البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

( الفصل الأوّل : في الوجود والعدم )

فيه مسائل :

المسألة الأولى : في ( تحديدهما ).

اعلم أنّ أرباب المعقول اختلفوا في المقام على أقوال :

الأوّل : أنّه نظريّ محتاج إلى الكسب.

الثاني : أنّه بديهيّ التصوّر ، فلا يجوز أن يعرّف إلاّ تعريفا لفظيّا ، وكذا الحكم ببداهته أيضا بديهيّ.

الثالث : أنّه بديهيّ ، والحكم ببداهته كسبيّ.

الرابع : أنّه لا يتصوّر لا بداهة ولا كسبا.

فعن المتكلّمين تحديد الوجود ( بالثابت العين ، و ) تحديد العدم بأنّه عبارة عن ( المنفيّ العين ) (١).

ويرد عليه : بأنّه تعريف للموجود والمعدوم ، فلا بدّ أن يعرّف الوجود بثبوت العين ، والعدم بنفي العين مع كون النفي بمعنى الانتفاء حتّى يكون التعريف للعدم لا الإعدام.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ « الثابت » أعمّ من أن يكون ثابتا بنفسه وهو الوجود أو

__________________

(١) انظر : « شرح المقاصد » ١ : ٢٩٦ ؛ « شوارق الإلهام » المسألة الأولى من الفصل الأوّل.

٨١

بالوجود وهو الموجود ، وإن كان الظاهر من « الثابت » بحسب اللغة ما له الثبوت ، وهو معنى الموجود ، وأنّ زيادة لفظ « العين » لدفع توهّم أن يراد الثابت لشيء بالوجود الرابطي أو المنفيّ عن شيء ، فإنّ ذلك معنى المحمول.

أو يقال : إنّ المشتقّ محمول على مبدأ الاشتقاق في الثابت والمنفيّ ، أو العكس في الوجود والعدم بإرادة الموجود والمعدوم تسامحا ، إشعارا بأنّ احتياج الموجود والمعدوم إلى التعريف إنّما هو لاحتياج الوجود والعدم إليه ؛ لأنّ مفهوم صيغة المشتقّ معلوم لكلّ من يعرف اللغة ، أو لتساويهما في المعرفة والجهالة ، أو للإشارة إلى أصالة الوجود مع ملاحظة تبعيّة العدم.

أو يقال : إنّ الضمير راجع إلى الموجود والمعدوم ؛ لدلالة الوجود والعدم عليهما.

وعن الفارابي : أنّ الوجود إمكان الفعل والانفعال ، والموجود ما أمكنه الفعل والانفعال (١).

وعن بعض الحكماء تعريفه بمثل ذلك ، مثل قولهم : « الموجود هو الذي يكون فاعلا أو منفعلا » (٢) أو : « الذي ينقسم إلى الفاعل والمنفعل » (٣) أو : « ينقسم إلى الحادث والقديم ، والمعدوم ما ليس كذلك » (٤) ( أو ) بغير ذلك ، كالتعريف بأنّهما عبارتان عن ( الذي يمكن أن يخبر عنه ، ونقيضه ) وهو الذي لا يمكن أن يخبر عنه بمثل ما مرّ (٥).

وعن المحقّقين : أنّ تصوّر الوجود بديهيّ ، بل هذا الحكم أيضا بديهيّ يقطع به كلّ عاقل يلتفت إليه وإن لم يمارس طرق الاكتساب ، بل عن جمهور الحكماء أنّه

__________________

(١) انظر : « شرح المقاصد » ١ : ٢٩٧.

(٢) « المباحث المشرقية » ١ : ٩٧.

(٣) « شرح المقاصد » ١ : ٢٩٥.

(٤) « شرح المقاصد » ١ : ٢٩٥ ؛ « شوارق الإلهام » المقصد الأوّل ، الفصل الأوّل ، في المسائل المتعلّقة بالوجود.

(٥) أي يرد عليه بمثل ما مرّ.

٨٢

لا شيء أعرف من الوجود ، فلو عرّف بشيء ، كان تعريفا لفظيّا (١).

واختاره المصنّف ، فأفاد أنّ جميع ما ذكر في تعريفه ( يشتمل على دور ظاهر ) واضح أو مصرّح غير مضمر ؛ لاشتماله على ما يرادفه ، فيلزم توقّف الشيء على نفسه ؛ إذ لا يعقل معنى « الذي ثبت » و « الذي يمكن » ونحو ذلك إلاّ بعد تعقّل معنى الحصول في الأعيان أو الأذهان ، أو لأنّ الموصوف المقدّر هو الوجود كما قيل (٢).

فلا يكون المراد تعريفا حقيقيّا موقوفا على تصوّر المعرّف المشتمل على المرادف ( بل المراد تعريف اللفظ ) بتبديل لفظ بلفظ أعرف عند السامع ( إذ لا شيء أعرف من الوجود ) حتّى يجعل معرّفا حقيقيّا له ، فيكون بديهيّا ؛ لبطلان الدور والتسلسل ومماثلة المعرّف ، بل الحكم بكونه بديهيّا أيضا بديهيّ ؛ لما مرّ.

وعن الإمام الرازي : أنّ الوجود متصوّر بالبديهة ، ولكنّ الحكم بكونه بديهيّا كسبيّ محتاج إلى الاستدلال (٣).

( والاستدلال ) على بداهة تصوّر الوجود ( بتوقّف التصديق بالتنافي ) أي بالمنافاة بين الوجود والعدم ، بأن يقال : الوجود والعدم متنافيان لا يصدقان على أمر ( عليه ) أي على تصوّر الوجود والعدم ؛ لأنّ كلّ تصديق موقوف على تصوّر الموضوع والمحمول ونحوهما ، فيكون التصديق بالمنافاة بينهما ـ أيضا ـ متوقّفا عليه ؛ لأنّ التصديق المذكور مسبوق بتصوّر الوجود والعدم ، وحيث كان ذلك التصديق بديهيّا كان تصوّر الوجود والعدم أولى بالبداهة ؛ لأنّ بداهة الكلّ في نفس الأمر تتوقّف على بداهة أجزائه فيها وإن لم يتوقّف العلم ببداهته على العلم ببداهة أجزائه ، الذي هو تابع متفرّع على العلم الأوّل بملاحظة أنّ الوجود والعدم جزءان له ، كعدم توقّف العلم بكلّيّة الكبرى على العلم بالنتيجة مع كون العلم بالنتيجة تابعا

__________________

(١) « شرح المقاصد » ١ : ٢٩٥.

(٢) « شرح المقاصد » ١ : ٢٩٦.

(٣) « المطالب العالية » ١ : ٣٠١ ، ونقل فيه اتّفاق الحكماء على ذلك ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٩٨ ـ ٩٩.

٨٣

للعلم بكلّيّة الكبرى.

( أو ) الاستدلال بأنّ الوجود متصوّر بالكنه ، وحصول العلم منحصر في الضرورة والاكتساب ، والاكتساب إمّا بالحدّ أو الرسم ، والحدّ لا يكون إلاّ للمركّب من الأجزاء ، والأجزاء إمّا وجودات فيحكم ( بتوقّف الشيء على نفسه ، أو ) غير وجودات لا يحصل من اجتماعها الوجود ، فيلزم كون الوجود محض ما ليس بوجود ، وهو محال.

وإن حصل أمر زائد هو الوجود يلزم ( عدم تركّب الوجود مع فرضه مركّبا ) لكون التركيب في معروضه ، ( و ) الرسم لا يفيد العلم إلاّ بعد العلم باختصاص الخارج بالمرسوم ، وهذا متوقّف على العلم به ، وهو دور يقتضي ( إبطال الرسم ).

وكلّ واحد من الاستدلالين ( باطل ).

أمّا الأوّل : فلأنّه إن أريد أنّ الحكم المذكور بجميع متعلّقاته بديهيّ ، فهو ممنوع بل مصادرة. وإن أريد أنّ نفس الحكم بديهيّ ، فهو مسلّم ، لكنّه لا يثبت المدّعى.

وأمّا الثاني ؛ فبالنقض والحلّ :

أمّا النقض فبسائر الماهيّات ؛ لأنّ أجزاء البيت إمّا بيوت أو غير بيوت ، على نحو ما مرّ.

وأمّا الحلّ فباختيار أمر زائد على كلّ جزء ، وهو المجموع الذي هو نفس الوجود ، فلا يكون التركيب إلاّ فيه ، فالوجود محض المجموع الذي ليس شيء من أجزائه بوجود ، كما أنّ البيت محض الأجسام والهيئة التي ليس شيء منها ببيت.

وقال صدر الحكماء الإشراقيّين في الشواهد الربوبيّة : « الوجود لا يمكن تصوّره بالحدّ ولا بالرسم ولا بصورة مساوية له ؛ إذ تصوّر الشيء عبارة عن حصول معناه وانتقاله من حدّ العين إلى حدّ الذهن ، فهذا يجري في غير الوجود ، وأمّا في الوجود فلا يمكن ذلك إلاّ بصريح المشاهدة وعين العيان ، دون إشارة الحدّ والبرهان ، وتفهيم العبارة والبيان ، وإذ ليس له وجود ذهني فليس بكلّيّ ولا جزئيّ ولا عامّ ولا خاصّ

٨٤

ولا مطلق ولا مقيّد ، بل تلزمه هذه الأشياء بحسب الدرجات وما يوجد به من الماهيّات وعوارضها ، وهو في ذاته أمر بسيط لا يكون له جنس ولا فصل ، ولا ـ أيضا ـ يحتاج إلى ضميمة قيد فصليّ أو عرضي ، مصنّف أو مشخّص » (١).

وقال بعض أفاضل من عاصرناه (٢) ما حاصله : « أنّ الذي يعبّر عنه عند طلب معرفته بالوجود ثلاثة أقسام ؛ لأنّ الشيء إمّا صانع ، أو صنع ، أو مصنوع ؛ فالصانع هو الواجب ، والصنع فعله ، والمصنوع ما سواه :

[ القسم ] الأوّل : الوجود الحقّ المسمّى بالوجه ، وهو الواجب المقدّس عن كلّ ما سواه حتّى إطلاق العبارة ، فإذا أطلقت العبارة فإنّما تقع على العنوان ، أعني الدليل عليه ، وهو ما أوجده الله تعالى من وصفه لعباده.

وهذا الوجود لا يدرك بعموم ولا خصوص ، ولا إطلاق ولا تقييد ، ولا كلّ ولا جزء ، ولا كلّيّ ولا جزئيّ ، ولا بمعنى ولا لفظ ، ولا كمّ ولا كيف ، ولا رتبة ولا جهة ، ولا وضع ولا إضافة ، ولا نسبة ولا ارتباط ، ولا في وقت ولا في مكان ، ولا على شيء ولا في شيء ، ولا فيه شيء ولا من شيء ولا لشيء ولا كشيء ولا عن شيء ، ولا بلطف ولا بغلظ ، ولا باستدارة ولا امتداد ، ولا حركة ولا سكون ، ولا استضاءة ولا ظلمة ، ولا بانتقال ولا بمكث ، ولا تغيّر ولا زوال ، ولا يشبهه شيء ، ولا يخالفه شيء ، ولا يوافقه شيء ، ولا يعادله شيء ، ولا يبرز من شيء ولا يبرز منه شيء ، وكلّ صفة أو جهة أو صورة أو مثال أو غير ذلك ـ ممّا يمكن فرضه أو وجوده أو تمييزه أو إبهامه ـ فهو غيره ، ولا يدرك بشيء ممّا ذكر أو غيره ؛ لأنّها صفات الخلق ، ولا بضدّه ؛ إذ لا ضدّ له. ولا يعرف بما هو (٣) في سرّ ولا علانية ، ولا طريق إلى

__________________

(١) « الشواهد الربوبيّة » : ٦ ـ ٧ ، المشهد الأوّل.

(٢) وهو الشيخ أحمد الأحسائي في الفوائد وشرحه. ( منه رحمه‌الله ).

(٣) أي بالإشارة ولا التصريح ولا بوجه من الوجوه الموقوفة على الإطاعة بالمعروف. نعم ، وصف نفسه بما يوجب المعرفة ؛ لاقتضاء اللطف ... بما وصف به نفسه. ( منه رحمه‌الله ).

٨٥

معرفته بوجه لا بنفي ولا إثبات ، إلاّ بما وصف به نفسه ، ولا يدرك أحد كنه صفته ، وإنّما يعرفه بما يعرّف له به ، ولم يتعرّف (١) لأحد بنحو ما عرفه من غيره ، وإلاّ لشابهه سبحانه ، فهو المعلوم والمجهول (٢) والموجود والمفقود (٣) ، فجهة (٤) معلوميّته نفس مجهوليّته ، ونفس مشهوديّته عين مفقوديّته ، فهو لا يعرف بغيره ، وغيره يعرف به (٥) ، فهو الواجب الحقّ والمجهول المطلق.

وهذا القسم يعبّر عنه بالذات البحت ، ومجهول النعت ، وشمس الأزل ، ومنقطع الإشارات ، والكنز المخفيّ ، والمنقطع الوجداني ، وكلّها عبارات مخلوقة تقع على مقاماته وعلاماته التي لا تعطيل لها في كلّ مكان.

القسم الثاني : الوجود المطلق بمعنى أنّه غير مقيّد بشرط يتوقّف عليه ، لا أنّه صادق على الواجب والممكن. وهذا هو المشيئة التي خلقها الله (٦) بنفسها وأقامها بنفسها وأمسكها بظلّها ومادّتها ، كما أنّ أبانا آدم عليه‌السلام أبوه مادّته وأمّه صورته ، أو بالعكس ، كما عليه الحكماء ، فليس له أب ولا أمّ غير مادّته وصورته.

القسم الثالث : الوجود المقيّد المعبّر عنه بأنّه وجود بشرط لا وبشرط شيء ، وهو الفعل باعتبار تعلّقه بالمفعول ، وهو الجعل الذي يستعمل كثيرا ما في إيجاد اللوازم

__________________

(١) أي لم يصف نفسه لأحد بمثل ما وصف غيره له ، فإنّه عرّف نفسه بأنّه ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [ الشورى (٤٢) : ١١ ] وعرّف القرطاس ـ مثلا ـ بأنّه أبيض ... وصف نفسه بالبياض فشابه القرطاس في البياض ، فهو تعالى لم يصف نفسه بوصف ... من أوصاف الخلق ، كذا أفاده في الشرح. ( منه رحمه‌الله ).

(٢) أي مكتنهة ( منه رحمه‌الله ).

(٣) بذاته لمن طلب حقيقة ذاته. ( منه رحمه‌الله ).

(٤) لأنّك تعرفه بأنّه لا يوصف ولا يحاط به علما ، وليس كمثله شيء ، وهذه صفة توجب كونه تعالى مجهول الكنه ، وأنّك تشاهد آثاره ، ككلام من متكلّم خلف الجدار ، فمشاهدته بآثار صنعه حال غيبته ، فوجدانه عين فقدانه ، كذا أفاده في الشرح. ( منه رحمه‌الله ).

(٥) فإنّه يعرف بأنّه مصنوعه وأثر فعله. ( منه رحمه‌الله ).

(٦) لأنّها حركة إيجادية محدثة تتوقّف حداثتها على حركة إيجاديّة ، وهي حركة إيجاديّة ، فلا تحتاج لما بغير نفسها فهي شيء واحد. ( منه رحمه‌الله ).

٨٦

لملزوماتها كالوجود والماهيّة ، وقد يستعمل للتصيير والقلب لشيء إلى شيء آخر كجعل الطين خزفا ، وهو واحد لا تعدّد فيه لذاته ؛ لأنّه حركة إيجاديّة ، فهي واحدة ، وإنّما تتكثّر باعتبار متعلّقها ، وتتعدّد وجوهها باعتبار تعدّد متعلّقاتها.

قال تعالى : ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) (١) فجعل الوجود متعلّقا به خاصّة ، وجعل الماهيّة متعلّقا بها خاصّة ، فلا يصدران من جعل واحد ليصحّ فيه اعتبار التركيب.

نعم ، له رءوس بعدد المجعولات ، ولكلّ رأس وجوه بعدد أحواله.

وقال في بعض إفاداته : « الوجودات ثلاثة : وجود حقّ ، ووجود مطلق ، ووجود مقيّد. والوجود الحقّ ذات الواجب تعالى مع قطع النظر عن الصفات. والوجود المطلق فعل الله ومشيئته وإرادته. والوجود المقيّد المفعولات بأسرها ـ إلى أن قال ـ : والوجود المقيّد من الوجود المطلق مثل الوجود المطلق من الوجود الحقّ ، فمراتب الوجود متناسبة صعودا ونزولا » (٢).

أقول : الوجود له معنيان : مصدريّ ، واسميّ.

والمصدريّ عبارة عن كون الشيء وثبوته وتحقّقه وتحصّله المعبّر عنه بالفارسيّة بـ « بودن » و « هستى داشتن » ويقابله العدم. وما يتّصف بهما يسمّى ماهيّة.

والا سمي عبارة عن منشأ الأثر.

والأوّل أمر بديهيّ يعرفه كل أحد ، ولكنّه قد يعرّف بالتعريف اللفظي ، ولهذا يقال : إنّ الوجود بديهيّ التصوّر ؛ لتحقّقه في كلّ موجود في الذهن ، فيكون تصوّر كلّ شيء موقوفا عليه ، فيتحقّق الكون في الذهن. والعلم عبارة عن حصول الشيء في الذهن وإن كان العلم بالعلم موقوفا على التفات النفس.

__________________

(١) الذاريات (٥١) : ٤٩.

(٢) « الفوائد وشرحه » الورقة ٢ وما بعدها ، مخطوطة برقم ٧٥٣٧ والورقة ١٧٤ من المخطوطة المرقّمة ١٦٩٧ في مكتبة آية الله المرعشي النجفي.

٨٧

وهذا المعنى متصوّر في جميع الموجودات وإن اختلف باختلاف الإضافات مع اختلاف الأشياء بالذات ، وهو إن كان أصليّا لا رابطيّا يكون موجودا في الخارج ، بمعنى أنّ الخارج ظرف لنفسه لا لوجوده كما في سائر الموجودات.

وهو بهذا المعنى مشترك معنويّ صادق على الكلّ ولو بنحو صدق العرض العامّ ، ولهذا يسمّى وجودا عامّا ، كما سيأتي.

وأمّا المعنى الثاني فهو وجود خاصّ يكون في الواجب عين ذاته ، وفي الممكن زائدا على ذاته ، وهو منشأ أثره. والأوّل منهما مجهول الكنه دون الثاني ، فالوجود ثلاثة :

الأوّل : الوجود العامّ.

والثاني : الوجود الخاصّ الواجبي.

[ و ] الثالث : الوجود الخاصّ الممكني.

وأمّا إطلاق الوجود على الموجود ـ كما هو ظاهر ما حكيناه عن بعض الأفاضل ـ فهو غير وجيه ، إلاّ على مذهب من يقول بأصالة الوجود ، أو وحدة الوجود ، وهو بما سيأتي مردود.

وكيف كان فالوجود العامّ بديهيّ التصوّر مع بداهة الحكم به أيضا ، كما لا يخفى.

والوجود الممكني مجهول يستعلم بالكسب بأنّه عرض قائم بذات الممكن ، وبه يكون الممكن منشأ للأثر.

والوجود الواجبي مجهول الكنه لا يمكن استعلام كنهه ولا يتصوّر أصلا.

نعم ، هو متصوّر بالوجه وبالآثار وبما يصدق عليه ، مثل أنّه صانع العالم ، أو الواجب بالذات أو نحو ذلك ، وإلاّ لا يمكن التصديق بوحدته ونحوها ، فلا يتحقّق الإيمان.

فالقول بعدم إمكان تصوّر الوجود أصلا ـ تمسّكا بنحو أنّه لو تصوّر لارتسمت في النفس صورة متساوية له ، مع أنّ للنفس وجودا فيجتمع مثلان ـ ضعيف ؛ لمنع

٨٨

التماثل بين وجود النفس والصورة الكلّيّة الموجودة فيها ، مضافا إلى تعدّد المحلّ.

وكيف كان فقد نظمت هذا المطلب بقولي :

حدّ الوجود بثبوت العين

أو نحوه دور بغير مين

فليقصد اللفظيّ من يعرّف

إذ ليس شيء من وجود أعرف

ذكر الدليل في المقام باطل

لأنّ علم العلم أيضا حاصل

المسألة الثانية : في أنّ الوجود مشترك معنويّ أو لفظيّ ، بمعنى أنّ الوجود مفهوم واحد يصدق على الوجودات الخاصّة المتخالفة ، لا نفس تلك الوجودات.

وبعبارة أخرى : بمعنى أنّ المفهوم الذي يقال له : « الوجود » مفهوم كلّيّ.

وبعبارة أخرى : ماهيّة الوجود ماهيّة كلّيّة واقعيّة تتحقّق في ضمن الخصوصيّات ، فتكون الخصوصيات مشتركة في ذلك المفهوم ، ويكون ذلك المفهوم بحسب نفس الأمر مشتركا فيه من غير ملاحظة لفظ الوجود ووضعه ، فيكون الاشتراك في المعنى ، أو ذلك المفهوم عبارة عن نفس الخصوصيّات المتباينة المختلفة أو ما يختصّ بها ، فلا اشتراك إلاّ في اللفظ وإطلاقه.

فعلى هذا تكون المسألة عقليّة من مسائل العلم المعقول لا علم الأصول ؛ ولهذا لا بدّ أن يكون المدرك هنا هو العقل بنحو عدم صحّة السلب عند العقل والعقلاء.

وأمّا المسألة الأصوليّة فهي أنّ اللفظ موضوع للقدر المشترك ، فيكون الاشتراك فيه ـ ولو بملاحظة المعنى ـ معنويّا ، أو لنفس الخصوصيّات ، فيكون الاشتراك لفظيّا.

ومدرك هذه المسألة هو العرف بنحو عدم صحّة السلب عند العرف وأهل اللسان ، فتكون المسألة المذكورة متعلّقة بالمبدإ ، فتكون مسألة كلاميّة باحثة عن أحوال المبدأ بأنّ وجوده من أفراد مطلق الوجود ، كما هو كذلك بمقتضى الاشتراك المعنوي ، أو وجود مباين يطلق عليه لفظ الوجود ، كما هو مفاد القول بالاشتراك اللفظي ، وأنّ المجعول ماهيّة ووجود ، أو خصوص الوجودات.

٨٩

اعلم أنّ العلماء اختلفوا في هذه المسألة على قولين :

الأوّل : أنّ الوجود له مفهوم واحد مشترك بين الوجودات ، وهو مختار جمهور المحقّقين (١) ، كما حكي.

الثاني : أنّ وجود كلّ شيء عين ماهيّته ، ولا اشتراك إلاّ في لفظ الوجود ، وهو المحكيّ عن أبي الحسن الأشعري وأبي الحسين البصري (٢).

واختار المصنّف الأوّل ، واستدلّ له بقوله : ( وتردّد الذهن حال الجزم بمطلق الوجود ، واتّحاد مفهوم نقيضه ، وقبوله القسمة يعطي الشركة ) ففيه إشارة إلى وجوه ثلاثة :

[ الوجه ] الأوّل : أنّه لو كان الوجود مشتركا لفظيّا لا معنويّا ، لما أمكن وما وقع تردّد الذهن في خصوصيّات الوجود والماهيّات مع الجزم بالوجود المطلق ، ولكن أمكن ووقع تردّد الذهن فيها مع الجزم بالوجود المطلق ، فلا يكون مشتركا لفظيّا ، بل يكون معنويّا.

أمّا الملازمة : فلأنّ الوجود ـ على تقدير الاشتراك اللفظي وعدم الاشتراك المعنوي ـ إمّا أن يكون نفس الخصوصيّات أو من خواصّها الذاتيّة أو العرضيّة ؛ لعدم تصوّر غير ذلك.

وعلى الأوّل يكون التردّد في الخصوصيّات عين التردّد في الوجودات التي هي أعيان تلك الخصوصيّات ، ويكون الجزم بالوجود عين الجزم بها ، فبين التردّدين والجزمين تلازم يمتنع به التخلّف.

وكذا على الثاني ؛ لأنّ التردّد في شيء يستلزم التردّد فيما يختصّ به.

وأمّا بطلان التالي : فلأنّا إذا رأينا حادثا ، جزمنا أنّ له مؤثّرا موجودا ، مع التردّد في كونه واجبا أو ممكنا ، جوهرا أو عرضا ، إلى غير ذلك من الخصوصيّات ، وذلك

__________________

(١) « محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين » : ١٤٧ ـ ١٧٧ ؛ « شرح المواقف » ٢ : ١١٢ ـ ١١٣.

(٢) انظر : « شرح المقاصد » ١ : ٣٠٧ ؛ « شرح المواقف » ٢ : ١١٢.

٩٠

يفيد اشتراك الوجود معنى.

ومثله ما يمكن أن يقال من أنّا إذا جزمنا بوجود معلول ، وجزمنا بأنّ له علّة موجودة ، وأنّها ذلك الشيء ، ثمّ زال الاعتقاد الأخير بأنّها شيء آخر ، بقي الاعتقاد بوجود العلّة مع زوال الاعتقاد بوجود شيء خاصّ ، فلولا أنّ الوجود مشترك معنى ، لم يتصوّر ذلك قطعا.

[ الوجه ] الثاني : أنّ مفهوم العدم واحد لا تعدّد فيه ولا امتياز ، فيكون مفهوم نقيضه ـ الذي هو الوجود ـ واحدا ، وإلاّ لم ينحصر التقسيم بين الموجود والمعدوم ؛ لاحتمال موجود آخر ، ولم يتحقّق التناقض ؛ لأنّه لا يكون إلاّ بين المفهومين.

[ الوجه ] الثالث : أنّ مفهوم الوجود قابل للتقسيم بين الماهيّات ، وكلّ ما هو كذلك فهو مشترك بينها ، فيكون الوجود مشتركا بينها.

أمّا المقدّمة الأولى ؛ فلأنّا نقسّم الوجود إلى وجود الواجب ووجود الممكن ، ووجود الممكن إلى وجود الجوهر ووجود العرض ، وإلى الذهني والخارجي ، والعقل يقبل هذه القسمة.

وأمّا المقدّمة الثانية ؛ فلأنّ القسمة عبارة عن ضمّ قيود متخالفة إلى مورد القسمة ليحصل بانضمام كلّ إليه قسم ، فالقسم عبارة عن مجموع مورد القسمة مع القيد الفصلي أو نحوه ، فلا يتحقّق بدون مورد القسمة ، الذي هو المشترك فيه ، فلا بدّ أن يكون مورد القسمة مشتركا فيه بين جميع أقسامه.

فإن قلت : اشتراك الوجود مستلزم لتركّب الواجب ممّا به الاشتراك وما به الامتياز ، وهو مناف لوجوب الوجود ، فلا بدّ من القول بوحدة الوجود ؛ حذرا عن نفي واجب الوجود.

قلت : هذا مبنيّ على كون اشتراك الوجود من قبيل اشتراك الجنس والذاتيّ ، وليس كذلك ؛ فإنّ صدق الوجود المطلق على الواجب والممكن صدق العرض العامّ على ما تحته ، بمعنى أنّه ينتزع من الآثار مفهوم كلّيّ صادق على الواجب الذي هو

٩١

المؤثّر والممكن الذي هو المتأثّر ، وهو مطلق الكون والتحقّق والثبوت ـ المعبّر عنه بالفارسيّة بـ « بودن » كما يعبّر عن الحالة الحاصلة بالمصدر بـ « هستى » ـ كالشيئيّة الصادقة عليهما معا باعتبار الأثر فعلا أو انفعالا ، فإذا كان ذلك الصدق في مقام الأثر والفعل لا مقام الذات ، لا يلزم كون الواجب محلّ العرض الذي يكون موجودا في الموضوع في الخارج.

ويظهر ممّا ذكرنا أنّ الوجود مشترك معنويّ باعتبار ملاحظة الوجود المطلق الذي هو من الأمور العامّة التي هي محلّ الكلام والبحث.

وأمّا باعتبار ملاحظة الوجود الخاص الواجبي والوجود المقيّد الممكني فلا ؛ لأنّ وجود الواجب عين حقيقته.

ولا يصحّ سلب الوجود عنه على وجه الخصوصيّة من غير ملاحظة كونه مصداقا لمطلق الوجود أيضا ، مع استحالة كون الوجود المطلق العرضي المصدري عين ذات الواجب ، بل يستحيل كونه عين ذات الممكن فضلا عن الواجب ، بل الوجود بمعنى منشأ الأثر عين ذات الواجب ، كما مرّ.

وكذا الوجود الخاصّ الإمكاني ، فإنّه مع ملاحظة الخصوصيّة أيضا وجود ، فللوجود جهة اشتراك لفظيّ أيضا ، كالإمكان بالنسبة إلى مطلق الإمكان والإمكان الخاصّ.

وبمثل هذا يمكن دفع ما يرد على خصوص الدليل الأوّل ، بأنّ الأمر الباقي المقطوع به هو أنّه موجود بأحد الوجودات المتخالفة الذوات مطلقا ، فإنّ الوجدان يشهد على أنّ الباقي هو مفهوم الوجود المطلق ، لا مفهوم أحد الوجودات ، بل قد لا يتصوّر هذا المفهوم.

وعلى الثاني بأنّ معنى قولنا : « زيد إمّا موجود أو معدوم » أنّه موجود بأحد الوجودات المتخالفة.

ووجه الاندفاع ظاهر ممّا ذكرنا.

٩٢

وقد يورد عليه بأنّ اتّحاد مفهوم العدم لا دخل له في الاستدلال ، بل على تقدير تعدّده كان بطلان الحصر أظهر ؛ إذ يزيد على هذا التقدير احتمال آخر ، مثلا : نقول في المثال المذكور : يجوز أن يكون زيد متّصفا بالعدم بمعنى آخر ، فالأولى أن يطرح من البين ويقال : لو لم يكن الوجود مشتركا ، لبطل الحصر العقلي ، ويساق الكلام إلى آخره.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ المراد أنّ مفهوم العدم واحد ، فلو لم يكن مفهوم الوجود أيضا واحدا ، لكان العدم الواحد نقيضا لكلّ من الوجودات المتعدّدة ، وذلك باطل ؛ لأنّ التناقض لا يكون إلاّ بين المفهومين كما أشرنا.

وعلى الثالث أنّ تقسيم الوجود بتأويل المسمّى به ؛ لاندفاعه بشهادة الوجدان على صحّة التقسيم باعتبار نفس مفهوم الوجود من غير ملاحظة مفهوم المسمّى وصدق لفظ الوجود.

وبالجملة ، فمن لا يسلّم الاشتراك في مطلق الوجود كما لا يسلّم الاشتراك في مطلق السلب ، بل المشترك عنده هو لفظ الوجود والسلب ـ كما حكى الفاضل القوشجي (١) ـ ضعيف جدّا.

وقد نظمت هذا المطلب بقولي :

وللوجود شركة معنى فلم

يصغ إلى النفي لوحدة العدم

وهكذا حالة الانقسام

والجزم بالمطلق لا الأقسام

المسألة الثالثة : في أنّ الوجود زائد على الماهيّات.

قال : ( فيغاير الماهيّة ، وإلاّ اتّحدت الماهيّات ، أو لم تنحصر أجزاؤها ).

أقول : اختلفوا في أنّ الوجود نفس الماهيّة أو زائد عليها؟

والظاهر أنّ الكلام في الوجود بمعنى منشأ الأثر ، لا بمعنى الكون والتحقّق ، كما لا يخفى.

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٧.

٩٣

فعن أبي الحسن الأشعري وأبي الحسين البصري وجماعة تبعوهما : أنّ وجود كلّ ماهيّة نفس تلك الماهيّة (١).

وقال جماعة من المتكلّمين والحكماء : إنّ وجود كلّ ماهيّة مغاير لها ، إلاّ واجب الوجود تعالى ؛ فإنّ أكثر الحكماء قالوا : إنّ وجوده نفس حقيقته. (٢) وسيأتي تحقيق كلامهم فيه.

وقد استدلّ الحكماء على الزيادة بوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ الوجود مشترك ـ على ما تقدّم ـ فإمّا أن يكون نفس الماهيّة أو جزءا خارجيّا منها أو خارجا عنها.

والأوّل باطل ، وإلاّ لزم اتّحاد الماهيّات في خصوصيّاتها ؛ لما تبيّن من اشتراكه ووحدته.

والثاني باطل ، وإلاّ لم تنحصر أجزاء الماهيّة ، بل تكون كلّ ماهيّة على الإطلاق مركّبة من أجزاء لا تتناهى ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الوجود إذا كان جزءا من كلّ ماهيّة ، فإنّه يكون جزءا مشتركا بينها ، ويكون كمال الجزء المشترك ، فيكون جنسا ، فتفتقر كلّ ماهيّة إلى فصل يفصلها عمّا يشاركها فيه ، لكن كلّ فصل فإنّه يكون موجودا ؛ لاستحالة انفصال الموجودات وتقوّمها بالأمور العدميّة ، فيفتقر الفصل ـ من جهة كونه موجودا وكون الوجود جزءا مشتركا لكلّ موجود ـ إلى فصل آخر هو جزء منه ويكون جزءا من الماهيّة ؛ لأنّ جزء الجزء جزء أيضا موجود ، فيفتقر (٣) إلى فصل آخر ويتسلسل ، فتكون للماهيّات أجزاء لا تتناهى.

وأمّا استحالة اللازم ؛ فلوجوه :

__________________

(١) « شرح المواقف » ٢ : ١٢٧ ؛ « كشف المراد » : ٢٥.

(٢) « تلخيص المحصّل » : ٩٧ ؛ « شرح المواقف » ٢ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٣٠٨ ؛ « كشف المراد » : ٢٥.

(٣) في « كشف المراد » : ٢٥ ، العبارة هكذا : « فإن كان موجودا افتقر » بدل « موجود فيفتقر ».

٩٤

أحدها : أنّ وجود ما لا يتناهى محال على ما يأتي.

الثاني : أنّه يلزم منه تركّب واجب الوجود تعالى ؛ لأنّه موجود ، فيكون ممكنا ، هذا خلف.

الثالث : أنّه يلزم منه انتفاء الحقائق أصلا ؛ لأنّه يلزم منه تركّب الماهيّات البسيطة ، فلا يكون البسيط متحقّقا ، فلا يكون المركّب متحقّقا.

وهذا كلّه ظاهر البطلان.

قال : ( ولانفكاكهما تعقّلا ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني الدالّ على زيادة الوجود.

وتقريره : أنّا قد نعقل الماهيّة ونشكّ في وجودها الذهني والخارجي ، والمعقول مغاير للمشكوك. وكذلك قد نعقل وجودا مطلقا ونجهل خصوصيّته ، فيكون مغايرا لها. وقد نعقل الماهيّة ونغفل عن وجودها ، فيكون غيرها.

لا يقال : إنّا قد نتشكّك في ثبوت الوجود ، فيلزم أن يكون ثبوته زائدا عليه ويتسلسل.

لأنّا نقول : الشكّ ليس في ثبوت وجود الوجود ، بل في ثبوت الوجود نفسه للماهيّة ، وذلك هو المطلوب.

قال : ( ولتحقّق الإمكان ) (١).

أقول : هذا وجه ثالث على الزيادة.

وتقريره : أنّ ممكن الوجود متحقّق بالضرورة ، والإمكان إنّما يتحقّق على تقدير الزيادة ؛ لأنّ الوجود لو كان نفس الماهيّة أو جزءها ، لم تعقل منفكّة عنه ، فلا يجوز عليها العدم حينئذ ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين ، وهو محال.

وانتفاء جواز العدم يستلزم الوجوب ، فينتفي الإمكان حينئذ ؛ للمنافاة بين الإمكان الخاصّ والوجوب الذاتي ، ولأنّ الإمكان عبارة عن تساوي نسبة الماهيّة

__________________

(١) في « كشف المراد » : ٢٦ و « تجريد الاعتقاد » : ١٠٦ أضيفت كلمة « الخاص » إلى « الإمكان ».

٩٥

إلى الوجود والعدم ، والنسبة لا تعقل إلاّ بين شيئين.

قال : ( وفائدة الحمل ).

أقول : هذا وجه رابع يدلّ على المغايرة بين الوجود والماهيّة.

وتقريره : أنّا نحمل الوجود على الماهيّة ، فنقول : الماهيّة موجودة ، فنستفيد منه فائدة معقولة لم تكن حاصلة لنا قبل الحمل.

وإنّما تتحقّق هذه الفائدة على تقدير المغايرة ؛ إذ لو كان الوجود نفس الماهيّة ، لكان قولنا : « ماهيّة موجودة » بمنزلة [ قولنا ] (١) : « ماهيّة ماهيّة » أو « الوجود وجود » والتالي باطل فكذا المقدّم.

قال : ( والحاجة إلى الاستدلال ).

أقول : هذا وجه خامس يدلّ على أنّ الوجود ليس هو نفس الماهيّة ولا جزءا منها.

وتقريره : أنّا نفتقر في نسبة الوجود إلى الماهيّة إلى الدليل في كثير من الماهيّات ، ولو كان الوجود نفس الماهيّة أو جزءها لم نحتج إلى الدليل ؛ لاقتضاء الافتقار إلى الدليل المغايرة بين الموضوع والمحمول ، والشكّ في النسبة الممتنع تحقّقه في الذاتي.

قال : ( وانتفاء التناقض ).

أقول : هذا وجه سادس يدلّ على الزيادة.

وتقريره : أنّا قد نسلب الوجود عن الماهيّة ، فنقول : « ماهيّة معدومة » ولو كان الوجود نفس الماهيّة لزم التناقض ؛ لكونه بمنزلة قولنا : « الموجود ليس بموجود » أو كان جزءا منها لزم التناقض أيضا ؛ لأنّ تحقّق الماهيّة يستدعي تحقّق أجزائها التي من جملتها الوجود ، فيستحيل سلبه عنها ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين ، فتحقّق انتفاء التناقض يدلّ على الزيادة.

__________________

(١) الزيادة أضفناها من « كشف المراد » : ٢٦.

٩٦

قال : ( وتركّب الواجب ).

أقول : هذا وجه سابع ، وهو أنّ تركّب الواجب منتف ، وإنّما يتحقّق لو كان الوجود زائدا على الماهيّة ؛ لأنّه يستحيل أن يكون نفس الماهيّة ؛ لما تقدّم ، فلو كان جزءا من الماهيّة ، لزم أن يكون الواجب مركّبا وهو محال.

ويمكن جعل الأدلّة خمسة ، بجعل قوله : « وإلاّ لاتّحدت الماهيّات أو لم تنحصر أجزاؤها » إشارة إلى الدليل الأوّل ، كما مرّ. وقوله : « ولانفكاكهما تعقّلا » إشارة إلى الدليل الثاني ، كما تقدّم. وقوله : « ولتحقّق الإمكان » إشارة إلى الدليل الثالث ، كما سبق. وقوله : « وفائدة الحمل والحاجة إلى الاستدلال » إشارة إلى الدليل الرابع ، بجعل « فائدة الحمل » وجها لعدم العينيّة ، وقوله : « والحاجة إلى الاستدلال » وجها لعدم الجزئيّة ؛ لأنّ ذاتيّ الشيء بيّن الثبوت له. وجعل قوله : « وانتفاء التناقض وتركّب الواجب » إشارة إلى الدليل الخامس ، بجعل « انتفاء التناقض » وجها لعدم العينيّة ، كما مرّ ، وانتفاء تركّب الواجب وجها لعدم الجزئيّة ؛ إذ لو كان جزءا لكان مشتركا بين الواجب والممكن ، وكلّ ما له جزء فله جزء آخر بالضرورة ، فيلزم تركّب الواجب ، وهو محال.

قال : ( وقيامه بالماهيّة من حيث هي ).

أقول : هذا جواب عن استدلال الخصم على أنّ الوجود نفس الماهيّة.

وتقرير استدلالهم : أنّه لو كان زائدا على الماهيّة لكان صفة قائمة بها ؛ لاستحالة أن يكون جوهرا قائما بنفسه مستقلاّ عن الماهيّة ، واستحالة قيام الصفة بغير موصوفها ، وإذا كان كذلك فإمّا أن يقوم بالماهيّة حال وجودها أو حال عدمها ، والقسمان باطلان :

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ الوجود الذي هو شرط في قيام هذا الوجود بالماهيّة ، إمّا أن يكون هو هذا الوجود ، فيلزم اشتراط الشيء بنفسه ، أو يكون مغايرا له ، فيلزم كون الماهيّة موجودة قبل وجودها وقيام الوجودات المتعدّدة المتسلسلة بالماهيّة الواحدة ؛

٩٧

لأنّا ننقل البحث إلى الوجود الذي هو شرط.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّه يلزم قيام الصفة الوجوديّة بالمحلّ المعدوم ، وهو باطل.

وإذا بطل القسمان بطلت الزيادة.

وتقرير الجواب أن نقول : الوجود قائم بالماهيّة من حيث هي ، لا باعتبار كونها موجودة ولا باعتبار كونها معدومة ، فالحصر ممنوع.

وفيه : أنّ الحصر باعتبار الاشتراط بالوجود والعدم ممنوع ، وأمّا باعتبار كون العروض حال الوجود أو العدم فلا.

فالأولى أن يقال بأنّ الحصر ممنوع ، من جهة أنّ الماهيّة موجودة بالوجود ، والوجود موجود بنفسه ، كما في النور والمنوّر وزمان وجودهما واحد ، فالمعروض هو الماهيّة لا بشرط الوجود ، بل في زمان الوجود الموجود بنفسه ، فلا يلزم وجود الماهيّة قبل وجودها ولا التناقض.

نعم ، يلزم تقدّم الماهيّة على الوجود بالذات ؛ ضرورة تقدّم المعروض على العارض ، ولا فساد فيه ، لا تقدّمها بالزمان ، بل الزمان الواحد زمان تقوّم الوجود بالماهيّة ، وتحصل الماهيّة بالوجود المتحصّل بنفسه من غير تعدّد واشتراط حتّى يلزم اشتراط الشيء بنفسه.

قال : ( فزيادته في التصوّر ).

أقول : هذا نتيجة ما تقدّم ، وهو أنّ قيام الوجود بالماهيّة من حيث هي هي إنّما يعقل في الذهن والتصوّر ، لا في الوجود الخارجي ؛ لاستحالة تحقّق ماهيّة ما من الماهيّات في الأعيان منفردة عن الوجود ، فكيف تتحقّق الزيادة في الخارج والقيام بالماهيّة فيه ، بل وجود الماهيّة زائد عليها في نفس الأمر والتصوّر ، لا في الأعيان.

وليس قيام الوجود بالماهيّة كقيام السواد بالمحلّ ؛ لأنّ المحلّ له وجود ، والسواد كذلك مع تأخّره عن المحلّ.

وفيه نظر ؛ لجواز قيام الوجود بالماهيّة في الخارج من جهة كفاية مطلق ثبوت

٩٨

المثبت له في ثبوت الشيء ولو كان بنفس الثابت. وتأخّر كلّ عرض عن المحلّ ممنوع.

ويؤيّد ما ذكرنا كون كلّ من الوجود وعروضه والاتّصاف به خارجيّا ، كما لا يخفى.

وقد نظمت هذا المطلب بقولي.

إنّ الوجود غير ذي الوجود

في غير ذات واجب الوجود

لكثرة الذوات والإمكان

كذا انفكاك الكلّ في الأذهان

والحمل والحاجة للدليل

والسلب مع بساطة الجليل

قيامه بالذات حيث الذات

فزيده في الذهن كالمرآة

المسألة الرابعة : في انقسام الوجود إلى الذهنيّ والخارجيّ.

قال : ( وهو ينقسم إلى الذهني والخارجي وإلاّ بطلت الحقيقة ).

أقول : الوجود على قسمين : أصليّ ورابطيّ.

والأصليّ عبارة عن وجود نفس الشيء موضوعا كان أو محمولا ، كوجود زيد أو القيام. وهذا متعلّق السؤال بـ « هل » البسيطة.

والرابطيّ عبارة عن وجود الشيء للشيء الذي يحصل به الارتباط ، كوجود القيام لزيد. وهذا متعلّق السؤال بـ « هل » المركّبة.

والوجود الأصليّ الخارجي الذي تترتّب عليه الآثار لا خلاف فيه.

وأمّا الذهنيّ الذي يسمّى وجودا ظلّيّا وغير أصيل فقد اختلف العلماء فيه.

فجماعة منهم نفوه وحصروا الوجود في الخارجي الذي تصدر به آثار الموجود ، كالإشراق والإحراق للنار ، ويسمّى وجودا أصيلا أيضا.

والمحقّقون منهم أثبتوه وقسّموا الوجود إليه وإلى الخارجي قسمة معنويّة.

واستدلّ المصنّف رحمه‌الله بأنّ القضيّة الحقيقيّة التي يحكم فيها على ما يصدق عليه

٩٩

الموضوع في نفس الأمر ـ ولو لم يكن موجودا في الخارج ـ صادقة قطعا ؛ لأنّا نحكم بالأحكام الايجابيّة على موضوعات معدومة في الأعيان ، وتحقّق الصفة يستدعي تحقّق الموصوف ، وإذ ليس ثابتا في الأعيان ، فهو متحقّق في الذهن ، فتحقّق الحقيقيّة يدلّ على الثبوت الذهني ، كما قرّرناه.

مضافا إلى أنّا نعقل أمورا لا وجود لها في الخارج ، والتعقّل يستلزم التعلّق بين العاقل والمعقول ، والتعلّق بين العاقل والعدم غير معقول ، فلا بدّ من ثبوت للمعقول ، وإذ ليس في الخارج تعيّن كونه في الذهن ، بل يمكن دعوى الضرورة في تحقّق الوجود الذهني للصّور الذهنيّة.

قال : ( والموجود في الذهن إنّما هو الصورة المخالفة في كثير من اللوازم ).

أقول : هذا جواب عن استدلال من نفى الوجود الذهني.

وتقرير استدلالهم : أنّه لو حلّت الماهيّة في الأذهان لزم أن يكون الذهن حارّا باردا أسود أبيض ، فيلزم مع اتّصاف الذهن بهذه الأشياء المنفيّة عنه اجتماع الضدّين.

والجواب : أنّ الحاصل في الذهن ليس هو ماهيّة ما له الحرارة والسواد ونفسه ، بل صورتهما ومثالهما ، والمخالفة للماهيّة في لوازمها وأحكامها ، بمعنى أنّ الأشياء توجد في الذهن بأشباحها بالوجود الظلّي ، لا بأنفسها بالوجود الأصيل العيني ، والصور الذهنيّة كلّيّة كانت كصور المعقولات ، أو جزئيّة كصور المحسوسات ، مخالفة للخارجيّة في اللوازم الخارجيّة المسمّاة بـ « لوازم الوجود » ؛ وإن كانت مشاركة لها في لوازم الماهيّة من حيث هي هي ، فالحرارة الخارجيّة تستلزم السخونة ، وصورتها لا تستلزمها ، والتضادّ إنّما هو بين الماهيّات لا بين صورها وأمثالها.

وبعبارة أخرى : الماهيّة قد تطلق على ما يقال في جواب « ما هو؟ » وقد تطلق على ما به الشيء هو هو بالفعل ، والموجود في الذهن هو الماهيّة بالمعنى الأوّل الذي يعبّر عنه بـ « الأشباح » أيضا ، وأمّا الماهيّة بالمعنى الثاني فلا توجد إلاّ في

١٠٠