البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

وهذا الإمكان الاستعدادي يعدم بعد الوجود ويوجد بعد عدمه للمركّبات ؛ فإنّ الماء بعد تسخّنه يستعدّ لصيرورته هواء بعد أن لم يكن ، فقد تجدّد هذا الاستعداد ، ثمّ إذا برد زال ذلك الاستعداد.

والإمكان الذاتي ـ الذي بيّنّا أنّه لا يمكن زواله عن الممكن ـ مغاير لهذا الإمكان الذي يمكن زواله من هذه الجهة.

مضافا إلى أنّ الإمكان الذاتي قائم بماهيّة الممكن ، والإمكان الاستعدادي قائم بمحلّه ؛ فإنّ إمكان الكتابة قائم بمادّة الجنين إلا بالكتابة ، بخلاف الإمكان الذاتي ، وكلاهما متعلّق بالقابل ، والإمكان الوقوعي متعلّق بعدم ترتّب القبح على الإيجاد ، والإيقاع متعلّق بالفاعل كالإمكان العادي الذي يكون بسبب كون الوجود مسبّبا عن سبب أرضيّ أو سماويّ أو مركّب جليّ أو خفيّ.

المسألة السابعة والعشرون : في القدم والحدوث.

قال : ( والموجود إن أخذ غير مسبوق بالغير أو بالعدم فقديم ، وإلاّ فحادث ).

أقول : هذه قسمة للموجود إلى القديم والحادث ؛ وذلك لأنّ الموجود إمّا أن يسبقه الغير ، أو لا يسبقه الغير ، فالأوّل هو الحادث ، والثاني هو القديم.

وقد يقال : إنّ القديم هو الذي لا يسبقه العدم ، والحادث هو الذي يسبقه العدم.

وهذا أولى.

وينبغي أن يقسّم كلّ منهما إلى الحقيقيّ والإضافيّ ، ويعرف الكلّ بالتأمّل.

المسألة الثامنة والعشرون : في أقسام السبق.

قال : ( والسبق ومقابلاه (١) إمّا بالعلّيّة أو بالطبع أو بالزمان أو بالرتبة الحسّيّة أو العقليّة أو بالشرف أو بالذات ، والحصر استقرائيّ ).

__________________

(١) أي التأخّر والمعيّة.

١٤١

أقول : لمّا ذكر أنّ القديم هو الذي لا يسبقه الغير أو العدم ـ على اختلاف التفسيرين ـ والحادث هو الذي سبقه الغير أو العدم ، وجب عليه أن يبيّن أقسام التقدّم والسبق ومقابليه ، أعني التأخّر والمعيّة.

وقد ذكر الحكماء (١) أنّ أقسام التقدّم خمسة :

[ القسم ] الأوّل : التقدّم بالعلّيّة ، وهو سبق العلّة التامّة المستجمعة لشرائط التأثير مع ارتفاع موانعه على معلولها ، كتقدّم حركة الإصبع على حركة الخاتم ؛ فإنّه لو لا حركة اليد لم تحصل حركة الخاتم ، فهذا الترتيب العقلي هو التقدّم بالعلّيّة.

[ القسم ] الثاني : التقدّم بالطبع ، وهو أن يكون المتقدّم له حظّ في التأثير في المتأخّر ، ولا يكون هو كمال المؤثّر ، وهو كتقدّم الواحد على الاثنين.

والفرق بينه وبين الأوّل أنّ المتقدّم هناك كان كافيا في وجود المتأخّر ، والمتقدّم هنا لا يكفي في وجوده.

[ القسم ] الثالث : التقدّم بالزمان ، وهو أن يكون المتقدّم موجودا في زمان متقدّم على زمان المتأخّر كالأب والابن.

[ القسم ] الرابع : التقدّم بالرتبة ، وهي إمّا حسّيّة كتقدّم الإمام على المأموم ، أو عقليّة كتقدّم الجنس على النوع إن جعل المبدأ الأعمّ ؛ فإنّك إذا جعلت الجوهر مبدأ كان الجسم مقدّما على الحيوان ، وإن جعلت الإنسان مبدأ فبالعكس ، كما أنّك إذا ابتدأت من المحراب كان الإمام مقدّما ، وإن ابتدأت من الباب انعكس الأمر.

[ القسم ] الخامس : التقدّم بالشرف بأن يكون للسابق زيادة كمال ليس للمسبوق ، كتقدّم العالم على المتعلّم.

وكذا أصناف التأخّر والمعيّة.

ثمّ المتكلّمون زادوا قسما آخر وسمّوه التقدّم الذاتي ، وتمثّلوا فيه بتقدّم الأمس

__________________

(١) منهم السهروردي في « المشارع والمطارحات » ضمن « مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣. والسبزوارى في « شرح المنظومة » ٢ : ٣٠٦ وما بعدها.

١٤٢

على اليوم ونحوه من تقدّم بعض أجزاء الزمان على بعض ؛ فإنّه ليس تقدّما بالعليّة ولا بالطبع ، لتساوي أجزاء الزمان في الحقيقة ، ولا بالزمان ، وإلاّ لاحتاج الزمان إلى زمان آخر وتسلسل. وظاهر أنّه ليس بالرتبة ولا بالشرف ، فهو خارج عن هذه الأقسام (١).

وعدّه الحكماء من أقسام السبق الزماني بناء على أنّه عبارة عن كون السابق قبل المسبوق قبليّة لا يجامع القبل معها البعد ، وهو عارض لأجزاء الزمان أوّلا وبالذات ولغيرها ثانيا وبالعرض.

وردّ : بأنّ هذا التعريف صادق على سبق العلّة المعدّة على معلولها ، فهو قسم على حدة ، ولهذا يحكم بتقدّم عدم الزمان على وجوده ، من غير أن يكون مع عدم الزمان زمان حتّى يلزم قدم الزمان المستلزم لقدم الحركة والمتحرّك ، كما ادّعى الحكماء (٢).

وهذا الحصر استقرائيّ لا برهانيّ ، إذ لم يقم برهان على انحصار التقدّم في هذه الأنواع.

والقسمة إنّما تنحصر إذا تردّدت بين النفي والإثبات كأن يقال : إنّ المتقدّم إن احتاج إليه المتأخّر فإن كان كافيا في وجوده ، كان تقدّمه بالعلّيّة وإلاّ فبالطبع. وإن لم يحتج إليه ، فإن لم يمكن اجتماعهما في الوجود ، كان بالزمان. وإن أمكن فإن اعتبر بينهما ترتيب ، كان بالرتبة ، وإلاّ فبالشرف.

ولا يخفى ما فيه.

المسألة التاسعة والعشرون : في أحكام السبق.

قال : ( ومقوليّته بالتشكيك ، وتنحفظ الإضافة بين المضافين في أنواعه ).

أقول : اختلف الحكماء هنا.

__________________

(١) انظر : « مناهج اليقين » : ٢٠ ؛ « كشف المراد » : ٥٨ ؛ « اللوامع الإلهيّة » : ٢١.

(٢) « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » ١ : ٤٩٦.

١٤٣

فقال قوم : إنّ التقدّم مقول على أنواعه الخمسة بالاشتراك اللفظي.

وهو خطأ ؛ فإنّ كلّ واحد من التقدّم بالعلّيّة والطبع ـ مثلا ـ قد شارك الآخر في معنى التقدّم.

وقال الآخرون : إنّه مقول بالاشتراك المعنوي على سبيل التشكيك ، وهو الذي اختاره المصنّف رحمه‌الله.

وهو الحقّ ؛ لأنّ الأصناف تشترك في معنى السبق والتقدّم (١) ، وهذا المعنى المشترك يطلق على تلك الأقسام لا على سبيل التساوي ، بل يطلق على سبيل التشكيك ؛ فإنّ السبق بالعلّيّة أولى من السبق بالطبع ؛ لأنّ الاحتياج إلى العلّة التامّة أقوى من الاحتياج إلى الناقصة ، وهكذا سائر الأقسام ؛ لتحقّق التفاوت في الصدق لبعضها بالإضافة إلى بعض آخر.

وكذا يكون صدق التأخّر الذي هو مضايف للتقدّم على سبيل التشكيك ، فيكون التأخّر ـ الذي هو مضايف للسبق الأولى ـ أولى بالإضافة إلى التأخّر الذي هو مضايف للسبق الآخر.

وهكذا الحال في الأشدّيّة والأقدميّة.

فالإضافة بين السبقين إذا كانت بنوع من الأنواع الثلاثة للتشكيك ، كانت تلك الإضافة تتحفّظ بين تأخّريهما اللّذين هما متضايفان لهما.

وقال الفاضل اللاهيجي : إنّ قوله : « بين المتضايفين » متعلّق بقوله : « وتتحفّظ » وقوله : « في أنواعه » متعلّق بـ « الإضافة » أي الإضافة الحاصلة في أنواع السبق ، بمعنى أنّ النسبة بين النوعين من أنواع السبق محفوظة بين النوعين من أنواع التأخّر اللّذين هما متضايفان لهما ، فالضمير راجع إلى السبق (٢).

وهذا أولى بلا تشكيك ؛ حذرا من التفكيك الركيك اللازم على تقدير إرجاع

__________________

(١) انظر : « المشارع والمطارحات » ضمن « مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٣٠٣ وما بعدها.

(٢) « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة السادسة والعشرون.

١٤٤

الضمير في « أنواعه » إلى « التشكيك » كما في شرح الفاضل القوشجي (١).

قال : ( وحيث وجد التفاوت امتنعت جنسيّته ).

أقول : لمّا بيّن أنّ التقدّم مقول على ما تحته من أصناف التقدّمات بالتشكيك ظهر أنّه ليس جنسا لما تحته ، وأنّ مقوليّته على ما تحته قول العارض على معروضه ، لا قول الجنس على أنواعه ؛ لامتناع وقوع التفاوت في أجزاء الماهيّة.

وفيه : أن التفاوت مانع عن الجنسيّة إذا كان بالذات لا بالعرض ، كما يقال :

الجوهر الكامل والناقص مثلا ، مع أنّه لا يتصوّر لأنواع التقدّم جنس ، لا مطلق التقدّم.

قال : ( والتقدّم دائما لعارض زماني أو مكاني أو غيرهما ).

أقول : إذا نظر إلى الماهيّة من حيث هي هي لم تكن مقدّمة على غيرها ولا متأخّرة ، وإنّما يعرض لها التقدّم والتأخّر باعتبار أمر خارج عنها ، وهو إمّا زمان كما في التقدّم الزماني ، أو مكان كما في التقدّم المكاني ، أو مغاير كما في تقدّم العلّة على معلولها باعتبار التأثير والتأثّر ، وكما في تقدّم العالم على المتعلّم باعتبار الشرف وغير ذلك من أصناف التقدّمات.

المسألة الثلاثون : في حكم القدم والحدوث الحقيقيّين.

قال : ( والقدم والحدوث الحقيقيّان لا يعتبر فيهما الزمان ، وإلاّ تسلسل ).

أقول : القدم والحدوث قد يكونان حقيقيّين ، وقد لا يكونان حقيقيّين ، بل يقالان على ما يقالان عليه على سبيل المجاز ، فالقدم والحدوث الحقيقيّان ـ وهما على ما فسّرناهما به من أنّ القديم هو الذي لا يسبقه الغير ، والمحدث هو المسبوق بالغير ـ لا يفتقران إلى الزمان ؛ لأنّ الزمان إن كان قديما أو حادثا بهذا المعنى وافتقر إلى زمان آخر تسلسل. وأمّا القدم والحدوث بالمجاز فإنّهما لا يتحقّقان

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٤٥.

١٤٥

بدون الزمان ؛ لأنّ القديم يقال بالمجاز على ما يستطال زمان وجوده في جانب الماضي ، والمحدث على ما لا يستطال زمانه.

قال : ( والحدوث الذاتيّ متحقّق ).

أقول : الحدوث الذاتي عبارة عن مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم الذاتي ، وتأخّر وجوده عن عدمه بالذات ، ولا شكّ أنّ ذات الممكن لا تقتضي الوجود ولا العدم ، فله بحسب الذات وعدم وجود علّته العدم المستند إلى عدم العلّة من جهة ملاحظة ذاته ؛ لكفاية عدم العلّة في العدم دون الوجود ؛ إذ لا بدّ في وجوده من وجود علّته ، فبعد وجود علّته يوجد ، فيكون وجوده مسبوقا بالعدم الذاتي وبوجود علّته المتقدّم بالذات ، وهو معنى الحدوث الذاتي ، فهو متحقّق قطعا.

قال : ( والقدم والحدوث اعتباريّان عقليّان ينقطعان بانقطاع الاعتبار ).

أقول : ذهب المحقّقون إلى أنّ القدم والحدوث ليسا من المعاني المتحقّقة في الأعيان (١).

وذهب عبد الله بن سعيد من الأشعريّة ـ على ما حكي ـ إلى أنّهما وصفان زائدان على الوجود (٢).

والحقّ خلاف ذلك ، وأنّهما اعتباران عقليّان يعتبرهما الذهن عند مقايسة سبق الغير إلى الوجود وعدمه ؛ لأنّهما لو كان ثبوتيّين لزم التسلسل ؛ لأنّ الموجود من كلّ واحد منهما إمّا أن يكون قديما أو حادثا ، فيكون للقدم قدم أو حدوث ، وكذا الحدوث ، ثمّ ننقل الكلام إلى قدم القدم وحدوث الحادث ـ مثلا ـ حتّى يتسلسل ، فلا يكون القدم والحدوث من الأمور المتحقّقة ، بل هما عقليّان يعتبرهما العقل

__________________

(١) انظر : « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٢٢١ ؛ « مناهج اليقين » : ٢١.

(٢) « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٢٢١ ؛ « مناهج اليقين » : ٢١ ، وقد نسب العلاّمة فيهما القول بزيادة القدم فقط إلى عبد الله بن سعيد. والقول بزيادة المحدث إلى الكرامية ، وهكذا في « المحصّل » : ٢١٤.

نعم ، حكى القولين عنه في « كشف المراد » : ٢١٤.

١٤٦

وينقطعان بانقطاع الاعتبار العقلي.

وينقطعان بانقطاع الاعتبار العقلي.

وهذا جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أن يقال : إذا كان القدم والحدوث أمرين ثبوتيّين في العقل ، أمكن عروض القدم والحدوث لهما ، ويعود المحذور من التسلسل.

وتقرير الجواب : أنّهما اعتباران عقليّان ينقطعان بانقطاع الاعتبار ، فلا يلزم التسلسل.

قال : ( وتصدق المنفصلة الحقيقيّة منهما ).

أقول : الموجود إمّا قديم أو حادث ؛ لامتناع خلوّه عن القدم والحدوث ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون مسبوقا بغيره أو لا ، والأوّل حادث ، والثاني قديم ، ولا يجتمعان في شيء واحد ؛ لاستحالة اجتماع النقيضين ، فإذن لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فتركيب المنفصلة الحقيقيّة يحصل منهما.

قال : ( ومن الوجوب الذاتي والغيري ).

أقول : الشيء الواحد إذا كان واجبا لذاته استحال أن يكون واجبا لغيره.

إذا عرفت هذا ، فنقول : المنفصلة الحقيقيّة ـ التي يمنع فيها الجمع والخلوّ ـ صادقة على الموجود إذا لوحظ مع الوجوب بالذات والوجوب بالغير أيضا ، بأن يقال : الموجود إمّا واجب لذاته أو واجب لغيره ؛ لامتناع صدقهما على شيء واحد وكذبهما عليه ؛ وذلك لأنّ الموجود إمّا مستغن عن الغير أو محتاج إليه ، لا واسطة بينهما ، والأوّل واجب بالذات ، والثاني واجب بالغير.

وإنّما امتنع الجمع بينهما ؛ لأنّه لو كان شيء واحد واجبا بذاته وبغيره معا لزم المحال ؛ لأنّ الواجب بغيره يرتفع بارتفاع غيره ، والواجب بالذات لا يرتفع بارتفاع غيره ، فلو كان شيء واحد واجبا بذاته وبغيره لزم اجتماع النقيضين ، وهو محال.

وإنّما امتنع الخلوّ عنهما ؛ لأنّ الموجود إن كان واجبا ، صدق أحد الجزءين ، وإن كان ممكنا استحال وجوده إلاّ بعد وجود الفاعل ، فيصدق الجزء الآخر.

١٤٧

المسألة الحادية والثلاثون : في خواصّ الواجب ولوازمه التي يستلزم انتفاء كلّ منها الإمكان وعدم الوجوب الذاتي.

قال : ( ويستحيل صدق الذاتي على المركّب ).

أقول : هذه خاصّيّة للواجب الذاتي ، وهي أنّه يستحيل أن يكون مركّبا ، فلا يجوز صدق الواجب الذاتي على المركّب ؛ لأنّ كلّ مركّب مفتقر إلى أجزائه على ما يأتي ، وكلّ مفتقر ممكن ، فالواجب لذاته ممكن لذاته. هذا خلف.

قال بعض المتأخّرين : هذه المسألة تتوقّف على الوحدانيّة ؛ فإنّه لو قال قائل :

يجوز أن يكون كلّ واحد من أجزاء المركّب واجبا لذاته ويكون المجموع مستغنيا عن الغير ، أجبنا بأنّ الواجب لذاته يستحيل أن يكون متعدّدا (١).

والحقّ أنّه لا افتقار في هذه المسألة إلى الوحدانيّة ؛ لأنّ هذا المركّب يستحيل أن يكون واجبا لذاته ؛ لافتقاره إلى أجزائه الواجبة ، وكلّ مفتقر ممكن ، فيكون المركّب ممكنا ، فلا يكون واجبا ، وهذا لا يتوقّف على الوحدانيّة.

وقد يقال : إنّ الممكن ما يحتاج في وجوده الخارجي إلى غيره ، فلو فرض تركّب الواجب من أجزاء عقليّة ، لم يلزم احتياجه إلاّ في التحقّق الذهني إلى جزئه الذهني ، وهو لا يستلزم إمكانه.

وأيضا يجوز أن يكون له جنس منحصر في نوعه بحسب الخارج وإن كان له أنواع كثيرة بحسب العقل ، أو يكون مركّبا من أمرين متساويين (٢).

وفيه نظر ؛ لأنّ تعدّد الجزء إمّا واجب بالذات أو ممكن بالذات أو ممتنع بالذات.

لا سبيل إلى الأوّل (٣) ، وإلاّ يلزم عدم الجزء رأسا وانتفاء الكلّ وعدم كون الواجب

__________________

(١) نسبه في « شرحي الإشارات » ١ : ٢٠٩ إلى الفخر الرازي ، ولكن اللاهيجي نقله عن الفارابي كما في « شوارق الإلهام » المسألة السابعة والعشرون من الفصل الأوّل.

(٢) القائل هو الفاضل القوشجي. انظر : « شرح تجريد العقائد » : ٤٧ ـ ٤٨.

(٣) أي عند ما يكون تعدّد الجزء واجبا بالذات.

١٤٨

بالذات واجبا بالذات ؛ لأنّ كلّ جزء لا بدّ أن يكون بلا تعدّد ، فإذا كان التعدّد لازما لذات الواجب حيث لم يكن في مقام الذات إلاّ الذات ، يلزم من انتفائه انتفاء الملزوم ، وهو أصل الجزء ، فيلزم انتفاء الكلّ وعدمه ، فيلزم عدم كون الواجب واجبا.

وكذا لا سبيل إلى الثاني (١) ؛ لاستلزام إمكان الجزء إمكان الكلّ ، وعدم كون الواجب بالذات واجبا بالذات ، كما لا يخفى ، فتعيّن الثالث ، وهو كون التعدّد ممتنعا ، وهو المطلوب ؛ فإنّ المراد أنّ الواجب بالذات يستحيل أن يكون مركّبا من الأجزاء العقليّة والخارجيّة التي هي بإزاء الأجزاء العقليّة ـ أعني المادّة والصورة ـ والخارجيّة العنصريّة من الرئيسيّة ، كالرأس والعنق والكبد ، وغيرها ، كاليد والرّجل ونحوهما ممّا لا ينتفي الكلّ بانتفائه.

وهذا مستفاد ممّا ذكرنا ، وهو خاصّة أولى ، مضافا إلى أنّ التركّب الحقيقي موجب للافتقار المنافي لوجوب الوجود بالبديهة ولو كان من الأجزاء العقليّة ، والاعتباري غير قادح ، كفرض شريك البارئ.

قال : ( ولا يكون الذاتي جزءا من غيره ).

أقول : هذه خاصّيّة ثانية للواجب ظاهرة ، وهي أنّ الواجب لذاته لا يتركّب عنه غيره ، وهو ظاهر ؛ لأنّ التركّب إمّا أن يكون حسّيّا ،

وهو إنّما يكون بانفعال كالمزاج ، أو يكون عقليّا بحيث يحصل من المركّب حقيقة واحدة ، كتركيب الشخص من المادّة والصورة ، وتركيب الماهيّة من الأجناس والفصول.

والكلّ ظاهر الاستحالة ؛ لاستلزام الأوّل التغيّر المستلزم للحدوث والإمكان ، والثاني الافتقار المنافي لوجوب الوجود ، كالأوّل.

قال : ( ولا يزيد وجوده عليه ، وإلاّ لكان ممكنا ).

أقول : هذه خاصّيّة ثالثة ، وهي أنّ وجود واجب الوجود لذاته نفس حقيقته.

__________________

(١) أي عند ما يكون تعدّد الجزء ممكنا بالذات.

١٤٩

وتقريره أن نقول : لو كان وجود واجب الوجود لذاته زائدا على حقيقته لكان صفة لها مفتقرة إليها ، فيكون ممكنا ، فيفتقر إلى علّة ، فتلك العلّة إمّا أن تكون نفس حقيقته أو شيئا خارجا عن حقيقته. والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ تلك الحقيقة إمّا أن تؤثّر فيه وهي موجودة ، أو تؤثّر فيه وهي معدومة.

فإن أثّرت فيه وهي موجودة ، فإن كانت موجودة بهذا الوجود لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وهو محال. وإن كان بغير هذا الوجود عاد البحث إليه ، ويلزم التسلسل ، مع لزوم وجود الماهيّة مرّتين ، والجميع باطل.

وإن أثّرت فيه وهي معدومة كان المعدوم مؤثّرا في الوجود ، وهو باطل بالضرورة.

وأمّا الثاني ؛ فيلزم منه افتقار واجب الوجود في وجوده إلى غيره ، فيكون ممكنا ، وهو محال. وهذا دليل قاطع على هذا المطلوب.

بيان ذلك : أنّ معنى واجب الوجود ثابت الكون على الوجه الكامل ، بمعنى أنّ الموصوف بالوجود في أيّ مرتبة لوحظ كان الكون ثابتا له ، فلا يمكن أن يكون معلولا لغيره ، وإلاّ لزم عدم ثبوت الكون له في مرتبة علّته ، ومن لوازم الكمال ضروريّة ذلك الكون وامتناع العدم.

ومعنى موجوديّة الأشياء محموليّة الموجود عليها باعتبار اتّصافها بمبدإ اشتقاقه ، وهو الوجود.

واتّصاف الشيء به إن كان بذاته لا بغيره ، بمعنى أنّ العقل إذا لاحظ ذاته يحكم ـ بمقتضى الدليل والبرهان ـ أنّ ذلك الشيء في الخارج متّصف بالكون بذاته لا من غيره ، فهو الواجب الوجود لذاته.

وإن كان اتّصاف الشيء بالوجود بالغير ـ لتساوي الوجود والعدم بالنسبة إلى ذاته وعدم إمكان حصول أحدهما بلا سبب أو من ترجيح ذلك الشيء له ؛ لامتناع الترجّح

١٥٠

بلا مرجّح والترجيح بلا مرجّح ـ فإن كان له وجود يكون بسبب غيره ، فما لم يعتبره العقل مع ذلك الشيء لم يحكم بوجوده ، وهو ممكن الوجود.

والحاصل : أنّ حكم العقل بموجوديّة شيء وانتزاع الوجود منه محتاج إلى المنشأ.

وذلك المنشأ إن كان ذات ذلك الشيء يسمّى واجب الوجود. وإن كان غيره يسمّى ممكن الوجود. فلا بدّ في حكم العقل بوجود الممكن من ملاحظة العلّة المعيّنة كما في البرهان اللمّيّ ، أو غير المعيّنة كما في الإنّيّ. فمعنى كون الوجود في الواجب عين ذاته أنّ ذاته منشأ لانتزاع الوجود لا أمر زائد عليها ، وأنّها عينه وعين سائر الصفات الحقيقيّة لا نائبها ، بمعنى أنّه يصدر منها بنفسها ما يصدر من الموصوف بالصفات بواسطتها ؛ لأنّه معطيها كمالا ، ومعطي الشيء لا يمكن أن يكون فاقدا له.

ومعنى عينيّتها أنّه يصدر عن ذاته ما يصدر عن صفات الممكن ، فكما أنّ علم الممكن منشأ لانكشاف الأشياء ، فكذا ذاته منشأ له ، وهكذا سائر الصفات.

ومعنى زيادة الوجود في الممكن أنّ ذاته ليس منشأ لانتزاعه ، بل هو أمر زائد عليه ، فالوجود العامّ ـ الذي هو مفهوم ذهني ـ زائد في جميع الأشياء حتّى الواجب ، ولكن قد يطلق الوجود على ما هو منشأ لانتزاعه ، وهو بهذا المعنى في الواجب عين ذاته ؛ لاستغنائه في انتزاع الوجود عمّا هو خارج عن ذاته ؛ مضافا إلى أنّ وجود الواجب لو كان غير حقيقته ، لكان جزءا منها أو خارجا عنها ، والأوّل يستلزم التركّب المنافي لوجوب الوجود ، والثاني يستلزم الاحتياج إلى المؤثّر المنافي له ؛ لامتناع تأثير المعدوم وتحصيل الحاصل ، فحقيقة الواجب هو الوجود المجهول بالكنه ، المعقول بالوجه من الآثار.

ومن هنا يظهر امتناع القوّة في الواجب ؛ لكونها عبارة عن العدم في الشيء القابل للوجود ، وقد بيّنّا أنّ الواجب عين الوجود ، وهو مناف للعدم.

ويظهر أيضا أنّه ليس محلاّ للحوادث ؛ لكونها مسبوقة بالعدم ، بل هو كامل من

١٥١

جميع الجهات ؛ إذ النقص مستلزم للعدم.

قال : ( والوجود المعلوم هو المقول بالتشكيك ، أمّا الخاصّ به فلا ).

أقول : هذا جواب عن الاستدلال على زيادة الوجود في حقّ واجب الوجود.

وتقرير الدليل أن نقول : ماهيّة الله تعالى غير معلومة للبشر على ما يأتي ، والوجود معلوم ، فينتج من الشكل الثاني أنّ الماهيّة غير الوجود.

وتقرير الجواب عنه أن نقول : إنّا قد بيّنّا أنّ الوجود مقول بالتشكيك على ما تحته ، والمقول على الأشياء بالتشكيك يمتنع أن يكون نفس الحقيقة أو جزءا منها ، بل يكون دائما خارجا عنها لازما لها ، كالبياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج ، لا على السواء ، فهو ليس بماهيّة ولا جزء ماهيّة لهما بل هو لازم من خارج ؛ وذلك لأنّ بين طرفي التضادّ الواقع في الألوان أنواعا من الألوان لا نهاية لها بالقوّة ولا أسامي لها بالتفصيل يقع على كلّ جملة منها اسم واحد بمعنى واحد كالبياض أو الحمرة أو السواد بالتشكيك ، ويكون ذلك المعنى لازما لتلك الجملة غير مقوّم ، فكذلك الوجود في وقوعه على وجود الواجب وعلى وجود الممكنات المختلفة بالهويّات التي لا أسماء لها بالتفصيل ، فإنّه يقع عليها وقوع لازم خارجيّ غير مقوّم ، فالوجود يقع على ما تحته بمعنى واحد ، ولا يلزم من ذلك تساوي ملزوماته التي هي وجود الواجب ووجود الممكنات في الحقيقة ؛ لأنّ مختلفات الحقيقة قد تشترك في لازم واحد ، كالشمس والنار والحركة في الحرارة ، فالحقيقة التي لا تدركها العقول هي الوجود الخاصّ المخالف لسائر الوجودات بالهويّة ، الذي هو المبدأ الأوّل ، والوجود المعقول هو الوجود العامّ اللازم لذلك الوجود ولسائر الوجودات ، وهو أوّليّ التصوّر. وإدراك اللازم لا يقتضي إدراك الملزوم بالحقيقة ، وإلاّ لوجب من إدراك الوجود إدراك جميع الوجودات الخاصّة. وكون حقيقته تعالى غير مدركة وكون الوجود مدركا يقتضي المغايرة بين حقيقته تعالى والوجود المطلق لا الوجود الخاصّ به تعالى.

١٥٢

وهذا التحقيق ـ على ما حكي (١) ممّا نبّه عليه بهمنيار في التحصيل (٢) ، وقرّره المصنّف في شرح الإشارات (٣).

قال : ( وليس طبيعة نوعيّة على ما سلف ، فجاز اختلاف جزئيّاته في العروض وعدمه ).

أقول : هذا جواب عن استدلال ثان استدلّ به الذاهبون إلى أنّ وجوده تعالى زائد على حقيقته.

وتقرير الدليل : أنّ الوجود طبيعة واحدة نوعيّة ؛ لما بيّنّا من اشتراكه ، والطبائع النوعيّة تتّفق في لوازمها.

وقد بنى الحكماء على هذه القاعدة مطالب كثيرة ، كامتناع الخلاء ووجود الهيولى للأفلاك وغير ذلك من مباحثهم.

فنقول : طبيعة الوجود إن اقتضت العروض وجب أن يكون وجود واجب الوجود عارضا لماهيّة مغايرة له ، وكون ذاته محلّ العرض. وإن اقتضت عدمه ، كانت وجودات الممكنات غير عارضة لماهيّاتها ، فإمّا أن لا تكون موجودة ، أو يكون وجودها نفس حقائقها ، والقسمان باطلان ، فإن لم يقتض واحدا منهما ، لم يتّصف بأحدهما إلاّ بأمر خارج عن طبيعة الوجود ، فيكون تجرّد واجب الوجود محتاجا إلى المؤثّر. هذا خلف.

وتقرير الجواب : أنّ الوجود ليس طبيعة نوعيّة على ما حقّقناه ، بل هو مقول بالتشكيك لا يتساوى اقتضاؤه ؛ فإنّ النور يقتضي بعض جزئيّاته ـ كنور الشمس ـ إبصار الأعشى ، بخلاف سائر الأنوار ، والحرارة كذلك فإنّ الحرارة الغريزية تقتضي استعداد الحياة ، بخلاف سائر الحرارات ، فكذلك الوجود.

__________________

(١) الحاكي هو العلاّمة الحلّي قدس‌سره في « كشف المراد » : ٦٣.

(٢) « التحصيل » : ٢٨١ وما بعدها.

(٣) انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٣١ وما بعدها.

١٥٣

قال : ( وتأثير الماهيّة ـ من حيث هي ـ في الوجود غير معقول ).

أقول : لمّا أبطل استدلالاتهم شرع في إبطال الاعتراض الوارد على دليله ، وقد ذكر هنا أمرين :

أحدهما : أنّهم قالوا : لا نسلّم انحصار أحوال الماهيّة حالة التأثير في الوجود والعدم ، بل جاز أن تكون الماهيّة من حيث هي مؤثّرة في الوجود ، فلا يلزم التسلسل ولا تأثير المعدوم في الوجود.

والجواب : أنّ الماهيّة من حيث هي هي يجوز أن تقتضي صفات لها على سبيل العلّيّة والمعلوليّة إلاّ الوجود ؛ فإنّه يمتنع أنّ تؤثّر فيه من حيث هي هي ؛ لأنّ الوجود لا يكون معلولا لغير الموجود بالضرورة ، فتلزم المحاذير المذكورة ، والضرورة فرّقت بين الوجود وسائر الصفات.

قال : ( والنقض بالقابل ظاهر البطلان ).

أقول : هذا جواب عن السؤال الثاني.

وتقريره : أنّ ما ذكر في إثبات عينيّة وجود الواجب منقوض بقابل الوجود وهو الممكن ؛ فإنّ الممكن المعدوم لو لم يقبل الوجود إلاّ بشرط الوجود ، لزم تقدّم الشيء على نفسه أو تعدّد الوجودات للماهيّة الواحدة ، والكلّ محال ، وإذا كان كذلك ، فلم لا يعقل مثله في العلّة الفاعليّة؟

والجواب : أنّ معطي الوجود ومفيده لا بدّ أن يكون موجودا ببديهة العقل ؛ إذ لا يعقل تأثير الماهيّة بدون وجودها لا في وجود نفسها ولا في وجود غيرها ، بخلاف قابل الوجود ؛ فإنّه مستفيد له ، وإنّما يتجرّد عن الوجود في العقل لا بمعنى أنّه يكون في العقل منفكّا عن الوجود ؛ لأنّ الحصول في العقل نوع من الوجود ، بل بمعنى أنّ العقل يلاحظه منفردا عن الوجود والعدم ؛ حذرا عن حصول الحاصل واجتماع المتنافيين.

والحاصل : أنّ الماهيّة إنّما تكون قابلة للوجود عند وجودها في العقل فقط ،

١٥٤

بمعنى أنّ الوجود العلمي كاف في قبول الوجود العيني ، ولا يمكن أن تكون فاعلة لصفة خارجيّة عند وجودها في العقل فقط.

قال : ( والوجود من المحمولات العقليّة ؛ لامتناع استغنائه عن المحلّ وحصوله فيه ).

أقول : المراد أنّ الوجود ليس من الأمور العينيّة ، بل هو من المحمولات العقليّة الصرف.

وتقريره : أنّه لو كان ثابتا في الأعيان ، لم يخل إمّا أن يكون نفس الماهيّات الصادق عليها ، أو مغايرا لها ، والقسمان باطلان :

أمّا الأوّل : فلما تقدّم من أنّه زائد على الماهيّة ومشترك بين المختلفات ، فلا يكون نفسها.

وأمّا الثاني : فإمّا أن يكون جوهرا أو عرضا ، والأوّل باطل ، وإلاّ لم يكن صفة لغيره. والثاني باطل ؛ لأنّ كلّ عرض فهو حاصل في المحلّ ، وحصوله في المحلّ نوع من الوجود ، فيكون للوجود وجود ، هذا خلف. ويلزم تأخّره عن محلّه وتقدّمه عليه ، هذا خلف ، فبسبب امتناع استغنائه عن المحلّ يحكم أنّه من المحمولات ، وبسبب امتناع حصوله فيه حصولا خارجيّا ـ في أنّ الوجود والعدم من المعقولات الثانية لئلاّ يلزم كون الماهيّة موجودة قبل قيام الوجود بها ـ يحكم بأنّه من المحمولات العقليّة.

وفيه نظر ؛ لكفاية كون الوجود موجودا بنفسه ـ كما مرّ ـ في عروضه للماهيّة ؛ ولهذا يحكم كلّ عاقل بأنّ الماهيّة ذات وجود خارجي.

قال : ( وهو من المعقولات الثانية ).

أقول : المراد أنّ الوجود كالشيئيّة في أنّها من المعقولات الثانية ؛ إذ ليس الوجود ماهيّة خارجيّة على ما بيّنّاه ، بل هو أمر عقليّ يعرض للماهيّات ، وهو من المعقولات الثانية المستندة إلى المعقولات الأولى ، وليس في الموجودات شيء هو

١٥٥

وجود ، بل الموجود إمّا إنسان أو حجر أو غيرهما ، فتأمّل (١).

قال : ( وكذلك العدم ).

أقول : يعني أنّ العدم أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ؛ لما قلنا في الوجود ؛ إذ ليس في الأعيان ماهيّة هي عدم مطلق ، فهو دائما عارض لغيره.

قال : ( وجهاتهما ).

أقول : يعني به أنّ جهات الوجود والعدم ـ من الوجوب والإمكان والامتناع الذاتيّة والمشروطة ـ من المعقولات الثانية أيضا ؛ لما تقدّم من أنّها أمور اعتباريّة لا تحقّق لها في الخارج ، وقد سبق البحث فيه.

قال : ( والماهيّة ).

أقول : المراد أنّ الماهيّة أيضا من المعقولات الثانية ؛ فإنّ الماهيّة تصدق على الحقيقة باعتبار ذاتها لا من حيث إنّها موجودة أو معقولة وإن كان ما تصدق عليه الماهيّة من المعقولات الأولى ، وليس البحث فيه ، بل في الماهيّة ، أعني العارض ، فإنّ كون الإنسان ماهيّة أمر زائد على حقيقة الإنسانيّة.

قال : ( والكلّيّة والجزئيّة ).

أقول : المراد أنّ الكلّيّة والجزئيّة أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ؛ فإنّ الماهيّة من حيث هي هي وإن كانت لا تخلو عنهما إلاّ أنّها مغايرة لهما ،

__________________

(١) إشارة إلى أنّ المعقولات الثانية إمّا عبارة عمّا لا يفهم من اللفظ إلاّ تابعا لمفهوم آخر كالمفهوم بالنسبة إلى المنطوق.

أو عبارة عمّا لا يعقل إلاّ عارضا لمعقول آخر ، كما هو مصطلح المتكلّمين.

أو عبارة عمّا ليس له ما بإزاء وإن كان له منشأ انتزاع ، كما هي طريقة الحكماء.

ولا ريب أنّه لا يصدق على الوجود كونه من المعقولات الثانية على التفسيرين الأوّلين ، وكذا على التفسير الثالث بناء على أصالة الوجود خاصّة أو مع الماهيّة ، فينحصر الأمر في القول بأصالة الماهيّة خاصّة أو مصاديقها ، وهو خلاف التحقيق. ( منه رحمه‌الله ).

١٥٦

وهما تصدقان عليها صدق العارض على معروضه ؛ فإنّ الإنسانيّة لو كانت لذاتها كلّيّة لم تصدق جزئيّة ، وبالعكس ، فالإنسانيّة ليست من حيث هي هي كلّيّة ولا جزئيّة ، بل إنّما تصدق عليها الكلّيّة عند اعتبار صدق الحقيقة على أفراد متوهّمة أو متحقّقة. والجزئيّة إنّما تصدق عليها عند اعتبار أمور أخر لتلك الحقيقة ببعض الأفراد ، فهما من المعقولات الثانية.

قال : ( والذاتيّة والعرضيّة ).

أقول : المراد أنّ الذاتيّة والعرضيّة أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ، فإنّه ليس في الأعيان ذاتيّة ولا عرضيّة وليس لهما تأصّل في الوجود ، وقد يكون الذاتيّ لشيء عرضيّا لغيره ، وهما اعتباران عقليّان عارضان لماهيّات متحقّقة في أنفسها ، فهما من المعقولات الثانية.

قال : ( والجنسيّة والفصليّة والنوعيّة ).

أقول : المراد أنّ هذه أيضا أمور اعتباريّة عقليّة صرفة من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ؛ فإنّ كون الإنسان نوعا أمر مغاير للحقيقة الإنسانيّة ، عارض لها ، وإلاّ لامتنع صدق الإنسانيّة على زيد ، وكذلك الجنسيّة للحيوان ـ مثلا ـ أمر عارض له ، مغاير لحقيقته ، وكذا الفصليّة للناطق ، وهذا كلّه ظاهر.

المسألة الثانية والثلاثون : في تصوّر العدم.

قال : ( وللعقل أن يعتبر النقيضين ، ويحكم بينهما بالتناقض ، ولا استحالة فيه ).

أقول : العقل يحكم بالمناقضة بين السلب والإيجاب ، فلا بدّ وأن يعتبر هما معا ؛ لأنّ التناقض من قبيل النسب والإضافات لا يمكن تصوّره إلاّ بعد تصوّر معروضه ، فيكون متصوّرا للسلب والإيجاب معا.

ولا استحالة في اجتماعهما في الذهن دفعة ؛ لأنّ التناقض ليس بالقياس إلى الذهن ، بل بالقياس إلى ما في نفس الأمر ، فيتصوّر صورة ما [ ويحكم عليها بأنّه

١٥٧

ليس لها في الخارج ما يطابقها ، ثمّ يتصوّر صورة أخرى ] (١) ويحكم عليها بأنّ لها في الخارج ما يطابقها ، ثمّ يحكم على إحداهما بمقابلة الأخرى لا من حيث إنّهما حاضرتان في العقل ، بل من حيث إنّ إحداهما استندت إلى الخارج دون الأخرى.

وقد يتصوّر الذهن صورة ما ويتصوّر سلبها ؛ لأنّها مميّزة على ما تقدّم ، ويحكم على الصورتين بالتناقض لا باعتبار حضورهما في الذهن ، بل بالاعتبار الذي ذكرناه.

قال : ( وأن يتصوّر عدم جميع الأشياء حتّى عدم نفسه وعدم العدم بأن يتمثّل في الذهن ويرفعه وهو ثابت باعتبار (٢) ، قسيم باعتبار ، ويصحّ الحكم عليه من حيث هو ثابت ولا تناقض ).

أقول : الذهن يمكنه أن يتصوّر جميع المعقولات وجوديّة كانت أو عدميّة ، ويمكنه أن يلحظ عدم جميع الأشياء ؛ لأنّه يتصوّر العدم المطلق ، ويمكنه أن يقيسه إلى جميع الماهيّات ، فيمكنه أن يلحظه باعتبار نفسه ، فيتصوّر الذهن عدم نفسه ، وكذلك يمكنه أن يلحظ نفس العدم ، بمعنى أنّ الذهن يمثّل للعدم صورة ما معقولة متميّزة عن صورة الوجود ويتصوّر رفعها ويكون ثابتا باعتبار تصوّره ؛ لأنّ رفع الثبوت ـ الشامل للثبوت الخارجي والذهني ـ تصوّر لما ليس بثابت ولا متصوّر أصلا ، وهو ثابت باعتبار تصوّره ، وقسيم لمطلق الثابت باعتبار أنّه سلبه ، ولا استبعاد في ذلك ؛ فإنّا نقول : الموجود إمّا ثابت في الذهن أو غير ثابت في الذهن ، فبالاعتبار الأخير قسيم للوجود ، ومن حيث إنّه له مفهوم قسم من الثابت.

والحكم على رفع الثبوت المطلق من حيث إنّه متصوّر لا من حيث إنّه ليس بثابت ، ولا يكون متناقضا ؛ لاختلاف الموضوعين ؛ فإنّ موضوع قولنا : « المعدوم المطلق يمتنع الحكم عليه » هو مفهوم « المعدوم المطلق » المتصوّر باعتبار أنّه ثابت

__________________

(١) الزيادة أضفناها من « كشف المراد » : ٦٧ لتستقيم العبارة ويتّضح المعنى.

(٢) أي : باعتبار فرض العقل وتصوّره. ( منه رحمه‌الله ).

١٥٨

في الذهن ، وما له امتناع الحكم هو مصداق ذلك المفهوم ، فترتفع الشبهة المشهورة باشتمال ما ذكر على التناقض حيث حكم على المعدوم المطلق بامتناع الحكم المطلق ، فاتّصف بالامتناع والصحّة.

وفي بعض النسخ « ولا يصحّ الحكم عليه من حيث هو ليس بثابت ، وإلاّ تناقض » يعني أنّ المعدوم متّصف بامتناع الحكم عليه وليس ذلك من حيث إنّه ليس بثابت ، بل من حيث هو ثابت ، وإلاّ لزم التناقض ؛ لاتّحاد الجهة ، فمؤدّى العبارتين واحد.

قال : ( ولهذا يقسّم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ، ويحكم بينهما بالتمايز ، وهو لا يستدعي الهويّة لكلّ من المتمايزين ، ولو فرض له هويّة ، لكان حكمها حكم الثابت ).

أقول : هذا استدلال على أنّ للذهن أن يتصوّر عدم جميع الأشياء.

وبيانه : أنّا نقسّم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ، ونحكم بامتياز أحدهما عن الآخر ومقابلته له ، والحكم على الشيء يستدعي تصوّره وثبوته في الذهن ، فيجب أن يكون ما ليس بثابت في الذهن ثابتا فيه ، فقد تصوّر الذهن سلب ما وجد فيه ، ولا محذور فيه ؛ فإنّ ما ليس بثابت في الذهن ثابت فيه من حيث إنّه متصوّر ، وغير ثابت فيه من حيث إنّه سلب لما في الذهن.

لايقال : امتياز أحد الشيئين عن الآخر يستدعي أن يكون لكلّ من المتمايزين هويّة مغايرة لهويّة الآخر حتّى يحكم بينهما بالامتياز ، فلو كان العدم ممتازا عن الوجود ، لكان له هويّة متميّزة عنه ، لكن ذلك محال ، لأنّ العقل يمكنه رفع كلّ هويّة فيكون رفع هويّة قسيما للعدم وقسما منه ، وهذا محال.

لأنّا نقول : لا نسلّم وجوب الهويّة لكلّ من المتمايزين ، وإنّا نحكم بامتياز الهويّة عن اللاّهويّة ، وليس للاّهويّة هويّة.

سلّمنا ثبوت الهويّة لكلّ [ من المتمايزين ] (١) ، لكن هويّة العدم داخلة باعتبار

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة : « متمايزين ». والظاهر ما أثبتناه.

١٥٩

الهويّة في قسم الهويّة ، وباعتبار فرض أنّها اللاّهويّة تكون مقابلة للهويّة وقسيما لها ، ولا امتناع في كون الشيء قسما من الشيء وقسيما له باعتبارين ، على ما تقدّم تحقيقه في باب الثبوت.

قال : ( وإذا حكم الذهن على الأمور الخارجيّة بمثلها ، وجب التطابق في صحيحه ، وإلاّ فلا ، ويكون صحيحه باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر ؛ لإمكان تصوّر الكواذب ).

أقول : الأحكام الذهنيّة قد تؤخذ بالقياس إلى ما في الخارج ، وقد تؤخذ لا بهذا الاعتبار ، فإذا حكم الذهن على الأشياء الخارجيّة بأشياء خارجيّة مثلها ، كقولنا :

« الإنسان حيوان في الخارج » وجب أن يكون مطابقا لما في الخارج حتّى يكون حكم الذهن صحيحا ، وألاّ يحكم بالموجودات الخارجيّة على مثلها كأن حكم على الأمور العقليّة بالأمور العقليّة ، فلا يجب في صحّة الحكم مطابقته للخارج لعدم اعتباره ، كما في النسبة السلبيّة ، فإنّها لا تتوقّف على وجود الطرفين ، بل لو تطابق فيها النسبة الحكميّة والخارجيّة كان الحكم صحيحا ، وإلاّ لكان باطلا. فإن حكم على أشياء خارجيّة بأمور معقولة ، كقولنا : « الإنسان ممكن » ، أو حكم على الأمور الذهنيّة بأحكام ذهنيّة ، كقولنا : « الإمكان مقابل للامتناع » لم تجب مطابقته لما في الخارج ؛ إذ ليس في الخارج إمكان وامتناع متقابلان ولا في الخارج إنسان ممكن.

إذا تقرّر هذا ، فنقول : الحكم الصحيح في هذين القسمين لا يمكن أن يكون باعتبار مطابقته لما في الخارج ؛ لما تقدّم من أنّ الحكم ليس مأخوذا بالقياس إلى الخارج ، ولا باعتبار مطابقته لما في الذهن ؛ لأنّ الذهن قد يتصوّر الكواذب ؛ فإنّا قد نتصوّر كون الإنسان واجبا مع أنّه ممكن ، فلو كان صدق الحكم باعتبار مطابقته لما في الذهن ، لكان الحكم بوجوب الإنسان صادقا ، لأنّ له صورة مطابقة لهذا الحكم ، بل يكون باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر.

قال العلاّمة رحمه‌الله : « وقد كان في بعض أوقات استفادتي منه رحمه‌الله جرت هذه النكتة

١٦٠