البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

المتّصل والمنفصل ـ لأوّلهما الذي هو الكمّ المتّصل. ويعرض الكمّ العرضي ـ الذي هو ثاني القسمين في التقسيم الثاني ـ لأوّلهما الذي هو الكمّ الذاتي ؛ فإنّ الجسم التعليمي قد يعرض له الانقسام ، فيعرض له التّعدد ، فيصير معدودا قد عرض له النوع الثاني من الكمّ وهو المنفصل ، وكذا الزمان يقسّم إلى الساعات والشهور والأيّام والأعوام فيحصل له العدد.

وأيضا الزمان متّصل بذاته ويعرض له التقدير بالمسافة أيضا ، كما يقال : زمان حركة فرسخ.

وقد يعرض الكمّ المنفصل للكمّ المنفصل ، كما في قولنا : خمس عشرات ، فيصير المنفصل بالذات منفصلا بالعرض ، ولا استحالة في ذلك ؛ للتغاير بين العارض والمعروض ولو بالشخص.

فظهر معنى قوله : « ويعرض ثاني القسمين فيهما لأوّلهما ».

قال : ( وفي حصول المنافي وعدم الشرط دلالة على انتفاء الضدّيّة ).

أقول : يريد أنّ الكمّ لا تضادّ فيه. والدليل عليه وجهان :

أحدهما : أنّ المنافي للضدّيّة حاصل للكمّ ، فلا تكون الضدّيّة موجودة فيه.

بيانه : أنّ أنواع الكمّ المنفصل متقوّم بعضها ببعض ، فأحد النوعين إمّا مقوّم لصاحبه أو متقوّم به ، ويستحيل تقوّم أحد الضدّين بالآخر.

وأمّا المتّصل فلأنّ أحد النوعين إمّا قابل للآخر كالسطح للخطّ أو الجسم للسطح ، أو مقبول له ، كالعكس ، والضدّ لا يكون قابلا لضدّه ولا مقبولا له ، فحصول التقويم والقابليّة المنافيين للضدّيّة يقتضي انتفاء الضدّيّة.

الثاني : أنّ الشرط في التضادّ مفقود في الكمّ فلا تضادّ فيه.

بيانه : أنّ للتضادّ شرطين : أحدهما اتّحاد الموضوع. الثاني : أن يكون بينهما غاية التباعد. وهما منتفيان هنا.

أمّا عدم اتّحاد الموضوع في العدد فإنّه ليس لشيء من العددين موضوع قريب

٣٨١

مشترك ، وكذا المتّصل ؛ فإنّ الجسم الطبيعي معروض للتعليمي وللسطح بواسطة التعليمي ، وكذا الخطّ بواسطة السطح.

وأمّا عدم كونهما في غاية التباعد فلأنّه لا مقدار يوجد إلاّ ويمكن أن يفرض ما هو أكبر منه أو أصغر أو أكثر أو أقلّ ، فلا غاية في التباعد.

قال : ( ويوصف بالزيادة والكثرة ومقابليهما ، دون الشدّة ومقابلها ).

أقول : الكمّ بأنواعه يوصف بأنّ بعضا منه زائد على بعض آخر ؛ فإنّ الستّة أزيد من الثلاثة ، وكذا الخطّ الذي طوله عشرة أزيد من الذي طوله خمسة ، فصدق عليه وصف الزيادة ومقابلها ـ أعني النقصان ـ لأنّ الزائد إنّما يعقل بالقياس إلى الناقص.

وكذا الوصف بالكثرة والقلّة ، فيقال : عدد كثير أو قليل ، مثلا ، ويمنع اتّصافه بالشدّة والضعف.

وبيانه ظاهر ؛ فإنّه لا يعقل أنّ خطّا أشدّ من خطّ آخر في الخطّيّة ، ولا ثلاثة أشدّ من ثلاثة أخرى في الثلاثيّة.

والفرق بين الكثرة والشدّة ظاهر ، وكذا بين الزيادة والشدّة ؛ فإنّ الكثرة والزيادة إنّما تتحقّقان بالنسبة إلى أصل موجود لا يتغيّر فصله بسبب الزيادة ولا حقيقته ، بخلاف الشدّة.

قال : ( وأنواع متّصلة قد تكون تعليميّة ).

أقول : الأنواع الثلاثة للكمّ المتّصل القارّ الذات ـ وهي الخطّ والسطح والجسم التعليمي ـ قد تؤخذ باعتبار ما فتسمّى تعليميّة ، وقد تؤخذ باعتبار آخر فلا تسمّى تعليميّة.

مثلا : إذا أخذ المقدار باعتبار ذاته لا من حيث اقترانه بالموادّ وأعراضها من الألوان وغيرها كان ذلك مقدار تعليميّا ، كالسطح التعليمي ، والخطّ التعليمي ، وكذا النقطة.

وإنّما سميّت هذه الأنواع تعليميّة ؛ لأنّ علم التعاليم إنّما يبحث عنها مجرّدة عن

٣٨٢

الموادّ وتوابعها.

قال : ( وإن كانت تختلف بنوع ما من الاعتبار ).

أقول : الظاهر من هذا الكلام أنّ كون الجسم تعليميّا يفارق كون الخطّ والسطح كذلك.

وبيانه : أنّ الجسم يمكن أن يؤخذ لا بشرط غيره ، وبشرط لا غيره. وأمّا السطح والخطّ فلا يمكن أخذهما إلاّ بالاعتبار الأوّل ؛ فإنّه يمكن أن يتخيّل بعد ممتدّ في الجهات مجرّدا عمّا عداه ، ولا يمكن أن يتخيّل بعد ممتدّ في جهتين ـ الطول والعرض ـ مجرّدا عن الامتداد العمقي بالمرّة ، وكذا لا يمكن أن يتخيّل بعد ممتدّ في جهة واحدة فقط مجرّدا عن الامتداد العمقي والعرضي.

نعم ، يمكن تصوّرهما على وجه كلّي كالجسم التعليمي ؛ فلهذا اختلفت الأنواع بنوع ما من الاعتبار.

قال : ( وتخلّف الجوهريّة عمّا يقال في جواب ما هو؟ في كلّ واحد يعطي عرضيّته ).

أقول : يريد أن يبيّن أنّ هذه الأنواع بأسرها أعراض.

واستدلّ بطريقين : أحدهما عامّ في الجميع ، والثاني مختصّ بكلّ واحد.

أمّا العامّ فتقريره أنّ معنى الجوهرية في حدّ كلّ واحد من الخطّ والسطح والجسم التعليمي والزمان والعدد غير داخل فيما يقال في جواب ما هو؟ إذا سئل عن حقيقته ، فيكون خارجا عن الحقيقة ، فيكون كلّ واحد من هذه عرضا ؛ لأنّه لو كان جوهرا لما تخلّف معنى الجوهريّة عمّا يقال في جواب ما هو؟ عند السؤال.

قال : ( والتبدّل مع بقاء الحقيقة ، وافتقار التناهي إلى البرهان ، وثبوت الكرة الحقيقيّة ، والافتقار إلى عرض ، والتقوّم به يعطي عرضيّة الجسم التعليمي والسطح والخطّ والزمان والعدد ).

أقول : هذا هو الوجه الدالّ على عرضيّة كلّ واحد بخصوصيّته.

٣٨٣

أمّا الجسم التعليمي فإنّه يتبدّل مع بقاء حقيقته الجسميّة المشخّصة ؛ فإنّ الشمعة تقبل الأشكال المختلفة مع بقاء حقيقتها ، فزوال كلّ واحد من الأبعاد وبقاء الجسميّة يدلّ على عرضيّة الأبعاد ، أعني الجسم التعليميّ.

وأمّا السطح فإنّه عرض ؛ لأنّ ثبوته إنّما هو بواسطة التناهي الذي ليس من مقوّمات الجسم ، بل هو العارض للجسم ؛ لافتقاره إلى برهان يدلّ عليه ، مع أنّ أجزاء الحقيقة لا تثبت بالبرهان ، وإذا كان التناهي عارضا ، كان ما ثبت بواسطته أولى بالعرضيّة.

وأمّا الخطّ فإنّه عرض ؛ لأنّه غير واجب الثبوت للجسم ، وما كان كذلك كان عرضا.

وبيان عدم وجوبه أنّه إنّما ثبت للسطح بواسطة تناهيه ، والسطح قد لا يعرض فيه النهاية كما في الكرة الحقيقيّة الساكنة ؛ فإنّه لا خطّ فيها بالفعل.

وأمّا الزمان فإنّه يفتقر إلى الحركة ؛ لأنّه مقدارها ، والمقدار مفتقر إلى التقدّر (١) ، والحركة عرض ، والمفتقر إلى العرض أولى بالعرضيّة ، فالزمان عرض.

وأمّا العدد فلأنّه متقوّم بالآحاد على ما تقدّم ، والآحاد عرض ، فالعدد كذلك.

قال : ( وليست الأطراف أعداما وإن اتّصفت بها مع نوع من الإضافة ).

أقول : ذهب جماعة (٢) من المتكلّمين ـ على ما حكي ـ إلى أنّ السطح الذي هو طرف الجسم ، والخطّ الذي هو طرف السطح ، والنقطة التي هي طرف الخطّ ، أعدام صرفة لا تحقّق لها في الخارج ، وإلاّ لانقسمت لانقسام محلّها ، ولأنّ الطرف عبارة عن نهاية الشيء ، التي هي عبارة عن فنائه وعدمه ، ولأنّ السطحين إذا التقيا عند تلاقي الأجسام إن كان بالأسر لزم التداخل ، وإلاّ فالانقسام ، وكذا الخطّ والنقطة.

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : ٢٠٧ : « المتقدّر ».

(٢) « المباحث المشرقيّة » ١ : ٣٢٢ ؛ « المحصّل » : ٢٢٤ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ١٧٧ ـ ١٧٨ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣٨٤

وهذه الوجوه مدخولة :

أمّا الأوّل : فلأنّ الانقسام إنّما يلزم في الأعراض السارية ، أمّا غيرها فلا.

وأمّا الثاني : فلأنّ النهاية ليست عدما محضا ولا نفيا صرفا ؛ لأنّ العدم لا يشار إليه ، والأطراف يشار إليها ، بل هاهنا أمور ثلاثة :

أحدها : السطح ، وهو مقدار ذو طول وعرض ، قابل للإشارة ، موجود.

والثاني : فناء الجسم ، بمعنى انقطاعه في جهة معيّنة من جهات الامتداد ، وليس بعدم صرف بل عدم أحد أبعاد الجسم ، وهو تحته.

والثالث : إضافة تعرض تارة للسطح فيقال : سطح مضاف إلى ذي السطح ، وتارة للفناء فيقال : نهاية لجسم ذي نهاية. والإضافة عارضة لهما متأخّرة عنهما.

وقد يؤخذ السطح عاريا عن هذه الإضافة فيكون موضوعا لعلم الهندسة.

وكذا البحث في الخطّ والنقطة.

وأمّا الثالث ففيه : أنّ الجسمين إذا التقيا عدم السطحان وصارا جسما واحدا إن اتّصلا ، وإن تماسّا فالسطحان باقيان.

قال : ( والجنس معروض التناهي وعدمه ).

أقول : يريد بالجنس الكمّ من حيث هو هو ؛ فإنّه جنس لنوعي المتّصل والمنفصل ، وهو الذي يلحقه لذاته التناهي وعدم التناهي على سبيل عدم الملكة لا العدم المطلق ؛ فإنّ العدم المطلق قد يصدق على الشيء الذي سلب عنه ما باعتباره يصدق أنّه متناه كالمجرّدات ، وإنّما يلحقان ـ أعني التناهي وعدمه ـ العدم الخاصّ ما عدا الكمّ بواسطة الكمّ ، فيقال للجسم : إنّه متناه أو غير متناه باعتبار مقداره. ويقال للقوّة ذلك باعتبار الآثار وامتداد زمانها وقصره ، ويقال للبعد والزمان والعدد : إنّها متناهية أو غير متناهية لا باعتبار لحوق طبيعة بها بل لذاتها.

قال : ( وهما اعتباريّان ).

أقول : يريد به أنّ التناهي وعدمه من الأمور الاعتباريّة لا العينيّة ؛ فإنّه ليس في

٣٨٥

الخارج ماهيّة يقال لها : إنّها تناه أو عدم تناه ، بل إنّما يعقلان عارضين لغيرهما في الذهن ، فيكونان من المعقولات الثانية.

[ الثاني : الكيف ]

قال : ( الثاني : الكيف ، ويرسم بقيود عدميّة تخصّه جملتها بالاجتماع ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الكمّ شرع في البحث عن الكيف ، وهو الثاني من الأعراض التسعة. وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في رسمه.

اعلم أنّ الأجناس العالية لا يمكن تحديدها لبساطتها ، بل ترسم برسوم أعرف منها عند العقل. والرسم إنّما يتألّف من خواصّ الشيء وعوارضه.

ولمّا كانت العوارض قد تكون عامّة وقد تكون خاصّة ، والعامّ لا يفيد التميّز الذي هو أقلّ مراتب التعريف ، لم تصلح العوارض العامّة للتعريف إلاّ إذا اختصّت بالاجتماع بالماهيّة المرسومة ، وهي الخاصّة المركّبة ، كما يقال في تعريف الخفّاش : إنّه الطائر الولود.

ولمّا لم يوجد لهذا الجنس خاصّة عند تصوّره توصّلوا إلى تعريفه بعوارض عدميّة ، كلّ واحد منها أعمّ منه لكنّها باجتماعها خاصّة ، فقالوا في تعريفه : إنّه هيئة قارّة لا يتوقّف تصوّرها على تصوّر غيرها ، ولا تقتضي القسمة واللاقسمة في محلّها اقتضاء أوّليّا (١).

فقولنا : « هيئة » يشمل جميع الأعراض التسعة ، ويخرج عنها الجوهر.

وقولنا : « قارّة » يخرج عنه الحركة وما ليس بقارّ من الأعراض. وقولنا :

__________________

(١) « الشفاء » المنطق ١ : ١٧١ ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة ؛ « البصائر النصيرية » : ٣١ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٣٧٢ ـ ٣٧٩ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٣٠.

٣٨٦

« لا يتوقّف تصوّرها على تصوّر غيرها » يخرج عنه الأعراض النسبيّة. وقولنا : « اقتضاء أوّليّا » ليدخل في المحدود العلم بالأشياء البسيطة التي لا تنقسم ؛ فإنّه يقتضي اللاقسمة ـ مع أنّه من الكيف ـ إلاّ أنّ اقتضاءه لذلك ليس أوّليّا بل لوحدة المعلوم.

وقد يعرّف الكيف بأنّه عرض لا يقتضي لذاته قسمة ولا نسبة (١) ، فخرجت الجواهر والكمّ والأعراض النسبيّة.

ومن جعل النقطة والوحدة من الأعراض دون الكيف زاد قيد عدم اقتضائه اللاقسمة ؛ احترازا عنهما (٢).

ولا حاجة إلى زيادة قيد « أوّليّا » لإدخال العلم بالبسيط ؛ لكفاية قولهم : « لذاته » فهذا التعريف أولى ؛ لأنّه أخصر.

المسألة الثانية : في أقسامه.

قال : ( وأقسامه أربعة ).

أقول : الكيف ، له أنواع أربعة بالاستقراء :

أحدها : الكيفيّات المحسوسة بإحدى الحواسّ الظاهرة : راسخة كانت كالسواد والحرارة والحلاوة والملوحة ، أو غير راسخة كحمرة الخجل وصفرة الوجل.

الثاني : الكيفيّات النفسانيّة المختصّة بذوات الأنفس ، كالعلوم والإرادات والظنون ، وهي إن كانت راسخة كانت ملكات ، وإلاّ كانت حالات.

الثالث : الكيفيّات الاستعداديّة التي من جنس الاستعداد والقوّة كالصلابة واللين.

والرابع : الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات المتّصلة أو المنفصلة كالزوجية للعدد ،

__________________

(١) « شرح المواقف » ٥ : ١٥ ـ ١٦ و ١٦٢ ـ ١٦٣ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ؛ « التعريفات » : ٢٤١ ، الرقم ١٢٠١.

(٢) راجع في ذلك « المباحث المشرقيّة » ١ : ٣٧٢ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٦٥ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ١٦٢ ـ ١٦٣.

٣٨٧

والاستقامة للخطّ ـ مثلا ـ وغيرهما. (١)

المسألة الثالثة : في البحث عن المحسوسات.

قال : ( فالمحسوسات إمّا انفعاليّات أو انفعالات ).

أقول : الكيفيّات المحسوسة إن كانت راسخة عسرة الزوال ـ كحلاوة العسل ـ سمّيت انفعاليّات ؛ لانفعال الحواسّ عنها ، ولكونها تابعة للمزاج الحاصل من انفعال العناصر. وإن كانت غير راسخة بل سريعة الزوال ـ كحمرة الخجل ـ سمّيت انفعالات ، وهي وإن لم تكن في أنفسها انفعالات لكنّها لقصر مدّتها وسرعة زوالها كأنّها تنفعل ، فسمّيت بها تمييزا لها عن الكيفيّات الراسخة.

المسألة الرابعة : في مغايرة الكيفيّات للأشكال والأمزجة.

قال : ( وهي مغايرة للأشكال ؛ لاختلافها في الحمل ).

أقول : ذهب قوم (٢) من القدماء إلى أنّ هذه الكيفيّات نفس الأشكال ؛ قالوا : الأجسام تنتهي في التحليل إلى أجزاء صغار تقبل القسمة الوهميّة لا الانفكاكيّة الفعليّة.

وتلك الأجزاء مختلفة في الأشكال ، فالتي يحيط بها أربعة مثلّثات تكون مفرّقة لاتّصال العضو ، فيحسّ منها بالحرارة ، والتي يحيط بها ستّة مربّعات تكون غليظة غير نافذة ، فيحسّ منها بالبرودة.

والذي يقطع العضو إلى أجزاء صغار ويكون شديد النفوذ فيه هو المحرق الحرّيف (٣) ، والجزء الملاقي لذلك التقطيع هو الحلو ، والجزء الذي ينفصل منه شعاع مفرّق للبصر هو الأبيض ، والذي ينفصل منه شعاع جامع وقابض للبصر هو الأسود ،

__________________

(١) كالمثلّثيّة والمربّعيّة للسطح ، والفرديّة للعدد. ( منه رحمه‌الله ).

(٢) كما حكي عن أصحاب ذيمقراطيس. ( منه رحمه‌الله ).

(٣) الحرّيف : كلّ طعام يحرق فم آكله بحرارة مذاقه. كذا في « لسان العرب » ٣ : ١٣٠ ـ ١٣١ ، « حرف ».

٣٨٨

ويحصل من اختلاطهما باقي أنواع الألوان (١).

والمحقّقون أبطلوا هذه المقالة بأنّ الأشكال والألوان مختلفة في المحمولات ، فيحمل على أحدهما بالإيجاب ما يحمل على الآخر بالسلب ، فيلزم تغايرهما بالضرورة (٢).

وبيانه : أنّ الأشكال ملموسة وغير متضادّة ، والألوان متضادّة غير ملموسة.

وأيضا الأشكال مبصرة والحرارة والبرودة ليستا كذلك.

قال : ( والمزاج لعمومها ).

أقول : ذهب آخرون من الأوائل إلى أنّ الكيفيّات هي الأمزجة (٣).

وهو خطأ ؛ لأنّ المزاج كيفيّة متوسّطة بين الحارّ والبارد يحصل من تفاعلهما ، والحرارة والبرودة من الكيفيّات الملموسة ، فيكون المزاج منها ، فالمزاج لا يحصل بدون الكيفيّة المحسوسة ، والكيفيّة المحسوسة قد تحصل بدون المزاج كما في البسائط ، فتكون أعمّ والعامّ يغاير الخاصّ.

وأيضا المزاج تابع ، والتابع مغاير للمتبوع.

المسألة الخامسة : في البحث عن الملموسات.

قال : ( فمنها أوائل الملموسات ، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، والبواقي منتسبة إليها ).

أقول : لمّا كانت الكيفيّات الملموسة أظهر عند الطبيعة ؛ لعمومها بالنسبة إلى كلّ

__________________

(١) انظر : « الشفاء » ٢ : ٥٣ ـ ٥٤ ، كتاب النفس ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٣٧٧ وما بعدها ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٤٧١ ـ ٤٧٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٢٧.

(٢) « الشفاء » ٢ : ٥٤ ـ ٥٥ ، كتاب النفس ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٣٧٩ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٤٧٢ ـ ٤٧٣ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٣) انظر : « الشفاء » ٢ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٣٨٠ ؛ « نهاية المرام » في علم الكلام » ١ : ٤٧٣ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٢٨.

٣٨٩

حيوان وعدم خلوّ حيوان عن القوّة اللامسة بخلاف سائر الحواسّ ، كما يقال في الخراطين (١) : إنّها فاقدة للمشاعر الأربعة دون اللامسة ، لدفع المفسدة باقتضاء الحكمة ، فكأنّها أوّل ما يدرك وأوّل ما يحتاج إليه من الكيفيّات المحسوسة ـ قدّم البحث عنها.

واعلم أنّ الكيفيّات الملموسة إمّا فعليّة أو انفعاليّة أو ما ينسب إليهما ، فالفعليّة كيفيّتان هما الحرارة والبرودة ، والمنفعلة اثنتان هما الرطوبة واليبوسة.

ونعني بالفعليّة ما تفعل الصورة بواسطتها في المادة أثرا من الآثار ، وبالمنفعلة ما تنفعل المادّة باعتبارها.

وإنّما كانت الأوليان فعليّتين والأخيرتان منفعلتين ـ وإن كانت المادّة تنفعل باعتبارهما ـ لأنّ الأوليين تفعلان في الأخيرتين ، دون العكس.

أمّا باقي الكيفيّات الملموسة ـ كاللطافة والكثافة واللزوجة والهشاشة والجفاف والبلّة والثقل والخفّة ـ فإنّها تابعة لهذه الأربعة.

فكانت هذه الكيفيّات الأربع أوائل الملموسات ؛ لأنّها مدركة أوّلا وبالذات ، وما عداها يدرك بتوسّطها ؛ ولهذا ينسب إليها.

قال : ( فالحرارة جامعة للمتشاكلات ومفرّقة للمختلفات ، والبرودة بالعكس ).

أقول : الحرارة من شأنها إحداث الخفّة والميل الصاعد ، ويحصل بسبب ذلك الحركة فإذا وردت الحرارة على المركّب وسخّنته ، طلب الألطف الصعود قبل غيره ؛ لسرعة انفعاله ، فاقتضى ذلك تفريق أجزاء المركّب. فإذا صعد الألطف جامع بالطبع [ إلى ] (٢) ما يجانسه ؛ لأنّ طبيعته تقتضي الحركة إلى مكانه الطبيعي والانضمام إلى الأصل الكلّيّ ؛ فإنّ الجنسيّة علّة الضمّ ، فالحرارة معدّة للاجتماع ، ويلزم من ذلك

__________________

(١) مفردة خرطون : « دود من رتبة الحلقيات ، دائم الحركة تحت الأرض حيث يأخذ غذاءه ، كثير المنفعة للزراعة ».

كذا في « المنجد في اللغة » : ١٧٤.

(٢) كذا في الأصل ، والظاهر أنّها زائدة.

٣٩٠

تفرّق الأجسام المختلفة الطبائع التي منها يتركّب المركّب.

ولهذا يقال في بيان خاصّيّة الحرارة الغنيّة عن التعريف : إنّها تقتضي جمع المتشاكلات وتفريق المختلفات.

وأمّا البرودة فإنّها بالعكس من ذلك.

قال : ( وهما متضادّتان ).

أقول : الحرارة والبرودة كيفيّتان وجوديّتان بينهما غاية التباعد ؛ فهما متضادّتان.

ولم يخالف في هذا الحكم أحد من المحقّقين.

وقد ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ البرودة عدم الحرارة عمّا من شأنه أن يكون حارّا ، فيكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة (١).

وهو خطأ ؛ لأنّا ندرك من الجسم البارد كيفيّة زائدة على الكيفيّة المطلقة ، والعدم غير مدرك ؛ فالبرودة صفة وجوديّة مضادّة للحرارة.

قال : ( وتطلق الحرارة على معان أخر مغايرة مخالفة للكيفيّة في الحقيقة ).

أقول : لفظة « الحرارة » تطلق على معان :

أحدها : الكيفيّة المحسوسة من جرم النار.

والثاني : الحرارة الموجودة في بدن الحيوان ، المناسبة للحياة وهي شرط فيها ، وتسمّى بالحرارة الغريزيّة.

وعن أفلاطون تسميتها بالنار الإلهية (٢).

وعن جالينوس أنّها الحرارة الناريّة العنصريّة الأسطقسيّة المستفاد من المزاج (٣).

وعن أرسطو أنّها الحرارة السماويّة لا الأسطقسيّة المتقدّمة (٤) ، وهي مخالفة لتلك

__________________

(١) انظر : « المحصّل » ٢٣٤ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٣٨٥ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٤٧٩ ـ ٤٨١ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ١٨١ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٣٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٣٩.

(٢) انظر : « شرح تجريد العقائد » : ٣٢٩.

(٣) انظر : « شرح المواقف » ٥ : ١٧٩ ، الهامش ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٢٩.

(٤) راجع « الشفاء » ٣ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤ ، كتاب الحيوان ، الفصل الأوّل من المقالة السادسة عشرة.

٣٩١

في الحقيقة ؛ لأنّ تلك مضادّة للحياة ، والثاني شرط [ فيها ].

والثالث : الحرارة الحاصلة من تأثير الكواكب النّيرة كالشمس ، وهي مخالفة لما تقدّم.

والرابع : الحرارة التي توجبها الحركة ، وهي مخالفة لما تقدّم ؛ لمثل ما تقدّم.

قال : ( والرطوبة كيفيّة تقتضي سهولة التشكّل ، واليبوسة بالعكس ).

أقول : الرطوبة فسّرها الشيخ ـ على ما حكي (١) ـ بأنّها كيفيّة تقتضي سهولة حصول الأشكال والاتّصال والتفرّق.

والإيراد بلزوم كون النار أرطب من الماء وكذا الهواء (٢) مدفوع بأنّ سهولة التشكّل في النار ـ التي تلينا بسبب مخالطة الهواء والنار الصرفة ـ ليست كذلك.

وأمّا الهواء فإنّه لمّا كان جرمه أرقّ كان تشكّله أسهل ، ولكنّ الكيفيّة المقتضية في الماء أزيد وإن كان القابل أنقص.

والجمهور يطلقون الرطوبة على البلّة لا غير ، فالهواء ليس برطب عندهم (٣).

وعند الشيخ أنّه رطب ، وجعل البلّة هي الرطوبة الغريبة [ الجارية على ظاهر الجسم ، كما أنّ الانتفاع هو الرطوبة الغريبة ] (٤) النافذة إلى باطنه ، والجفاف عدم البلّة عمّا من شأنه أن يبتلّ ، واليبوسة مقابلة للرطوبة (٥).

قال : ( وهما مغايرتان للّين والصلابة ).

أقول : اللين والصلابة من الكيفيّات الاستعداديّة.

__________________

(١) حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : ٢١٢ ، وانظر : « الشفاء » لطبيعيات ٢ : ١٥٤.

(٢) راجع « المباحث المشرقيّة » ١ : ٣٨٩ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٤٩٠ ـ ٤٩٢ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٣٤ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٣١.

(٣) « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٤٦ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٤٩٢.

(٤) الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : ٢١٢.

(٥) « الشفاء » الطبيعيّات ٢ : ١٥١ ـ ١٥٢ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٤٦ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٤٩٣.

٣٩٢

فاللين كيفيّة يكون الجسم بها مستعدّا للانغماز ، ويكون للشيء بها قوام غير سيّال ، فينتقل عن وضعه لقبول الغمز الى الباطن ، ولا يمتدّ كثيرا ولا يتفرّق بسهولة. ويكون الغمز من الرطوبة وتماسكه من اليبوسة.

والصلابة كيفيّة تقتضي مقابل ذلك ، فهما من باب قوّة الانفعال والاستعداد نحو الانفعال ، فتكونان مغايرتين للرطوبة واليبوسة.

وكذا الخشونة والملاسة ؛ فإنّ الخشونة عبارة عن اختلاف أجزاء ظاهر الجسم بالارتفاع والانحطاط ، والملاسة عبارة عن استوائها ، فهما من باب الوضع.

قال : ( والثقل كيفيّة تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق مركزه على مركز العالم إن كان مطلقا ، والخفّة بالعكس ، ويقالان بالإضافة بالاعتبارين ).

أقول : المراد أنّ من الكيفيّات الملموسة الثقل والخفّة ، وكلّ منهما مطلق وإضافيّ.

والثقل المطلق كيفيّة تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق مركزه على مركز العالم إذا لم يعقه عائق.

والخفّة المطلقة بالعكس ، وهي كيفيّة تقتضي حركة الجسم إلى فوق بحيث يعلو على العناصر ، وينطبق سطحه على سطح الفلك إذا لم يعقه عائق.

أمّا الإضافي فإنّه يقال لمعنيين :

أحدهما : الذي في طباعه أن يتحرّك في أكثر المسافة الممتدّة بين المركز والمحيط حركة إلى المركز كالماء ، أو المحيط كالهواء ، وقد يعرض له أن يتحرّك عن المحيط.

والثاني : ما يقتضي حركة الجسم إلى المحيط والمركز في الجملة بالإضافة ، كالهواء ؛ فإنّه إذا قيس إلى النار نفسها كانت النار سابقة له إلى المحيط ، وإذا قيس إلى الماء كان سابقا ، فهو ثقيل بالإضافة إلى النار ، وخفيف بالإضافة إلى الماء.

قال : ( والميل طبيعيّ وقسريّ ونفسانيّ ).

أقول : لمّا كان الثقل والخفّة ممّا له تعلّق بالميل ، فإنّه ما يكون به الجسم مدافعا لما يمنعه ، عقّبهما بمباحث الميل ، وهو الذي يسمّيه المتكلّمون اعتمادا.

٣٩٣

وينقسم بانقسام معلوله ـ أعني الحركة ـ إلى الأصلي والعرضي ؛ لقيامه بما وصف به أو بما يجاوره ويتعلّق به.

والأصلي إلى طبيعيّ كميل الحجر المسكن في الهواء والورق في الماء ، وإلى قسريّ كميل الحجر إلى الفوق عند قسره على الصعود ، وإلى نفسانيّ وإراديّ كميل الحيوان إلى الحركة بالإرادة.

قال : ( وهو العلّة القريبة للحركة ، وباعتباره يصدر عن الثابت متغيّر ).

أقول : الميل هو العلّة القريبة للحركة ؛ إذ باعتبار تحقّقه يصدر عن الثابت شيء متغيّر ؛ وذلك لأنّ الطبيعة أمر ثابت وكذا القوّة القسريّة والنفسانيّة ، فيستحيل صدور الحركة المتغيّرة المتفاوتة بالشدّة والضعف عنها ، فلا بدّ من أمر يشتدّ ويضعف ؛ ليتعيّن بكلّ مرتبة من مراتبه مرتبة من الحركة ، وذلك الأمر هو الميل الذي يصدر عن الطبيعة ـ مثلا ـ ويقتضي الحركة ، فيحصل باشتداده سرعة الحركة وشدّتها وبضعفه ضدّ ذلك.

قال : ( ومختلفه متضادّ ).

أقول : المراد أنّ الميلين الذاتيّين المختلفين متضادّان لا يمكن أن يجتمعا في جسم واحد ؛ وذلك لأنّ الميل يقتضي الحركة إلى جهة والصرف عن أخرى ؛ فلو اجتمع في الجسم ميلان ، لاقتضى حركته وتوجّهه إلى جهتين مختلفتين ، وذلك غير معقول.

نعم ، كما يجوز أن تجتمع في جسم واحد حركتان مختلفتان إحداهما بالذات والأخرى بالعرض ، كذلك يجوز اجتماع ميل ذاتيّ وعرضيّ ، كحجر يحمله إنسان إلى الفوق ؛ فإنّ ميله الذاتي إلى التحت ، والعرضيّ إلى الفوق ، وهكذا غير ذلك.

قال : ( ولو لا ثبوته لتساوى ذو العائق وعادمه ).

أقول : هذا إشارة إلى الدليل على وجود الميل الطبيعي في كلّ جسم قابل للحركة القسريّة.

وتقريره : أنّ المتحرّك إذا كان خاليا عن المعاوق ، وقطع بميله القسري مسافة ، فلا شكّ أنّه يقطعها في زمان ، فإذا فرضنا جسما آخر فيه ميل ومعاوقة ما يقطعها في

٣٩٤

زمان أطول بالبديهة ، وإذا فرضنا جسما ثالثا فيه ميل أضعف من الميل المفروض أوّلا بقدر نسبة زمان عديم الميل إلى زمان ذي الميل المفروض أوّلا ، يلزم أن يتحرّك بالقسر في مثل زمان عديم المعاوق مثل مسافته ، وذلك محال قطعا ؛ لامتناع تساوي زماني عديم المعاوقة وواجدها ، فتأمّل.

قال : ( وعند آخرين هو جنس بحسب تعدّد (١) الجهات ، ويتماثل ويختلف باعتبارها ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الميل وأحكامه على رأي الأوائل ـ أعني الحكماء المتقدّمين ـ شرع في البحث على رأي المتكلّمين المتأخّرين ، وهو أنّ الميل والاعتماد جنس ـ على رأيهم ـ تحته ستّة أنواع بحسب عدد الجهات الستّ (٢).

ثمّ قالوا : إنّ منه ما هو متماثل باعتبار الجهات ، وهو كلّ ما اختصّ بجهة واحدة ؛ لأنّ تساوي المعلول يستلزم تساوي العلّة ، ومنه ما هو مختلف باعتبارها ، وهو ما تعدّدت جهاته (٣).

واختلف أبو عليّ وأبو هاشم في مختلفه.

فقال أبو هاشم : إنّه غير متضادّ ؛ لاجتماع الميلين في الحجر الصاعد قسرا أو في الحلقة التي يتجاذبها إنسانان (٤).

وقال أبو عليّ : إنّه متضادّ. كذا حكي (٥).

والحقّ مع الشيخ ؛ فإنّ الاجتماع ليس من جهة واحدة.

قال : ( ومنه الثقل ، وآخرون جعلوه مغايرا ).

أقول : من أجناس الاعتماد عند أبي هاشم الثقل ، وهو الاعتماد اللازم الموجب

__________________

(١) في نسخة أخرى : « عدد » كما أشار المصنّف لذلك في الحاشية.

(٢) انظر : « مناهج اليقين » : ٧٠ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ١٩٣ و ٢١٥ ـ ٢١٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٣٨.

(٣) « مناهج اليقين » : ٧٠ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

(٤) « مناهج اليقين » : ٧٠ ـ ٧١ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢١٥ ـ ٢١٨ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٤١.

(٥) « مناهج اليقين » : ٧٠ ـ ٧١ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢١٥ ـ ٢١٨ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٤١.

٣٩٥

للحركة سفلا (١).

وقال أبو عليّ : إنّ الثقل راجع إلى تزايد أجزاء الجسم ، فجعله مغايرا لجنس الاعتماد (٢).

وهو خطأ ؛ لأنّ تزايد الأجزاء الحقيقيّة حاصل في الخفيف ولا ثقل له.

قال : ( ومنه لازم ومفارق ).

أقول : ذهب المتكلّمون إلى أنّ الاعتماد منه ما هو لازم ـ وهو اعتماد الخفيف نحو الفرق والثقيل نحو السفل ـ ومنه ما هو مفارق ، وهو ميل الخفيف إلى السفل والثقيل إلى العلو (٣).

قال : ( ويفتقر إلى محلّ لا غير ).

أقول : لمّا كان الاعتماد عرضا وكان كلّ عرض مفتقرا إلى محلّ ، كان الاعتماد مفتقرا إلى المحلّ ، ولمّا امتنع حلول عرض في محلّين كان الاعتماد كذلك ، فلأجل هذا قال : « إنّه يفتقر إلى محلّ لا غير » بمعنى أنّه يفتقر إلى محلّ واحد لا أزيد ؛ لأنّه متقوّم بالغير ، وبعد التقوّم يمتنع تحصيل الحاصل ، فيندفع ما حكي (٤) عن بعض المتكلّمين من أنّه طعن في كلّيّة الحكمين (٥).

قال : ( وهو مقدور لنا ).

أقول : ذهب المتكلّمون إلى أن الاعتماد مقدور لنا (٦).

والظاهر أنّ المراد الميل النفساني الإرادي ؛ لأنّه يقع بحسب دواعينا وينتفي بحسب صوارفنا ، فيكون صادرا عنّا.

__________________

(١) « مناهج اليقين » : ٧١.

(٢) « مناهج اليقين » : ٧١.

(٣) « شرح المواقف » ٥ : ٢١٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٤٢.

(٤) حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : ٢١٦.

(٥) انظر : « نقد المحصّل » : ٢٢٧ ؛ « مناهج اليقين » : ٧٢ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٢٩٥ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٥٣ ـ ٥٥ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ١٥٠ ـ ١٥٢.

(٦) نسبه في « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٠١ إلى المعتزلة.

٣٩٦

قال : ( وتتولّد عنه أشياء بعضها لذاته من غير شرط ، وبعضها بشرط ، وبعضها لا لذاته ).

أقول : قسّم المتكلّمون الاعتماد بالنسبة إلى ما يتولّد عنه إلى أقسام ثلاثة (١) :

أحدها : ما يتولّد عنه لذاته من غير حاجة إلى شرط ـ وإن كان قد يحتاج إليه أحيانا ـ وهو الأكوان ، يعني الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ؛ فإنّها متولّدة عن الميل بلا واسطة ولا بشرط ؛ لأنّ تحرّك الجسم مختصّ بجهة دون أخرى حال حركته ، فلا بدّ من مخصّص لتلك الجهة ، وهو الاعتماد.

وثانيها : ما يتولّد عنه بشرط ولا يصحّ بدونه وهو الأصوات ، فإنّها تتولّد عنه بشرط المصاكّة ؛ لأنّ الصدى موجود في غير محلّ القدرة ، وما يتعدّى محلّ القدرة لا يولّده الاعتماد ، وإن كان ما يتعدّى محلّ القدرة يتولّد عن الاعتماد فيما يحلّ محلّها.

وثالثها : ما يتولّد عنه لا بنفسه بل بتوسّط غيره وهو الألم ؛ فإنّ الاعتماد يولّد التفريق ، والتفريق يولّد الألم.

المسألة السادسة : في البحث عن المبصرات.

قال : ( ومنها أوائل المبصرات وهي اللون والضوء ).

أقول : من الكيفيّات المحسوسة المبصرات.

وقد نبّه بقوله : « أوائل المبصرات » على أنّ من المبصرات ما يتناوله الحسّ البصري أوّلا وبالذات ، وهو ما ذكره هنا من اللون والضوء ، فلا بدّ من جعل إفراد الضمير وتذكيره باعتبار « البعض » المستفاد من كلمة « من » أو « ما يدرك أوّلا ».

ومنها : ما يتناوله بواسطته كغيرهما من المرئيّات ؛ فإنّ البصر إنّما يدركها بواسطة هذين. وهذا كما قال سابقا : « ومنها : أوائل الملموسات » فإنّ فيه تنبيها على أنّ هناك

__________________

(١) ذكر العلاّمة الحلّي هذه الأقسام الثلاثة في « مناهج اليقين » : ٧١ ـ ٧٢ ، وأمّا في « شرح المواقف » ٥ : ٢٢٥ ـ ٢٢٨ و « شرح المقاصد » ٢ : ٢٤٢ ـ ٢٤٤ فالمذكور هو القسم الأوّل فقط.

٣٩٧

كيفيّات تدرك باللمس بواسطة غيرها.

قال : ( ولكلّ منهما طرفان ).

أقول : لكلّ واحد من اللون والضوء طرفان ، ففي اللون السواد والبياض ، وفي الضوء النور الخارق والظلمة ، وما عدا هذه فإنّها متوسّطة ، كالحمرة والخضرة والصفرة والغبرة وغيرها من الألوان ، وكالظلّ وشبهه من الأضواء.

قال : ( وللأوّل حقيقة ).

أقول : ذهب بعض القاصرين إلى أن الألوان لا حقيقة لها (١) ؛ فإنّ البياض إنّما يتخيّل عن مخالطة الهواء المضيء للأجسام الشفّافة المنقسمة إلى الأجزاء الصغار كما في زبد الماء والثلج ، والسواد إنّما يتخيّل لعدم غور الهواء والضوء في عمق الجسم ، وباقي الألوان يتخيّل بسبب اختلاف الشفيف وتفاوت مخالطة الهواء.

ويستفاد ممّا حكي (٢) عن الشيخ أنّ البياض قد يكون ظاهرا باختلاط الهواء ، وقد يحدث من غير هذا الوجه ، كما في الجصّ فإنّه يبيضّ بالطبخ بالنار ، ولا يبيضّ بالسحق مع أنّ تفرّق الأجزاء ومداخلة الهواء فيه أظهر (٣).

والحقّ أنّه كيفيّة حقيقيّة قائمة بالجسم في الخارج ؛ لأنّه محسوس ، كما في بياض البيض المسلوق ، فإنّه ليس لنفوذ الهواء فيه ؛ لزيادة ثقله بعد الطبخ الدالّة على خروج الهواء.

وبالجملة ، فالأمور المحسوسة غنيّة عن البرهان.

قال : ( وطرفاه السواد والبياض المتضادّان ).

أقول : يعني طرفا اللون السواد والبياض ، وقيّدهما بالمتضادّين ؛ لأنّ الضدّين

__________________

(١) راجع « الشفاء » ٢ : ٩٥ ، الفصل الرابع من المقالة الثالثة ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٥٣٢ ـ ٥٣٣ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٣٤ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٥٦ ـ ٢٥٩.

(٢) حكاه عنه الفخر الرازي في « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٠٧ والعلاّمة في « نهاية المرام » ١ : ٥٢٣.

(٣) انظر : « الشفاء » الطبيعيّات ٢ : ٢٥٦ ، الفصل الأوّل من المقالة الثانية و ٢ : ١٠٠ ، الفصل الرابع من المقالة الثالثة.

٣٩٨

هما اللّذان بينهما غاية التباعد ، ولا يحصل كون اللون طرفا إلاّ بها ، فلأجل ذلك ذكر هذا القيد في بيان الطرفين.

وهذا تنبيه على أنّ ما عداهما متوسّط بينهما وليس نوعا قائما بانفراده ، كما ذهب إليه بعض من أنّ الألوان الحقيقيّة خمسة : السواد ، والبياض ، والحمرة ، والصفرة ، والخضرة (١).

ونبّه بقوله : « المتضادّان » على امتناع اجتماعهما ، خلافا لبعض الناس ؛ حيث ذهب إلى أنّهما يجتمعان ، كما في الغبرة (٢).

وهو خطأ ؛ لاقتضاء الاجتماع البقاء المستلزم لرؤية الجسم في غاية البياض مثلا.

اللهمّ إلاّ أن يقال بحدوث لون آخر متوسّط من التركيب (٣).

وفيه : أنّ الوجدان شاهد على وجود الجسم ابتداء مع لون الغبرة من غير وجود بياض وسواد حتّى يتصوّر الاجتماع.

قال : ( ويتوقّف على الثاني في الإدراك لا الوجود ).

أقول : ذهب أبو عليّ بن سينا ـ على ما حكي (٤) ـ إلى أنّ الضوء شرط وجود اللون (٥) ، فالأجسام الملوّنة حال الظلمة تعدم عنها ألوانها ؛ لأنّا لا نراها في الظلمة ، فإمّا أن يكون لعدمها ـ وهو المراد ـ أو لحصول المانع ، وهو ما يقال : إنّ الظلمة كيفيّة قائمة بالمظلم مانعة عن الإبصار ـ وهو باطل ، وإلاّ لمنع من هو بعيد عن النار عن

__________________

(١) انظر : « المحصّل » : ٢٣٢ وقد نسبه إلى المعتزلة ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٣٩ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٤٢ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٦٠.

(٢) هو الكعبي كما في « نهاية المرام » ١ : ٥٣٩ ، ولمزيد الاطّلاع راجع « شرح تجريد العقائد » : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(٣) قال به الكعبي أيضا على ما في « نهاية المرام » ١ : ٥٣٩.

(٤) حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : ٢١٨ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٤١.

(٥) انظر : « الشفاء » ٢ : ٨٠ ـ ٨٢ و ٨٨ ـ ٨٩ ، الفصل الأوّل من المقالة الثالثة ، وبه قال بهمنيار في « التحصيل » : ٦٩٠ و ٧٥٨ وكذا ابن الهيثم على ما في « شرح المواقف » ٥ : ٢٤٣.

٣٩٩

مشاهدة القريب منها ليلا ، وليس كذلك.

وهو خطأ ؛ لأنّا نقول : إنّما لم تحصل الرؤية ؛ لعدم الشرط وهو الضوء ، لا لانتفاء المرئيّ في نفسه ، فالحصر ممنوع ؛ فإنّ عدم الرؤية قد يكون لعدم الشرط.

مضافا إلى أنّ الظلمة القائمة بالمرئيّ مانعة لا بالرائي ، كما في المثال الذي ذكره.

وأيضا لو كان الأمر كما ذكره لزم وجود اللون وعدمه في زمان واحد إذا تحقّق ضوء ضعيف يدرك به حديد البصر دون ضعيف البصر.

ونبّه المصنّف رحمه‌الله على ذلك بقوله : « وهو » أي اللون « يتوقّف على الثاني » أي الضوء « في الإدراك لا الوجود ».

قال : ( وهما متغايران حسّا ).

أقول : يريد أنّ اللون والضوء متغايران ، خلافا لقوم غير محقّقين ؛ فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الضوء هو اللون ، قالوا : لأنّ الظهور المطلق هو الضوء ، والخفاء المطلق هو الظلمة ، والمتوسّط بينهما هو الظلّ (١).

والحسّ يدلّ على المغايرة ؛ فإنّ الضوء قائم بالهواء المحيط ، واللون قائم بالمحاط.

وعدم ظهور الضوء الضعيف كضوء القمر في الضوء القويّ كضوء الشمس ـ مع أنّه لاستهلاكه بالاختلاط ـ لا يقتضي اتّحاد الضوء واللون ، كما لا يخفى على من له نار أو نور.

قال : ( قابلان للشدّة والضعف ، المتباينان (٢) نوعا ).

أقول : كلّ واحد من هذين ـ أعني اللون والضوء ـ قابل للشدّة والضعف ، وهو

__________________

(١) انظر : « الشفاء » الطبيعيات ٢ : ٨٣ ، الفصل الثاني والثالث من المقالة الثالثة ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤١١ ـ ٤١٤ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٤٤ ـ ٥٤٨ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٥٠ ـ ٢٥٣ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : « المتباينين » أو أن تكون لفظة « المتباينان » خبرا لمبتدإ محذوف تقديره « هما ».

٤٠٠