البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

وقد يقال : تقابل الإيجاب والسلب يسمّى بالتناقض ، سواء كان بين المفردات أو بين القضايا. ولكن لمّا لم يتعلّق غرض يعتدّ به بالتناقض بين المفردات ، خصّصوا نظرهم بالتناقض بين القضايا (١).

وتحقّق التناقض في المفردات لا يتوقّف على شرط ؛ فإنّ كلّ مفهوم دخل عليه حرف السلب يكون نقيضا للآخر من غير اشتراط بشرط ، بخلاف التناقض في القضايا ؛ فإنّه إنّما يتحقّق بثمانية شرائط :

الأوّل : وحدة الموضوع فيهما ، فلو قلنا : « زيد كاتب » « عمرو ليس بكاتب » لم يتناقضا وصدقا معا.

الثاني : وحدة المحمول ، فقولنا : « زيد كاتب » « زيد ليس بنجّار » لم يتناقضا ، وصدقا معا.

الثالث : وحدة الزمان ، فلو قلنا : « زيد موجود الآن » « زيد ليس بموجود أمس » أمكن صدقهما.

الرابع : وحدة المكان ، فلو قلنا : « زيد موجود في الدار » « زيد ليس بموجود في السوق » أمكن صدقهما.

الخامس : وحدة الإضافة ، فلو قلنا : « زيد أب لخالد » « زيد ليس بأب لعمرو » أمكن صدقهما.

السادس : وحدة الكلّ أو الجزء ، فلو قلنا : « الزنجي أسود » أي بعضه ، « الزنجي ليس بأسود » أي ليس كلّه ، كذلك أمكن صدقهما.

السابع : وحدة الشرط ، فلو قلنا : « الأسود قابض للبصر » أي بشرط السواد ، و « الأسود ليس بقابض للبصر » أي لا بشرط السواد ، أمكن صدقهما.

__________________

(١) نسبه القوشجي في « شرح عقائد التجريد » إلى بعض المحقّقين ، والظاهر أنّه الشريف الجرجاني في حاشيته على الشمسية. انظر في ذلك « شروح الشمسية » ٢ : ١١٧ ـ ١١٨.

٢٢١

الثامن : وحدة القوّة أو الفعل ، فلو قلنا : « الخمر مسكر بالقوّة » « الخمر ليس بمسكر بالفعل » لم يتناقضا ، وصدقا معا.

قال : ( هذا في القضايا الشخصيّة ، أمّا المحصورة فبشرط تاسع وهو الاختلاف فيه ؛ فإنّ الكلّيّة ضدّ ، والجزئيّتان صادقتان ).

أقول : اعلم أنّ القضيّة إمّا شخصيّة أو مسوّرة أو مهملة ؛ وذلك لأنّ الموضوع إن كان شخصيّا كزيد ، سمّيت القضيّة شخصيّة ، وإن كان كلّيّا صدق على كثيرين فإمّا أن يتعرّض للكلّيّة والجزئيّة فيه أو لا. والأوّل هو القضيّة المسوّرة ، كقولنا : « كلّ إنسان حيوان » و « بعض الحيوان إنسان » و « لا شيء من الإنسان بحجر » و « بعض الإنسان ليس بكاتب ». والثاني هو المهملة ، كقولنا : « الإنسان ضاحك » وهذه في قوّة الجزئيّة ، فالبحث عن الجزئية يغني عن البحث عنها.

إذا عرفت هذا ، فنقول : الشرائط الثمانيّة كافية في القضيّة الشخصيّة. فأمّا المحصورة فلا بدّ فيها من شرط تاسع وهو الاختلاف بالكمّ ؛ فإنّ الكلّيّتين متضادّتان لا تصدقان ، ويمكن كذبهما ، كقولنا : « كلّ حيوان إنسان » و « لا شيء من الحيوان بإنسان ». والجزئيّتان قد تصدقان ، كقولنا : « بعض الحيوان إنسان » و « بعض الحيوان ليس بإنسان ».

أمّا الكلّيّة والجزئيّة فلا يمكن صدقهما البتّة ولا كذبهما ، كقولنا : « كلّ إنسان حيوان » و « بعض الإنسان ليس بحيوان » فهما المتناقضان.

قال : ( وفي الموجّهات عاشر ، وهو الاختلاف في الجهة أيضا بحيث لا يمكن اجتماعهما صدقا وكذبا ).

أقول : المراد أنّه لا بدّ في القضايا الموجّهة من الاختلاف بالجهة بحيث لا يمكن صدقهما معا ولا كذبهما.

والمراد بالجهة كيفيّة النسبة من الضرورة والدوام والإمكان والإطلاق ؛ فإنّهما لو لم يختلفا في الجهة ، أمكن صدقهما أو كذبهما كالممكنتين ؛ فإنّهما تصدقان مع

٢٢٢

الشرائط التسعة ، كقولنا : « بعض الإنسان كاتب بالإمكان » و « لا شيء من الإنسان بكاتب بالإمكان » وكالضروريّتين ؛ فإنّهما تكذبان ، كقولنا : « بعض الإنسان كاتب بالضرورة » و « لا شيء من الإنسان بكاتب بالضرورة » وليس مطلق الاختلاف في الجهة كافيا في التناقض ما لم يكن اختلافا لا يمكن اجتماعهما معه ؛ فإنّ الممكنة والمطلقة المتخالفتين كمّا وكيفا لا تتناقضان.

وكذا المطلقة والدائمة في المادّة المذكورة.

ولكن لا يخفى أنّه إذا اعتبر في قضيّة جهة من الجهات كالضرورة والدوام والإمكان والإطلاق فلا بدّ أن يعتبر في نقيضها رفع تلك الجهة الشخصيّة ، فعلى هذا يتحقّق التناقض فيما ذكر إذا لوحظ في النفي الجهة الشخصيّة التي توجّه إليها الإثبات.

فالأولى أن يقال : إنّه يشترط في القضايا الموجّهة اتّحاد الجهة في حصول التناقض ، بمعنى أنّه إذا توجّه النفي ـ بعد تحقّق الوحدات الثمان ـ إلى ما توجّه إليه الإثبات ، لا يتحقّق التناقض إلاّ بوحدة الجهة الشخصيّة حقيقة أو حكما ، كما إذا كان الإثبات على وجه الضرورة المستلزمة للإمكان ، وكان النفي متوجّها إلى الإمكان ونحو ذلك.

ويشهد على ذلك أنّ العلماء يحكمون بانتفاء التناقض باختلاف الجهة التقييديّة الراجعة إلى اختلاف جهة النسبة في نحو الحكم بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة وعصيان المصلّي ، بواسطة أنّ الصلاة من جهة الماهيّة مطلوبة ومن جهة التشخّص غصب مبغوضة ؛ فإنّ ذلك راجع إلى القول بأنّ الصلاة مطلوبة بالضرورة بالذات ما دامت صلاة أو في وقت معيّن أو في وقت ما على سبيل الضروريّة المطلقة أو الضروريّة الوقتيّة أو الضروريّة المنتشرة ، وإلى القول بأنّ الصلاة مبغوضة ومحرّمة ما دامت مع التشخّص الغصبي بالضرورة أو بالدوام على سبيل المشروطة العامّة أو العرفيّة العامّة ، فبسبب اختلاف الجهة ارتفع التناقض.

٢٢٣

فلا بدّ من اشتراط وحدة الجهة الشخصيّة في تحقّق التناقض مضافا إلى الوحدات الثمان حتّى تكون الشرائط تسع وحدات مع الاختلاف في الكمّ والكيف.

قال : ( وإذا قيّد العدم بالملكة في القضايا سمّيت معدولة ، وهي تقابل الوجوديّة صدقا لا كذبا ؛ لإمكان عدم الموضوع ، فيصدق مقابلاهما ).

أقول : لمّا ذكر حكما من أحكام التناقض ، شرع في بيان حكم من أحكام تقابل العدم والملكة ، وهو أنّ العدم إذا اعتبر في القضايا ، سمّيت القضيّة معدولة ، وهي ما تأخّر فيها حرف السلب عن الربط ، كقولنا : « زيد هو ليس بكاتب ». ومثله ما كان محمولها مفهوما عدميّا وعبّر عنه بلفظ محصّل ، كقولنا : « زيد أعمى » أو « جاهل ».

وهي تقابل الوجوديّة التي هي عبارة عن الموجبة المحصّلة صدقا كقولنا : « زيد كاتب » و « زيد لا كاتب » ؛ لامتناع صدق الكتابة وعدمها على موضوع واحد في وقت واحد من جهة واحدة ، لا كذبا ، فيجوز كذبهما معا عند عدم الموضوع ؛ إذ الموجبة إنّما تصدق عند وجود الموضوع ، وإذا كذبتا حينئذ صدق مقابل كلّ واحدة منها ، فيصدق مقابل الموجبة المعدولة ، وهي السالبة المعدولة ، كقولنا : « زيد ليس بلا كاتب » مقابل الموجبة ، وهي السالبة المحصّلة ، كقولنا : « زيد ليس بكاتب » ؛ لإمكان صدق السلب في الصورتين عن الموضوع المعدوم.

قال : ( وقد يستلزم الموضوع أحد الضدّين بعينه أو لا بعينه ، أو لا يستلزم شيئا منهما عند الخلوّ أو الاتّصاف بالوسط ).

أقول : هذه أحكام التضادّ ، وهي أربعة :

الأوّل : أنّ أحد الضدّين بعينه قد يكون لازما للموضوع كبياض الثلج ، وقد لا يكون لازما ، فإمّا أن يكون أحدهما لا بعينه لازما للموضوع كالصحّة والمرض للبدن ، أو لا يكون. وعلى الثاني فإمّا أن يخلو عنهما معا كالفلك الخالي من الحرارة والبرودة ، والشفّاف الخالي عن السواد والبياض ، أو يتّصف بالوسط كالفاتر المتوسّط بين الحارّ والبارد.

٢٢٤

قال : ( ولا يعقل للواحد ضدّان ).

أقول : هذا حكم ثان للتضادّ ، وهو أنّه لا يعرض بالنسبة إلى شيء واحد إلاّ تضادّ الواحد ، فلا يضادّ الواحد الاثنين ؛ لأنّ الواحد إذا ضادّ اثنين فإمّا بجهة واحدة أو بجهتين ، فإن كان بجهة واحدة فهو المطلوب ، وهو أنّ ضدّ الواحد واحد ، وهو ذلك القدر المشترك بينهما. وإن كان بجهتين كان ذلك وجوها من التضادّ لا وجها واحدا وليس البحث فيه.

قال : ( وهو منفيّ عن الأجناس ).

أقول : هذا حكم ثالث للتضادّ ، وهو أنّه منفيّ عن الأجناس فلا تضادّ بينها ؛ للاستقراء المفيد لانحصار التضادّ بين الأنواع الأخيرة المندرجة تحت جنس واحد قريب كالسواد والبياض المندرجين تحت اللون الذي هو جنسهما القريب.

ولا ينتقض بالخير والشرّ ؛ لأنّهما ليسا جنسين لما تحتهما ؛ لأنّا قد نعقل ما يطلق عليه الخير والشرّ مع الذهول عن كونه خيرا وشرّا ، ولا ضدّين من حيث ذاتيهما ، بل تقابلهما من حيث الكماليّة والنقص.

قال : ( ومشروط في الأنواع باتّحاد الجنس ).

أقول : هذا حكم رابع للتضادّ العارض للأنواع ، وهو اندراج تلك الأنواع تحت جنس واحد أخير كالسواد والبياض المذكورين.

ولا ينتقض بالشجاعة والتهوّر ؛ لأنّ تقابلهما من حيث الفضيلة والرذيلة العارضتين ؛ لمثل ما مرّ.

قال : ( وجعل الجنس والفصل واحدا ).

أقول : الجنس والفصل في الخارج شيء واحد ؛ فإنّه لا يعقل حيوانيّة مطلقة موجودة بانفرادها انضمّت إليها الناطقيّة فصارت إنسانا ، بل الحيوانيّة في الخارج هي الناطقيّة ، فوجودهما واحد. وهذه قاعدة قد مضى تقريرها.

والذي يخطر لنا أنّ الغرض بذكرها هاهنا الجواب عن إشكال يورد على

٢٢٥

اشتراط دخول الضدّين تحت جنس واحد.

وتقريره : أنّ كلّ واحد من الضدّين قد اشتمل على جنس وفصل ، والجنس لا يقع به تضادّ ، لأنّه واحد فيهما ، فإن وقع تضادّ فإنّما يقع بالفصول ، لكنّ الفصل لا يجب اندراجه تحت جنس واحد ، وإلاّ لزم التسلسل ، فلا تضادّ حقيقيّ في النوعين ، بل في الفصلين اللّذين لا يجب دخولهما تحت جنس واحد ، فلا وجه لاشتراط اندراج الأنواع المتضادّة تحت جنس واحد.

وتقرير الجواب : أنّ الفصل والجنس واحد في الأعيان ، وإنّما يتميّزان في العقل ، فجعلهما واحدا هو جعل النوع ، فكان التضادّ عارضا في الحقيقة للأنواع لا للفصول الاعتباريّة ؛ لأنّ التضادّ إنّما هو في الوجود لا في الأمور الاعتباريّة.

فهذا ما فهمته من هذا الكلام. ولعلّ غيري يفهم منه غير ذلك.

والإيراد بأنّ التضادّ كثيرا ما يكون بين الأمور الاعتباريّة كمفهومي الجنسيّة والفصليّة ، فإنّهما متضادّان مع أنّهما من ثواني المعقولات. ولو سلّم أنّ التضادّ لا يكون إلاّ بين الأمور الموجودة في الأعيان ، فلا شكّ أنّ وجود النوع في الأعيان إنّما هو بمعنى أنّ في الأعيان أمرا يطابقه ، وكلّ من الجنس والفصل أيضا موجود بهذا المعنى في الأعيان (١) غير وارد بعد اعتبار الوجود في التضادّ ، كما مرّ.

ووجود النوع ليس بالمعنى المذكور ؛ لأنّ الحقّ وجود الكلّيّ الطبيعيّ حقيقة بسبب وجود أشخاصه ؛ لما مرّ.

وأمّا الأجزاء العقليّة فهي اعتباريّة سيّما عند المصنّف ، كما سبق.

__________________

(١) ذكره القوشجي في « شرح عقائد التجريد » : ١١٢.

٢٢٦

[ الفصل الثالث : في العلّة والمعلول ]

قال : ( الفصل الثالث : في العلّة والمعلول. كلّ شيء يصدر عنه أمر إمّا بالاستقلال أو بالانضمام فإنّه علّة لذلك الأمر ، والأمر معلول له ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الماهيّة ، شرع في البحث عن العلّة والمعلول ؛ لأنّهما من لواحق الماهيّة وعوارضها ، وهما من الأمور العامّة أيضا ، والعلّيّة والمعلوليّة من المعقولات الثانية ومن أنواع المضاف.

وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى : في تعريف العلّة والمعلول ، وهما وإن كانا من المتصوّرات القطعيّة لكن قد يعرض اشتباه ما ، فنذكر على سبيل التنبيه والتميز ما يزيل ذلك الاشتباه ، فنقول : إذا فرضنا صدور شيء عن غيره ، كان الصادر معلولا ، وما يصدر عنه ذلك المصادر علّة ، سواء كان الصدور على سبيل الاستقلال كما في العلل التامّة ، أو على سبيل الانضمام كجزء العلّة ، فإنّ جزء العلّة شيء يصدر عنه أمر آخر لكن لا على سبيل الاستقلال ، وهو داخل في الحدّ. بل الصدور على سبيل الانضمام يمكن أن يكون أعمّ من الصدور المستند إلى جزء العلّة والصدور المستند إلى المادّة والصورة والغاية المتقدّمة في التصوّر التي لا يصدر الشيء عن الفاعل المختار إلاّ بسبب تصوّرها.

فلا يرد أنّ التعريف لا يصدق على غير العلّة الفاعليّة من العلل ، فلا يصحّ تقسيم

٢٢٧

العلّة إلى الأقسام الأربعة (١).

المسألة الثانية : في أقسام العلّة.

قال : ( وهي فاعليّة ومادّيّة وصوريّة وغائيّة ).

أقول : العلّة ما يحتاج الشيء إليه في وجوده ، وهي إمّا أن تكون جزءا من المعلول أو خارجة عنه.

والأوّل إمّا أن يكون جزءا يحصل به الشيء بالفعل أو بالقوّة ، الأوّل الصورة ، والثاني المادّة.

وإن كانت خارجة ، فإمّا أن تكون مؤثّرة ؛ لكونها ما منه الشيء ، أو يقف التأثير عليها ؛ لكونها ما لأجله الشيء. والأوّل فاعل ، والثاني غاية.

والفاعل إن كان مع شعور وإرادة ـ بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك ـ يسمّى فاعلا مختارا ، وإلاّ فمضطرّا وموجبا.

وإفادته الوجود قد تتوقّف على وجود شيء أو عدم شيء أو عليهما ، والأوّل يسمّى شرطا ، والثاني رفعا للمانع ، والثالث معدّا.

والعلّة إن لم تحتج إلى غيرها ـ لكفاية ذاتها ـ تسمّى علّة مستقلّة ، وإن لم تحتج إلى أمر آخر ـ لحصول جميع ما يتوقّف المعلول عليه ـ تسمّى علّة تامّة ، وعند ذلك يكون وجود المعلول واجبا كما سيأتي ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة ؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح من اختيار الوقت الآخر على ذلك الوقت.

نعم ، الفاعل إن كان مختارا ولم تتعلّق الإرادة بمصلحة كما في إيجاد الله العالم لا بدّ من التأخّر ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الإيراد للمحقّق الشريف على ما نقل عنه اللاهيجي في « شوارق الإلهام » المسألة الأولى من الفصل الثالث ، وأورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١١٢.

٢٢٨

المسألة الثالثة : في أحكام العلّة الفاعليّة.

قال : ( فالفاعل مبدأ التأثير ، وعند وجوده بجميع جهات التأثير يجب وجود المعلول ).

أقول : الفاعل هو المؤثّر ، والغاية ما لأجله الأثر ، والمادّة والصورة جزءاه. وإذا وجد المؤثّر بجميع جهات التأثير كان علّة تامّة ، ووجب وجود المعلول ؛ لأنّه لو لم يجب لجاز وجود الأثر عند وجود الجهات بأجمعها وعدمه ، فتخصيص وقت الوجود به مع وجود الإرادة في الزمانين إمّا أن يكون لأمر زائد لم يكن في الزمان الآخر موجودا أو لا يكون ، فإن كان الأوّل لم يكن المؤثّر المفروض أوّلا تامّا ، هذا خلف. وإن كان الثاني لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح ، وهو محال.

قال : ( ولا يجب مقارنة العدم ).

أقول : ذهب قوم إلى أنّ التأثير إنّما يكون لما سبق بالعدم.

وهو على الإطلاق غير سديد ، بل المؤثّر إن كان مختارا وجب فيه ذلك ؛ لأنّ المختار إنّما يفعل بواسطة القصد ، وهو إنّما يتوجّه إلى شيء معدوم. وإن كان موجبا لم يجب فيه ذلك ؛ لجواز استناد القديم إلى المؤثّر. فاستناد الحادث إلى القديم جائز ؛ لتوقّف التأثير على شرط حادث كتعلّق الإرادة ، فالتقدّم لذات الفاعل ، لا للفاعل المستجمع لجميع جهات التأثير ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، بل يجب تحقّق الإيجاد ووجود المعلول حينئذ في آن واحد.

قال : ( ولا يجوز بقاء المعلول بعده وإن جاز في المعدّ ).

أقول : ذهب قوم (١) غير محقّقين ـ كما حكي (٢) ـ إلى أنّ احتياج الأثر إلى المؤثّر

__________________

(١) نسبه في « الإشارات والتنبيهات » إلى الأوهام العاميّة ، وفي « شرح الإشارات والتنبيهات » إلى الجمهور ، وفي « المحاكمات » إلى قوم من المتكلّمين. انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٦٧ ـ ٦٨.

(٢) حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : ١١٥.

٢٢٩

وإنّما هو آن حدوثه ، فإذا أوجد الفاعل الفعل استغنى الفعل عنه ، فجاز بقاؤه بعده ، وتمثّلوا في ذلك بالبناء الباقي بعد البنّاء وغيره من الآثار.

وهو خطأ ؛ لأنّ علّة الحاجة ـ وهي الإمكان ـ ثابتة بعد الإيجاد ، فثبتت الحاجة. والبنّاء ليس علّة مؤثّرة في وجود البناء الباقي ، وإنّما حركته علّة لحركة الأحجار ووضعها على نسبة معيّنة ، ثمّ بقاء الشكل معلول لأمر آخر. هذا في العلل الفاعليّة.

أمّا العلل المعدّة فإنّها تعدم وإن كان معلولاتها موجودة كالحركة المعدّة للوصول وللحرارة.

قال : ( ومع وحدته يتّحد المعلول ).

أقول : هذا إشارة إلى قاعدة مشهورة بين الحكماء ، وهي : « أنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد » (١).

والمراد أنّ المؤثّر إن كان مختارا جاز أن يتكثّر أثره مع وحدته ، كتعدّد إرادته.

وإن كان موجبا فذهب الأكثر ـ خلافا لأكثر المتكلّمين (٢) ـ إلى استحالة تكثّر معلوله باعتبار واحد.

وأقوى حججهم أنّ نسبة المؤثّر إلى أحد الأثرين ومصدريّته له مغايرة لنسبته إلى آخر ، فإن كان كلّ واحد منهما نفس الواحد الحقيقي كان لأمر واحد حقيقتان مختلفتان.

وإن كانت النسبتان جزئيّة كان مركّبا ، فلم يكن ما فرضناه واحدا واحدا. وإن خرجا أو خرج أحدهما ، كانت المصدريّة الخارجة مستندة إلى ذلك الواحد المؤثّر ، وإلاّ لم يكن هو مصدرا ومؤثّرا ، فننقل الكلام إلى مصدريّة المصدريّة ، فيلزم التسلسل.

وهي عندي ضعيفة ؛ لأنّ نسبة التأثير والصدور يستحيل أن تكون وجوديّة ،

__________________

(١) انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٢٢ ؛ « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٢٥.

(٢) « شرح المقاصد » ٢ : ٨٧ وما بعدها ؛ « شرح المواقف » ٤ : ١٢٣ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ١١٧.

٢٣٠

وإلاّ لزم التسلسل.

وإذا كانت من الأمور الاعتباريّة استحالت هذه القسمة عليها ، مضافا إلى النقض بصدور شيء واحد ؛ لأنّ مصدريّته لذلك الشيء أمر مغاير له ، لكونها نسبة بينه وبين غيره ، فهي إمّا داخلة أو خارجة ، فعلى الأوّل يلزم تركّبه ، وعلى الثاني يلزم التسلسل ، مع أنّ التعدّد المنفيّ لازم لو كانت المصدريّة وجوديّة.

قال : ( ثمّ تعرض الكثرة باعتبار كثرة الإضافات ).

أقول : لمّا بيّن أنّ العلّة الواحدة لا يصدر عنها إلاّ معلول واحد ، أشار إلى جواب استدلال المتكلّمين ، وهو أنّه لو لم يصدر عن الواحد إلاّ الواحد ، لما صدر عن المعلول الأوّل إلاّ واحد هو الثاني وعنه واحد هو الثالث وهلمّ جرّا ، فتكون الموجودات سلسلة واحدة ولم يوجد شيئان يستغني أحدهما عن الآخر في الوجود.

وتقرير الجواب : أنّ ذلك لازم لو لم يكن في المعلول مع وحدته كثرة الجهات والاعتبارات ، ولكن فيه كثرة الإضافات ؛ فإنّ له وجودا ووجوبا بالغير وإمكانا بالذات ونحو ذلك من الاعتبارات ، ولهذا يقال : إنّ العقل الأوّل باعتبار التجرّد أثّر في العقل الثاني وباعتبار الإمكان في الفلك الأعظم وهكذا غيره.

وأورد عليه : بأنّ هذه كلّها اعتبارات عقليّة لا تصلح أن تكون علّة للأعيان الخارجيّة ، وإلاّ فذات الواجب تعالى يصلح أن يجعل مبدأ للممكنات باعتبار كثرة السلوب والإضافات (١).

والحقّ أنّ الحقّ فاعل مختار يوجد الأشياء بالمشيّة المتعلّقة بإيجاد الممكنات.

قال : ( وهذا الحكم ينعكس على نفسه ).

أقول : يريد بذلك أنّه مع وحدة المعلول تتّحد العلّة ، وهو عكس الحكم الأوّل ، فلا يجتمع على الأثر الواحد مؤثّران مستقلاّن ، بمعنى عدم جواز توارد العلّتين

__________________

(١) هذا الإيراد أورده الفخر الرازي في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٤٨ وما بعدها ، ونقله عنه التفتازاني في « شرح المقاصد » ٢ : ١٠٢ والقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١١٩.

٢٣١

المستقلّتين في معلول واحد شخصي ، لأنّه بكلّ واحد منهما واجب مستغن عن الآخر ، فيكون حال حاجته إليهما من جهة العلّيّة مستغنيا عنهما ؛ لكون كلّ منهما مستقلاّ بالعلّيّة ، هذا خلف.

قال : ( وفي الوحدة النوعيّة لا عكس ).

أقول : إذا كانت العلّة واحدة بالنوع كان المعلول كذلك ، ولا يجب من كون المعلول واحدا بالنوع كون العلّة كذلك ؛ فإنّ الأشياء المختلفة تشترك في لازم واحد ، كاشتراك الحركة والشمس والنار في الحرارة ؛ لأنّ المعلول يحتاج إلى مطلق العلّة ، وتعيين العلّة [ جاء ] (١) من جانب العلّة لا المعلول.

قال : ( والنسبتان من ثواني المعقولات ، وبينهما مقابلة التضايف ).

أقول : يعني أنّ نسبة العلّيّة والمعلوليّة من المعقولات الثانية ؛ لاستحالة وجود شيء في الأعيان ، وهو مجرّد علّيّة أو معلوليّة وإن كان معروضهما موجودا وبينهما مقابلة التضايف ؛ فإنّ العلّة علّة للمعلول ، والمعلول معلول للعلّة.

وقد نبّه بقوله : « وبينهما مقابلة التضايف » على امتناع كون الشيء الواحد بالنسبة إلى شيء واحد علّة ومعلولا ، وهو الدور المحال ؛ لأنّ كونه علّة يقتضي الاستغناء والتقدّم ، وكونه معلولا يقتضي الحاجة والتأخّر ، فيكون الشيء الواحد مستغنيا عن الشيء الواحد متقدّما عليه ومحتاجا إليه ومتأخّرا عنه ، وهذا خلف.

قال : ( وقد يجتمعان في الشيء الواحد بالنسبة إلى أمرين لا يتعاكسان فيهما ).

أقول : قد تجتمع نسبة العلّيّة والمعلوليّة في الشيء الواحد بالنسبة إلى أمرين ، فيكون علّة لأحد الشيئين ومعلولا للآخر ، كالعلّة المتوسّطة فإنّها معلولة للعلّة الأولى وعلّة للمعلول الأخير ، لكن بشرط أن لا يكون ذانك الأمران يتعاكسان في النسبتين ، بأن تكون العلّة الأولى معلولة للمعلول الأخير والمعلول الأخير علّة لها ، وإلاّ عاد الدور المحال ؛ لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه أو تأخّره عنها بمرتبتين

__________________

(١) الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : ١١٧.

٢٣٢

أو بمراتب.

فإن قلت : نمنع بطلان الدور مطلقا ، لجواز الدور المعيّ في مثل قيام اللبنتين المعتمدة كلّ واحدة على قيام الأخرى.

قلت : علّة بطلان الدور التقدّمي ـ وهو توقّف الشيء على نفسه ـ موجودة في المعيّ ، وأمّا توقّف قيام كلّ من اللبنتين على قيام أخرى فهو صوريّ لا واقعي ؛ فإنّ كلّ واحد من القيامين معلول لعلّة ثالثة وهي اتّصال اللبنتين على الوجه المخصوص ، بمعنى علّيّة العرض لعرض آخر لا للجوهر.

وأمّا توقّف كلّ من المتضايفين كالأبوّة والبنوّة في الوجود الذهني على الآخر ففيه منع توقّف كلّ من العرضين على نفس العرض الآخر ، بل كلّ منهما متوقّف في التعقّل على محلّ الآخر ؛ فإنّ الأبوّة عبارة عن كون الشخص والدا لشخص آخر لا للابن ، فهي موقوفة على معرفة ذات الابن لا على الذات مع وصف البنوّة ، والبنوّة عبارة عن كون الشخص ابنا وولدا لشخص آخر لا للأب.

وبالجملة ، فبطلان الدور بأقسامه ـ من المصرّح الخارجي والذهني والمضمر كذلك ولو كان معيّا ـ ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه.

مضافا إلى أنّ الدور المعيّ لو سلّم عدم بطلانه فإنّما يصحّ فيما يتعلّق بآثار الوجود ، كقيام اللبنتين الموجودتين ، وأمّا ما يتعلّق بنفس الوجود فلا ؛ لامتناع تأثير المعدوم كما لا يخفى ، والدور في سلسلة الممكنات بالنسبة إلى وجودها من قبيل الأخير ، فيكون باطلا.

المسألة الرابعة : في إبطال التسلسل.

قال : ( ولا يترقّى معروضاهما في سلسلة واحدة إلى غير نهاية ؛ لأنّ كلّ واحد منهما ممتنع الحصول بدون علّة واجبة ، لكنّ الواجب بالغير ممتنع (١) أيضا ، فيجب

__________________

(١) أي عند عدم علّته. ( منه رحمه‌الله ).

٢٣٣

وجود علّة واجبة (١) لذاتها هي طرف السلسلة ).

أقول : لمّا أبطل الدور شرع في إبطال التسلسل ، وهو وجود علل ومعلولات في سلسلة واحدة غير متناهية.

ونبّه على الدعوى بقوله : « ولا يترقّى معروضاهما » بمعنى معروض العلّيّة والمعلوليّة في سلسلة واحدة إلى غير النهاية.

واحتجّ عليه بوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ كلّ واحد من تلك الجملة ممكن ، وكلّ ممكن ممتنع حصوله بدون علّته الواجبة ، فكلّ واحد من تلك الآحاد يمتنع حصوله بدون علّته الواجبة.

ثمّ تلك العلّة الواجبة إن كانت واجبة لذاتها فهو المطلوب ؛ لانقطاع السلسلة حينئذ.

وإن كانت واجبة بغيرها كانت ممكنة لذاتها ، فكانت مشاركة لباقي الممكنات في امتناع الوجود بدون العلّة الواجبة ، فيجب وجود علّة واجبة لذاتها هي طرف السلسلة ، وتكون السلسلة به منقطعة.

وفي هذا الوجه عندي نظر ؛ فإنّ من جوّز ذهاب سلسلة الممكنات إلى غير النهاية يقول بكون كلّ واحد منها واجبا بالغير من غير أن ينتهي إلى واجب لذاته.

ودعوى أنّه لا بدّ من وجود علّة واجبة لذاتها مصادرة ، فلا بدّ من البرهان كالتطبيق.

قال : ( وللتطبيق بين جملة قد فصل منها آحاد متناهية وأخرى لم يفصل منها ).

__________________

(١) قال في الشوارق : « هذا إشارة إلى طريقة مخترعة له مشهورة عنه ، وهي أنّ الممكن لا يجب لذاته ، وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود لذاته ، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنة لما كان في الوجود موجود ، فلا بدّ من واجب لذاته ، فقد ثبت واجب الوجود ».

وهذه طريقة حسنة مستقيمة خفيفة المئونة مبنيّة على أنّ الشيء ما لم يجب ولم يمتنع جميع أنحاء عدمه لم يوجد ، فتأمّل. ( منه رحمه‌الله ).

انظر : « شوارق الإلهام » المسألة الثالثة من الفصل الثالث ، وقد نقل العبارة بشيء من الاختصار.

٢٣٤

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالّة على امتناع التسلسل ، وهو المسمّى بـ « برهان التطبيق » وهو برهان مشهور.

وتقريره : أنّا إذا أخذنا جملة العلل والمعلولات إلى ما لا يتناهى ، ووضعناها جملة ، ثمّ قطعنا منها جملة متناهية ، ثمّ أطبقنا إحدى الجملتين بالأخرى بحيث يكون كلّ واحد من آحاد الجملة الناقصة بإزاء واحد من آحاد الجملة التامّة ولو بعد فرض وقوع الآحاد وترتّبها وملاحظتها إجمالا ، فإن استمرّتا إلى ما لا يتناهى ، كانت الجملة الزائدة مثل الناقصة ، فيلزم تساوي الزائد والناقص ، وهذا خلف.

وإن انقطعت الناقصة تناهت ، فيلزم تناهي الزائدة ؛ لأنّ ما زاد على المتناهي بمقدار متناه فهو متناه ، فيلزم تناهي ما لا يتناهى وهو محال ، فالتسلسل محال.

قال : ( ولأنّ التطبيق باعتبار النسبتين ـ حيث يتعدّد كلّ واحد منهما باعتبارهما ـ يوجب تناهيهما ؛ لوجوب ازدياد إحدى النسبتين على الأخرى من حيث السبق ).

أقول : هذا برهان ثالث يسمّى ببرهان التضايف راجع إلى الثاني ـ وهو برهان التطبيق ـ لكن على نحو آخر استخرجه المصنّف رحمه‌الله ، مغاير للنحو الذي ذكره القدماء.

وتقريره : أنّ العلّيّة والمعلوليّة متضايفتان لا تتحقّق إحداهما بدون الأخرى ، فبعد قطع النظر عن المعلول المحض في المنتهى والعلّة المحضة في المبدأ إذا فرضنا العلل والمعلولات سلسلة واحدة غير متناهية تكون كلّ واحدة من تلك السلسلة علّة باعتبار ومعلولا باعتبار ، فتصدق عليه النسبتان باعتبارين ، ويحصل له التعدّد باعتبار النسبتين ، فإنّ الواحد من تلك السلسلة من حيث إنّه علّة مغاير له من حيث إنّه معلول. فإذا أطبقنا كلّ ما صدق عليه نسبة المعلوليّة على كلّ ما صدق عليه نسبة العلّيّة بأن اعتبرت هذه السلسلة من حيث إنّ كلّ واحد منها علّة تارة ومن حيث إنّ كلّ واحد منها معلول أخرى كانت العلل والمعلولات المتباينتان بالاعتبار متطابقتين في الوجود ، ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهّم تطبيق ، فتكون هناك علّة متقدّمة على

٢٣٥

جميع المنطبقات لم ينطبق عليها شيء من أفراد المعلولات ، وإلاّ يلزم أن ينطبق معلول من تلك المعلولات على علّة ، فلا تكون متقدّمة عليه ، بل واقعة في مرتبته ، وهو باطل بالضرورة. فحينئذ يجب كون العلل أكثر من المعلولات من حيث إنّ العلل سابقة على المعلولات في طرف المبدأ بواحدة ، فإذن المعلولات قد انقطعت قبل انقطاع العلل ، والعلل الزائدة عليها إنّما زادت بمقدار متناه ، فتكون الجملتان متناهيتين.

قال : ( ولأنّ المؤثّر في المجموع إن كان بعض أجزائه كان الشيء مؤثّرا في نفسه وعلله ، ولأنّ المجموع له علّة تامّة ، وكلّ جزء ليس علّة تامّة ؛ إذ الجملة لا تجب به ، وكيف تجب الجملة بشيء وهو محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة!؟ ).

أقول : هذا برهان رابع على إبطال التسلسل.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا جملة مترتّبة على علل ومعلولات إلى ما لا يتناهى ، فتلك الجملة ـ من حيث هي جملة ـ ممكنة موجودة ؛ لتركّبها من الآحاد الممكنة الموجودة ، وكلّ ممكن له مؤثّر ، فتلك الجملة لها مؤثّر. فإمّا أن يكون ذلك المؤثّر هو نفس تلك الجملة ، وهو محال ؛ لاستحالة كون الشيء مؤثّرا في نفسه. وإمّا أن يكون خارجا عنها ، والخارج عن جملة الممكنات واجب فينقطع التسلسل. وإمّا أن يكون جزءا من تلك الجملة وهذا محال ، وإلاّ لزم كون الشيء مؤثّرا في نفسه وفي علله التي لا تتناهى ، وذلك من أعظم المحالات.

وأيضا فإنّ المجموع لا بدّ له من علّة تامّة ، وكلّ جزء ليس علّة تامّة ؛ إذ الجملة لا تجب به ، وكيف تجب الجملة بجزء من أجزائها وذلك الجزء محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة!؟

المسألة الخامسة : في متابعة المعلول للعلّة في الوجود والعدم.

قال : ( وتتكافأ النسبتان في طرفي النقيض ).

٢٣٦

أقول : الذي يفهم من هذا الكلام أنّ نسبة العلّيّة مكافئة لنسبة المعلوليّة في طرفي الوجود والعدم بالنسبة إلى معروضيهما ، على معنى أنّ نسبة العلّيّة إذا صدقت على معروض ثبوتي كانت نسبة المعلوليّة صادقة على معروض ثبوتي ، وبالعكس. وإذا صدقت نسبة العلّيّة على معروض عدميّ صدقت نسبة المعلولية على معروض عدميّ ، وبالعكس.

وهذا معنى تكافئهما في طرفي النقيض ، أي الوجود والعدم.

وذلك يتمّ بتقرير مقدّمة هي أنّ عدم المعلول إنّما يستند إلى عدم العلّة لا غير.

وبيانه : أنّ عدم المعلول لا يستند إلى ذاته ، وإلاّ لكان ممتنعا لذاته ، وهذا خلف ؛ بل لا بدّ له من علّة إمّا وجوديّة أو عدميّة ، والأوّل باطل بناء على أنّ تأثير الوجودي في العدمي لا يجوز ، وإلاّ لكان عدم الوجودي علّة فاعليّة لعدم العدمي الذي هو وجوديّ ، وهذا خلف.

والإيراد بأنّ الوجودي الذي هو علّة فاعليّة للعدمي يجوز أن يكون هو الواجب تعالى ، ولا يتصوّر له عدم حتّى يلزم أن يكون علّة للوجودي (١) يمكن دفعه بكفاية امتناع كون الوجودي الممكن علّة للعدمي لما مرّ ؛ لامتناع تأثير الواجب في العدم الأزلي الحاصل إلاّ باعتبار استمراره.

ولكن يرد عليه : أنّ الواجب تعالى قادر مختار ، قد فسّرت القدرة والاختيار بكون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك ؛ فإنّ الترك أسند إلى المشيئة الوجوديّة ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مشيّئة الترك من جهة المفسدة الراجعة إلى العدم.

وقد يستدلّ على بطلان كون الوجودي علّة للعدمي بأنّه عند وجود تلك العلّة الوجوديّة إن لم يختلّ شيء من أجزاء تلك العلّة المقتضية لوجود المعلول ولا من شرائطها لزم وجود المعلول ؛ نظرا إلى تحقّق العلّة التامّة. وإن اختلّ شيء من ذلك

__________________

(١) أورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١٢٦.

٢٣٧

لزم عدم المعلول ، فيكون عدم المعلول مستندا إلى ذلك العدم لا غير (١).

وفيه نظر ظاهر.

وبالجملة ، فإذا تقرّرت هذه المقدّمة فنقول : العلّة الوجوديّة يجب أن يكون معلولها وجوديّا ، لأنّه لو كان عدميّا لكان مستندا إلى عدم علّته ـ على ما قلنا ـ لا إلى وجود هذه العلّة ، والمعلول الوجودي يستند إلى العلّة الوجوديّة لا إلى العدميّة ؛ لأنّ تأثير المعدوم في الوجود غير معقول.

المسألة السادسة : في أنّ القابل لا يكون فاعلا.

قال : ( والقبول والفعل متنافيان مع اتّحاد النسبة ؛ لتنافي لازميهما ).

أقول : قال الحكماء بأنّ البسيط الحقيقي الذي لا تعدّد فيه أصلا ـ كالواجب تعالى ـ لا يكون مصدرا لأثر وقابلا له (٢) ، وبنوا على ذلك امتناع اتّصاف الواجب تعالى بصفات حقيقيّة زائدة على ذاته كما يقول الأشاعرة (٣).

واستدلّوا على ذلك : بأنّ القبول والفعل متنافيان ، يعني لا يجتمعان بل يتنافيان ، لكن مع اتّحاد النسبة ، يعني أن يكون الفاعل الذي تقع نسبة الفعل إليه [ هو ] بعينه القابل الذي تقع نسبة القبول إليه ؛ لتنافي لازميهما ، وهما الإمكان والوجوب ؛ وذلك لأنّ نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان ؛ لعدم وجوب وجود المقبول عند وجود القابل ، ونسبة الفاعل إلى المفعول نسبة الوجوب بوجوب وجود المفعول عند وجود الفاعل عند استقلاله ووجود شرائط التأثير وارتفاع موانعه ، فلو كان الشيء الواحد مقبولا لشيء ومعلولا له أيضا ، لزم أن تكون نسبة ذلك الشيء إلى فاعله بالوجوب

__________________

(١) انظر : « كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد » : ١٢٠.

(٢) لمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « المباحث المشرقيّة » ١ : ٢٣٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ١٠٤ ؛ « شرح المواقف » ٤ : ١٣٣ ؛ « الأسفار الأربعة » ٢ : ١٧٦.

(٣) انظر : « شرح المقاصد » : ٤ : ٦٩ وما بعدها ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٠٤ وما بعدها.

٢٣٨

والإمكان ، وهذا خلف.

المسألة السابعة : في نسبة العلّة إلى المعلول.

قال : ( وتجب المخالفة بين العلّة والمعلول إن كان المعلول محتاجا لذاته إلى تلك العلّة ، وإلاّ فلا ).

أقول : العلّة إن كان معلولها محتاجا لماهيّته إليها وجب كونه مخالفا لها ؛ لاستحالة تأثير الشيء في نفسه ، وإن كانت علّة لشخصه كتعليل إحدى النارين بالأخرى ، فإنّ المعلول لا يجب أن يكون مخالفا للعلّة في الماهيّة ، ولا يكون أقوى منها ، ولا يساويها عند فوات شرط أو حضور مانع ، ويساويها لا مع ذلك ، بل قد يزيد عند ازدياد المعدّ ، كما لا يخفى.

بيان ذلك : أنّ المعلوليّة من بين الأقسام الثلاثة للمفهوم منحصرة في الممكن ؛ لاستناد الوجود في الواجب والعدم في الممتنع إلى الذات ، فلا يصحّ الاستناد إلى الغير لئلاّ يلزم تحصيل الحاصل ، بخلاف الممكن فإنّ ذاته من حيث هي لا تقتضي شيئا من الوجود والعدم ، فلا بدّ من الاستناد إلى الغير المستلزم للمعلوليّة ؛ لئلاّ يلزم الترجّح بلا مرجّح أو الترجيح بلا مرجّح ، الباطل بديهة ، ولا بدّ من خصوصيّة بين العلّة وذلك المعلول ؛ لئلاّ يلزم الترجيح بلا مرجّح بالنسبة إلى سائر الممكنات ؛ لتساوي نسبتها إلى الجميع ، وهو باطل حتّى في الواجب ؛ لعدم كفاية الإرادة ؛ لأنّ تعلّقها بأحد المتساويين بدون المرجّح باطل عندهم.

ومايقال : من أنّ المحال هو الترجيح بلا مرجّح ، بمعنى جعل أحد المتساويين راجحا من غير مرجّح أو الترجيح بدون المرجّح والدّاعي المطلق ، لا الترجيح بمعنى اختيار أحد المتساويين أو الترجيح بالمرجّح المساوي أو المرجوح ؛ لجواز اختيار الفاعل المختار أحد المرجّحين ولو كان مرجوحا ، فيفعل أحد الشيئين بسبب ذلك المرجّح ، كما في تأخير الصلاة عن أوّل الأوقات مع رجحانه بالاشتغال بالمباحات ،

٢٣٩

وكذا ارتكاب المحرّمات وترك الواجبات ، فالوقوع شرعا كاشف عن الجواز عقلا (١).

فمدفوع بأنّ المعيار في الرجحان هو نظر الفاعل لا نفس الأمر ، ومثل ما ذكر راجح عند الفاعل وإن كان مرجوحا في نفس الأمر.

وأيضا ففي الإنسان مبادئ الأفعال كالشهوة للشهويّة ، والغضب للغضبيّة ، والعقل للعقليّة ، والوهم للوهميّة إلى غير ذلك ، فهو من حيث هو عاقل فاعل ، ومن حيث هو متوهّم فاعل آخر وهكذا. فتأخير الصلاة ـ مثلا ـ وإن كان مرجوحا من حيث هو عاقل إلاّ أنّه راجح من حيث هو متوهّم ، وطالب اللذّة الوهميّة من حيث هو كذلك ، وهكذا غيره لذلك أو لغيره كطلب الشهوة والغضب.

ومن جوّز الترجيح بلا مرجّح ـ كالأشاعرة ـ تمسّك برغيفي الجائع ، وطريقي الهارب ، وقدحي العطشان.

وأجيب : بأنّ المعتبر في التساوي والرجحان ما يكون عند الفاعل من حيث هو فاعل حين الشروع في الفعل ، لا ما يكون عند غيره أو في نفس الأمر أو عنده في غير وقت الشروع.

والتساوي المذكور فيما ذكر ممنوع ، مع أنّ نحو الهارب مضطرّ لا مختار.

والإنصاف أنّ الترجيح بلا مرجّح ـ بمعنى اختيار أحد المتساويين بلا مرجّح ـ لم يثبت قبحه وامتناعه عقلا ونقلا.

المسألة الثامنة : في أنّ مصاحب العلّة ليس بعلّة ، وكذا مصاحب المعلول ليس معلولا.

قال : ( ولا يجب صدق إحدى النسبتين على المصاحب ).

أقول : يعني به أنّ نسبة العلّيّة لا يجب صدقها على ما يصاحب العلّة ويلازمها ؛

__________________

(١) لم نعثر على قائل له بالخصوص ، وذكره التفتازاني في « شرح المقاصد » ١ : ٤٨٢.

٢٤٠