الوجه ] الثالث : أنّ عدم الضدّ عن المحلّ يصحّح وجود الضدّ الآخر فيه ؛ لانتفاء صحّة وجود الضدّ الطارئ مع وجود الضدّ الباقي. وعدم غيره لا يصحّح ذلك ، فلا بدّ من التمايز.

قال : ( ثمّ العدم قد يعرض لنفسه فتصدق النوعيّة والتقابل عليه باعتبارين ).

أقول : العدم قد يفرض عارضا لغيره ، وقد يلحظ لا باعتبار عروضه للغير ، فيكون أمرا معقولا قائما برأسه ، ويكون له تحقّق في الذهن.

ثمّ إنّ العقل يمكنه فرض عدمه ؛ لأنّ الذهن يمكنه إلحاق الوجود والعدم بجميع المعقولات حتّى بنفسه ، فإذا اعتبر العقل العدم ماهيّة معقولة وفرضه معدوما ، كان العدم عارضا لنفسه ، ويكون العدم العارض للعدم مقابلا لمطلق العدم باعتبار كونه رافعا له وعدما له ، ونوعا منه باعتبار أنّ العدم المعروض أخذ مطلقا على وجه يعمّ العارض له ولغيره ، فتصدق نوعيّة العدم العارض للمعروض ، والتقابل بينهما باعتبارين.

قال : ( وعدم المعلول ليس علّة لعدم العلّة في الخارج وإن جاز في الذهن ، على أنّه برهان إنّيّ وبالعكس لمّيّ ).

١٢٢

أقول : لمّا بيّن أنّ الأعدام متمايزة ـ بأنّ عدم المعلول يستند إلى عدم العلّة ـ ذكر ما يصلح جوابا لوهم من يعكس القول ، ويجعل عدم المعلول علّة لعدم العلّة ، فأزال هذا الوهم وقال : « إنّ عدم المعلول ليس علّة لعدم العلّة » كما في حركة اليد وحركة المفتاح ، بل الأمر بالعكس على ما يأتي.

ثمّ قيّد النفي بالخارج ؛ لأنّ عدم المعلول قد يكون علّة لعدم العلّة في الذهن كما في برهان الإنّ بأن يكون عدم المعلول أظهر عند العقل من عدم العلّة ، فيستدلّ العقل عليه ، ويكون علّة له باعتبار التعقّل ، لا باعتبار الخارج. ولا يفيد العلّيّة في نفس الأمر ، بل في الذهن ، ولهذا سمّي إنّيّا ؛ لأنّه لا يفيد إلاّ الوجود الذهني.

أمّا الاستدلال بعدم العلّة على عدم المعلول فهو برهان لمّيّ مطابق لنفس الأمر.

بيان ذلك : أنّ الحدّ الأوسط في البرهان لا بدّ أن يكون علّة لحصول التصديق بالحكم الذي هو المطلوب ، وإلاّ لم يكن برهانا على ذلك المطلوب ، فإن كان مع ذلك علّة لثبوت ذلك الحكم في الخارج أيضا ، فالبرهان لمّيّ ، وإلاّ فإنّيّ ، سواء كان الأوسط معلولا لثبوت الحكم في الخارج أم لا.

ووجه التسمية باللمّيّ : أنّ اللمّيّة هي العلّيّة من « لم » سؤالا عن علّة الحكم ، فالبرهان المنسوب إلى العلّة يسمّى لمّيّا. وبالإنّيّ : أنّ الإنّيّة هي الثبوت من « إنّ ، للتحقيق » فالبرهان الحاصل من ثبوت المعلول الدالّ على ثبوت العلّة يسمّى إنّيّا.

وكيف كان فعلّة الثبوت تسمّى سببا مقتضيا ، وعلّة الإثبات برهانا ، فإن كان علّة الإثبات عين علّة الثبوت يسمّى « برهانا لمّيّا » وإن كان أثرها يسمّى « برهانا إنّيّا » لما مرّ.

قال : ( والأشياء المترتّبة في العموم والخصوص وجودا تتعاكس عدما ).

أقول : يعني أنّ كل أمرين بينهما عموم وخصوص مطلق بحسب اعتبار المعنى الوجودي يتعاكس في العموم والخصوص عند اعتبار عدمهما ؛ فإنّ عدم الأخصّ أعمّ من عدم الأعمّ ؛ فإنّ الحيوان يشمل الإنسان وغيره ، فغير الإنسان من أنواع

١٢٣

الحيوان لا يصدق عليه أنّه إنسان بل يصدق عليه عدمه ، ولا يصدق عليه عدم الحيوان ؛ فإنّه أحد أنواعه ، ويصدق أيضا عدم الإنسان على ما ليس بحيوان ، وهو ظاهر ، فعدم الحيوان لا يشمل أفراد عدم الإنسان ، وعدم الإنسان شامل لما ليس بحيوان وغيره ، فعدم الأخصّ أعمّ من عدم الأعمّ ، فإذا ترتّب شيئان في العموم والخصوص وجودا ترتّبا على العكس عدما بأن يصير الأخصّ أعمّ من طرف العدم.

المسألة السابعة عشرة : في قسمة الوجود والعدم إلى المحتاج والغنيّ.

قال : ( وقسمة كلّ منهما إلى الاحتياج والغنى حقيقيّة ).

أقول : كلّ واحد من الوجود والعدم إمّا أن يكون محتاجا إلى الغير أو يكون مستغنيا.

والأوّل والثاني عبارتان عن وجود الممكن وبقائه وعدمه باعتبار الاستمرار المحتاج إلى عدم العلّة.

والثالث عبارة عن وجود واجب الوجود.

والرابع عبارة عن عدم الممتنع كشريك البارئ.

وهذه القسمة حقيقيّة تكون على سبيل المنفصلة الحقيقيّة الدائرة بين النفي والإثبات ، من غير تصوّر اجتماع القسمين ولا ارتفاعهما فيها ، أي بمنع الجمع والخلوّ :

أمّا منع الجمع ؛ فلاستحالة كون المستغني عن الغير محتاجا إليه وبالعكس.

وأمّا منع الخلوّ ؛ فلأنّه لا قسم ثالث لهما ، فقد ظهر أنّ هذه القسمة حقيقيّة.

المسألة الثامنة عشرة : في الوجوب والإمكان والامتناع.

قال : ( وإذا حمل الوجود أو جعل رابطة ، تثبت موادّ ثلاث في أنفسها ، وجهات في التعقّل دالّة على وثاقة الرابطة وضعفها ، وهي الوجوب ، والامتناع ، والإمكان ).

١٢٤

أقول : الوجود قد يكون خارجيّا أصيلا ، وقد يكون ذهنيّا ظلّيّا ، وكلّ منهما قد يكون أصليّا ، وقد يكون رابطيّا ، بمعنى أنّه قد يكون محمولا بنفسه ، كقولنا : « الإنسان موجود » ، وقد يكون رابطة بين الموضوع والمحمول ، كقولنا : « الإنسان يوجد حيوانا » ، ويسمّى التصديق الأوّل بسيطا ، ويسأل عنه بـ « هل » البسيطة ؛ لبساطة المسئول عنه. ويسمّى التصديق الثاني مركّبا ، ويسأل عنه بـ « هل » المركّبة.

وعلى كلا التقديرين يكون بين المحمول والموضوع نسبة ثبوتية.

ولا بدّ لهذه النسبة ـ أعني نسبة المحمول فيهما إلى الموضوع ـ من كيفيّة من الكيفيّات الثلاث ، التي هي الوجوب والإمكان والامتناع ، باعتبار استحالة الانفكاك أو الثبوت أو عدمهما.

وتلك الكيفيّة تسمّى مادّة وجهة باعتبارين : فإن أخذنا الكيفيّة في نفسها ، سمّيت مادّة. وإن أخذناها عند العقل وما تدلّ عليه العبارات ، سمّيت جهة.

وقد يتّحدان ، كقولنا : « الإنسان يجب أن يكون حيوانا » وقد يتغايران كقولنا : « الإنسان يمكن أن يكون حيوانا » ، فالمادّة ضروريّة ؛ لأنّ كيفيّة نسبة الحيوانيّة إلى الإنسانيّة هي الوجوب. وأمّا الجهة فهي الممكنة.

وهذه الكيفيّات تدلّ على وثاقة الربط وضعفه ؛ فإنّ الوجوب يدلّ على وثاقة الربط في طرف الثبوت ، والامتناع على وثاقته في طرف العدم ، والإمكان على ضعف الربط.

قال : ( وكذا العدم ).

أقول : إذا جعل العدم محمولا أو رابطة كقولنا : « الإنسان معدوم » أو « معدوم عنه الكتابة » حدثت الجهات الثلاث عند التعقّل ، والموادّ في نفس الأمر.

قال : ( والبحث في تعريفها كالوجود ).

أقول : إنّ جماعة من العلماء أخطئوا هاهنا ، حيث عرّفوا الواجب والممكن والممتنع ؛ لأنّ هذه الأشياء معلومة للعقلاء لا تحتاج إلى اكتساب.

١٢٥

نعم ، قد يذكر في تعريف ألفاظها ما يكون شارحا لها لا على أنّه حدّ حقيقيّ بل لفظيّ.

ومع ذلك فتعريفاتهم دوريّة ؛ لأنّهم عرّفوا الواجب بأنّه ما يستحيل عدمه ، أو الذي لا يمكن عدمه. ثمّ عرّفوا المستحيل بأنّه الذي لا يمكن وجوده ، أو الذي يجب عدمه.

ثمّ عرّفوا الممكن بأنّه الذي لا يجب وجوده ولا يجب عدمه ، أو الذي لا يستحيل وجوده ولا عدمه. فقد أخذوا كلّ واحد منها في تعريف الآخر ، وهو دور ظاهر (١).

قال : ( وقد تؤخذ ذاتيّة فتكون القسمة حقيقيّة ، ولا يمكن انقلابها ).

أقول : يعني إذا أخذنا الوجوب والامتناع والإمكان بحسب الذات لا بالنظر إلى الغير ، كانت المعقولات منقسمة إليها قسمة حقيقيّة أي بمنع الجمع والخلوّ ؛ وذلك لأنّ كلّ معقول على الإطلاق إمّا أن يكون واجب الوجود لذاته أو ممتنع الوجود لذاته أو ممكن الوجود لذاته ، لا يخلو عنها ، ولا يجتمع اثنان منها في واحد ؛ لاستحالة أن يكون شيء واحد واجبا لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته ، أو يكون ممتنعا لذاته وممكنا لذاته ، فقسمة كيفيّة نسبة المحمول إلى الموضوع حينئذ تكون على سبيل المنفصلة الحقيقيّة ذات الأجزاء الثلاثة ، لا يمكن الاجتماع بين الأقسام لا في الصدق ولا في الكذب ، بل يكون الصادق أمرا واحدا منها ؛ لأنّ ذات الموضوع إمّا أن تقتضي تلك النسبة أم لا ، وعلى الثاني إمّا أن تقتضي نقيض تلك النسبة أم لا ، والأوّل هو الوجوب. والثاني هو الامتناع. والثالث هو الإمكان.

واحتمال غيرها خلاف الضرورة العقليّة.

واعلم أنّ القسمة الحقيقيّة قد تكون للكلّيّ بفصول أو لوازم تميّزه وتفصّله إلى الأقسام المندرجة تحته ، وقد تكون بعوارض مفارقة.

والقسمة الأولى لا يمكن انقلابها ، ولا يصير أحد القسمين معروضا لمميّز الآخر

__________________

(١) انظر : « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٨٧ ـ ٨٨.

١٢٦

الذي به وقعت القسمة ، بمعنى أنّه لا يزول أحد المفهومات الثلاثة عن الذات بأن تتّصف الذات بالآخر ، كأن يصير الواجب بالذات ممكنا بالذات أو بالعكس ؛ لأنّ الذاتي لا يختلف ولا يتخلّف ، كقولنا : « الحيوان إمّا ناطق أو صامت » فإنّ الحيوان قد انقسم إلى طبيعتين ، ويستحيل انقلاب هذه القسمة ، بمعنى أنّ الحيوان الذي هو ناطق يستحيل زوال النطق عنه وعروض الصمت له ، وكذا الحيوان الذي هو صامت.

وأمّا الثانية فإنّه يمكن انقلابها ويصير (١) أحد القسمين معروضا لمميّز الآخر الذي به وقعت القسمة ، كقولنا : « الحيوان إمّا متحرّك أو ساكن » فإنّ كلّ واحد من المتحرّك والساكن قد يتّصف بعارض الآخر ، فينقلب المتحرّك ساكنا وبالعكس.

وقسمة المعقول بالوجوب الذاتي والامتناع الذاتي والإمكان الذاتي من قبيل القسم الأوّل ؛ لاستحالة انقلاب الواجب لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته ، وكذا الباقيان.

قال : ( وقد يؤخذ الأوّلان (٢) باعتبار الغير ، والقسمة مانعة الجمع بينهما يمكن انقلابها ، ومانعة الخلوّ بين الثلاثة في الممكنات ).

أقول : يعني إذا أخذنا الواجب والممتنع باعتبار الغير ـ لا بالنظر إلى الذات ـ انقسم المعقول إليهما على سبيل منع الجمع لا الخلوّ ؛ وذلك لأنّ المعقول حينئذ إمّا أن يكون واجبا لغيره أو ممتنعا لغيره على سبيل منع الجمع لا الخلوّ ؛ لامتناع الجمع بين الوجوب بالغير والامتناع بالغير ؛ لاستلزامه اجتماع الوجود والعدم ، وإمكان الخلوّ عنهما لا بالنظر إلى وجود العلّة ولا عدمها.

وهذه القسمة يمكن انقلابها ؛ لأنّ واجب الوجود بالغير قد يعرض عدم علّته ، فيكون ممتنع الوجود بالغير ، فينقلب أحدهما إلى الآخر.

__________________

(١) عطف على « انقلابها » أي صيرورة أحد القسمين.

(٢) أي الوجوب والامتناع.

١٢٧

وإذا لاحظنا الإمكان الذاتي في هذه القسمة في الممكنات ، انقلبت القسمة مانعة الخلوّ ؛ لعدم خلوّ كلّ معقول ممكن عن الوجوب بالغير والامتناع بالغير والإمكان الذاتي ، فيجوز الجمع بينها ؛ فإنّ الممكن الذاتي واجب أو ممتنع ، فيتحقّق الجمع بين الإمكان الذّاتي وأحد الباقيين.

قال : ( ويشترك الوجوب والامتناع في اسم الضرورة وإن اختلفا في السلب والإيجاب ).

أقول : الضرورة تطلق على الوجوب والامتناع وتشملهما ؛ فإنّ كلّ واحد من الوجوب والامتناع يقال له : ضروريّ ، لكنّهما يختلفان بالسلب والإيجاب ، فالوجوب ضرورة الوجود ، والامتناع ضرورة السلب ، واسم الضرورة شامل لهما.

قال : ( وكلّ منهما يصدق على الآخر إذا تقابلا في المضاف إليه ).

أقول : كلّ واحد من الوجوب والامتناع يصدق على الآخر إذا أضيفا إلى المتقابلين ـ أعني الوجود والعدم ـ فإنّ وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم ، وبالعكس ، وكذلك امتناع الوجود يصدق عليه وجوب العدم ، وبالعكس.

وإنّما اشترط تقابل المضاف إليه ؛ لأنّه يستحيل صدقهما على مضاف إليه واحد ؛ فإنّ وجوب الوجود لا يصدق عليه امتناع الوجود ، وبالعكس ، ولا وجوب العدم يصدق عليه امتناع العدم ، بل إنّما يصدق كلّ واحد منهما على صاحبه مع التقابل ، كما قلنا : وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم ، فالوجوب أضيف إلى الوجود ، والامتناع إلى العدم ، والوجود والعدم متقابلان.

قال : ( وقد يؤخذ الإمكان بمعنى سلب الضرورة عن أحد الطرفين ، فيعمّ الأخرى والخاصّ ).

أقول : القسمة العقليّة ثلاثة ؛ لأنّ المعقول إمّا واجب أو ممتنع أو ممكن ليس بواجب ولا ممتنع ، هذا بحسب اصطلاح الخاصّة.

وقد يؤخذ الإمكان على معنى أعمّ من ذلك ، وهو سلب الضرورة عن أحد

١٢٨

الطرفين ـ أعني طرف الوجود أو العدم ـ لا عنهما ، بل عن الطرف المقابل للحكم حتّى يكون ممكن الوجود هو ما ليس بممتنع ، ونكون قد رفعنا فيه ضرورة العدم ، وممكن العدم هو ما ليس بواجب [ و ] نكون قد رفعنا فيه ضرورة الوجود.

وإذا أخذ بهذا المعنى كان أعمّ من الأوّل ومن الضرورة الأخرى التي لا تقابله ، وهي ضرورة الجانب الموافق ، فإنّ رفع إحدى الضرورتين يستلزم ثبوت الأخرى والإمكان الخاصّ ، فممكن الوجود بالإمكان العامّ أعمّ من الواجب والممكن بالإمكان الخاصّ ، وممكن العدم بالإمكان العامّ أعمّ من الممتنع والممكن بالإمكان الخاصّ.

قال : ( وقد يؤخذ بالنسبة إلى الاستقبال ).

أقول : قد يؤخذ الممكن لا بالنظر إلى ما في الحال بل بالنظر إلى الاستقبال حتّى يكون ممكن الوجود هو الذي يجوز وجوده في الاستقبال من غير التفات إلى ما في الحال. وهذا الإمكان أحقّ باسم الإمكان.

قال : ( ولا يشترط العدم في الحال ، وإلاّ اجتمع النقيضان ).

أقول : ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ الممكن الاستقبالي شرطه العدم في الحال ، قالوا : لأنّه لو كان موجودا في الحال لكان واجبا ؛ إذ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فلا يكون ممكنا (١).

وهو خطأ ؛ لأنّ الوجود إن أخرجه إلى الوجوب أخرجه العدم إلى الامتناع.

وأيضا الممكن ما يمكن وجوده وعدمه ، فإذا اشترط في إمكان الوجود في المستقبل العدم في الحال ، اشترط في إمكان العدم الوجود في الحال ، فيلزم اشتراط وجوده وعدمه في الحال. وهذا خلف. وإليه أشار بقوله : « وإلاّ اجتمع النقيضان ».

وأيضا الوجوب الغيري لا ينافي إمكانه في المستقبل.

__________________

(١) انظر : « شرح المقاصد » ١ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

١٢٩

المسألة التاسعة عشرة : في أنّ الوجوب والإمكان والامتناع ليست ثابتة في الأعيان.

قال : ( والثلاثة اعتباريّة ؛ لصدقها على المعدوم واستحالة التسلسل ).

أقول : هذه الجهات الثلاث ـ أعني الوجوب والإمكان والامتناع (١) ـ أمور اعتباريّة يعتبرها العقل عند نسبة الوجود إلى الماهيّة وليس لها تحقّق في الأعيان ، لوجوه منها ما هو مشترك ، ومنها ما هو مختصّ بكلّ واحد. أمّا المشترك فأمران :

الأوّل : أنّ هذه الأمور تصدق على المعدوم ، فإنّ الممتنع يصدق عليه أنّه مستحيل الوجود وأنّه واجب العدم ، والممكن قبل وجوده يصدق عليه أنه ممكن الوجود وهو معدوم ، وإذا اتّصف المعدوم بها ، كانت عدميّة ؛ لاستحالة اتّصاف العدمي بالثبوت.

الثاني : أنّه لو كان هذه الأمور متحقّقة في الأعيان ، فاتّصاف ماهيّتها بوجوداتها لا يخلو عن أحد هذه الأمور الثلاثة ، فلو كانت هذه الأمور ثبوتيّة ، لزم اتّصافها بأحد الثلاثة ويتسلسل ، وهو محال.

قال : ( ولو كان الوجوب ثبوتيّا لزم إمكان الواجب ).

أقول : شرع في الدلالة على كلّ واحد من الثلاثة ، فبدأ بالوجوب الذي هو أقربها إلى الوجود ؛ إذ هو تأكّده ، فبيّن أنّه ليس ثبوتيّا.

والدليل عليه أنّه لو كان موجودا في الأعيان لكان ممكنا ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّه صفة للغير ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ، فالوجوب مفتقر إلى ذات الواجب ، فيكون الوجوب ممكنا.

__________________

(١) لمزيد الاطّلاع عن هذه المسألة راجع « الشفاء » الإلهيّات ، الفصل الخامس من المقالة الأولى ؛ « التحصيل » : ٢٩١ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٢٠٦ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٨٧ وما بعدها ؛ « شرح المواقف » ٣ : ١٠٩ ؛ « الأسفار الأربعة » ١ : ٨٣ ؛ « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة العشرون.

١٣٠

وأمّا بطلان التالي ؛ فلأنّه لو كان الوجوب ممكنا لكان الواجب ممكنا ؛ لأنّ الواجب إنّما هو واجب بهذا الوجوب الممكن الذي يمكن زواله ، فيخرج الواجب عن كونه واجبا ، فيكون ممكنا ، هذا محال.

ولا يخفى أنّ ما ذكره يتمّ في الوجوب الانتزاعي الاعتباري ، وأمّا الوجوب الواقعي ، الذي هو عين ذات الواجب الوجود بالذات عندنا ، ومقتضى الذات عند غيرنا ، فلا ، كما لا يخفى.

قال : ( ولو كان الامتناع ثبوتيّا لزم إمكان الممتنع ).

أقول : هذا حكم ضروريّ ، وهو أنّ الامتناع أمر عدميّ ، وقد نبّه هاهنا عليه على طريق التنبيه لا الاستدلال ، بأنّ الامتناع لو كان ثبوتيّا لزم إمكان الممتنع ؛ لأنّ ثبوت الامتناع يستدعي ثبوت موصوفه أعني الممتنع ، فيكون الممتنع ثابتا ، هذا خلف.

قال : ( ولو كان الإمكان ثبوتيّا لزم سبق وجود كلّ ممكن على إمكانه ).

أقول : اختلف الناس في أنّ الإمكان الخاصّ هل هو ثبوتيّ أم لا؟

وتحرير القول فيه : أنّ الإمكان قد يؤخذ بالنسبة إلى الماهيّة ، وهو الإمكان الراجع إلى الماهيّة ، وقد يؤخذ بالنسبة إلى الوجود من حيث القرب والبعد من طرف العدم ، وهو الإمكان الاستعدادي.

أمّا الأوّل فالمحقّقون كافّة على أنّه أمر اعتباريّ لا تحقّق له عينا.

وأمّا الثاني فالأوائل قالوا : إنّه من باب الكيف ، وهو قابل للشدّة والضعف. والحقّ يأباه. والدليل على عدمه في الخارج أنّه لو كان ثابتا ـ مع أنّه إضافة بين أمرين أو ذو إضافة ـ لزم ثبوت مضافيه اللذين هما الماهيّة والوجود ، فيلزم تأخّره عن الوجود في الرتبة. هذا خلف ؛ لأنّ وجود الممكن متأخّر عن إمكانه بمراتب ؛ لأنّه يقال أمكن فاحتاج إلى المؤثّر فأوجده فوجد (١).

__________________

(١) راجع « المباحث المشرقية » ١ : ٢١٤ ـ ٢١٨ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ١١٢ وما بعدها.

١٣١

قال : ( والفرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفيّ لا يستلزم ثبوته ).

أقول : هذا جواب عن استدلال أبي عليّ بن سينا على ثبوت الإمكان ؛ فإنّه قال ـ على ما قيل ـ : لو كان الإمكان عدميّا لما بقي فرق بين الإمكان ونفيه ؛ لعدم التمايز في العدميّات (١).

والجواب : المنع من الملازمة ؛ فإنّ الفرق وقع بين نفي الإمكان وثبوت الإمكان الذي حكمنا بأنّه ليس ثبوتيّا في الأعيان ، ولا يستدعي الفرق الثبوت العيني ، كما في الامتناع.

نعم ، يستدعي الثبوت الذهني الانتزاعي ، وهو غير منفيّ ، فالمنفيّ هو الثبوت العيني ، والمثبت بالدليل هو الثبوت الذهني ، فلا يتمّ التقريب.

ولا يخفى أنّه من الشيخ الرئيس عجيب ، ولكنّ الجواد قد يكبو ، والصارم قد ينبو من غير امتناع.

والحاصل : أنّ الإمكان العقلي على أقسام :

منها الإمكان الذاتي بمعنى عدم ترتّب الاستحالة على الوجود.

ومنها الإمكان الاستعدادي ، وهو صلاحيّة الوجود.

ومنها الإمكان الوقوعي بمعنى عدم ترتّب القبح على الإيجاد. والكلّ اعتباريّ.

المسألة العشرون : في الوجوب والإمكان والامتناع المطلقة.

قال : ( والوجوب شامل للذاتي وغيره وكذا الامتناع ).

أقول : الوجوب قد يكون ذاتيّا ، وهو المستند إلى نفس الماهيّة من غير التفات إلى غيرها ، وقد يكون بالغير ، وهو الذي يحصل باعتبار حصول الغير والنظر إليه ؛ فإنّ المعلول لو لا النظر إلى علّته لم يكن واجبا ، فالوجوب المطلق قد انقسم إلى

__________________

(١) ما نقله هنا هو نصّ كلام الفخر الرازي في توجيه كلام ابن سينا ، راجع « شرحي الإشارات » ١ : ٢٢٦ ؛ « المحاكمات » المطبوعة في هامش « شرح الإشارات » ٢ : ١٠٧ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ١١٢.

١٣٢

ما بالذات وإلى ما بالغير ، وهو شامل لهما ، وكذا الامتناع شامل للامتناع الذاتي والعارض باعتبار الغير ، وليس عموم الوجوب عموم الجنسيّة ، وإلاّ تركّب الوجوب الذاتي بل عموم عارض ذهنيّ لمعروض ذهنيّ.

قال : ( ومعروض ما بالغير منهما ممكن ).

أقول : الذات التي يصدق عليها أنّها واجبة بالغير أو ممتنعة بالغير فإنّها تكون ممكنة بالذات ؛ لأنّ الممكن الذاتي إذا وجد علّته عرض له الوجوب بالغير ، وإذا عدم علّته عرض له الامتناع بالغير ، فالممكن الذاتي معروض الوجوب الغيري والامتناع الغيري لا غيره ؛ إذ لا يمكن أن يكون الواجب بالغير واجبا بالذات ؛ للزوم توارد العلّتين ـ أعني الذات والغير ـ على شيء واحد شخصي ، ولا ممتنعا بالذات ، وإلاّ لكان موجودا ومعدوما. وكذا الممتنع بالغير ، فقد ظهر أنّ معروض ما بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذات لا غير.

قال : ( ولا ممكن بالغير ؛ لما تقدّم في القسمة الحقيقيّة ).

أقول : لا يمكن أن يكون هاهنا ممكن بالغير كما أمكن واجب أو ممتنع بالغير ؛ لأنّه لو كان كذلك لكان المعروض للإمكان بالغير إمّا واجبا لذاته ، أو ممتنعا لذاته ، وكلّ ممكن بالغير ممكن بالذات ، فيكون ذلك المعروض تارة واجبا لذاته ، وتارة ممكنا لذاته ، فيلزم انقلاب القسمة الحقيقيّة التي فرضنا أنّها لا تقلب. هذا خلف.

المسألة الحادية والعشرون : في عروض الإمكان للماهيّة.

قال : ( وعروض الإمكان عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهيّة وعلّتها ).

أقول : الإمكان إنّما يعرض للماهيّة من حيث هي هي ، لا باعتبار وجودها ولا باعتبار عدمها ولا باعتبار عدم علّتها ، بل إنّما يعرض لها عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهيّة نفسها ، وعند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى علّة

١٣٣

الممكن ؛ فإنّ الماهيّة إذا أخذت موجودة كانت واجبة ما دامت موجودة ، وكذا إذا أخذت معدومة تكون ممتنعة ما دامت معدومة ، وإذا أخذت باعتبار وجود علّتها كانت واجبة ما دامت العلّة موجودة ، وإذا أخذت باعتبار عدم علّتها كانت ممتنعة ما دامت العلّة معدومة.

قال : ( وعند اعتبار هما بالنظر إليهما يثبت ما بالغير ).

أقول : إذا اعتبرنا الوجود والعدم بالنظر إلى الماهيّة أو إلى علّتها ، ثبت الوجوب بالغير والامتناع بالغير ؛ فإنّه إذا أخذت الماهيّة مع الوجود تكون نسبتها إليه بالوجوب لا بالإمكان ، ويسمّى ذلك وجوبا لاحقا ، وإذا أخذت مع العدم تكون نسبتها إلى الوجود بالامتناع اللاحق ، وكلاهما يسمّى ضرورة بشرط المحمول ، وإذا أخذت الماهيّة مع وجود علّتها كانت واجبة ما دامت العلّة موجودة ، ويسمّى ذلك وجوبا سابقا ، وإذا أخذت مع عدم علّتها كانت ممتنعة ما دامت العلّة غير موجودة ، ويسمّى ذلك امتناعا سابقا ، فكلّ موجود محفوف بوجوبين : سابق ولاحق ، وكلاهما وجوب بالغير ، وكلّ معدوم محفوف بامتناعين : سابق ولاحق ، وكلاهما امتناع بالغير.

قال : ( ولا منافاة بين الإمكان والغيري ).

أقول : قد بيّنّا أنّ الممكن باعتبار وجوده أو وجود علّته يكون واجبا ، وباعتبار عدمه أو عدم علّته يكون ممتنعا ، لكنّ الوجوب والامتناع ليسا ذاتيّين بل باعتبار الغير ومعروضهما الممكن ، فلا منافاة بينهما وبين الإمكان.

قال : ( وكلّ ممكن العروض ذاتيّ ، ولا عكس ).

أقول : الممكن قد يكون ممكن الثبوت في نفسه ، وقد يكون ممكن الثبوت لشيء آخر ، وكلّ ممكن الثبوت لشيء آخر ـ أعني ممكن العروض ـ فهو ممكن ذاتيّ ، أي يكون في نفسه ممكن الثبوت ؛ لأنّ إمكان ثبوت الشيء لغيره فرع على إمكانه في نفسه ، ولا ينعكس. فقد يكون الشيء ممكن الثبوت في نفسه ، وممتنع الثبوت لغيره كالمفارقات ، فإنّها لا يمكن حلولها في غيرها حلول الأعراض في

١٣٤

موضوعاتها ؛ لأنّها جواهر ، ولا حلول الصور في هيولاتها ؛ لأنّها مجرّدة عن المادّة ؛ أو واجب الثبوت لغيره كالأعراض والصفات.

المسألة الثانية والعشرون : في علّة الاحتياج إلى المؤثّر.

قال : ( وإذا لحظ الذهن الممكن موجودا طلب العلّة وإن لم يتصوّر غيره ، وقد يتصوّر وجوب الحادث فلا يطالبها (١) ، ثمّ الحدوث كيفيّة الوجود ، فليس علّة لما يتقدّم عليه بمراتب ).

أقول : اختلف الناس في علّة احتياج الممكن إلى المؤثّر.

فقال جمهور العقلاء : إنّها الإمكان لا غير.

وقال آخرون : إنّها الحدوث لا غير.

وقال آخرون : هما معا بكون الحدوث شطرا.

وقيل : الإمكان بشرط الحدوث (٢).

والحقّ الأوّل كما اختاره المصنّف رحمه‌الله لوجهين :

الأوّل : أنّ العقل إذا لحظ الماهيّة الممكنة وأراد حمل الوجود أو العدم عليها ، افتقر في ذلك إلى العلّة وإن لم ينظر شيئا آخر سوى الإمكان والتساوي ؛ إذ حكم العقل بالتساوي الذاتي كاف في الحكم بامتناع الرجحان الذاتي ، فاحتاج إلى العلّة من حيث هو ممكن وإن لم يلحظ غيره ، ولو فرضنا حادثا وجب وجوده وإن كان فرضا محالا ؛ فإنّ العقل يحكم بعدم احتياجه إلى المؤثّر ، فعلم أنّ علّة الحاجة إنّما هي الإمكان لا غير ، وأنّ العلم بإمكان الشيء وحده يستلزم العلم بافتقاره إلى المؤثّر ، فيعلم أنّه العلّة ، وأنّ الحدوث ليس معتبرا في العلّيّة لا استقلالا ولا جزءا ولا شرطا.

__________________

(١) في « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » : « فلا يطلبها ».

(٢) انظر : « مناهج اليقين » : ٥ ؛ « اللوامع الإلهيّة » : ٢٠ ؛ « شرح المواقف » ٣ : ١٣٥ ؛ « الأسفار الأربعة » ١ : ٢٠٦ ؛ « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة الثانية والعشرون.

١٣٥

الثاني : أنّ الحدوث كيفيّة للوجود ؛ لكونه عبارة عن مسبوقيّة الوجود بالعدم ، فتأخّر عنه تأخّرا ذاتيّا ، والوجود متأخّر عن الإيجاد ، والإيجاد متأخّر عن الاحتياج ، والاحتياج متأخّر عن علّة الاحتياج ، فلو كان الحدوث علّة الحاجة لزم تقديم الشيء على نفسه وعلى ما يتقدّم عليه بمراتب ، وهو محال.

والمعارضة بأنّ الإمكان صفة للممكن بالقياس إلى الوجود ، فيكون متأخّرا عن الوجود ، فلا يكون علّة للافتقار المتقدّم عليه بمراتب مردودة : بأنّ الإمكان متأخّر عن الماهيّة نفسها وعن مفهوم الوجود أيضا ؛ لكونه كيفيّة للنسبة بينهما ، لكنّه ليس متأخّرا عن كون الماهيّة موجودة ، ولهذا توصف الماهيّة ووجودها بالإمكان قبل اتّصافها بالوجود ، وأمّا الحدوث فلا توصف به الماهيّة ولا وجودها إلاّ حال كونها موجودة ، ولا شكّ في تأخّره عن الإيجاد ؛ ولهذا صحّ أن يقال : أوجد فحدث ، وبذلك يتمّ المطلوب ، سواء قلنا بتأخّره عن الوجود أيضا ، أم لا.

قال : ( والحكم باحتياج الممكن ضروريّ ).

أقول : اختلف الناس هنا.

فقال قوم : إنّ هذا الحكم ضروريّ ، أعني أنّ احتياج الممكن لا يحتاج إلى برهان ؛ فإنّ كلّ من تصوّر تساوي طرفي الممكن جزم بالضرورة أنّ أحدهما لا يترجّح من حيث هو مساو ـ أعني من حيث ذاته ـ بل من حيث إنّ المرجّح ثابت.

وهذا الحكم قطعيّ لا يقع فيه شكّ.

وقال آخرون : إنّه استدلاليّ (١).

وهو خطأ. وسبب غلطهم أنّهم لم يتصوّروا الممكن على ما هو هو.

المسألة الثالثة والعشرون : في عدم كفاية الأولويّة الذاتيّة في وجود الممكن.

قال : ( ولا تتصوّر الأولويّة لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ).

__________________

(١) انظر : « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ١٢٩.

١٣٦

أقول : المراد أنّه لا يجوز أن يكون أحد طرفي الممكن راجحا على الطرف الآخر رجحانا ناشئا من ذات الممكن غير منته إلى حدّ الوجوب ، حتّى يجوز أن يوجد الممكن بذلك الرجحان من غير حاجة إلى غيره ، فينسدّ باب إثبات الصانع ؛ إذ قد بيّنّا أنّ الممكن من حيث هو هو لا باعتبار وجود علّته أو عدمها ، فإنّ وجوده وعدمه متساويان بالنسبة إليه ، وإنّما يحصل الترجيح من الفاعل الخارجي ، فإذن لا يمكن أن تتصوّر أولويّة لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته.

فإن قلت : مقتضى ما ذكر عدم اقتضاء ذات الممكن الوجود أو العدم ، لم لا يجوز أن يكون مقتضيا لأولويّة الوجود على العدم كما أنّ ذات الوجود أولى؟ فعند عدم سبب العدم يوجد الممكن من جهة تلك الأولويّة الذاتيّة من غير حاجة إلى مؤثّر موجود ، فيلزم انسداد باب إثبات الصانع.

قلت أوّلا : إنّ ذات الممكن قبل الوجود ليست شيئا حتّى تكون مقتضية للأولويّة.

والمراد بالتساوي بالنسبة إليها عدم اقتضاء شيء من الوجود والعدم ، لا اقتضاؤهما على وجه التساوي ، فلا يتصوّر أولويّة مستندة إلى ذات الممكن.

وأمّا أولويّة ذات الوجود على العدم فهي اعتباريّة عقليّة لا واقعيّة حتّى تكون مقتضية لوقوعه ، مع أنّ الوجود حصول الماهيّة ، فإن كان حاصلا ومقتضيا للأولويّة ، لا يتصوّر وجود بعده ؛ لامتناع حصول الحاصل بحصول آخر بديهة ، وإلاّ لا يتصوّر اقتضاؤه الأولويّة ضرورة ، فالأولويّة الذاتيّة منتفية بالضرورة ، فينفتح باب إثبات الصانع.

وثانيا : إنّا لو فرضنا اقتضاء الذات أولويّة أحد الطرفين كالوجود من غير الانتهاء إلى الوجوب ، نقول مع ذلك الرجحان : هل يجوز وقوع الطرف المقابل المرجوح أم لا؟

فعلى الثاني لم يكن ما فرضناه ممكنا ممكنا ولا الأولويّة أولويّة ، بل وجوبا ، وهو خلف.

١٣٧

وعلى الأوّل يلزم كون المرجوح الذاتي راجحا ذاتيّا ؛ إذ لا يتصوّر الوقوع بدون الرجحان ، فمع فرض عدم الغير يكون ذاتيّا ، مع أنّ المفروض أنّ مقتضى الذات رجحان الطرف الراجح ، فيلزم اجتماع النقيضين ، وهو محال ضرورة.

وثالثا : إنّه لو تحقّقت أولويّة ذاتيّة لأحد الطرفين ، فإن لم يمكن وقوع الطرف الآخر ، كان ذلك الطرف ممتنعا ، فيكون الطرف الراجح واجبا لذاته ، وقد فرضناه ممكنا.

وإن أمكن فإمّا لا بسبب ، فيلزم ترجيح المرجوح بلا مرجّح ، وهو أشدّ استحالة من ترجيح أحد المتساويين أو ترجّحه بلا مرجّح ، أو يكون بسبب ، فإن لم يصر ذلك الطرف أولى به لم يكن السبب سببا ، وإن صار يلزم مرجوحيّة الطرف الأولى لذاته ، فيزول ما بالذات بما بالغير ، وهو ممتنع ، مع أنّ وجود السبب المغاير في ذلك المقام غير معقول.

مضافا إلى أنّ القول بالأولويّة (١) الذاتيّة يستلزم تقدّم الشيء على نفسه ، كما لا يخفى ، فلا وجه لاعتبار الأولويّة الذاتيّة.

المسألة الرابعة والعشرون : في أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

قال : ( ولا تكفي الخارجيّة ؛ لأنّ فرضها لا يحيل المقابل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى الوجوب ).

أقول : أولويّة أحد الطرفين بالنظر إلى وجود العلّة أو عدمها هي الأولويّة الخارجيّة ؛ لكونها منسوبة إلى ما هو الخارج عن الذات ، فإن كانت العلّة مستجمعة لجميع الشرائط منتفيا عنها جميع الموانع ، كانت الأولويّة وجوبا ، وإلاّ كانت أولويّة يجوز معها وقوع الطرف الآخر.

وهذه الأولويّة الخارجيّة لا تكفي في وجود الممكن أو عدمه ؛ لأنّ فرضها

__________________

(١) في « ج » : « القول بتأثير الأولويّة ... ».

١٣٨

لا يحيل المقابل.

بيان ذلك : أنّا إذا فرضنا هذه الأولويّة متحقّقة ثابتة ، فإمّا أن يمكن معها وجود الطرف الآخر المقابل لطرف الأولويّة أو لا يمكن ، والثاني يقتضي أن تكون الأولويّة وجوبا ، والأوّل يلزم المحال ، وهو كون العلّة الناقصة علّة تامّة ؛ لأنّ وقوع أحد الطرفين ـ مع فرض عدم تماميّة العلّة في التأثير ـ محال بالضرورة ، ومع فرض التماميّة يلزم المحال المذكور.

نعم ، الإيقاع للأولويّة الذاتيّة أو الخارجيّة من الفاعل المختار ممكن وواقع ، وهو غير أولويّة الوقوع على اللاوقوع كما لا يخفى على المتأمّل الذكيّ.

وقد يقال : المحال عبارة عن ترجيح أحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر لا لمرجّح ؛ لأنّا إذا فرضنا الأولويّة ثابتة ، يمكن معها وجود الطرف الراجح والمرجوح ، فتخصيص أحد الوصفين بالوقوع دون الثاني ترجيح من غير مرجّح ، وهو محال.

وفيه نظر ؛ لأنّ الأولويّة مرجّحة ، فقد ظهر أنّ الأولويّة لا تكفي في الترجيح ، بل لا بدّ من الوجوب ، وأنّ كلّ ممكن على الإطلاق لا يمكن وجوده إلاّ إذا وجب ، فلا بدّ من الانتهاء إلى الوجوب ؛ لئلاّ يلزم المحال ، فثبتت القاعدة الكلّيّة العقليّة ، وهي أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

قال : ( وهو سابق ويلحقه وجوب آخر لا تخلو عنه قضيّة فعليّة ).

أقول : كلّ ممكن موجود أو معدوم فإنّه محفوف بوجوبين :

أحدهما : الوجوب السابق سبقا ذاتيّا ، الذي استدللنا على تحقّقه.

والثاني : الوجوب اللاحق ، وهو المتأخّر عن تحقّق القضيّة ؛ فإنّ الحكم بوجود المشي للإنسان يقتضي أن يكون واجبا ما دام المشي موجودا له ، وهذه الضرورة تسمّى ضرورة بشرط المحمول ، ولا تخلو عنها قضيّة فعليّة.

المسألة الخامسة والعشرون : في أنّ الإمكان لازم للممكن ، ولا يتحقّق

١٣٩

انقلاب الماهيّة بالوجوب الغيري.

قال : ( والإمكان لازم ، وإلاّ تجب الماهيّة أو تمتنع ).

أقول : الإمكان للممكن واجب ؛ لأنّه لو لا ذلك لأمكن زواله ، وحينئذ تبقى الماهيّة واجبة أو ممتنعة ، فيلزم انقلاب الماهيّة بالانقلاب الكلّي ، وقد بيّنّا امتناعه فيما سلف.

قال : ( ووجوب الفعليّات يقارنه جواز العدم ، وليس بلازم ).

أقول : يريد أن يبيّن أنّ الوجوب اللاحق ـ وهو الذي ذكر أنّه لا تخلو عنه قضيّة فعليّة ، ولهذا سمّاه بوجوب الفعليّات ـ يقارن جواز العدم ؛ وذلك لأنّ الوجوب لا يخرجه عن الإمكان الذاتي ، بل هو باق على طبيعة الإمكان الذاتي ؛ لأنّ وجوبه بشرط المحمول لا مطلقا ، فلهذا حكم بجواز مقارنة وجوب الوجود لجواز العدم ، وهذا الوجوب ليس بلازم ، بل ينفكّ عن الماهيّة عند فرض عدم العلّة.

قال : ( ونسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص ).

أقول : الوجوب هو تأكّد الوجود وقوّته ، والإمكان ضعف فيه ، فنسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص ؛ لأنّ الوجوب تمام الوجود ، والإمكان نقص له.

المسألة السادسة والعشرون : في الإمكان الاستعدادي.

قال : ( والاستعداد قابل للشدّة والضعف ويعدم ويوجد للمركّبات ، وهو غير الإمكان الذاتي ).

أقول : الإمكان إمّا أن يلحظ باعتبار الماهيّة نفسها ، وهو الإمكان الذاتي ، وإمّا أن يلحظ باعتبار قربها من الوجود وبعدها عنه ، وهو الإمكان الاستعدادي ، الذي هو عبارة عن التهيّؤ للكمال بتحقّق بعض الأسباب والشرائط وارتفاع بعض الموانع ، وهذا الإمكان قابل للشدّة والضعف والزيادة والنقصان ، فإنّ استعداد النطفة للإنسانيّة أضعف وأبعد من استعداد العلقة لها ، وكذا استعداد النطفة للكتابة أبعد وأضعف من استعداد الطفل لها ، فهذا هو الاستعداد لكلّ ماهيّة سبق عدمها وجودها.

١٤٠