البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

مصاحب لوجود المحويّ ، لكنّ الخلاء ممتنع لذاته.

والجواب ـ بعد تسليم امتناع الخلاء ـ : أنّا لا نسلّم كون الامتناع ذاتيّا.

إذا عرفت هذا ، فنرجع إلى تطبيق ألفاظ الكتاب ، فنقول :

قوله : « لا علّيّة بين المتضايفين » الذي يفهم من هذا الكلام أنّه لا علّيّة بين الحاوي والمحويّ ، وسمّاهما المتضايفين ؛ لأنّه أخذهما من حيث هما حاو ومحويّ ، وهذان الوصفان من باب المضاف.

وقوله : « وإلاّ لأمكن الممتنع » إشارة إلى ما مرّ من إمكان الخلاء الممتنع لذاته على تقدير كون الحاوي علّة.

وقوله : « أو علّل الأقوى بالأضعف » إشارة إلى ما بيّنّاه من كون الضعيف علّة في القويّ على تقدير كون المحويّ علّة للحاوي.

وقوله : « لمنع الامتناع الذاتي » إشارة إلى ما بيّنّاه في الجواب من المنع من كون الخلاء ممتنعا لذاته.

واعلم أنّ بعض (١) أهل الإشراق استدلّ بالبرهان الأشرف على ثبوت العقل ، وهو أنّ الواجب تعالى أشرف العلل ، فيجب أن يكون معلوله أشرف المعلولات بكونه مجرّدا عن المادّة ، وصاحب الكمالات الفعليّة من غير أن يكون فيه القوّة ، وعدم اشتماله على جهة النقص إلاّ نقص الإمكان والحدوث والحاجة ، فيكون بالفعل صاحب نحو العلم والقدرة من الكمالات الذاتيّة ، وهو المراد بالعقل كما ورد في النقل « أنّ أوّل ما خلق الله العقل » (٢) ويطابقه العقل ؛ لأنّ المقتضي ـ وهو المبدأ الفيّاض ـ موجود ، والمانع مفقود.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ عدم الإرادة مانع ، مضافا إلى إمكان أن يقال : إنّ أوّل

__________________

(١) هذا البعض هو صدر المتألّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي ، انظر كتابه « الأسفار الأربعة » ٧ : ٢٦٣.

(٢) « عوالي اللآلئ » ٤ : ٩٩ / ١٤١ ؛ « مكارم الأخلاق » ٢ : ٣٣٢ / ٢٦٥٦.

٣٤١

ما خلق الله هو النور الأحمدي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا العقل ، كما يستفاد من النقل ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أوّل ما خلق الله نوري » (١) لإمكان الجمع بإرجاع العقل إلى النقل لتكاثره البالغ إلى حدّ القطع ظاهرا ، فلا بدّ من التخصيص الموضوعي ؛ حذرا عن الاجتهاد في مقابل النصّ فإنّ المراد من العقل هو النور المحمّدي صلى‌الله‌عليه‌وآله الاتّفاق وإلاّ فمجال المنع واسع.

المسألة الثانية : في النفس الناطقة.

قال : ( وأمّا النفس فهي كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة ).

أقول : هذا هو البحث عن أحد أنواع الجوهر ، وهو البحث عن النفس الناطقة.

وقبل البحث عن أحكامها شرع في تعريفها.

اعلم أنّ النفس ـ كما يستفاد من كلمات القوم ـ جوهر مجرّد مفارق عن المادّة في ذاته دون فعله ، ويدبّر في البدن تدبير الملك المقتدر بالقدرة التامّة في مملكته ، ولهذا ورد : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (٢) فإنّ النفس إذا أرادت من العين الانفتاح تنفتح من غير حاجة إلى كلام ، وكذا سائر الأعضاء والجوارح في آثارها بحيث إذا أرادت أمرا يكون ، فإذا عرف تسلّط الرئيس الممكن على مرءوسه على هذا المنوال ، عرف ربّه الواجب ذا الجلال ، وإن احتمل الحديث غير ذلك المعنى أيضا كالتعليق بالمحال.

وقد يطلق لفظ النفس على المادّي كالنفس الجمادية التي هي مبدأ حفظ التركيب ، والنفس النباتيّة التي هي مبدأ التغذية والتنمية والتوليد ونحوها ، والنفس

__________________

(١) « عوالي اللآلئ » ٤ : ٩٩ / ١٤٠ ؛ « بحار الأنوار » ١٥ : ٢٤ / ٤٤ ، و ٢٥ : ٢٢ / ٣٨.

(٢) ورد في « المناقب » للخوارزمي ، الفصل ٢٤ في جوامع كلامه : ٣٧٥ / ٣٩٥ ، و « نور الأبصار » : ١٦٦ عن عليّ عليه‌السلام ، وفي « عوالي اللآلئ » ٤ : ١٠٣ / ١٤٩ ، و « بحار الأنوار » ٢ : ٣٢ / ٢٢ و « مصابيح الأنوار » ١ : ٢٠٤ / ٣٠ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٤٢

الحيوانيّة التي هي مبدأ الحسّ والحركة الإراديّة ويجعل النفس الأرضيّة اسما لهما.

وقد يطلق على النفس الحيوانيّة الروح البخاري ، وهو البخار الراكب للدم الحامل له ، ويقال له بالفارسيّة « جان » كما يقال للنفس الناطقة بالفارسيّة « روان » قال الله تعالى : ( وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) (١) ولها باعتبار الآثار قوّة عاقلة مسمّاة بالعقل النظري كالنفس ، وقوّة عاملة تحرّك بدن الإنسان إلى الأفعال الجزئيّة بالفكر والرويّة مسمّاة بالعقل العملي كالنفس.

وللقوّة العاقلة مراتب أربع :

الأولى : العقل الهيولاني المستعدّ للمعقولات.

الثانية : العقل بالملكة لحصول المعقولات البديهية بنحو الإحساس الموجب لحصول ملكة استعداد الانتقال إلى النظريّات.

الثالثة : العقل بالفعل بحصول المعقولات النظريّة وكونها مخزونة من غير استحضارها.

الرابع : العقل بالمستفاد باستحضار المعقولات المكتسبة. وللعاملة أيضا مراتب :

الأولى : مرتبة النفس الأمّارة من جهة غلبة الغضب والشهوة.

الثانية : اللوّامة.

الثالثة : القدسيّة بتوسّط القوّة الشهويّة بالعفّة ، والغضبيّة بالشجاعة ، والعقليّة بالفطانة.

الرابعة : المطمئنّة.

الخامسة : الراضية المرضيّة.

__________________

(١) الشمس (٩١) : ٧ ـ ١٠.

٣٤٣

قال الله تعالى : ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) (١) و ( لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (٢) و ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) (٣).

وبالجملة ، فالظاهر أنّ النفس جوهر مجرّد أو مادّي تعلّق بالأجسام تعلّق التدبير والتصرّف ، وليس بعرض أو نحوه كما هو ظاهر جعله كمالا.

وقد عرّفها الحكماء أنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة (٤).

والمراد بالكمال ما يكمل به النوع إمّا في ذاته ويسمّى كمالا أوّلا كصورة السيف للحديد ، أو في صفاته ويسمّى كمالا ثانيا كالقطع للسيف.

و « الجسم » يخرج المجرّدات ، و « الطبيعيّ » يخرج صور الجسم الصناعي كهيئة السرير والسيف ، و « الآلي » يخرج نحو المعدني ممّا يؤثّر بالخاصّيّة لا بالآلة.

والمراد بـ « ذي الحياة بالقوّة » المخرج للنفس الفلكيّة ـ على زعمهم ـ ما يمكن أن يصدر عنه ما يصدر عن الأحياء ، لا ما تكون حياته بالقوّة ، كما هو المتبادر حتّى يخرج النفوس الحيوانيّة والإنسانيّة. وقد وافقهم المصنّف.

وعرّفوا النفس بالكمال دون الصورة ؛ لأنّ النفس الإنسانيّة غير حالّة في البدن ، فليست صورة له بل هي كمال له ، ولكنّ الكمال منه أوّل وهو الذي يتنوّع به الشيء كالفصول ، ومنه ثان وهو ما يعرض للنوع بعد كماله من صفاته اللازمة والعارضة ، فالنفس من القسم الأوّل ، وهي كمال لجسم طبيعيّ غير صناعيّ كالسرير وغيره ، وليست كمالا لكلّ طبيعي حتّى البسائط ، بل هي كمال لجسم طبيعيّ آليّ تصدر عنه الأفعال بواسطة الآلات ، ويصدر عنه ما يصدر عن ذي الحياة ، وهي التغذّي والتنمية والتوليد والإدراك والحركة الإراديّة والنطق.

__________________

(١) يوسف (١٢) : ٥٣.

(٢) القيامة (٧٥) : ٩.

(٣) الفجر (٨٩) : ٢٧ ـ ٢٨.

(٤) انظر : « الشفاء » الطبيعيات ٢ : ١٠ ، الفصل الأوّل من المقالة الأولى من الفنّ السادس ؛ « النجاة » ١٥٨ ؛ « رسالة الحدود » لابن سينا : ١٤ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٩٠ ـ ٢٩١ ؛ « المباحث المشرقية » ٢ : ٢٣١ وما بعدها.

٣٤٤

المسألة الثالثة : في أنّ النفس الناطقة ليست هي المزاج.

قال : ( وهي مغايرة لما هي شرط فيه ؛ لاستحالة الدور ).

أقول : لمّا كانت النفس الإنسانيّة مرقاة لمعرفة الصانع وصفاته ، أراد بيان أحوالها.

اعلم أنّه ذهب المحقّقون إلى أنّ النفس الناطقة مغايرة للمزاج (١) ، خلافا لما حكي عن بعض الناس (٢) من أنّ النفس عين المزاج الذي ينتفي بتلاشي البدن.

واستدلّوا (٣) عليه بثلاثة أوجه :

الأوّل : ما ذكره الأوائل ، وهو أنّ النفس الناطقة شرط في حصول المزاج ؛ لأنّ المزاج إنّما يحصل من حصول العناصر المتضادّة المتسارعة إلى الانفكاك المجبورة على الاجتماع ، فعلّة ذلك الاجتماع يجب أن تكون متقدّمة عليه ، وكذا شرط الاجتماع وهو النفس الناطقة ، فلا تكون هي المزاج المتأخّر عن الاجتماع ؛ لاستحالة تقدّم الشيء على نفسه وتأخّره عنها. مع أنّ المزاج إذا كان موقوفا على الاجتماع ، والاجتماع موقوفا على النفس التي هي شرط له ، يستلزم كون النفس عين المزاج الأوّل.

وفي هذا الوجه نظر ؛ لأنّهم علّلوا حدوث النفس بالاستعداد الحاصل من المزاج ، فكيف جعلوا الآن علّة حدوث الاجتماع النفس؟!

قال : ( وللممانعة في الاقتضاء ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني.

__________________

(١) انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٩٨ وما بعدها ؛ « المباحث » : ٦٧ / ٩٢ ؛ « التحصيل » : ٧٢٩ وما بعدها.

(٢) كما في « الشفاء » ٢ : ١٥ ، الفصل الثاني من المقالة الأولى في النفس ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٥٠ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٣٠٥.

(٣) لاستيفاء البحث حول النفس والمناقشة فيها راجع « الشفاء » ٢ : ١٤ ـ ٢١ ، الفصل الثاني من المقالة الأولى في النفس ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٩٨ وما بعدها ؛ « التحصيل » : ٧٢٩ ـ ٧٣٩ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٣٠٣ ـ ٣١٦.

٣٤٥

وتقريره : أنّ المزاج قد يمانع النفس في مقتضاها ؛ فإنّ النفس قد تقتضي الحركة إلى جانب ويقتضي المزاج [ الحركة ] إلى جانب آخر ، كالصعود والهبوط ، وتضادّ الآثار يستدعي تضادّ المؤثّر ، فها هنا الممانعة بين النفس والمزاج في جهة الحركة.

وكذلك قد تقع الممانعة بينهما في نفس الحركة ، بأن تكون الحركة نفسانيّة لا يقتضيها المزاج ، كما في حال حركة الإنسان على وجه الأرض ؛ فإنّ مزاجه يقتضي السكون عليها ، ونفسه تقتضي الحركة ، أو بأن تكون طبيعيّة تقتضيها ، كما في المتردّي من الهواء.

قال : ( ولبطلان أحدهما مع ثبوت الآخر ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث الدالّ على أنّ النفس مغايرة للمزاج.

وتقريره : أنّ الطفل له مزاج يبطل في سنّ الشباب ونحوه مع ثبوت النفس ، ولا شكّ أنّ الباقي غير الزائل.

وقد يقرّر بأنّ الإدراك إنّما يكون بواسطة الانفعال ، فاللامس إذا أدرك شيئا لا بدّ وأن ينفعل عن الملموس ، فلو كان اللامس المزاج لبطل عند انفعاله وحدثت كيفيّة مزاجيّة أخرى ، وليس المدرك هو الكيفيّة الأولى ؛ لبطلانها ووجوب بقاء المدرك عند الإدراك ، ولا الثانية ؛ لأنّ المدرك لا بدّ وأن ينفعل عن المدرك ، والشيء لا ينفعل عن نفسه.

المسألة الرابعة : في أنّ النفس ليست هي البدن.

قال : ( ولما تقع الغفلة عنه ).

أقول : ذهب من لا تحصيل له إلى أنّ النفس الناطقة هي البدن (١).

وقد أبطله المصنّف رحمه‌الله بوجوه ثلاثة :

__________________

(١) نسب إلى جمهور المتكلّمين كما في « المحصّل » : ٥٣٨ ؛ « المطالب العالية » ٨ : ٣٥ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٥٠.

٣٤٦

الأوّل : أنّ الإنسان قد يغفل عن بدنه وأعضائه وأجزائه الظاهرة والباطنة ، وهو متصوّر لذاته ونفسه ، فيجب أن يغايرها ، فقوله : « لما يقع الغفلة » عطف على قوله : « لما هي شرط فيه » أي والنفس مغايرة لما يقع الغفلة عنه ، أعني البدن.

قال : ( والمشاركة به ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني الدالّ على أنّ النفس ليست هي البدن.

وتقريره : أنّ البدن جسم ، وكلّ جسم على الإطلاق فإنّه مشارك لغيره من الأجسام في الجسميّة ، فالإنسان يشارك غيره من الأجسام في الجسميّة ويخالفه في النفس الإنسانيّة ، وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فالنفس غير الجسم. فقوله : « والمشاركة به » عطف على قوله : « الغفلة عنه » والمعنى أنّ النفس مغايرة لما تقع المشاركة به.

قال : ( والتبدّل فيه ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث.

وتقريره : أنّ أعضاء البدن وأجزاءه تتبدّل كلّ وقت ويستبدل ما ذهب بغيره ؛ فإنّ الحرارة الغريزيّة تقتضي تحليل الرطوبات البدنيّة ، فالبدن دائما في التحلّل والاستخلاف ، والهويّة باقية من أوّل العمر إلى آخره ، والمبدّل مغاير للباقي ، فالنفس غير البدن. فقوله : « والتبدّل فيه » عطف على قوله : « والمشاركة به » أي النفس مغايرة لما يقع التبدّل فيه.

المسألة الخامسة : في تجرّد النفس.

قال : ( وهي جوهر مجرّد لتجرّد عارضها ).

أقول : اختلف الناس في ماهيّة النفس (١) ، وأنّها هل هي جوهر أم لا بكونها عرضا حالاّ في البدن غير الأعراض المشهورة؟

__________________

(١) لمزيد الاطّلاع حول الأقوال في النفس انظر : « الشفاء » كتاب النفس ٢ : ١٤ وما بعدها ؛ « المطالب العالية » ٧ : ٣٥ وما بعدها ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٤٧ ـ ٢٥٠ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٩٨ وما بعدها.

٣٤٧

والقائلون بأنّها جوهر اختلفوا في أنّها هل هي جوهر مجرّد أم لا بكونها جسما مجاورا للبدن كالروح البخاري؟

والمشهور عند الأوائل وجماعة من المتكلّمين من الإماميّة كالمفيد (١) منهم والغزالي (٢) من الأشاعرة ـ على ما حكي ـ أنّها جوهر مجرّد ليس بجسم ولا جسمانيّ ، وهو الذي اختاره المصنّف ، واستدلّ على تجرّدها بوجوه :

الأوّل : تجرّد عارضها وهو العلم.

وتقرير هذا الوجه : أنّ هاهنا معلومات مجرّدة عن الموادّ كالواجب والكلّيّات ، فالعلم المتعلّق بها يكون لا محالة مطابقا لها ؛ فيكون مجرّدا لتجرّدها ، فمحلّه ـ وهو النفس ـ يجب أن يكون مجرّدا ، لاستحالة حلول المجرّد في المادّي.

أو يقال : إنّ الصورة المنطبعة في العقل مجرّدة ؛ لأنّها لا تقبل الإشارة الحسّيّة بالضرورة ، وهي خالية عن لواحق المادّة من الكمّ والكيف ونحوهما ، كما عن « الشفاء » (٣) حتّى لا يتوجّه منع مساواة الصورة مع المعلوم في الماهيّة كما قيل ، فتكون النفس الناطقة التي هي محلّها مجرّدة ، وإلاّ يلزم كون الصورة العقليّة الحالّة فيها غير مجرّدة ؛ لأنّ اختصاص المحلّ بالمقدار المعيّن والأين المعيّن والوضع المعيّن يوجب اختصاص الحالّ به.

واعترض عليه بجواز كون العلم بانكشاف الأشياء على النفس من دون ارتسام ، وعدم مساواة الصورة للمعلوم في تمام الماهيّة ، ومنع اقتضاء اتّصاف المحلّ بصفة اتّصاف الحالّ بها ، كما أنّ الجسم يتّصف بالبياض دون الحركة الحالّة فيه ، مع أنّ المادّيّة العرضيّة لا تنافي التجرّد الذاتي ، فتدبّر. (٤)

__________________

(١) نقل عنه ذلك في كلّ من « المطالب العالية » ٧ : ٣٨ ؛ « كشف المراد » : ١٨٤.

(٢) نقل ذلك عنه أيضا في « المطالب العالية » ٧ : ٣٨ ؛ « كشف المراد » : ١٨٤ ؛ « اللوامع الإلهيّة » : ١٠٤.

(٣) « الشفاء » كتاب النفس ٢ : ٢١٢.

(٤) إشارة إلى أنّ ذلك غير مندفع بالقول بالوجود الذهني ، بناء على عدم كونه بارتسام الصور. ( منه رحمه‌الله ).

٣٤٨

قال : ( وعدم انقسامه ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني ، وهو أنّ العارض للنفس ـ أعني العلم ـ غير منقسم ، فمحلّه ـ أعني المعروض ـ كذلك.

وتقرير هذا الدليل يتوقّف على مقدّمات :

إحداها : أنّ هاهنا معلومات غير منقسمة ، وهو ظاهر ؛ فإنّ واجب الوجود غير منقسم ، وكذا الحقائق البسيطة كالنقطة والوحدة.

الثانية : أنّ العلم بها غير منقسم ؛ لأنّه لو انقسم ، لكان كلّ واحد من جزأيه إمّا أن يكون علما أولا ، والثاني باطل ؛ لأنّه عند الاجتماع إمّا أن يحصل أمر زائد أولا ، فإن كان الثاني لم يكن ما فرضناه علما بعلم ، هذا خلف.

وإن كان الأوّل فذاك الزائد إمّا أن يكون منقسما فيعود البحث ، أو لا يكون فيكون العلم غير منقسم ، وهو المطلوب.

وإن كان كلّ جزء علما فإمّا أن يكون علما بكلّ ذلك المعلوم ، فيكون الجزء مساويا للكلّ ، وهذا خلف ، أو ببعضه فيكون ما فرضناه غير منقسم منقسما ، وهذا خلف.

الثالثة : أنّ محلّ العلم غير منقسم ؛ لأنّه لو انقسم لانقسم العلم ؛ لأنّه إن لم يحلّ في شيء من أجزائه لم يحلّ في ذلك المحلّ ، وإن حلّ فإمّا أن يكون في جزء غير منقسم ، وهو المطلوب ، أو في أكثر فإمّا أن يكون الحالّ في أحدها عين الحالّ في الآخر ، وهو محال بالضرورة ، أو غيره فيلزم الانقسام.

الرابعة : أنّ كلّ جسم وكلّ جسمانيّ فهو منقسم ؛ لأنّا قد بيّنّا أن لا وجود لوضعيّ غير منقسم.

وإذا ثبتت هذه المقدّمات ثبت تجرّد النفس.

وفيه نظر ؛ للمنع من كون العلم بطريق الارتسام ، ومن مساواة الصورة للمعلوم سيّما في الانقسام ، ومن استلزام انقسام المحلّ انقسام الحالّ إذا لم يكن الحلول

٣٤٩

سريانيّا بأن كان طريانيّا ، ومن كون كلّ مادّيّ منقسما ، فإنّ النقطة مادّيّة غير منقسمة.

قال : ( وقوّتها على ما تعجز المقارنات عنه ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث.

وتقريره أنّ النفس البشريّة تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادّة فلا تكون مادّيّة ؛ لأنّها تقوى على ما لا يتناهى ؛ لأنّها تقوى على تعقّلات الأعداد غير المتناهية ـ وقد بيّنّا أنّ القوّة الجسمانيّة لا تقوى على ما لا يتناهى ـ فتكون مجرّدة.

وفيه نظر ؛ لأنّ التعقّل قبول وانفعال لا فعل ، وقبول ما لا يتناهى للجسمانيّات ممكن ، كما في الموادّ العنصريّة.

ولو سلّم أنّه فعل ، فالتعقّل لغير المتناهي بالقوّة مشترك فيه بين النفس والقوى الجسمانيّة ، والفعليّ ممنوع.

قال : ( ولحصول عارضها بالنسبة الى ما يعقل محلاّ منقطعا ).

أقول : هذا هو الوجه الرابع.

وتقريره : أنّ النفس لو حلّت في جسم من قلب أو دماغ لكانت دائمة التعقّل ، أو كانت لا تعقله أصلا ، والتالي باطل بقسميه ، فكذا المقدّم.

بيان الشرطيّة : أنّ القوّة العاقلة إذا حلّت في قلب أو دماغ ، لم يخل إمّا أن تكفي صورة ذلك المحلّ أو حضوره في التعقّل ، أو لا تكفي ، فإن كفت لزم حصول التعقّل دائما ؛ لدوام تلك الصورة للمحلّ ، وإن لم تكف لا تعقله أصلا ؛ لاستحالة أن يكون تعقّلها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلّها فيها ، وإلاّ لزم اجتماع المثلين.

وأمّا بطلان التالي فظاهر ؛ لأنّ النفس تعقل القلب والدماغ في وقت دون وقت.

والحاصل أنّه يحصل العلم ـ الذي هو عارض للنفس الناطقة بالنسبة إلى ما يفرض محلاّ لها ـ منقطعا في وقت دون وقت لا دائما ، فلا تكون حالّة فيه ؛ لاستلزام الحلول دوام التعقّل أو عدمه رأسا ، كما مرّ.

٣٥٠

وأورد عليه : بإمكان توقّف التعقّل على أمر آخر كتوجّه النفس ونحو ذلك (١).

قال : ( ولاستلزام استغناء العارض استغناء المعروض ).

أقول : هذا وجه خامس يدلّ على تجرّد النفس العاقلة.

وتقريره : أنّ النفس تستغني في عارضها ـ وهو التعقّل ـ عن المحلّ ، فتكون في ذاتها مستغنية ؛ لأنّ استغناء العارض يستلزم استغناء المعروض ؛ لأنّ العارض محتاج إلى المعروض ، فلو كان المعروض محتاجا إلى شيء لكان العارض أولى بالاحتياج إليه ، فإذا استغنى العارض وجب استغناء المعروض.

وبيان استغناء التعقّل عن المحلّ أنّ النفس تدرك ذاتها لذاتها لا لآلة ، وكذا تدرك آلتها وتدرك إدراكها لذاتها ولآلتها ، كلّ ذلك من غير آلة تتوسّط بينها وبين هذه المدركات. فإذن هي مستغنية في إدراكها لذاتها ولآلتها ولإدراكها عن الآلة ، فتكون في ذاتها مستغنية عن الآلة أيضا.

فقوله رحمه‌الله : « ولاستلزام استغناء العارض » عنى بالعارض هاهنا التعقّل.

وقوله : « استغناء المعروض » عنى به النفس التي يعرض لها التعقّل.

فاعترض عليه بأنّه عين الوجه الأوّل (٢).

قال : ( ولانتفاء التبعيّة ).

أقول : الذي فهمناه من هذا الكلام أنّ هذا وجه آخر دالّ على تجرّد النفس.

وتقريره : أنّ القوّة المنطبعة في الجسم تابعة له في الضعف والكلال ، فإنّها تضعف بضعف ذلك الجسم الذي هو شرط فيها ، والنفس بالضدّ من ذلك فإنّها حال ضعف الجسم ـ كما في وقت الشيخوخة ـ تقوى وتكثر تعقّلا ، فلو كانت جسمانيّة لضعفت بضعف محلّها وليس كذلك ، فلمّا انتفت تبعيّة النفس للجسم في حال ضعفه دلّ ذلك على أنّها ليست جسمانيّة.

__________________

(١) هذا الإيراد ذكره القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١٩٩.

(٢) الاعتراض للقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٠٠.

٣٥١

والإيراد باقتضاء حصول الخرافة في أواخر سنّ الشيخوخة كون النفس جسمانيّة مدفوع بأنّ ذلك لاستغراق النفس في تدبير البدن المشرف تركيبه إلى الانحلال ، فإنّه مانع عن التعقّل المحتاج إلى الالتفات.

وقد يقال : يجوز أن تضعف القوّة العاقلة لضعف البدن ، وكان ما يرى من ازدياد التعقّل بسبب اجتماع علوم كثيرة والتمرّن والاعتياد ، وفي آخر سنّ الشيخوخة يستولي الضعف بحيث لا يبقى أثر للتمرّن والامتحان فتعرض الخرافة.

وأيضا يجوز أن يكون المزاج الحاصل في زمان الكهولة أوفق للقوّة العاقلة من سائر الأمزجة وبذلك تحصل القوّة (١).

قال : ( ولحصول الضدّ ).

أقول : هذا وجه سابع يدلّ على تجرّد النفس.

وتقريره : أنّ القوّة الجسمانيّة عند توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكلّ ؛ لأنّها تنفعل عنها ؛ فإنّ من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تامّا ، وكذا السامعة فإنّها بعد سماع الرعد الشديد لا تسمع الصوت الضعيف ، وهكذا حال الشامّة والذائقة واللامسة. والقوّة النفسانيّة بالضدّ من ذلك ؛ فإنّها تقوى عند كثرة التعقّلات ، فالحاصل لها عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوّة الجسمانيّة عند كثرة الانفعال. فهذا ما خطر لنا في معنى قوله رحمه‌الله : « ولحصول الضدّ ».

وأورد عليه بأنّه يجوز أن تكون العاقلة مخالفة بالنوع لسائر القوى مع كون الجميع جسمانيّة (٢) مع أنّ القياس لا عبرة به في المسائل العلميّة وكذا الاستقراء الناقص.

وبالجملة ، فللتوقّف في المسألة مجال ، ولهذا ورد : « من عرف نفسه

__________________

(١) القائل هو القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٢) أورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٢٠١.

٣٥٢

فقد عرف ربّه » (١) بناء على حمله على أنّ عرفانها محال.

المسألة السادسة : في أنّ النفس البشريّة متّحد في النوع.

قال : ( ودخولها تحت حدّ واحد يقتضي وحدتها ).

أقول : اختلف الناس في ذلك ، فذهب الأكثر إلى أنّ النفوس البشريّة متّحدة بالنوع متكثّرة بالشخص والصفات باختلاف الأمزجة ، وهو مذهب أرسطو طاليس (٢).

وذهب جماعة من القدماء إلى أنّها مختلفة بالنوع ، بمعنى أنّها جنس تحته أنواع مختلفة ، تحت كلّ نوع أفراد متّحدة بالماهيّة (٣) ، ولهذا ورد : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة » (٤) وأنّ « الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » (٥).

وهذا المذهب محكيّ عن الإمام الرازي (٦) أيضا.

واختار المصنّف المذهب المشهور المنصور ، واحتجّ على وحدتها نوعا بأنّها يشملها حدّ واحد ، والأمور المختلفة يستحيل اجتماعها تحت حدّ واحد.

واعترض عليه : بأنّ التحديد ليس لجزئيّات النفس حتّى يلزم ما ذكره ، بل لمطلق النفس ، وهو المعنى الكلّيّ ، وذلك كما يحتمل أن يكون نوعا يحتمل أن يكون جنسا.

__________________

(١) « غوالي اللآلئ » ٤ : ١٠٢ / ١٤٩ ؛ « بحار الأنوار » ٢ : ٣٢ / ٢٢ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وفي « المناقب » : ٣٧٥ / ٣٩٢ نقله الخوارزمي عن عليّ عليه‌السلام.

(٢) انظر : كتاب النفس من « الشفاء » ٢ : ١٩٨ ـ ٢٠٠ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٣٩٣ وما بعدها ؛ « المطالب العالية » ٧ : ١٤١ وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٠١ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٣٦٥.

(٣) راجع المصادر السابقة.

(٤) « مسند أحمد بن حنبل » ٣ : ٦٤٥ / ١٠٩٥٦ ؛ « بحار الأنوار » ٥٨ : ٦٥ / ٥١.

(٥) « مسند أحمد بن حنبل » ٣ : ١٥٩ / ٧٩٤٠ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ « بحار الأنوار » ٢ : ٢٦٥ / ١٨ عن عليّ عليه‌السلام.

(٦) حكاه عنه التفتازاني في « شرح المقاصد » ٣ : ٣١٧ ، وبه قال الرازي في « المطالب العالية » ٧ : ١٤٣ ، وتوقّف في « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٣٩٨.

٣٥٣

فإن قال : إنّ حدّ الكلّي حدّ لكلّ نفس نفس ؛ إذ لا يعقل من كلّ نفس سوى ما قلناه في التحديد ، منعنا ذلك ونقول : بل ربّما يحتاج حدّ كلّ نفس إلى ضمّ مميّز جوهريّ مضافا إلى إمكان كون ما يعقل من النفس عرضا عامّا لأنواع متخالفة الحقيقة ، مع أنّات ألزمناه الدور ، لأنّ الأشياء المتكثّرة إنّما يصحّ جمعها في حدّ واحد لو كانت متّحدة في الماهيّة ، فلو استفدنا وحدتها من الدخول في الحدّ الواحد لزم الدور ، فتأمّل.

قال : ( واختلاف العوارض لا يقتضي اختلافها ).

أقول : هذا جواب عن شبهة من استدلّ على اختلافها (١).

وتقرير الدليل : أنّهم قالوا : وجدنا النفوس البشريّة تختلف في العفّة والفجور والذكاء والبلادة والبخل وسخاوة والجبن والشجاعة ، وليس ذلك من توابع المزاج ؛ لأنّ المزاج قد يكون واحدا والعوارض مختلفة ؛ فإنّ بارد المزاج قد يكون في غاية الذكاء ، وكذا حارّ المزاج قد يكون في غاية البلادة ، وقد يتبدّل والصفة النفسانيّة باقية ، ولا من الأسباب الخارجيّة كالتعلّم من المعلّم وتأثير مصاحبة الأبوين والأصحاب ونحو ذلك ؛ لأنّها قد تكون بحيث تقتضي خلقا والحاصل ضدّه ؛ إذ قد يكون الأبوان ـ مثلا ـ في غاية الخسّة والرذالة والولد في غاية الشرف والكرامة وبالعكس ، فعلمنا أنّها لوازم للماهيّة ، وعند اختلاف اللوازم يختلف الملزوم.

والجواب ـ مضافا إلى إمكان استنادها إلى أسباب مجهولة كالأوضاع الفلكيّة ـ أنّ الملزومات مختلفة وليست هي النفس وحدها ، بل النفس والعوارض المختلفة ، ومجموع النفس مع العوارض إذا كان مختلفا لا يلزم أن يكون كلّ جزء أيضا مختلفا ، فهذه الحجّة مغالطة ، مع أنّ هذه عوارض مفارقة غير لازمة ، فاختلافها لا يقتضي اختلاف موضوعها.

__________________

(١) « المطالب العالية » ٧ : ١٤٩ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٣١٨.

٣٥٤

المسألة السابعة : في أنّ النفوس البشريّة حادثة.

قال : ( وهي حادثة ، وهو ظاهر على قولنا ، وعلى قول الخصم لو كانت أزليّة لزم اجتماع الضدّين ، أو بطلا ما ثبت ، أو ثبوت ما يمنع ).

أقول : اختلف الناس في ذلك ، فالملّيّون على أنّها حادثة (١) ، وهو ظاهر على قولهم من أنّ الواجب تعالى فاعل بالاختيار ، وأثر المختار لا يكون قديما ، مضافا إلى ما ثبت من حدوث العالم وهي من جملة العالم ، ولأجل ذلك قال المصنّف رحمه‌الله : « وهو ظاهر على قولنا ».

وأمّا الحكماء فقد اختلفوا هنا ، فقال أرسطو ـ على ما حكي (٢) ـ : إنّها حادثة.

وقال أفلاطون ـ على ما حكي أيضا (٣) ـ : إنّها قديمة.

والمصنّف رحمه‌الله ذكر هنا حجّة أرسطو على الحدوث أيضا.

وتقرير هذه الحجّة : أنّ النفوس لو كانت أزليّة ، لكانت إمّا واحدة أو كثيرة ، والقسمان باطلان ، فالقول بقدمها باطل.

أمّا الملازمة فظاهرة.

وأمّا بطلان وحدتها : فلأنّها لو كانت واحدة أزلا ، فإمّا أن تتكثّر فيما لا يزال وعند التعلّق ، بالأبدان ، أو لا تتكثّر.

والثاني باطل ، وإلاّ لزم أن يكون ما يعلمه زيد بعلمه كلّ واحد ، وكذا سائر الصفات النفسانيّة ، والمشاهد خلاف ذلك ؛ فإنّه قد يعلم زيد شيئا وعمرو جاهل به.

وأيضا لو اتّحدت نفساهما لزم اتّصاف كلّ واحدة بالضدّين ، أعني العلم والجهل ، ومثله لزوم اتّصاف النفس بالجبن والتهوّر ، والبخل والإسراف.

__________________

(١) « شرح المواقف » ٧ : ٢٥٠ ـ ٢٥١ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

(٢) حكاه عنه الفخر الرازي في « المحصّل » : ٥٤٤ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٤٠٠ ، « المطالب العاليّة » ٧ : ١٨٩ ، وانظر : « شرح المواقف » ٧ : ٢٥١ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٣٢١.

(٣) حكاه عنه الفخر الرازي في « المحصّل » : ٥٤٤.

٣٥٥

وهذا مفاد قوله : « لزم اجتماع الضدّين ».

والأوّل باطل أيضا ؛ لأنّها لو تكثّرت : فإمّا أن تكون النفسان الموجودتان الآن حاصلتين قبل الانقسام ، فقد كانت الكثرة حاصلة قبل فرض حصولها ، وهذا خلف.

وإمّا أن يقال : حدثتا بعد الانقسام ، وهو محال وإلاّ لزم حدوث النفسين وبطلان النفس التي كانت موجودة.

وهذا مفاد قوله : « أو بطلان ما ثبت » مع أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

وأمّا بطلان كثرتها أزلا ؛ فلأنّ التكثّر إمّا بالذاتيّات ، أو باللوازم ، أو بالعوارض ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل ؛ فلما ثبت من وحدتها بالنوع.

وكذا الثاني ؛ لأنّ كثرة اللوازم تستلزم كثرة الملزومات.

وأمّا الثالث ؛ فلأنّ اختلاف العوارض للذوات المتساوية إنّما يكون عند تغاير الموادّ ؛ لأنّ نسبة العارض إلى المثلين واحدة ومادّة النفس البدن ؛ لاستحالة الانطباع عليها ، وقبل البدن لا مادّة وإلاّ لزم التناسخ الذي سنبيّن امتناعه ، وهو مفاد قوله : « أو ثبوت ما يمنع » فتأمّل.

المسألة الثامنة : في أنّ لكلّ نفس بدنا واحدا وبالعكس.

قال : ( وهي مع البدن على التساوي ).

أقول : هذا حكم ضروريّ أو قريب من الضروريّ فإنّ كلّ إنسان يجد ذاته ذاتا واحدة ، فلو كان لبدن نفسان لكانت تلك الذات ذاتين وهو محال ، فيستحيل تعلّق النفوس الكثيرة ببدن واحد ، وكذا العكس فإنّه لو تعلّقت نفس واحدة ببدنين على سبيل الاجتماع لزم أن يكون معلوم أحدهما معلوما للآخر وبالعكس ، وكذا باقي الصفات النفسانيّة ، وهو باطل بالضرورة ، فليتأمّل. (١)

__________________

(١) إشارة إلى احتمال كون التعلّق بأحد البدنين شرطا وبالآخر مانعا مدفوع بأنّ الوجدان يكذبه. ( منه رحمه‌الله ).

٣٥٦

وإن كان التعلّق على سبيل التعاقب لزم أن تتذكّر أحوال البدن السابق ولو أحيانا ، وهو أيضا باطل بالضرورة.

المسألة التاسعة : في أنّ النفس لا تفنى بفناء البدن.

قال : ( ولا تفنى بفنائه ).

أقول : اختلف الناس هاهنا ، فالقائلون بجواز إعادة المعدوم جوّزوا فناء النفس مع فناء البدن. والمانعون هناك منعوا هنا.

أمّا الأوائل فقد اختلفوا أيضا ، فالمشهور أنّها لا تفنى (١).

وأمّا أصحابنا فإنّهم استدلّوا على امتناع فنائها بأنّ الإعادة واجبة على الله تعالى (٢) ـ على ما يأتي ـ ولو عدمت النفس لامتنعت إعادتها ؛ لما ثبت من امتناع إعادة المعدوم ، فيجب أن لا تفنى.

أمّا الأوائل فاستدلّوا بأنّها لو عدمت لكان إمكان عدمها محتاجا إلى محلّ مغاير لها (٣) ؛ لأنّ القابل يجب وجوده مع المقبول ، ولا يمكن وجود النفس مع العدم ، فذلك المحلّ هو المادّة ، فتكون النفس مادّيّة فتكون مركّبة ، وهذا خلف ، على أنّ تلك المادّة يستحيل عدمها ؛ لاستحالة التسلسل.

وهذه الحجّة ضعيفة ؛ لأنّها مبنيّة على ثبوت الإمكان واحتياجه إلى المحلّ الوجودي ، وهو ممنوع.

سلّمنا ، ولكنّه ينتقض بالجواهر البسيطة ، فإنّها ممكنة ، ومعنى إمكانها قبولها للعدم ، فتكون مادّيّة.

__________________

(١) انظر : « الشفاء » كتاب النفس ٢ : ٢٠٢ ؛ « النجاة » : ١٨٥ ـ ١٨٦ ؛ « المطالب العالية » ٧ : ٢٢١ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

(٢) انظر : « كشف المراد » : ١٩٠.

(٣) انظر : « المطالب العالية » ٧ : ٢١١ وما بعدها ؛ « المحصّل » : ٥٤٩ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

٣٥٧

سلّمنا ولكن لم [ لا ] يجوز القول بكون النفوس مركّبة من جوهرين مجرّدين أحدهما يجري مجرى المادة والآخر يجري مجرى الصورة؟ ونفي الجوهر المادّي لا يكفي في بقاء جوهر النفس.

ثمّ ينتقض ذلك بإمكان الحدوث ؛ فإنّه قد تحقّق هناك إمكان من دون مادّة قابلة فكذا إمكان الفساد.

المسألة العاشرة : في إبطال التناسخ.

قال : ( ولا تصير مبدأ صورة الآخر (١) ، وإلاّ لبطل ما أصّلناه من التعادل ).

أقول : قال بعض الحكماء المشّائين : « إنّ النفس الكاملة بتصوّر حقائق الأشياء وإدراك الاعتقادات البرهانيّة الجازمة المطابقة الثابتة إذا حصل لها التنزّه عن العلائق الجسمانيّة والهيئات الرديئة اتّصلت بعد مفارقة البدن بالعالم القدسي ، والنفس الناقصة بالتقصير إذا ظهر لها النقصان مع فوت سبب الكمال تكون في كلال ، والقاصرة كانت سالمة للبلاهة ؛ ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أكثر أهل الجنّة البله » (٢) و (٣).

قال شارح الهداية : « هذا هو المشهور بين الجمهور » (٤).

وقال أهل التناسخ (٥) : إنّما تبقى مجرّدة عن الأبدان النفوس الكاملة التي خرجت قوّتها إلى الفعل ولم يبق شيء من الكمالات الممكنة لها بالقوّة فصارت طاهرة عن جميع العلائق الجسمانيّة واتّصلت إلى عالم القدس. وأمّا النفوس الناقصة التي بقي

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي النسخة المطبوعة من « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » هكذا : « ولا يصير مبدأ صورة لآخر ... ».

(٢) « بحار الأنوار » ٥ : ١٢٨.

(٣) « الهداية الأثيرية » ضمن « شرح الهداية الأثيرية » : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٤) « شرح الهداية الأثيرية » : ٢٠٢.

(٥) لمزيد الاطّلاع عن الأقوال في التناسخ انظر : « شرح حكمة الإشراق » : ٤٧٦ ـ ٤٩٦ ؛ « الأسفار الأربعة » ٩ : ١ ـ ٥٦.

٣٥٨

شيء من كمالاتها الممكنة بالقوّة فإنّها تدور في الأبدان الإنسانيّة وتنقل من بدن إلى بدن آخر حتّى تبلغ النهاية فيما هو كمالها من علومها وأخلاقها ، وحينئذ تبقى مجرّدة ومطهّرة عن التعلّق بالأبدان ، ويسمّى هذا الانتقال نسخا.

وقيل : ربّما نزلت من بدن الإنسان إلى بدن حيوان يناسبه في الأوصاف كبدن الأسد للشجاع والأرنب للجبان ، ويسمّى مسخا.

وقيل : ربّما تنزّلت إلى الأجسام النباتيّة ، ويسمّى رسخا.

وقيل : إلى الجمادية ، كالمعادن والبسائط ، ويسمّى فسخا ، أو بالعكس في التسمية بالنسبة إلى الأخيرين.

وقد يقال : هي تتعلّق ببعض الأجرام السماويّة للاستكمال.

وبالجملة اختلف الناس هنا ، فذهب جماعة من العقلاء إلى جواز التناسخ في النفوس بأن تنتقل النفس التي كانت مبدأ صورة لزيد ـ مثلا ـ إلى بدن عمرو ، وتصير مبدأ صورة له ، ويكون بينهما من العلاقة كما كان بين البدن الأوّل وبينها.

وذهب أكثر العقلاء إلى بطلان هذا المذهب ، كما هو من قطعيّات المذهب. واختاره المصنّف أيضا ، واستدلّ عليه بأنّا قد بيّنّا أنّ النفوس حادثة ، وعلّة حدوثها قديمة ، فلا بدّ من حدوث استعداد وقت حدوثها ؛ ليتخصّص ذلك الوقت بالإيجاد فيه ، والاستعداد إنّما هو باعتبار القابل ، فإذا حدث وتمّ وجب حدوث النفس المتعلّقة به ، فإذا حدث بدن تعلّقت به نفس تحدث عن مبادئها ، فإذا انتقلت إليه نفس أخرى مستنسخة لزم اجتماع نفسين لبدن واحد ، وقد بيّنّا بطلانه ووجوب التعادل في الأبدان والنفوس حتّى لا توجد نفسان لبدن واحد وبالعكس.

المسألة الحادية عشرة : في كيفيّة تعقّل النفس وإدراكها.

قال : ( وتعقل بذاتها وتدرك بالآلات للامتياز بين المختلفين وضعا من غير استناد ).

٣٥٩

أقول : اعلم أنّ التعقّل هو إدراك الكلّيّات ، والإدراك هو الإحساس بالأمور الجزئيّة. وقد ذهب جماعة من القدماء إلى أنّ النفس تعقل الأمور الكلّيّة بذاتها من غير احتياج إلى آلة ، وتدرك الأمور الجزئيّة بواسطة قوى جسمانيّة هي محالّ الإدراكات (١) ، خلافا لمن قال : إنّ مدرك الجزئيّات على وجه كونها جزئيّات هو الحواسّ (٢).

والحكم الأوّل ظاهر ؛ فإنّا نعلم قطعا أنّا ندرك الأمور الكلّيّة مع اختلال كلّ عضو يتوهّم كونه آلة للتعقّل ، وقد سلف تحقيق ذلك.

وأمّا الحكم الثاني ـ وهو إدراك الجزئيّات مع افتقارها في الإدراك الجزئي إلى الآلات ـ فلأنّا نحكم بين الكلّيّ والجزئي ، والحاكم بين الشيئين لا بدّ أن يدركهما ، وأنّا نميّز بين الأمور المتّفقة بالماهيّة المختلفة بالوضع من غير استناد إلى خارج ، كما أنّا نفرّق بين العين اليمنى واليسرى من الصورة التي نتخيّلها ونميّز بينهما مع اتّحادهما في الحقيقة واختلافهما في الوضع ، فليس الامتياز بينهما بذاتيّ ولا بما يلزم الذات ؛ لغرض تساويهما ، بل لأمور عارضة.

ثمّ اختصاص كلّ واحدة منهما بعارضها ليس بالمحلّ الخارجي ؛ لأنّ المتخيّل قد لا يكون موجودا في الخارج ، فليس امتياز إحداهما بكونها يمنى والأخرى بكونها يسرى إلاّ بالمحلّ الإدراكي ، والمجرّد لا يصلح أن يكون محلاّ لذلك ، فتعيّنت الآلة الجسمانيّة.

__________________

(١) منهم الشيخ في « الشفاء » ٢ : ٢٧ و ٣٢ من كتاب النفس ، الفصل الرابع والخامس من المقالة الثانية ، و ٢ : ٥٠ ، الفصل الثاني من المقالة الثانية ، و ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة ، وانظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٠٨ وما بعدها.

(٢) نسبه الفخر الرازي إلى أرسطو وابن سينا في « المحصّل » : ٥٥٠ و « المطالب العالية » ٧ : ٢٤٧ ، ولكن الظاهر من كلمات الشيخ خلاف ذلك ، كما اعترف به في « المباحث المشرقية » ٢ : ٤٢٤. أما في « شرح المقاصد » ٣ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ، وفي هامش « شرح المنظومة من الحكمة » : ٢١٠ نقل المحقّق السبزواري هذا القول دون أن ينسبه إلى قائل.

٣٦٠