البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

وأيضا فإنّ الحسّ إنّما يدرك ظواهر الأجسام ولا تعلّق له بالأمور الكلّيّة ، والعقل يدرك باطن الشيء ويميّز الذاتيّات والعوارض ، ويفرّق بين الجنس والفصل ، ويكون إدراكه أتمّ فتكون اللذّة فيه أقوى ؛ ولهذا يترك الطلاّب المستلذّات الحسّية الجسميّة بالمطالعة ، ويقول من أدرك مسألة عالية غامضة جليلة : « أين أبناء الملوك تلذّ هذه اللذّة » (١).

المسألة الخامسة والعشرون : في الإرادة والكراهة.

قال : ( ومنها : الإرادة والكراهة ، وهما نوعان من العلم ).

أقول : من الكيفيّات النفسانيّة الإرادة والكراهة ، وهما ـ عند جماعة ، كالمصنّف وكثير من المعتزلة (٢) ـ نوعان من العلم بالمعنى الأعمّ ، وهو الاعتقاد الراجح ؛ وذلك لأنّ الإرادة عبارة عن اعتقاد النفع بسبب قطعه أو ظنّه بما في الفعل من المصلحة ، والكراهة اعتقاد الضرر بسبب اعتقاد ما فيه من المفسدة.

وقال آخرون (٣) : إنّ الإرادة والكراهة زائدتان على هذا العلم مرتّبتان عليه ؛ إذ الإرادة ميل يتعقّب اعتقاد النفع ، والكراهة انقباض يتعقّب اعتقاد الضرر ؛ لأنّا كثيرا ما نعتقد نفعا في شيء ولا نريده.

وعن الأشاعرة (٤) أنّ الإرادة قد توجد بدون اعتقاد النفع أو ميل يتبعه ، كما في

__________________

(١) نقله في « آداب المتعلّمين » ضمن « جامع المقدّمات » ٢ : ٥٦ عن محمّد بن الحسن الطوسي.

(٢) نقله عنهم في « مناهج اليقين » : ١٧١ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٦٤ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٤٦.

(٣) أي من المعتزلة ، الذين منهم عبد الجبّار في « المغني » ٦ : ٨ ـ ٣٠ و « شرح الأصول الخمسة » ، ونقل عن غيره من المعتزلة في « مناهج اليقين » : ١٧١ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٦٤ ـ ٦٥ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٢٨ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٧ ؛ « شوارق الإلهام » : ٢٧٧ ، ونقل الفخر ذلك عن الفلاسفة في « المطالب العالية » ٣ : ١٧٥.

(٤) « المطالب العالية » ٣ : ١٧٥ ـ ١٧٨ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٦٧ ـ ٧٠ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٤٦.

٤٦١

إرادة الهارب عن السبع سلوك أحد الطريقين المتساويين من دون خطور نفع حتّى يتبعه ميل.

والحقّ أنّ الإرادة قد تطلق ويراد منها العلم بالمصلحة المقتضية لمشيئة الفعل كالكراهة للعلم بالمفسدة المقتضية لمشيئة الترك ؛ ولهذا يقال : إنّ الإرادة عين ذات الله تعالى.

وقد تطلق على نفس المشيئة ، ولهذا المعنى يقال : إنّها زائدة ، وهي بهذا المعنى غير العلم بالنفع أو الضرر أو المصلحة أو المفسدة ؛ لأنّا نجد من أنفسنا ميلا إلى الشيء أو عنه مرتّبا على هذا العلم.

وهو يفارق الشهوة ؛ فإنّ المريض يريد شرب الدواء ولا يشتهيه.

قال : ( وأحدهما لازم مع التقابل ).

أقول : المحكيّ عن الشيخ الأشعري وأتباعه (١) أنّ إرادة الشيء نفس كراهة ضدّه ؛ لعدم كونهما مثلين أو ضدّين وإلاّ لامتنع اجتماعهما ، ولا متخالفين وإلاّ لجاز اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر ، كالسواد المخالف للحلاوة.

وأجيب (٢) بجواز كون المتخالفين متلازمين ، فيمتنع اجتماع الملزوم مع ضدّ اللازم ، وبجواز كون الضدّين ضدّين لأمر واحد ، كالنوم للعلم والقدرة ، فيمتنع اجتماع كلّ مع ضدّ الآخر.

وعن جماعة القول بالتغاير وإن اختلفوا في الاستلزام وعدمه ـ بمعنى أنّ إرادة الشيء تستلزم كراهة ضدّه المشعور به أم لا ـ على قولين (٣).

والمصنّف اختار القول بالتغاير والاستلزام ، فأفاد أنّ كلاّ من الإرادة والكراهة

__________________

(١) حكاه عنهم في « شرح المواقف » ٦ : ٧٣ ـ ٧٥ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٠.

(٢) « شرح المواقف » ٦ : ٧٥ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٠.

(٣) نسب القول الأوّل إلى القاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي ، والثاني قال به جماعة منهم صاحب المواقف.

انظر : « شرح المواقف » ٦ : ٧٥ ـ ٧٧ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٤٧.

٤٦٢

لازم للآخر مع تقابل المتعلّقين ؛ فإنّ إرادة أحد المتقابلين لازمة لكراهة المتقابل الآخر لا نفسها ، وبالعكس بشرط الشعور بالمقابل.

ولكن لا يخفى أنّ ذلك يتمّ بالنسبة إلى الترك الذي هو المقابل على وجه الإيجاب والسلب ، لا مطلق الضدّ ، لجواز أن لا يتعلّق بالضدّ كراهة ولا إرادة.

ومن هذا يتفرّع ما في علم الأصول من أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن الضدّ ، أو مستلزم له أو لعدم الأمر بالضدّ ، أو ليس عينه ولا ملزومه كما هو الحقّ ، لجواز الميل إلى الشيء وإرادته والأمر به مع الغفلة عن مقابله.

قيل : ويجوز أن يكون معنى قوله : « وأحدهما لازم مع التقابل » أنّ أحدهما لازم للعلم قطعا ؛ إذ المعلوم إمّا أن يشتمل فعله على نوع من المصلحة أو على نوع من المفسدة ، فأحد الأمرين لازم ، لكن لا يلزمه أحدهما بعينه ؛ للتقابل بينهما ، بل اللازم واحد لا بعينه (١) ، فتأمّل.

قال : ( ويتغاير اعتبارهما بالنسبة إلى الفاعل وغيره ).

أقول : الذي يظهر لنا من هذا الكلام أنّ الإرادة والكراهة يتغاير اعتبارهما بالنسبة إلى الفاعل بالإرادة وغيره ؛ وذلك لأنّ الإرادة إن كانت لنفس فعل الفاعل بأن تعلّقت بفعل من أفعال نفسه ، فهي عبارة عن صفة تقتضي تخصيصه بالإيجاد دون غيره من الأفعال في وقت خاصّ دون غيره من الأوقات. وإن كانت لفعل الغير فإنّها لا تؤخذ بهذا المعنى ، بل بمعنى طلب إيجاده وكذا الكراهة.

والذي فسّره به الشارح القوشجي (٢) أنّ الإرادة بالنسبة إلى الفاعل الحقيقي ـ وهو الله تعالى ـ بالقياس إلى فعله تعالى موجبة للمراد بالاتّفاق ، وبالقياس إلى فعل غيره على الاختلاف. وإرادة غيره بالنسبة إلى غيره غير موجبة بالاتّفاق وبالقياس إلى فعل نفسه على نفسه على الاختلاف ، فالأشاعرة وجماعة من المعتزلة (٣) قالوا

__________________

(١) وهو الاحتمال الذي ذكره العلاّمة في « كشف المراد » : ٢٥٢.

(٢) « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٢.

(٣) « المغني » ٦ : ٨٤ ـ ٨٨ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٦٦ ـ ٦٧ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨١ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٤٧.

٤٦٣

بالمقارنة ، وطائفة من قدماء المعتزلة (١) قالوا بكونها موجبة ، بمعنى أنّ المراد إذا خطر بالبال واعتقد نفعه حصل الميل ، ثمّ إذا اشتدّ هذا الاعتقاد حصل العزم. ثمّ اذا اشتدّ حصل الجزم ، فإذا زال التردّد حصل القصد المقارن للفعل.

وعلى هذا القياس حال الكراهة بالنسبة إلى ترك الفعل ، فتأمّل.

قال : ( وقد تتعلّقان بذاتيهما بخلاف الشهوة والنفرة ).

أقول : المراد أنّ الإرادة قد تراد والكراهة قد تكره ، وهذا حكم ظاهر ، لكنّ الإرادة المتعلّقة بالإرادة ليست هي الإرادة المتعلّقة بالفعل ؛ لأنّ اختلاف المتعلّقات يقتضي اختلاف المتعلّقات. أمّا الشهوة والنفرة فلا يصحّ تعلّقهما بذاتيهما ؛ فالشهوة لا تشتهى والنفرة لا ينفر عنها ؛ لأنّ الشهوة والنفرة إنّما تتعلّقان بالمدرك لا بمعنى أنّه يجب أن يكون موجودا ، فقد تتعلّق الشهوة والنفرة بالمعدوم ، وهما غير مدركين ، وكلام المريض : « أشتهي أن أشتهي » مجاز معناه أريد أن أشتهي.

وعن صاحب المواقف (٢) أنّ الإرادة إذا فسّرت باعتقاد النفع أو الميل التابع له جاز تعلّقها بنفسها ، وأمّا إذا فسّرت بالصفة المخصّصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع فلا يجوز تعلّقها بنفسها ؛ للزوم التسلسل.

والظاهر عدم صدور إرادة الإرادة من العقلاء وغيرهم ؛ فأنّ المراد فيما يقال : « أراد » أن يريد الميل إلى الإرادة من أصلها ، بل بإرادة المراد يوجد المراد والإرادة ، فالإرادة تصدر من الفاعل المختار بالاختيار بنفسها لا بإرادة أخرى.

ويشهد على هذا ما ورد من قوله عليه‌السلام : « خلق الله الأشياء بالمشيئة ، وخلق المشيئة بنفسها » (٣).

__________________

(١) « شرح المواقف » ٦ : ٦٦ ـ ٦٧ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨١ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٤٧.

(٢) « شرح المواقف » ٦ : ٧١ ـ ٧٢.

(٣) « الكافي » ١ : ١١٠ باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ... ح ٤ وفيه : « خلق الله المشيئة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة ». وفي « التوحيد » : ١٤٨ ، الباب ١١ ، ح ٢٠١٩ « خلق الله المشيئة قبل الأشياء ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة ».

٤٦٤

والأولى أن يتمسّك في المغايرة بأنّ الإنسان قد يريد شرب دواء كريه في غاية الكراهة فيشربه ولا يشتهيه بل ينفر عنه ، وقد يشتهي طعاما لذيذا ولا يريده إذا كان فيه هلاكه ، فقد وجد كلّ منهما بدون الأخرى. وكذا الحال بين الكراهة والنفرة.

قال : ( فهذه الكيفيّات تفتقر إلى الحياة ، وهي صفة تقتضي الحسّ والحركة مشروطة باعتدال المزاج عندنا ).

أقول : هذه الكيفيّات النفسانيّة التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله مشروطة بالحياة وهو ظاهر.

ثمّ فسّر الحياة بأنّها صفة تقتضي الحسّ والحركة ، وزادها إيضاحا بقوله : « مشروطة باعتدال المزاج » ثمّ قيّد ذلك بقوله : « عندنا » ليخرج عنه حياة واجب الوجود ؛ فإنّها غير مشروطة باعتدال المزاج ولا

تقتضي الحسّ والحركة ، فيكون المعنى أنّ الحياة صفة تقتضي الحسّ والحركة اقتضاء مشروطا باعتدال المزاج اعتدالا نوعيّا بالنسبة إلينا ، لا بالنسبة إلى الواجب.

وقيل : هي قوّة تكون مبدأ لقوّة الحسّ والحركة (١).

وقيل : قوّة تتبع اعتدال النوع وتفيض عنها سائر القوى الحيوانيّة أي المدركة. والمحرّكة (٢).

ومعنى اعتدال النوع أنّ لكلّ نوع من المركّبات العنصريّة مزاجا خاصّا هو أصلح الأمزجة بالنسبة إليه ، بحيث إذا خرج عن ذلك المزاج ، لم يكن ذلك النوع ، فإذا حصل في المركّب اعتدال يليق بنوع من أنواع الحيوان ، فاضت عليه قوّة الحياة ، وانبعثت عنها بإذن الله تعالى الحواسّ الظاهرة والباطنة والقوى المحرّكة نحو جلب

__________________

(١) هذا هو القول بالمغايرة بين الحياة وبين قوّتي الحسّ والحركة الذي قال به الشيخ.

نقله عن كلّيّات القانون في « شرح المواقف » ٥ : ٢٨٨ ونسبه إلى القيل في « شرح المقاصد » ٢ : ٢٩٢ و « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٢.

(٢) اختاره الإيجي ، كما في « شرح المواقف » ٥ : ٢٨٨.

٤٦٥

المنافع ودفع المضارّ ، فتكون الحياة مشروطة باعتدال المزاج ، وهي غير الحسّ والحركة وقوّة التغذية والتنمية ؛ لوجودها في العضو المفلوج والذابل من غير حسّ وحركة وتغذية وتنمية.

قال : ( فلا بدّ من البنية ).

أقول : هذا نتيجة ما تقدّم من اشتراط الحياة باعتدال المزاج ؛ فإنّ ذلك إنّما يتحقّق بالبنية ، وهي البدن المؤلّف من العناصر ؛ لأنّ المزاج لا يتصوّر إلاّ بتأليفها ، وهو ظاهر.

والأشاعرة (١) أنكروا ذلك وجوّزوا وجود حياة في محلّ غير منقسم بانفراده كما حكي. وهو ظاهر البطلان.

قال : ( وتفتقر إلى الروح ).

أقول : المراد أنّ الحياة تفتقر إلى الروح الحيواني ، وهي أجسام لطيفة متكوّنة من بخار الأخلاط السارية في العروق ، ينبعث من القلب من التجويف الأيسر ويسري إلى البدن في عروق نابتة من القلب تسمّى بالشرايين. وحاجة الحياة إليها ظاهرة.

قال : ( وتقابل الموت تقابل العدم والملكة ).

أقول : الموت هو عدم الحياة عن محلّ وجدت فيه ، فهو مقابل للحياة مقابلة العدم والملكة ، كالعمى بعد البصر ، لا كمطلق العمى ، فلا يكون عدم حياة الجنين موتا وإن أطلق عليه مجازا.

وذهب أبو عليّ الجبّائي ـ على ما حكي (٢) ـ إلى أنّه معنى وجوديّ يضادّ الحياة ؛ لقوله تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ ) (٣) فإنّ الخلق يستدعي الإيجاد المستلزم

__________________

(١) انظر : « المحصّل » : ٢٤٢ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٩٣ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٩٤ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٣.

(٢) نقله في « المحصّل » : ٢٤٠ من دون نسبته لأحد ، وفي « مناهج اليقين » : ٧٥ نقله عن أبي عليّ وأبي القاسم البلخي ، ونسبه إلى القيل في « شرح المواقف » ٥ : ٢٩٥ و « شرح المقاصد » ٢ : ٢٩٦ و « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٣ و « شوارق الإلهام » : ٤٤٨.

(٣) الملك (٦٧) : ٢.

٤٦٦

لكونه موجودا ووجوديّا ؛ ولهذا يقال : إنّ الموت فعل من أفعال الله تعالى أو من الملائكة يقتضي زوال حياة الجسم من غير جرح.

واحترز بالقيد الأخير عن القتل ، ولا بدّ من إرادة ما يعمّ جميع أسباب القتل من الجرح وغيره.

وهو ضعيف ؛ لأنّ الخلق هو التقدير ، وذلك لا يستدعي كون المقدور وجوديّا مع أنّ الأمور العدميّة قد تحدث بعد أن لم تكن ، كالعمى الطارئ ، فيكون المراد إحداث أسباب الموت على حذف المضاف ، ولا أقلّ من الاحتمال المبطل للاستدلال.

المسألة السادسة والعشرون : في باقي الكيفيّات النفسانيّة.

قال : ( ومن الكيفيّات النفسانيّة : الصحّة والمرض ).

أقول : الصحّة والمرض من الكيفيّات النفسانيّة عند الشيخ.

أمّا الصحّة فقد حدّها في « الشفاء » (١) بأنّها ملكة في الجسم الحيواني تصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعيّة وغيرها (٢) على المجرى الطبيعي غير مئوفة (٣).

والمرض حال أو ملكة مقابلة لتلك ، كذا حكي.

وعن القانون « أنّ الصحّة ملكة أو حالة تصدر عنها ـ أي لأجلها ـ الأفعال من الموضوع لها سليمة » (٤) بمعنى أنّ الصحّة هي الكيفيّة النفسانيّة ولو كانت غير راسخة.

وإنّما قدّم الملكة مع أنّها متأخّرة في الوجود ؛ لأنّها أشرف من الحال وأغلب في الصحّة.

__________________

(١) « الشفاء » المنطق ١ : ٢٥٣.

(٢) كالإرادة. من حاشية نسخة المصنّف.

(٣) من الآفة ، يقال : طعام مئوف ، أي أصابته آفة. انظر : « لسان العرب » ١ : ٢٦٣ ، « أوف ».

(٤) « القانون » ١ : ١٤ نقلا عن « نهاية المرام » ٢ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

٤٦٧

وهاهنا إشكال محكيّ عن الإمام (١) ؛ فإنّ المتضادّين يدخلان تحت جنس واحد ، فالصحّة دخلت في الحال والملكة ، وكذا المرض ، لكن أجناس المرض المفرد ثلاثة : سوء المزاج ، وسوء التركيب ، وتفرّق الاتّصال.

فسوء المزاج إن كان هو الحرارة الزائدة ـ مثلا ـ فمن الكيفيّات الفعليّة أو المحسوسة ، لا من الكيفيّات النفسانيّة المنقسمة إلى الحال والملكة. وإن كان هو اتّصاف البدن بها ، فمن مقولة « أن ينفعل ».

وسوء التركيب عبارة عن مقدار أو عدد أو وضع أو شكل أو انسداد مجرى يخلّ بالأفعال ، ولا شيء منها بحال ولا ملكة ؛ لأنّ المقدار والعدد من الكمّيّات ، والوضع مقولة برأسها ، والشكل من الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات ، والانسداد من الانفعال.

وتفرّق الاتّصال عدميّ لا يدخل تحت مقولة ، وإذا لم يدخل المرض تحت الحال والملكة ، لم تدخل الصحّة تحتهما ، لكونها ضدّا له.

وأجيب (٢) بأنّا لو سلّمنا كون التضادّ حقيقيا فإنّ [ في ] تقسيم المرض إلى ما ذكر تسامحا ، والمقصود أنّه كيفيّة نفسانيّة تحصل عند هذه الأمور وتنقسم باعتبارها.

والصحّة كيفيّة حاصلة عند اعتدال المزاج ، فتأمّل.

قال : ( والفرح والغمّ ).

أقول : الفرح أحد الكيفيّات النفسانيّة وكذا الغمّ.

والسبب المعدّ في الفرح كون الروح على أفضل أحواله في الكمّ والكيف وتخيّل النفس الكمال. وأضداد هذه أسباب الغمّ.

قال : ( والغضب والحزن والهمّ والخجل والحقد ).

أقول : هذه أيضا من الأعراض النفسانيّة التي تستلزم حركة الروح إمّا إلى داخل

__________________

(١) « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٢٥ ـ ٥٢٦.

(٢) انظر : « شرح المواقف » ٦ : ١٤٧ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٧٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٥٠.

٤٦٨

أو إلى خارج.

والأوّل إن كانت كثيرة فكما في الفرح ، أو قليلة فكما في الحزن.

والثاني إمّا أن يكون دفعة فكما في الغضب ، أو يسيرا يسيرا فكما في اللذّة.

وقد يتّفق أن يتحرّك إلى جهتين دفعة واحدة إذا كان العارض يلزمه عارضان ، كالهمّ ؛ فإنّه يوجد معه غضب وحزن ، فتختلف الحركتان ، وكالخجل الذي ينقبض الروح معه أوّلا إلى الباطن ثمّ يخطر بالبال انتفاء الضرر فينبسط ثانيا.

ويعتبر في الحقد غضب ثابت وعدم سهولة الانتفاء وعدم صعوبته.

المسألة السابعة والعشرون : في الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات.

قال : ( والمختصّة بالكمّيّات المتّصلة كالاستقامة والاستدارة والانحناء والتقعير والتقبيب والشكل والخلقة ، أو المنفصلة كالزوجيّة والفرديّة ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الكيفيّات النفسانيّة ، شرع في الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات ، ونعني بها الكيفيّة التي تعرض للكمّيّة أوّلا وبالذات ، وللجسم ثانيا وبالعرض.

واعلم أنّ الكمّ على قسمين : متّصل ومنفصل :

أمّا المتّصل فقد يعرض له الكيف مثل الاستقامة والاستدارة للخطّ ، والانحناء للخطّ والسطح ، والتقعير والتقبيب للسطح ، والشكل والخلقة للسطح والجسم التّعليمي.

[ و ] أمّا المنفصل فقد يعرض له أنواع أخر من الكيف ، كالزوجيّة والفرديّة وغيرهما للعدد.

قال : ( فالمستقيم أقصر الخطوط الواصلة بين النقطتين ، وكما أنّه موجود فكذا الدائرة ).

٤٦٩

أقول : رسم الخطّ المستقيم بأنّه أقصر خطّ يصل بين نقطتين ؛ لأنّ كلّ نقطتين يمكن أن يوصل بينهما بخطوط غير مستقيمة مختلفة في الطول والقصر ، وبخطّ واحد مستقيم هو أقصرها (١).

إذا عرفت هذا ، فنقول : الخطّ المستقيم موجود بالضرورة. أمّا الدائرة ـ وهي سطح مستو يحيط به خطّ واحد في داخله نقطة كلّ (٢) الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى المحيط متساوية ـ فقد اختلف الناس في وجودها ، فالذين أثبتوا ما لا ينقسم من ذوات الأوضاع نفوها (٣) ، والباقون أثبتوها (٤) ، واختاره المصنّف ؛ لأنّ الدائرة المحسوسة موجودة ، ويمكن وجودها بإثبات أحد طرفي الخطّ المستقيم المتناهي الطرفين ، وحركة طرفه الآخر منه إلى أن عاد إلى وضعه الأوّل ، والمراد أنّ الحركة الدوريّة موجودة بلا شبهة ، فالدائرة موجودة بلا شبهة.

قال : ( والتضادّ منتف عن المستقيم والمستدير ، وكذا عن عارضيهما ).

أقول : ربّما توهّم بعض الناس أنّ الخطّ المستقيم يضادّ الخطّ المستدير ؛ للتنافي بينهما ، وكذا حال عارضيهما ، أعني الاستقامة والاستدارة (٥).

والتحقيق عند المصنّف خلاف ذلك ؛ فإنّ الضدّين يجب اتّحاد موضوعهما وتواردهما عليه ، والموضوع هنا ليس بواحد ؛ إذ المستقيم يستحيل أن ينقلب إلى المستدير وبالعكس ؛ لأنّ موضوع الخطّ المستقيم سطح مستو ، وموضوع الخطّ المستدير سطح مستدير ، وإذا انتفى التضادّ عنهما فكذا عن عارضيهما ، بمعنى أنّ

__________________

(١) نقلها عن أرخميدس في « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٢٩ و « نهاية المرام » ١ : ٦٠٦.

(٢) في الأصل : « كان » بدل « كلّ » والصحيح ما أثبتناه.

(٣) « الشفاء » الإلهيات : ١٤٦ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٤٢ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٦٠٨ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٥٧ ؛ « الأسفار الأربعة » ٤ : ١٦٦.

(٤) « الشفاء » الإلهيّات : ١٤٦ ؛ « النجاة » : ٢١٦ ـ ٢١٨ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٠٣ ـ ٢٠٨ ؛ « التحصيل » : ٤٠٤ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٤٠ ـ ٥٤١ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٦٠٨ ؛ « الأسفار الأربعة » ٤ : ١٦٦.

(٥) انظر : « كشف المراد » : ٢٥٦ ، وقال : مال إلى هذا الرأي الفاضل القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

٤٧٠

التضادّ منتف عن الاستقامة والاستدارة العارضتين للخطّ المستقيم والمستدير ، أو بمعنى أنّ التضادّ منتف عن الحركتين الواقعتين على الخطّين : المستقيم والمستدير.

وأورد (١) على ذلك : بأنّ الدائرة سطح مستو ، وهو موضوع لمحيطه الذي هو خطّ مستدير. وبأنّ الخطّ المستقيم قد يوجد في السطح غير المستوي ، كما في محيط الأسطوانة والمخروط. وبأنّ عدم تضادّ المعروضين لا يستلزم عدم تضادّ العارضين ؛ فإنّ الأسود والأبيض لا يتضادّان ؛ لصدق الجوهر عليهما مع تحقّق التضادّ بين السواد والبياض ، ولهذا قيل (٢) : لعلّ مراد المصنّف أنّ المستقيم لا يضادّ المستدير ، بل الاستقامة لا تضادّ الاستدارة ؛ لأنّ كلّ خطّ مستقيم يمكن أن يكون وترا لقسيّ غير متناهية ، فلو كان المستقيم ضدّا للمستدير ، لكان للمستقيم الواحد بالشخص أضداد غير متناهية هي المستديرات المذكورة ، وذلك باطل ؛ إذ ضدّ الواحد واحد ، وليس بعضها أولى من غيره ، فليس ضدّا لشيء منها ، فتأمّل.

قال : ( والشكل هيئة إحاطة الحدّ أو الحدود بالجسم ، ومع انضمام اللون تحصل الخلقة ).

أقول : ذكر القدماء أنّ الشكل ما أحاط به حدّ واحد كما في الكرة ، أو حدود كما في غيرها (٣).

والتحقيق أنّه من باب الكيف ، وأنّه يعرض للجسم بسبب إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود به ، كالكرويّة والتربيع.

وأورد على التخصيص بالجسم : بأنّ الدائرة إحاطة الحدّ بالسطح لا بالجسم (٤).

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ، ونسب الإيراد الأوّل إلى القيل.

(٢) القائل هو الفاضل القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٧.

(٣) « الشفاء » المنطق ١ : ٢٠٥ وما بعدها ؛ « النجاة » : ١٣٥ ؛ « التحصيل » : ٣٨٦ ـ ٣٩٧ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٤٥ ـ ٥٤٦ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٦١٣ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦ ؛ « شرح الهداية الأثيرية » : ٣٩ و ٦٨ ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » ١ : ١٠٣٩.

(٤) انظر : « شرح المقاصد » ٢ : ٣٨٦ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٧ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٥٢.

٤٧١

وكيف كان فالشكل مغاير للوضع بمعنى المقولة ، وإذا اعتبر الشكل واللون معا حصلت الخلقة ، فهي كيفيّة حاصلة من اجتماعهما.

قال : ( الثالث : المضاف ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الكيف وأقسامه ، شرع في البحث عن الإضافة ، وهي النسبة المتكرّرة ، أي النسبة التي لا تعقل إلاّ بالنسبة إلى نسبة أخرى معقولة بالقياس إلى الأولى ، وهذه تسمّى مضافا حقيقيّا ؛ ولهذا عبّر عنها بقوله : « المضاف » وهو المقولة الثالثة من المقولات.

وهذه المقولة وما بعدها من المقولات كلّها نسبيّة ، وهو قسم مقابل لما تقدّم من المقولات.

وفي هذا القسم مسائل :

المسألة الأولى : في أقسامه.

قال : ( وهو حقيقيّ أو مشهوريّ ).

أقول : المضاف يقال لنفس الإضافة ، أعني النسبة العارضة للشيء باعتبار قياسه إلى غيره كالأبوّة والبنوّة ، ويقال له : المضاف الحقيقي ؛ فإنّه لذاته يقتضي الإضافة ، وغيره إنّما يقتضي الإضافة بواسطته.

ويقال للذات التي عرضت لها الإضافة بالفعل ، أعني المجموع المركّب من العارض والمعروض كالأب والابن ، ويسمّى المضاف المشهوريّ.

وقد يقال للذات نفسها : مضاف مشهوريّ ، باعتبار كونها معروضة للإضافة.

المسألة الثانية : في خواصّه.

قال : ( ويجب فيه الانعكاس والتكافؤ بالفعل أو القوّة ).

٤٧٢

أقول : هاتان خاصّتان مطلقتان للمضاف لا يشاركه فيهما غيره :

إحداهما : وجوب الانعكاس ، بمعنى أنّه إذا نسب أحد المضافين المشهوريّين إلى الآخر من حيث إنّه مضاف ، وجب أن تنعكس تلك النسبة ، فينسب إلى الآخر أيضا ، فإنّه كما يقال : إنّ الأب أب للابن ، كذا يقال : إنّ الابن ابن للأب. فالمراد بالانعكاس الحكم بإضافة كلّ واحد منهما ونسبته إلى صاحبه من حيث كان مضافا إليه كما مثّلنا. فإن لم تراع هذه الحيثيّة لم يجب الانعكاس ، كما تقول : الأب أب للإنسان ، ولا تقول : الإنسان إنسان الأب ، وكذا المضاف الحقيقي ؛ إذ لا انعكاس فيه ، فلا يقال : الأبوّة أبوّة البنوّة وبالعكس.

وكيف كان فالانعكاس قد لا يفتقر إلى حرف النسبة كالعظيم والصغير ، وقد يفتقر مع تساوي الحرف في الجانبين ، كقولنا : « العبد عبد للمولى والمولى مولى للعبد » أو مع اختلافه ، كقولنا : « العالم عالم بالمعلوم والمعلوم معلوم للعالم ».

الثانية : التكافؤ في الوجود بالفعل أو القوّة بمعنى أنّه إذا كان أحدهما موجودا بالفعل فلا بدّ أن يكون الآخر أيضا موجودا بالفعل ، وإذا كان أحدهما موجودا بالقوّة فلا بدّ أن يكون الآخر أيضا موجودا بالقوّة ، فالأب إذا كان أبا بالفعل كان الابن أيضا ابنا بالفعل ، وإن كان الأب بالقوّة كان الابن أيضا بالقوّة ، فالمتقدّم مصاحب للمتأخّر هنا.

قال : ( ويعرض للموجودات أجمع ).

أقول : المضاف الحقيقي يعرض لجميع الموجودات ، كما يقال للواجب تعالى : أوّل قادر عالم خالق رازق. ويقال لنوع من الجواهر : إنّه أب وابن وغيرهما. ويقال للخطّ : طويل وقصير ، وللعدد : قليل وكثير ، وللكيف : أسخن وأبرد ، وللمضاف : كالأقرب والأبعد ، وللأين : أعلى وأسفل ، وللمتى : أقدم وأحدث ، وللوضع : أشدّ انتصابا وانحناء ، وللملك : أعرى وأكسى ، وللفعل : أقطع وأصرم ، وللانفعال : أشدّ تسخّنا وتقطّعا.

٤٧٣

المسألة الثالثة : في أنّ الإضافة لا تحقّق لها في الخارج ، وليست ثابتة في الأعيان.

قال : ( وثبوته ذهنيّ ، وإلاّ لتسلسل ولا ينفع تعلّق الإضافة بذاتها ).

أقول : اختلف العقلاء هاهنا ، فذهب قوم إلى أنّ الإضافة ثابتة في الأعيان ، لأنّ فوقيّة السماء ليست عدما محضا ولا أمرا ذهنيّا غير مطابق.

وقال آخرون : إنّها عدميّة في الأعيان ، ثابتة في الأذهان (١) ، وهو اختيار المصنّف رحمه‌الله وأكثر المحقّقين.

والدليل عليه وجوه ذكرها المصنّف رحمه‌الله :

أحدها : أنّ الإضافة لو كانت ثابتة في الأعيان لزم التسلسل ؛ لأنّ حلولها في المحلّ إضافة أخرى ، وحلول ذلك الحلول ثابت يستدعي محلاّ وحلولا ، وذلك يوجب التسلسل.

وأجاب الشيخ أبو عليّ بن سينا عن هذا ـ على ما حكي ـ بأن قال : يجب أن يرجع في حلّ هذه الشبهة إلى حدّ المضاف المطلق ، فنقول : المضاف هو الذي ماهيّته معقولة بالقياس إلى غيره ، وكلّ شيء في الأعيان يكون بحيث ماهيّته إنّما تعقل بالقياس إلى غيره ، فذلك الشيء من المضاف ، ولكن في الأعيان أشياء كثيرة بهذه الصفة ، فالمضاف في الأعيان موجود.

ثمّ إن كان في المضاف ماهيّة أخرى ، فينبغي أن يجرّد ماله من المعنى المعقول بالقياس إلى غيره ، فذلك المعنى هو بالحقيقة المعنى المعقول بالقياس إلى غيره ، وغيره إنّما هو معقول بالقياس إلى غيره بسبب هذا المعنى ، وهذا المعنى ليس معقولا بالقياس إلى غيره بسبب شيء غير نفسه ، بل هو مضاف لذاته لا بإضافة أخرى ،

__________________

(١) نسب القول الأوّل إلى المتكلّمين وجماعة من الأوائل ، والقول الثاني إلى طائفة من الحكماء.

لمزيد المعرفة راجع « الشفاء » المنطق ١ : ١٦٣ والإلهيّات : ١٥٦ ـ ١٦٠ ؛ « التحصيل » : ٤٠٤ ـ ٤١٢ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٦٠ ـ ٥٦٣ ؛ « المحصّل » : ٢١٩ ؛ « نقد المحصّل » : ١٣١ ؛ « مناهج اليقين » : ١٤٦ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٣٤٤ ـ ٣٥٤ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٥٩ ـ ١٦٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٨ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٥٦ ـ ٤٦٠.

٤٧٤

فتنتهي من هذه الطريق الإضافات.

وأمّا كون هذا المعنى المضاف بذاته في هذا الموضوع فله وجود آخر ، مثلا : وجود الأبوّة في الأب أمر زائد على ذات الأب ، وذلك الموجود أمر مضاف أيضا ، فليكن هذا عارضا من المضاف لذي المضاف وكلّ واحد منهما مضاف لذاته إلى ما هو مضاف إليه بلا إضافة أخرى ، فالكون محمولا مضاف لذاته ، والكون أبوّة مضاف لذاته (١).

وهذا الكلام على طوله غير مفيد للمطلوب ؛ لأنّ التسلسل الذي ألزمناه ليس من حيث إنّ المضاف الذي هو المقولة يكون مضافا بإضافة أخرى حتّى تقسم الأشياء إلى ما هو مضاف لذاته وإلى ما هو مضاف بغيره ، بل من حيث إنّ المضاف الحقيقي كالأبوّة يفتقر إلى محلّ يقوم به ، وحلولها في ذلك المحلّ إضافة إلى ذلك المحلّ يستدعي محلاّ وحلولا ويتسلسل.

وإلى هذا أشار المصنّف رحمه‌الله بقوله : « ولا ينفع تعلّق الإضافة بذاتها » أي تعلّق الإضافة بالمضاف إليه لذاتها ، لا لإضافة أخرى.

قال : ( ولتقدّم وجودها عليه ).

أقول : هذا وجه ثان دالّ على أنّ الإضافة ليست ثابتة في الأعيان.

وتقريره : أنّها لو كانت ثبوتيّة لشاركت الموجودات في الوجود وامتازت عنها بخصوصيّة ، فاتّصاف وجودها بتلك الخصوصيّة إضافة سابقة على وجود الإضافة ، فيلزم تقدّم وجود الإضافة على وجودها وهو محال ، فالضمير في « عليه » يرجع إلى « وجودها ».

ويحتمل عوده إلى المحلّ ، ويكون معنى الكلام أنّ الإضافة لو كانت موجودة لزم تقدّمها على محلّها ؛ لأنّ وجود محلّها صفة له ، فاتّصافه به نوع إضافة سابق على وجود الإضافة ، وأعاد الضمير إليه من غير ذكر لفظي ؛ لظهوره.

__________________

(١) « الشفاء » الإلهيّات : ١٥٧ ، الفصل العاشر من المقالة الثالثة. وقد صحّحنا النقل على المصدر.

٤٧٥

قال : ( وللزم عدم التناهي في كلّ مرتبة من مراتب الأعداد ).

أقول : هذا وجه ثالث.

وتقريره : أنّ الإضافات لو كانت موجودة في الأعيان لزم أن تكون كلّ مرتبة من مراتب الأعداد تجتمع فيه إضافات وجوديّة لا تتناهى ؛ لأنّ الاثنين نصف الأربعة ويحصل له بذلك الاعتبار إضافة النصفيّة ، وثلث الستّة ويعرض له بهذا الاعتبار إضافة أخرى ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وهو محال.

أمّا أوّلا : فلما بيّنّا من امتناع وجود ما لا يتناهى مطلقا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ تلك الإضافات موجودة دفعة ومرتّبة في الوجود باعتبار تقدّم بعض المضاف إليه على بعض ، فيلزم اجتماع ما لا يتناهى دفعة مرتّبة ، وهو محال اتّفاقا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ وجود الإضافات يستلزم وجود المضاف إليه ، فيلزم وجود ما لا يتناهى من الأعداد دفعة مع ترتّبها ، وكلّ ذلك ممّا برهن على استحالته.

قال : ( وتكثّر صفاته تعالى ).

أقول : هذا وجه رابع.

وتقريره : أنّ الإضافات لو كانت وجوديّة لزم وجود صفات الله تعالى متكثّرة لا تتناهى ، لأنّ له إضافات لا تتناهى ، وهو محال.

وقد يستدلّ (١) بأنّه لو وجدت الإضافة لزم اتّصاف ذات البارئ تعالى بالحوادث ؛ لأنّ له مع كلّ حادث إضافة ، ولا شكّ أنّها إنّما تحدث بعد حدوث الحادث.

وأجيب عن الوجوه المذكورة : بأنّ (٢) القائل بوجود الإضافة لا يقول بوجود

__________________

(١) انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٦٢ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٦٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٥٦.

(٢) هذا الجواب هو الاعتراض على الوجه الثاني من المسألة كما ذكرهما العلاّمة في « نهاية المرام » ١ : ٣٤٨ ، لكن الموجود في غير « نهاية المرام » هو أنّ هذا جواب عن كلّ الوجوه من قبل الحكماء ، كما في « شرح المواقف » ٦ : ١٦١ ـ ١٦٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٥٦.

٤٧٦

أفرادها كلّها ، بل بوجودها في الجملة ، فجاز أن يكون بعضها موجودا دون بعض.

المسألة الرابعة : في بقايا مباحث الإضافة.

قال : ( ويخصّ (١) كلّ مضاف مشهوريّ مضاف حقيقيّ ، فيعرض له الاختلاف والاتّفاق إمّا باعتبار زائد أولا ).

أقول : المضاف المشهوريّ كالأب يعرض له مضاف حقيقيّ كالأبوّة وكذا الابن تعرض له البنوّة ، فكلّ مضاف مشهوريّ يعرض له مضاف حقيقي ، ولا يمكن أن يكون مضاف حقيقيّ واحد عارضا لمضافين مشهوريّين ؛ لامتناع قيام عرض واحد بمحلّين ، وإذا كان كلّ مضاف مشهوريّ يعرض له مضاف حقيقيّ ، عرض حينئذ الاختلاف في المضاف الحقيقيّ كالأبوّة والبنوّة ، والاتّفاق ، كالأخوّة والجوار.

ثمّ إنّ هذا المضاف الحقيقيّ يعرض للمضاف المشهوريّ إمّا باعتبار زائد يحصل فيهما كالعاشق والمعشوق ؛ فإنّ في العاشق جهة إدراكه جمال المعشوق ، وفي المعشوق جمال يتعلّق به الإدراك ، فتحصل حينئذ إضافة العشق باعتبار هذا الزائد. وقد يكون الزائد في أحدهما كالعالم المضاف إلى المعلوم باعتبار قيام صفة العلم به. وقد لا يكون باعتبار زائد كالميامن والمياسر ؛ فإنّهما متضايفان ، ولا يكون الاتّصاف بالتيامن والتياسر لأجل صفة زائدة على الاضافة.

هذا خلاصة ما فهمناه من هذا الكلام.

المسألة الخامسة : في مقولة الأين.

قال : ( الرابع : الأين وهي النسبة إلى المكان ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن المضاف شرع في البحث عن الأين ، وهي نسبة

__________________

(١) في نسخة الأصل : و « يختصّ » ، وفي « أ » : « وتخصيص » ، وما أثبتناه من « تجريد الاعتقاد » : ١٧٩. فيكون قوله : « مضاف حقيقيّ » فاعلا لقوله : « ويخصّ ».

٤٧٧

الشيء إلى مكانه بالحصول فيه.

وبعبارة أخرى : كون الشيء في الحيّز ؛ ولهذا قد يعبّر عن الأين بالكون ، ويقسم إلى الأكوان الأربعة.

وبالجملة ، فالأين على قسمين :

الأوّل : الأين الحقيقي ، وهو نسبة الشيء إلى مكان خاصّ ، وكون الشيء في مكان لا يزيد عنه.

الثاني : غير الحقيقي ، وهو نسبة الشيء إلى مكان عامّ ، كقولنا : « زيد في الدار » وهذه النسبة مغايرة للوجود لكلّ واحد من الجسم والمكان ، ولا تقبل الشدّة والضعف ، كما لا يخفى.

قال : ( وأنواعه أربعة عند قوم هي : الحركة ، والسكون ، والاجتماع ، والافتراق ).

أقول : المراد أنّ أنواع الأين ـ الذي يقال له : الكون عند المتكلّمين (١) ـ أربعة : الحركة ، والسكون ، وهما حالتا الجسم بانفراده باعتبار المكان. والاجتماع والافتراق ، وهما حالتاه باعتبار انضمامه إلى العين (٢) من الأجسام ؛ لأنّ حصول الجوهر في الحيّز إمّا أن يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أو لا ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون بحيث يمكن أن يتوسّط بينهما ثالث فهو الافتراق ، أو لا وهو الاقتران. وعلى الثاني إن كان مسبوقا بحصوله في ذلك الحيّز ، فهو السكون ، وإن كان مسبوقا بحصوله في حيّز آخر فهو الحركة.

ولا يخفى أنّ الكون الأوّل قسم خامس من الأقسام ؛ ولهذا ذهب بعض المتكلّمين (٣)

__________________

(١) انظر : « المحصّل » : ٢١٧ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٧٨ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٣٧٨ ؛ « الأربعين في أصول الدين » : ٢١ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٦٢ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٧٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٨٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٥٨.

(٢) كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : ٢٦١ : « الغير » بدل « العين ».

(٣) هما أبو الهذيل وأبو عليّ في أحد قوليه. انظر : « التوحيد » : ٧٥ و ١٣١ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣٢ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٦٩.

٤٧٨

ـ على ما حكي ـ إلى أنّ الأكوان لا تنحصر في الأربعة ؛ إذ الكون في أوّل زمان الحدوث ليس بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق ، فالأكوان خمسة.

قال : ( فالحركة كمال أوّل لما هو بالقوّة من حيث هو بالقوّة ، أو حصول الجسم في مكان بعد آخر ).

أقول : هذان تعريفان للحركة : الأوّل منهما مختار الحكماء (١) ، والثاني للمتكلّمين (٢).

أمّا التعريف الأوّل فهو أنّ الحركة كمال أوّل لما هو بالقوّة من حيث هو بالقوّة.

بيان ذلك أنّ حال حصول الجسم في المكان المنتقل عنه معدومة عنه ممكنة له ، فهي كمال الجسم ، ثمّ إنّ حصوله في المكان الثاني معدوم عنه ممكن له فهو كمال أيضا ، والجسم في تلك الحال بالقوّة في المكان الثاني ، لكنّ الحركة أسبق الكمالين ، فالحركة كمال أوّل لما هو بالقوّة ، أعني الجسم الذي هو بالقوّة في المكان الثاني.

وإنّما قيّدناه بقولنا : « من حيث هو بالقوّة » لأنّ الحركة تفارق سائر الكمالات بأنّ جميع الكمالات إذا حصلت ، خرج ذو الكمال من القوّة إلى الفعل ، وهذا الكمال من حيث إنّه كمال يستلزم كون ذي الكمال بالقوّة.

وأمّا الثاني فإنّ المتكلّمين قالوا : ليست الحركة هي الحصول في المكان الأوّل ؛ لأنّ الجسم لم يتحرّك بعد ، ولا واسطة بين الأوّل والثاني وإلاّ لم يكن ما فرضناه ثانيا ثانيا ، فهي الحصول في المكان الثاني لا غير.

ولهذا يقال : إنّ الحركة عبارة عن كون الشيء في الآن الثاني في المكان الثاني ، كما أنّ السكون عبارة عن كون الشيء في الآن الثاني في المكان الأوّل.

ولكنّ الإنصاف أنّ الكون في المكان الثاني معلول الحركة لا نفسها ، بل الحركة

__________________

(١) وهو تعريف أرسطو وأتباعه ، كما في « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ٨٢ ـ ٨٣ ؛ « النجاة » : ١٠٥ ؛ « الحدود » : ٢٩ ؛ « التحصيل » : ٤٢٠ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٢ : ٤٠٩ ـ ٤١١ ؛ « مناهج اليقين » : ٥٧ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣٢٧ ـ ٣٢٩ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤٠٩ ـ ٤١١ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٩٠.

(٢) « التوحيد » : ١٣١ ؛ « المطالب العالية » ٤ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ؛ « المحصّل » : ٢٣٧ ؛ « نقد المحصّل » : ١٤٩ « التعريفات » : ١١٤ / ٥٦٠.

٤٧٩

عبارة عن الانتقال عن مكان إلى مكان أو حال إلى حال أو نحو ذلك.

وقد تفسّر الحركة بأنّها صفة يكون الجسم بها أبدا متوسّطا بين المبدأ والمنتهى ، ويكون في كلّ آن في حيّز من غير أن يكون في حيّز آنين ، وتسمّى الحركة بمعنى التوسّط ، وهي كون الشيء بحيث أيّ حدّ من حدود المسافة يفرض لا يكون هو قبل آن الوصول إليه ولا بعده حاصلا فيه.

وقد تفسّر بكون الجسم فيما بين المبدأ والمنتهى بحيث أيّ آن يفرض يكون حاله في ذلك الآن مخالفة في آنين يحيطان به (١).

وأفاد صدر الحكماء في « الشواهد الربوبيّة » أنّ الحركة عبارة عن الخروج من القوّة إلى الفعل ، وأثبت الحركة في الجوهر الصوري ، مع أنّه لا بدّ في كلّ حركة من بقاء الموضوع بشخصه ؛ بناء على أنّ الجوهر ـ الذي وقعت فيه الحركة الاشتداديّة ـ نوعه باق في وسط الاشتداد وإن تبدّلت صورته الخارجيّة بتبدّل طور من الوجود بطور آخر أشدّ أو أضعف ، فتبدّل الوجود في الحركة الجوهريّة تبدّل في أمر خارج عن الجوهر.

ولا يخفى أنّ ذلك مبنيّ على القول بأصالة الوجود ، وأنّ وجود كلّ شيء تمام حقيقته ، ولا يصحّ ذلك إلاّ بالقول بوحدة الوجود ، وهو باطل ، بل كفر أشدّ من كفر النصارى واليهود ، كما لا يخفى على المتأمّل.

قال : ( ووجودها ضروريّ ).

أقول : اتّفق أكثر العقلاء على أنّ الحركة موجودة ، وادّعوا الضرورة في ذلك.

وخالفهم جماعة من القدماء (٢) ، وقالوا : إنّها ليست موجودة.

__________________

(١) للتوسعة حول هذين التفسيرين راجع « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ٨١ وما بعدها ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٦٧٢ ـ ٦٧٦ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣٣٣ ـ ٣٣٧ ؛ « مناهج اليقين » : ٥٧ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٩٧ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤١١ ـ ٤١٣.

(٢) منهم زينون الحكيم وبامنيدس. ولمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « الشفاء » الطبيعيّات ٢ : ٧٩ وما بعدها ؛

٤٨٠