البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

بالمعرفة ضرورة.

الثانية : أنّ معرفة الله لا تتمّ إلاّ بالنظر ، وذلك قريب من الضرورة ؛ إذ المعرفة ليست ضروريّة قطعا ، فهي كسبية ولا كاسب سوى النظر ؛ إذ التقليد يستند إليه.

الثالثة : أنّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به فهو واجب ، وإلاّ لخرج الواجب المطلق عن كونه واجبا أو لزم التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّ الشرط إذا لم يكن واجبا جاز تركه ، فحينئذ إمّا أن يجب على المكلّف المشروط أو لا ، والثاني يلزم منه خروجه عن كونه واجبا مطلقا. والأوّل يلزم منه التكليف بما لا يطاق ؛ إذ وجوب المشروط حال عدم الشرط إيجاب لغير المقدور ، وهو محال.

فإن قلت : مقتضى ما ذكر كون النظر واجبا توصّليّا من باب المقدّمة ، لا تأصّليّا وأصليّا من قبيل ذي المقدّمة.

قلت : مقدّمات الواجبات العقليّة واجبات عقليّة تأصّليّة ؛ لانتفاء التبعيّة.

نعم ، مقدّمات الواجبات النقليّة واجبات عقليّة توصّليّة ، لا تأصّليّة وأصليّة.

فثبت أنّ وجوب النظر عقليّ ، ولا يجب سمعا خاصّة.

الثاني (١) : أنّ النظر واجب بالاتّفاق ، فوجوبه إمّا عقلي أو نقلي. ولا سبيل إلى الثاني ؛ فإنّه لو كان واجبا شرعيا لما كان واجبا ، فيلزم من وجوبه عدمه ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ النظر إذا لم يجب إلاّ بالسمع لزم إفحام الأنبياء ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جاء إلى المكلّف وأمره باتّباعه ، لم يجب على المكلّف الامتثال حتّى يعلم صدقه ، ولا يعلم صدقه إلاّ بالنظر ، فإذا امتنع المكلّف من النظر حتّى يعرف وجوبه عليه ، لم يجب استناد الوجوب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لعدم العلم بصدقه حينئذ ، ولا وجوب عقلي ، فينتفي الوجوب على تقدير القول بالوجوب السمعي.

__________________

(١) أي الوجه الثاني الذي استدلّ به المعتزلة على وجوب النظر عقلا.

٤٤١

إذا عرفت هذا ، فنقول : قوله : « لوجوب ما يتوقّف عليه العقليّان » أشار بلفظة « ما » إلى المعرفة.

و « العقليان » أشار به إلى وجوب الشكر ووجوب دفع الخوف عن النفس.

وقوله : « وانتفاء ضدّ المطلوب على تقدير ثبوته » يشير به إلى انتفاء الوجوب السمعي ، الذي هو ضدّ المطلوب ؛ لأنّ المطلوب هو الوجوب العقلي ، وضدّه الوجوب السمعي.

وقوله : « على تقدير ثبوته » يعني لو فرض كون الوجوب سمعيّا ، لم يكن واجبا.

وأمّا الأشاعرة (١) فقد احتجّوا بوجهين :

الأوّل : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٢) فإنّه نفى التعذيب الدنيوي والأخروي بدون البعثة ، فلا يكون النظر واجبا قبلها ، وإلاّ لزم استحقاق العذاب بتركه قبلها.

الثاني : أنّه لو وجب النظر فلا يكون لا لفائدة ؛ للزوم العبث ، ولا لفائدة عائدة إلى الله تعالى ؛ لتعاليه عنها ، فيكون لفائدة عائدة إلى العبد : فإمّا لفائدة عاجلة والواقع يقابلها ؛ لحصول المشقّة ، أو آجلة وحصولها ممكن بدون النظر مع عدم استقلال العقل فيها ، مضافا إلى أنّ شكر العبد ـ المتوقّف على النظر ـ بالنظر إلى نعم الله كالاستهزاء ، فتوسّط النظر عبث ، كما إذا لم يكن لفائدة.

ثمّ قالوا : ما ألزمتمونا من إفحام الأنبياء على تقدير الوجوب السمعي لازم لكم على تقدير الوجوب العقلي ؛ لأنّ وجوب النظر وإن كان عقليّا إلاّ أنّه كسبيّ ، فالمكلّف إذا جاءه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وأمره باتّباعه ، كان له أن يمتنع حتّى يعرف صدقه ، ولا يعرفه إلاّ بالنظر ؛ إذ لا يجب عليه بالضرورة ، بل بالنظر ، فقبل النظر لا يعرف

__________________

(١) انظر : « المحصّل » : ١٣٤ ؛ « شرح المواقف » ١ : ٢٥١ ـ ٢٧٥ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٢٦٢ ـ ٢٧٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٦٤ ـ ٢٦٨.

(٢) الإسراء (١٧) : ١٥.

٤٤٢

وجوبه ، فله أن يقول : لا أنظر حتّى أعرف وجوب النظر ، وذلك يستلزم الإفحام أيضا.

والجواب عن الأوّل : أنّ خلق العباد لمّا كان لغرض عائد إليهم ـ وهو إيصال النعيم الأبدي الأخروي كما سيأتي ، ولا يصحّ ذلك إلاّ بالقابليّة الموقوفة على الطاعة ، الموقوفة على التكليف ، الموقوف على بعث الرسل ؛ لعدم استعداد الكلّ للتلقّي من الله تعالى بلا واسطة ـ كان التكليف لازما لإيجاد الخلق ، فيكون بعث الرسول أيضا لازما ، فبدونه لا يكون تكليف شرعي متفرّع عليه التعذيب الأخروي بسبب الترك ؛ لعدم كفاية مجرّد معرفة الله الواجبة عقلا لذمّ تاركها.

والحاصل : أنّ التعذيب من لوازم الوجوب النقلي لا العقلي ، فنفيه ينفي الوجوب النقلي لا العقلي.

وكون العقل والنقل متطابقين إنّما هو بعد ثبوت المعرفة وتحقّق النقل لا قبلها ، فيبقى وجوب النظر عقلا ـ بمعنى مدح فاعله وذمّ تاركه ـ على حاله.

ويمكن الجواب أيضا بالتخصيص ، وهو حمل نفي التعذيب المتوقّف على الرسالة على نفي التعذيب الذي يكون من جهة ترك التكليف السمعي ، أو تعميم الرسول ليعمّ الرسالة بالعقل ؛ جمعا بين الأدلّة.

وعن الثاني : أنّ الفائدة عاجلة وهي زوال الخوف ، أو آجلة هي نيل الثواب بالمعرفة التي لا يمكن الابتداء به في الحكمة.

وعن الثالث : أنّ وجوب النظر وإن كان نظريّا إلاّ أنّه فطري القياس ، فكان اللازم ـ وهو الإفحام ـ لازما على الأشاعرة دون الإمامية والمعتزلة.

قال : ( وملزوم العلم دليل ، والظنّ أمارة ).

أقول : لمّا كان النظر متعلّقا بما يستلزم العلم من الاعتقادات أو الظنّ ، وجب البحث عن المتعلّق ، فالمستلزم للعلم يسمّى دليلا ، والمستلزم للظنّ يسمّى أمارة ، فالمعنى أنّ النظر الذي هو ملزوم العلم ويكون العلم لازمه وحاصله يسمّى دليلا ،

٤٤٣

والنظر الذي هو ملزوم الظنّ ويكون الظنّ حاصله يسمّى أمارة.

وقد يقال الدليل على الأعمّ.

وقد يقال على معنى أخصّ من المذكور ، وهو الاستدلال بالمعلول على العلّة.

قال : ( وبسائطه عقليّة ومركّبة ؛ لاستحالة الدور ).

أقول : المراد أنّ بسائط النظر وما يتألّف منه ملزوم العلم ، والظنّ يعني مقدّماته ؛ فإنّ الدليل لمّا كان مركّبا من مقدّمتين ، كانت كلّ واحدة من تينك المقدّمتين جزءا بسيطا بالنسبة إلى الدليل وإن كانت مركّبة في نفس الأمر.

وبالجملة ، فالمقدّمتان قد تكونان من الأمور التي هي عقليّة محضة ، كقولنا : « العالم ممكن ، وكلّ ممكن له مؤثّر ». وقد تكونان من الأمور التي هي مركّبة من العقلي والسمعي ، كقولنا : « الوضوء عمل ، كلّ عمل مشروط بالنيّة » لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا عمل إلاّ بالنيّة » (١) ولا يكون التركّب من السمعيّات المحضة وإلاّ لزم الدور ؛ لأنّ السمعي المحض ليس بحجّة إلاّ بعد معرفة صدق الرسول.

وهذه المقدّمة لو استفيدت بالسمع دار ، بل هي عقليّة محضة ، فإذن إحدى مقدّمات النقليّات كلّها عقليّة.

والضابط في ذلك أنّ كلّ ما يتوقّف عليه صدق الرسول لا يجوز إثباته بالنقل ، وكلّ ما يتساوى طرفاه بالنسبة إلى العقل لا يجوز إثباته بالعقل ، وما عدا هذين يجوز إثباته بهما.

قال : ( وقد يفيد اللفظي القطع ).

أقول : المحكيّ عن المعتزلة وجمهور الأشاعرة (٢) أنّ الأدلّة اللفظيّة لا تفيد العلم

__________________

(١) « الكافي » ٢ : ٨٤ / ٦١ من باب النيّة ؛ « الأمالي » للشيخ الطوسي : ٥٩٠ / ١٢٢٣ ؛ « الخصال » ١ : ١٨ / ٦٢ ؛ « عوالي اللآلئ » ٢ : ١٩٠ / ٨٠ ؛ « وسائل الشيعة » ١ : ٤٦ / ٩ الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات.

(٢) حكى ذلك عنهم الشريف الجرجاني في « شرح المواقف » ٢ : ٥١ والقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٦٩.

٤٤٤

واليقين ؛ لتوقّفها على أمور كلّها ظنّيّة : اللغة والنحو والتصريف ، وعدم الاشتراك والنقل والتخصيص والإضمار والنسخ والتقديم والتأخير والعارض العقلي.

والحقّ خلاف هذا بالقطع واليقين ؛ فإنّ كثيرا من الأدلّة اللفظيّة يعلم دلالتها على معانيها وما أريد منها قطعا ، وانتفاء هذه المفاسد عنها جزما ، كما في المتواتر والمتظافر.

قال : ( ويجب تأويله عند التعارض ).

أقول : إذا تعارض دليلان نقليّان أو دليل عقليّ ونقليّ ، وجب تأويل النقلي.

أمّا مع تعارض النقلين فظاهر ؛ لامتناع تناقض الأدلّة ، لكون حكم الله واحدا ، وكون المخبر معصوما يمتنع عليه الخطأ والافتراء ، فلا بدّ من تأويل أحدهما كما يؤوّل قوله عليه‌السلام : « الماء يطهّر ولا يطهّر » (١) بأنّ الماء لا يطهّر من غير نوعه أو مع بقائه على حاله كسائر ما يقبل التطهير ؛ لتعارضه مع ما يدلّ على أنّ الماء الطاهر يطهّر كلّ شيء حتّى الماء النجس.

وأمّا مع تعارض العقلي والنقلي فكذلك ، كما في قوله : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (٢) و ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (٣) لدلالة الأوّل على كونه تعالى ذا جارحة مخصوصة. والثاني على كونه تعالى جالسا وجسما ، وقد عارضهما الدليل العقلي الدالّ على استحالة التركّب والتجسّم ونحو ذلك في حقّه تعالى ، فتؤوّل اليد على القدرة ، والكون على العرش على الاستيلاء والسلطنة.

وإنّما خصّصنا النقلي بالتأويل ؛ لامتناع العمل بهما وإلغائهما ، والعمل بالنقلي

__________________

ونسب إلى القيل في « كشف المراد » : ٢٤٣ و « مناهج اليقين » : ١١٢ و « المواقف » المطبوع ضمن « شرح المواقف » ٢ : ٥١ ، ونسب إلى الأكثر في « شوارق الإلهام » ٢ : ٣٥.

ولمزيد الاطّلاع حول هذه المسألة راجع « المحصّل » : ١٤٠ ـ ١٤٣ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٢٨٢ ـ ٢٨٥.

(١) « الكافي » ١ : ١ / ١ من كتاب الطهارة ؛ « تهذيب الأحكام » ١ : ٢١٥ / ٦١٨ ؛ « الفقيه » ١ : ٥ / ٢.

(٢) الفتح (٤٨) : ١٠.

(٣) طه (٢٠) : ٥.

٤٤٥

وإبطال العقلي ؛ لأنّ العقل أصل للنقل ؛ لتوقّف صدقه عليه ، فلو أبطلنا الأصل لزم إبطال الفرع أيضا ؛ فوجب تأويل النقلي وإبقاء الدليل العقلي على مقتضاه.

قال : ( وهو قياس وقسيماه ).

أقول : الضمير في « وهو » عائد إلى ملزوم العلم والظنّ الذي هو الدليل مطلقا.

اعلم أنّ الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قياس ، واستقراء ، وتمثيل. وإلى الأخيرين أشار بقوله : « وقسيماه ».

وذلك ؛ لأنّ الاستدلال إمّا أن يكون بالعامّ على الخاصّ ، وحال الكلّيّ على حال الجزئي ، أو بالعكس ، أو بأحد المتساويين المندرجين تحت عامّ شامل لهما.

والأوّل هو أحد الأدلّة وأشرفها ؛ لإفادته اليقين ، وهو المسمّى بالقياس ؛ أخذا من المحاذاة كأنّ القائس يطلب محاذاة النتيجة للمقدّمتين في العلم.

والثاني : الاستقراء ؛ أخذا من قصد القرى قرية فقرية ، فكان المستدلّ كأنّه بتتبّع الجزئيّات مستقرئ.

والثالث : التمثيل ؛ لتشبيه أحد الجزءين بالآخر.

قال : ( والقياس اقترانيّ واستثنائيّ ).

أقول : القياس لا بدّ أن يكون المطلوب أو نقيضه مذكورا فيه بالفعل أو بالقوّة ، والأوّل يسمّى الاستثنائيّ ، والثاني الاقترانيّ.

مثال الأوّل : « إن كان هذا إنسانا ، فهو حيوان ، لكنّه إنسان » ينتج أنّه حيوان ، فالنتيجة مذكورة بالفعل. أو نقول : « لكنّه ليس بحيوان » ينتج أنّه ليس بإنسان ، فالنقيض مذكور في القياس بالفعل.

ومثال الثاني : « كلّ إنسان حيوان ، وكلّ حيوان جسم » ينتج كلّ إنسان جسم ، وهو مذكور في القياس بالقوّة.

قال : ( والأوّل باعتبار الصورة القريبة أربعة والبعيدة اثنان ).

أقول : المراد أنّ القياس الاقترانيّ له اعتباران :

٤٤٦

أحدهما : بحسب مادّته ، أعني مقدّماته.

والثاني : بحسب صورته ، أعني الهيئة والترتيب اللاحقين به العارضين لمجموع المقدّمات ، وهو ما يسمّى باعتباره شكلا.

وهو بهذا الاعتبار على أربعة أقسام كلّ قسم سمّوه شكلا ؛ لأنّ الأوسط إذا كان محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى ، فهو الشكل الأوّل ، كقولنا : « كلّ ج ب وكلّ ب أ ».

وإن كان محمولا فيهما ، فهو الثاني ، كقولنا : « كلّ ج ب ولا شيء من أ ب ».

وإن كان موضوعا فيهما ، فهو الثالث ، كقولنا « كلّ ج ب وكلّ ج أ ».

وإن كان موضوعا في الصغرى محمولا في الكبرى ، فهو الرابع ، كقولنا : « كلّ ج ب وكلّ أ ج ».

وهذه القسمة باعتبار الصورة القريبة ، وأمّا بالنظر إلى الصورة البعيدة فهو ينقسم إلى قسمين : حمليّ وشرطيّ.

والحمليّ : ما كان مركّبا من الحمليّات الصرفة.

والاقترانيّ الشرطيّ : ما كان مركّبا من الحمليّ والشرطيّ أو من الشرطيّات الصرفة.

فالحمليّ كما قلنا.

والشرطي كقولنا : « كلّما كان أ ب ف ج د ، وكلّما كان ج د ف ه‍ ر » ينتج « كلّما كان أ ب ف ه‍ ر ». أو نقول : « كلّما كان أ ب ف ج د ، وليس البتّة إذا كان ه‍ ز ف ج د » أو نقول :

« كلّما كان أ ب ف ج د ، وكلّما كان أ ب ف ه‍ ز » أو نقول : « كلّما كان أ ب ف ج د ، وكلّما كان ه‍ ز ف أ ب ».

قال : ( وباعتبار المادّة القريبة خمسة والبعيدة أربعة ).

أقول : مقدّمات القياس هي المادّة البعيدة له باعتبار مقدّمة مقدّمة ، ومجموعها ـ لا باعتبار صورة خاصّة وشكل معيّن ـ هي المادّة القريبة.

ومقدّمات القياس أربعة : مسلّمات ، ومظنونات ، ومشبّهات ، ومخيّلات.

٤٤٧

هذا باعتبار المادّة البعيدة ، وأمّا باعتبار المادّة القريبة فأقسام القياس خمسة :

البرهان ، والجدل ، والخطابة ، والسفسطة ، والشعر.

بيان ذلك : أنّ مقدّمات القياس إمّا أن تفيد تصديقا أو تخييلا يجري مجراه. والثاني هو الشعري ، والأوّل إمّا أن يفيد جزما أو ظنّا. والثاني هو الخطابة ، والأوّل إمّا أن يفيد يقينا فهو البرهان ، وإلاّ فإن اعتبر فيه عموم الاعتراف والتسليم فهو الجدل ، وإلاّ فمغالطة.

ومادّة الشعر هي المخيّلات ، ومادّة الخطابة هي المظنونات ، ومادّة المغالطة هي المشبّهات ، ومادّة البرهان والجدل هي المسلّمات ؛ فالصناعات خمس حاصلة من أربع كما أشرنا.

والأولى جعل الموادّ البعيدة أيضا خمسا بجعل مادّة البرهانيّات اليقينيّات ، وجعل مادّة الجدل المسلّمات وما بقي كما ذكر.

وكيف كان فيرد ما في شرح الفاضل القوشجي من أنّه لا اختصاص لهذا التقسيم بالاقتراني ، كما هو ظاهر المتن ، بل الاستثنائي أيضا ينقسم إلى هذه الأقسام (١).

قال : ( والثاني متّصل وناتجه أمران ، وكذا غير الحقيقي من المنفصل ومنه ضعفه ).

أقول : الثاني هو القياس الاستثنائي ، وهو ضربان :

الأوّل : أن تكون مقدّمته الشرطيّة متّصلة ، وينتج منها قسمان :

أحدهما : استثناء عين المقدّم ، فالنتيجة بعين التالي.

والثاني : استثناء نقيض التالي المنتج لنقيض المقدّم.

والثاني : أن تكون منفصلة ، وهو قسمان أيضا :

أحدهما : أن تكون غير حقيقيّة.

والثاني : أن تكون حقيقيّة.

__________________

(١) راجع « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٠.

٤٤٨

فغير الحقيقيّة ضربان :

مانعة الجمع ، وينتج قسمان منها : استثناء عين المقدّم لنقيض التالي ، واستثناء عين التالي لنقيض المقدّم.

ومانعة الخلوّ ، وينتج قسمان منها أيضا : استثناء نقيض المقدّم لعين التالي ، واستثناء نقيض التالي لعين المقدّم.

وأمّا الحقيقيّة فإنّها تنتج أربع نتائج من استثناء عين المقدّم لنقيض التالي وبالعكس ، ومن استثناء عين التالي لنقيض المقدّم ، وبالعكس.

فالمعنى أنّ القياس الاستثنائي المتّصل ينتج من أقسامه قسمان ، والقياس الاستثنائي المنفصل بالانفصال غير الحقيقي بقسميه ينتج من أقسامه أيضا قسمان.

وأمّا القياس الاستثنائي من المنفصل الحقيقي فينتج أربع نتائج ، فتدبّر.

قال : ( والأخيران يفيدان الظنّ ، وتفاصيل هذه الأشياء مذكورة في غير هذا الفنّ ).

أقول : يريد بـ « الأخيران » الاستقراء والتمثيل ، وهما يفيدان الظنّ لا العلم ؛ فإنّ الاستقراء إن كان تامّا بتصفّح جزئيّات الكلّيّ بتمامها ، كان راجعا إلى القياس الاقتراني المسمّى بالقياس المقسّم ، كما يقال : « كلّ عدد إمّا زوج أو فرد ، وكلّ زوج هو يعدّه الواحد وكذا كلّ فرد » فينتج أنّ العدد يعدّه الواحد ، فيفيد اليقين.

فلا يقدح كونه مفيدا للعلم فيما ذكره المصنّف وإن كان ناقصا ، كما هو المتبادر عند الإطلاق ، فلا يفيد إلاّ الظنّ.

نعم ، إذا انضمّ إليه الحدس الصائب أفاد القطع وهو ليس بنفسه.

وأمّا التمثيل فهو إلحاق جزئيّ بجزئيّ في حكمه ؛ لاشتراكهما في جامع مستنبط بالسبر والتقسيم أو الدوران.

وهذا لا يفيد إلاّ الظنّ ؛ إذ يحتمل عدم كون الجامع علّة أو تكون خصوصيّة الأصل شرطا ، أو خصوصيّة الفرع مانعة أو نحو ذلك.

واعلم أنّ تفاصيل هذه الأشياء وبيان شرائطها مذكورة في علم المنطق ، وإنّما

٤٤٩

ساق الكلام إليه هاهنا ، فلا وجه لإيراد أزيد ممّا ذكر هاهنا.

قال : ( والتعقّل والتجرّد متلازمان ؛ لاستلزام انقسام المحلّ انقسام الحالّ فإن تشابهت عرض الوضع للمجرّد ، وإلاّ تركّب ممّا لا يتناهى ).

أقول : هذه المسألة وما بعدها من تتمّة مباحث التعقّل ، وقد ادّعى هاهنا أنّ التعقّل والتجرّد متلازمان ، يعني أنّ كلّ عاقل مجرّد وكلّ مجرّد عاقل.

أمّا الأوّل فاستدلّ عليه ـ مضافا إلى ما تقدّم ـ بأنّ التعقّل عبارة عن إدراك شيء لم تعرضه العوارض الجزئيّة التي تلحق بسبب المادّة في الوجود الخارجي من الكمّ والكيف ونحوهما ، وهو إنّما يكون بارتسام صورة المعقول في العاقل من حيث ذاته ، فهي مجرّدة ، وكلّ ما هو محلّ للصورة المعقولة فهو مجرّد ؛ لأنّه لو كان مادّيّا لكان منقسما ، وانقسام المحلّ يستدعي انقسام الحالّ ، إذ الحالّ إمّا أن يحلّ بتمامه في جزأي المحلّ أو في أحد جزأيه ، أو لا يحلّ في شيء منه :

والأوّل يلزم منه الانقسام ؛ إذ الحالّ في أحد الجزءين غير الحالّ في الآخر.

والثاني يفيد المطلوب مع أنّه خلاف الفرض.

والثالث خلاف الفرض.

فالصورة على هذا التقدير تكون منقسمة ، فانقسامها إمّا إلى أجزاء متشابهة في الحقيقة ، وحينئذ يلزم عروض الوضع والمقدار للصورة المعقولة التي فرضناها مجرّدة عن اللواحق المادّيّة من الوضع وغيره ، وهو محال ، أو إلى أجزاء متخالفة فيلزم تركيب الصورة من أجزاء غير متناهية بالفعل ؛ لأنّ المحلّ لكونه مادّيّا يقبل القسمة إلى غير النهاية ، فالحالّ يكون كذلك ، والفرض أنّ الأجزاء متخالفة في الحقيقة ، فلا بدّ أن تكون حاصلة بالفعل ، وهذا محال كما سبق.

ويرد عليه ما سبق في مبحث تجرّد النفس.

قال : ( ولاستلزام التجرّد صحّة المعقوليّة ، المستلزمة لإمكان المصاحبة ).

أقول : هذا دليل الحكم الثاني ، وهو أنّ كلّ مجرّد عاقل.

٤٥٠

وتقريره : أنّ كلّ مجرّد فإنّه يصحّ أن يكون معقولا بالضرورة ؛ إذ العائق عن التعقّل إنّما هو المادّة لا غير ، والمجرّد لا يحتاج إلى عمل يعمل به حتّى يعقل ، فإن لم يعقل ، كان ذلك من جهة العاقل ، وكلّ ما يصحّ أن يكون معقولا وحده صحّ أن يكون معقولا مع غيره ، وهو قطعيّ ، فإذن كلّ مجرّد فإنّه يصحّ أن يقارنه غيره ، وكلّ ما يصحّ أن يكون مقارنا لغيره فإذا وجد في الخارج ، تصحّ مقارنته لذلك الغير ؛ لتقدّم صحّة المقارنة المطلقة على المقارنة في العقل ؛ لتقدّم استعداد الكلّيّ على الجزئيّ. وصحّة المقارنة المطلقة غير متوقّفة على المقارنة في العقل ، وإلاّ يلزم الدور ، فإذا وجد مجرّد قائم بذاته ، تكون صحّة مقارنته بأن يحصل الغير فيه حصول الحالّ في المحلّ ؛ لامتناع حلوله فيه مع فرض كونه قائما بذاته ، وكذا حلولهما في ثالث ، والحصول على وجه الحلول معنى التعقّل ، فكلّ مجرّد يصحّ له التعقّل ، وصحّة تعقّله تستلزم صحّة تعقّل أنّه يعقل الغير ، وذلك يستلزم تعقّل ذاته ؛ لأنّ تعقّل الحكم والنسبة الحكميّة تستلزم تعقّل المحكوم عليه ، فكلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لذاته فيجب ذلك ؛ لأنّ تعقّله لذاته إمّا بحصول نفسه أو بحصول مثاله ، والثاني باطل ؛ لاستلزامه اجتماع المثلين ، فتعيّن كونه بحصول نفسه ، ونفسه حاصلة دائما غير غائبة عنه ، فيكون التعقّل دائما ؛ لوجود المقتضي وفقد المانع ، فثبت أنّ كلّ مجرّد عاقل.

واعترض (١) عليه ـ مضافا إلى إمكان قصر المسافة بإمكان تعقّله لذاته بالضرورة ، المستلزم لتعقّله بالفعل كما مرّ ـ بإمكان كون خصوصيّة ذات المجرّد مانعة ، كما يقال في كنه ذات الواجب تعالى. وبأنّ تقدّم المقارنة المطلقة ـ بإطلاق القيد ـ لا يستلزم

__________________

(١) المعترض هو الفخر الرازي ، كما في « شرحي الإشارات » ١ : ١٧٠ ـ ١٧٣ ، ولمزيد الاطّلاع حول هذه المسألة انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٩١ ـ ٤٩٤ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٨٥ ـ ٣٩١ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٢٠٠ ـ ٢١٥ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٥٧ ـ ٢٦٠ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٣٦٠ ـ ٣٦٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧١ ـ ٢٧٣ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٣٩.

٤٥١

تقدّم المقارنة المطلقة ـ بقيد الإطلاق ـ حتّى يصحّ تقدّم المقارنة الخارجيّة ، مع منع كون هذا الكلّيّ ذاتيّا ، ومنع استلزام إمكان التعقّل إمكان أن يعقل أنّه يعقل.

المسألة الثالثة والعشرون : في أحكام القدرة.

قال : ( ومنها القدرة ، وتفارق الطبيعة والمزاج بمقارنة الشعور والمغايرة في التابع ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن العلم شرع في البحث عن القدرة.

وأشار بقوله : « ومنها » إلى كونها من الكيفيّات النفسانيّة ؛ لأنّها صفة قائمة بذوات الأنفس.

واعلم أنّ الجسم ـ من حيث هو ـ غير مؤثّر ، وإلاّ لتساوت الأجسام في ذلك ، وإنّما يؤثّر باعتبار صفة قائمة به ، فالصفة المؤثّرة إمّا أن تؤثّر مع الشعور أو بدونه ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يتشابه التأثير أو يختلف ، فالأقسام أربعة :

أحدها : الصفة المقترنة بالشعور المتّفقة في التأثير ، وهي القوّة الفلكيّة.

الثانية : المقترنة بالشعور المختلفة في التأثير ، وهي القوّة الحيوانيّة ، أعني القدرة التي يأتي البحث عن أحكامها.

الثالثة : الصفة المؤثّرة غير المقترنة بالقصد والشعور المتّحدة في التأثير ، وهي الطبيعة.

الرابعة : الصفة المؤثّرة غير المقترنة بالشعور المختلفة في التأثير ، وتسمّى النفس النباتيّة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : القدرة صفة مؤثّرة على وفق الإرادة في الأفعال المتعدّدة ، وهي مغايرة للطبيعة والمزاج.

أمّا الأوّل : فلوجوب اقترانها بالشعور ، بخلاف الطبيعة.

وأمّا الثاني : فلأنّ المزاج كيفيّة متوسّطة بين الحرارة والبرودة ، فتكون من

٤٥٢

جنسهما فتكون تابعة ، أعني تأثيره من جنس تأثيرهما.

وأمّا القدرة فإنّ تأثيرها مضادّ لتأثيرهما.

وإلى هذا أشار بقوله : « والمغايرة في التابع » ففي الكلام لفّ ونشر مرتّب مع احتياج قوله : « في التابع » إلى التكلّف ، كما لا يخفى.

قال : ( مصحّحة للفعل بالنسبة ).

أقول : القدرة صفة تقتضي صحّة الفعل من الفاعل لا إيجابه ؛ فإنّ القادر هو الذي يصحّ منه الفعل والترك معا فلو اقتضت الإيجاب لزم المحال ، وهو اجتماع الضدّين في الوجود.

ومعنى قوله : « بالنسبة » أي باعتبار نسبة الفعل إلى الفاعل ، وذلك لأنّ الفعل صحيح في نفسه لا يجوز أن يكون للقدرة مدخل في صحّته الذاتيّة ؛ لأنّ الإمكان للممكن واجب ، أمّا نسبته إلى الفاعل فجاز أن تكون معلّلة بالقدرة.

هذا هو الذي فهمناه من قوله : « بالنسبة ».

قال : ( وتعلّقها بالطرفين على السواء ).

أقول : المشهور (١) من مذهب الحكماء والمعتزلة والإماميّة أنّ القدرة متعلّقة بالضدّين.

وقالت الأشاعرة (٢) : إنّما تتعلّق بطرف واحد ؛ لأنّ القدرة عندهم مع الفعل لا قبله ، فلا تتعلّق بالضدّين ، وإلاّ يلزم اجتماعهما ؛ لوجوب مقارنتهما لتلك القدرة المتعلّقة بهما.

__________________

(١) انظر : « نقد المحصّل » : ١٦٧ ؛ « شرح الأصول الخمسة » : ٣٩٧ وما بعدها وفيه نسب هذا القول إلى الثانية من فرقتي الأشاعرة ، ونقله في « شرح المواقف » ٦ : ١٠٢ و « شرح المقاصد » عن أكثر المعتزلة ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٧ ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : ١٣١ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٩٦.

(٢) « المحصّل » : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٠٦ ـ ٥٠٧ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٠٢ ـ ١٠٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٥٧ ـ ٣٦٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

٤٥٣

وفيه نظر ؛ لأنّ القدرة هي مبدأ الأفعال المختلفة بحيث متى انضمّت إليها إرادة أحد الضدّين حصل ذلك الضدّ ، ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين على السواء ، وإلاّ لم يكن بين القادر والموجب فرق.

قال : ( وتتقدّم الفعل ؛ لتكليف الكافر ، وللتنافي ، وللزوم أحد المحالين لولاه ).

أقول : المراد أنّ القدرة قبل الفعل ، كما عن الحكماء والمعتزلة (١).

وقالت الأشاعرة (٢) : إنّها مقارنة للفعل.

والضرورة قاضية ببطلان هذا المذهب ؛ فإنّ القاعد يمكنه القيام قطعا.

والأشاعرة بنوا مقالتهم على أصل لهم ـ سيأتي بطلانه ـ وهو أنّ العرض لا يبقى.

ثمّ إنّ المعتزلة استدلّوا على مقالتهم بوجوه ثلاثة (٣) :

الأوّل : أنّ القدرة لو لم تتقدّم الفعل قبح تكليف الكافر ، والتالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة : أنّ التكليف بما لا يطاق قبيح ، فلو لم يكن الكافر متمكّنا من الإيمان حال كفره ، لزم التكليف بما لا يطاق وهو غير واقع ؛ لقوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (٤).

الثاني : أنّه لو لم تكن القدرة قبل الفعل لزم التنافي.

__________________

(١) « الشفاء » الإلهيّات : ١٧٦ وما بعدها ؛ « شرح الأصول الخمسة » : ٣٩٦ وما بعدها ، والإماميّة قالت : إنّ القدرة متقدّمة على الفعل ، كما في « نهاية المرام » ٢ : ٢٤٨ ؛ « مناهج اليقين » : ٧٩ ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : ١٢٩٠ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٩٥.

(٢) « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ ؛ « المحصّل » : ٣٥٣ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٨٨ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٥٤ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٧٤.

(٣) لمزيد الاطّلاع حول أدلّة المعتزلة انظر : « شرح الأصول الخمسة » : ٣٩٦ ؛ « المحصّل » : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٢٥٠ ـ ٢٥٥ ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : ١٢٩ ـ ١٣٠ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٩٣ ـ ٩٨ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٥٥ ـ ٣٥٧ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

(٤) البقرة (٢) : ٢٨٦.

٤٥٤

وبيان الملازمة : أنّ القدرة محتاج إليها لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود ، وكونها مع الفعل لا قبله يلزمه أن يستغنى عنها ؛ لأنّه حال وجود الفعل صار الفعل موجودا فلا حاجة إليها ، مع أنّ الفعل إنّما يخرج بالقدرة.

وإلى هذا أشار بقوله : « وللتنافي ».

الثالث : أنّه لو لم تكن القدرة متقدّمة لزم إمّا حدوث قدرة الله تعالى ، أو قدم الفعل والعالم ؛ ضرورة عدم انفكاك أحدهما عن الآخر.

والقسمان محالان ؛ لأنّ قدرة الله عين ذاته تعالى ، وحدوثها يستلزم حدوث الواجب ، وهو محال بالبديهة. وعلى تقدير الزيادة يلزم نقيض الواجب ، وهو أيضا محال مناف لوجوب الوجود ، وكذا قدم العالم ؛ لما مرّ وسيأتي ، فالمقدّم باطل.

وإلى هذا أشار بقوله : « وللزوم أحد المحالين لولاه » أي لو لا التقدّم.

قال : ( ولا يتّحد وقوع المقدور مع تعدّد القادر ).

أقول : المراد أنّه لا يمكن وقوع المقدور الواحد بقادرين مستقلّين ؛ لما مرّ من امتناع اجتماع علّتين مستقلّتين في معلول واحد شخصيّ.

والدليل عليه أنّه لو وقع بهما لزم استغناؤه بكلّ واحد منهما حال حاجته إليه ، وهو باطل بالضرورة.

ويمكن تعلّق القادرين بمقدور واحد بأن يكون ذلك الشيء مقدورا لكلّ واحد منهما وإن لم يقع إلاّ بأحدهما ؛ ولهذا قال : « ولا يتّحد وقوع المقدور » ولم يقل : ولا يتّحد المقدور.

ومن زعم أنّ القدرة قد تكون كاسبة لا مؤثّرة (١) ، فقد جوّز اجتماع قدرتين : كاسبة ومؤثّرة على مقدور واحد بكون الكاسبة متعلّقة من غير تأثير.

وهو باطل ؛ لما سبق.

__________________

(١) زعمه الأشعري وأصحابه ، على ما في « شرح المواقف » ٦ : ٨٤ ـ ٨٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٦٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٥.

٤٥٥

قال : ( ولا استبعاد في تماثلها ).

أقول : ذهب قوم من المعتزلة (١) إلى أنّ أفراد القدرة مختلفة. وهو مبنيّ على أصل لهم ، وهو : أنّه لا تجتمع قدرتان لقادر واحد على مقدور واحد ، وإلاّ لأمكن اتّصاف ذاتين بهما ، فيجتمع على المقدور الواحد قادران ، وهو محال ؛ لما مرّ.

وإذا ثبت امتناع اجتماع قدرتين على مقدور [ واحد ] (٢) ثبت اختلاف القدرة ، بمعنى أنّ قدرة شخص على مقدور يمتنع أن تكون متماثلة لقدرة الآخر ؛ لأنّ التماثل في المتعلّق يستلزم اتّحاد المتعلّق ؛ لاتّحاد الاقتضاء.

ونحن لمّا جوّزنا تعلّق القادرين بمقدور واحد اندفع هذا الدليل ، وحينئذ يجوز وقوع التماثل فيها كغيرها من الأعراض ؛ لأنّ حال القدرتين كحال القادرين ، فيجوز تعلّقهما بمقدور واحد شخصيّ تبادلا لا تناولا ، فإذا وقع بإحداهما امتنع أن يقع بالأخرى ؛ لما سبق.

قال : ( وتقابل العجز تقابل الملكة والعدم ).

أقول : هذا إشارة إلى بيان ما هو الحقّ فيما اختلفوا فيه من أنّ التقابل بين القدرة والعجز تقابل التضادّ أو تقابل العدم والملكة ؛ إذ العجز عند الأوائل وبعض المعتزلة (٣) ـ على ما حكي ـ عدم القدرة عمّا من شأنه أن يكون قادرا ، فهو عدم ملكة القدرة.

وذهب الأشعريّة وجمهور المعتزلة (٤) ـ على ما حكي ـ إلى أنّه معنى يضادّ القدرة ؛

__________________

(١) انظر : « مناهج اليقين » ٨٢ ـ ٨٣ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١١٩ ـ ١٢٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٦ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٤٦.

(٢) الزيادة أضفناها من « كشف المراد ».

(٣) نقل عن أبي هاشم والأصمّ في « شرح المواقف » ٦ : ١٠٦ ، وعن أبي هاشم في « شرح المقاصد » ٢ : ٣٦١ و « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٦.

(٤) نقل عن الأشاعرة فقط في « المحصّل » : ٢٥٥ ، وعنهم وعن جمهور المعتزلة في « شرح المواقف » ٦ : ١٠٦ ، وعن بعض المعتزلة في « شرح الأصول الخمسة » : ٤٣٠ ، وعن الأشاعرة وأبي عليّ وأبي هاشم في أحد أقواله في « مناهج اليقين » : ٨٥.

٤٥٦

لأنّه ليس جعل العجز عدما للقدرة أولى من العكس.

وهو خطأ ؛ لأنّه لا يلزم من عدم الأولويّة عندهم عدمها في نفس الأمر ، ولا من عدمها في نفس الأمر ثبوت معنى وجوديّ للعجز ، بل الحقّ ـ كما اختاره المصنّف رحمه‌الله ـ أنّه عرض عدميّ مقابل القدرة.

أمّا كونه عرضا : فللتفرقة الضروريّة بين الزمن والممنوع من القيام.

وأمّا كونه عدميّا فلأنّ المعقول من القدرة هو التمكّن أو ما هو علّة له ، ومن العجز عدمه.

قال : ( وتغاير الخلق لتضادّ أحكامهما ، والفعل ).

أقول : الخلق ملكة نفسانيّة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير سابقة فكر ورويّة ، فهو مغاير للقدرة ؛ لتضادّ أحكامها ؛ لأنّ القدرة تساوي نسبتها إلى الضدّين ، والخلق ليس كذلك ؛ لتعلّقه بالوجود خاصّة ، وتضادّ الحكم يقتضي تضادّ منشئه. وكذا الخلق يغاير الفعل ؛ لأنّ الفعل متعلّقه ، مع أنّه قد يصدر على وجه التكلّف من دون سهولة ، وقد يكون على خلاف مقتضى الخلق ، كالغضب من الحليم الخليق في غير موضعه.

ولا يخفى أنّ هذه العبارة لا تخلو من إيراد ؛ فإنّ قوله : « والفعل » عطف على قوله : « الخلق » نظرا إلى الظاهر ، فيصير المعنى أنّ القدرة تغاير الفعل ، لا أنّ الخلق يغايره.

وفي بعض النسخ هكذا « ويضادّ الخلق القدرة لتضادّ أحكامهما ، والفعل » وعلى هذا لا يرد ما ذكر ، ولكن يرد أنّ تضادّ العرضين مستلزم لتغاير محلّيهما.

والظاهر جواز اجتماعهما في محلّ واحد بالقياس إلى فعل واحد.

اللهمّ إلاّ أن يكتفى في التضادّ بمجرّد امتناع الاجتماع في الصدق ، أو كون ذلك هو المراد ، فافهم.

٤٥٧

المسألة الرابعة والعشرون : في الألم واللذّة.

قال : ( ومنها : الألم واللذّة ، وهما نوعان من الإدراك تخصّصا بإضافة تختلف بالقياس ).

أقول : من الكيفيّات النفسانيّة الألم واللذّة ، ومرجعهما إلى الإدراك ، وهما نوعان منه تخصّصا بإضافة تختلف بالقياس ؛ لأنّ اللذّة عبارة عن إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، والألم إدراك المنافر من حيث هو منافر ، فهما نوعان من الإدراك يخصّص كلّ واحد منهما بإضافته إلى الملاءمة والمنافرة ، وهما أمران يختلفان بالقياس إلى الأشخاص ؛ إذ قد يكون الشيء ملائما لشخص ومنافرا للآخر.

وعن الإمام الرازي (١) أنّه لم يثبت أنّ اللذّة نفس إدراك الملائم أو غيره ، وبتقدير المغايرة هل هي معلولة أم لا؟ وبتقدير المعلوليّة هل يمكن حصولها بطريق آخر أم لا؟ وأنّ الألم ليس هو نفس إدراك المنافر ولا هو كاف في حصوله ، كما في سوء المزاج بغلبة الرطوبة ، فتدبّر.

قال : ( وليست اللذّة خروجا عن الحالة الطبيعيّة لا غير ).

أقول : نقل عن محمّد بن زكريّا الطبيب أنّ اللذّة ليست إلاّ العود إلى الحالة الطبيعيّة بعد الخروج عنها (٢) ، وهو معنى الخلاص عن الألم ، كالأكل للجوع والجماع لدغدغة شهوة المنيّ.

وفيه : أنّه من أسباب اللذّة ؛ إذ بالعود إلى الحالة الملائمة يحصل إدراكها ؛ فإنّا نجد من أنفسنا حالة نسمّيها باللذّة.

__________________

(١) « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥١٦.

(٢) انظر : « شرح المواقف » ٦ : ١٣٧ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٦٦ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٤٤. ونسب العلاّمة في « نهاية المرام » ٢ : ٢٧٧ هذا الكلام إلى القيل.

ولمزيد الاطّلاع حول تفسير ذلك راجع « المحصّل » ٢٥٧ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥١٢ ـ ٥١٣ ؛ « نقد المحصّل » : ١٧١ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ؛ « كشف المراد » : ٣٥١ ؛ « مناهج اليقين » : ١٢١.

٤٥٨

وأيضا قد تحصل اللذّة من غير سابقة ألم أو حالة غير طبيعيّة ، كما في مطالعة جمال أو مصادفة مال من غير طلب ولو على الإجمال.

فيرد عليه :

أوّلا : منع أنّ اللّذة دفع الألم.

وثانيا : منع الانحصار فيه.

ولكن في عبارة الكتاب إشكال وخروج عن الصواب ؛ فإنّ الصحيح أن يقول : « إلى » مكان « عن » أو نحو ذلك.

اللهمّ إلاّ أن تكون « عن » بمعناها ، كما تكون بمعنى « بعد » في قوله تعالى : ( طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) (١) ونحوه.

قال : ( وقد يستند الألم إلى التفرّق ).

أقول : للألم ـ كما عن الشيخ (٢) وغيره (٣) ـ سببان : أحدهما : تفرّق الاتّصال ، فإنّ مقطوع اليد يحسّ بالألم بسبب تفرّق اتّصالها عن البدن.

وقد نازع في ذلك بعض المتأخّرين (٤) ـ على ما حكي ـ بأنّ التفرّق أمر عدميّ ، فلا يكون علّة للوجوديّ.

__________________

(١) الانشقاق (٨٤) : ١٩.

(٢) « الشفاء » الطبيعيّات ٢ : ٦٠ ـ ٦١ ؛ « المباحثات » : ٦٩ ، الرقم ٩٧.

(٣) لغير الشيخ في المقام أقوال : منها : أنّ السبب الذاتي هو تفرّق الاتصال ، نقلا عن جالينوس وأكثر الأطبّاء أو جميعهم والأوائل والمعتزلة أو بعضهم مثل القاضي عبد الجبار.

ومنها أنّ السبب الذاتي هو المزاج ، وإليه مال الفخر الرازي وجمع من المتأخّرين.

ومنها : أنّ كلاّ منهما يصلح سببا بالذات.

انظر : « المغني » ٩ : ١٣٧ و ١٦٠ ؛ ١٣ : ٢٧٢ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥١٨ ؛ « المحصّل » : ٢٥٨ ؛ « نقد المحصّل » : ١٧١ ـ ١٧٢ ؛ « مناهج اليقين » : ١٢١ ـ ١٢٢ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٢٨٧ ـ ٢٩٢ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٣٨ ـ ١٤٤ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٣٠ ـ ١٣٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

(٤) هو الفخر الرازي في « المحصّل » : ٢٥٨.

٤٥٩

وفيه نظر ؛ لأنّ التفرّق ليس عدما ، بل المراد الإعدام وإزالة الاتّصال ، وإن كان في العبارة مسامحة.

ولو سلّم فليس عدما محضا ، فجاز التعليل به.

على أنّ التفرّق إنّما كان علّة بالعرض ، فإنّ العلّة بالذات هي سوء المزاج.

الثاني : سوء المزاج المختلف ؛ لأنّ سوء المزاج المتّفق لا يقتضي التألّم.

بيان ذلك : أنّ سوء المزاج قسمان : متّفق ؛ ومختلف.

فالمتّفق مزاج غير طبيعي يرد عليه ولا يبطله ، بل يزيده ويتمكّن فيه بحيث يصير كأنّه المزاج الطبيعي.

والمختلف مزاج غير طبيعيّ يرد عليه ويبطله ولكن يخرجه عن الاعتدال ، وهو المؤلم دون الأوّل ؛ ولهذا يجد صاحب الغبّ (١) التهابا منافرا لا يجده المدقوق.

وممّا ذكرنا يظهر اندفاع ما حكي عن الإمام الرازي (٢) من إنكار كون الألم بسبب تفرّق الاتّصال تمسّكا بأنّ من قطع يده بسكّين حديد في غاية الغاية لم يحسّ الألم إلاّ بعد زمان ، وأنّ الغذاء إذا صار جزءا من المغتذي يفرّق اتّصال أجزائه.

قال : ( وكلّ واحد منهما : حسّيّ ، وعقليّ وهو أقوى ).

أقول : يريد قسمة اللذّة والألم بالنسبة إلى الحسّ والعقل ، وذلك أنّ جماعة (٣) أنكروا العقليّ منهما.

والحقّ خلافه ؛ لأنّا نلتذّ بالمعارف ، وهي لذّات عقليّة لا تعلّق للحسّ بها ، ونتألّم بفقدانها ، بل هذه اللذّة أقوى من اللذّة الحسّيّة ؛ ولهذا يترك اللذّة الحسّيّة لأجل اللذّة الوهميّة ، فكيف العقليّة.

__________________

(١) أي صاحب الحمّى التي تجيء يوما وتذهب يوما.

(٢) انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥١٥ ـ ٥١٦.

(٣) نسبه في « الإشارات والتنبيهات » إلى الأوهام العامّيّة ، كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٣٣٤ ، ونسبه في « شوارق الإلهام » : ٤٤٥ إلى من هو من أهل الظاهر.

٤٦٠