البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

ظاهر محسوس ، فإنّ البياض في الثلج أشدّ من البياض في العاج ، وضوء الشمس أشدّ من ضوء القمر.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الشديد في كلّ نوع مخالف للضعيف منه ومباين بالنوع ؛ لكون كلّ منهما موجودا مستقلاّ لا مترتّبا ومتفرّعا على الآخر ، والمميّز جوهريّ لا عرضيّ ، فيكونان نوعين متباينين وإن احتمل كونهما صنفين متباينين أيضا.

وذهب قوم إلى أنّ سبب الشدّة والضعف ليس الاختلاف بالحقيقة ، بل باختلاط بعض أجزاء الشديد بأجزاء الضدّ فيحصل الضعف ، وإن لم يختلط حصلت الشدّة (١).

وقد بيّنّا خطأهم فيما تقدّم.

قال : ( ولو كان الثاني جسما لحصل ضدّ المحسوس ).

أقول : ذهب بعض القاصرين إلى أنّ الضوء جسم صغير ينفصل من المضيء ويتّصل بالمستضيء (٢).

وهو غلط ، وسبب غلطه ما يتوهّم من كونه متحرّكا بحركة المضيء.

وإنّما كان ذلك باطلا ؛ لأنّ الحسّ يحكم بافتقاره إلى موضوع يحلّ فيه ، ولا يمكنه تجريده عن محلّ يقوم به ، فلو كان جسما لحصل ضدّ هذا الحكم المحسوس ، وهو قيامه بنفسه واستغناؤه عن موضوع يحلّ فيه مع أنّ الضوء يتحرّك بتبعيّة المضيء لا بالذات ، أو يحدث في المستضيء بمقابلة المضيء.

ويحتمل أن يكون معنى قوله : « لحصل ضدّ المحسوس » أنّ الضوء إذا أشرق على الجسم ، ظهر ، وكلّما ازداد إشراقه زاد ظهوره في الحسّ ، فلو كان جسما لكان ساترا لما يشرق عليه ، فكان يحصل الاستتار الذي هو ضدّ المحسوس ، أعني

__________________

(١) انظر : « نهاية المرام » ١ : ٥٤٠ ـ ٥٤١ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٥١ ـ ٢٥٥ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٤٠ ـ ٢٤١ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

(٢) راجع النفس من « الشفاء » الفصل الثاني من المقالة الثالثة ٢ : ٨٣ ؛ « المباحث المشرقيّة ١ : ٤٠٩ ـ ٤١١ ؛ « نهاية المرام » : ٥٤٨ ـ ٥٥١ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٤٧ ـ ٢٥٠ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٤٠١

الانكشاف ، ويكون كلّما ازداد إشراقه ازداد ستره ، ولكنّ الحسّ يشهد بضدّ ذلك.

أو نقول : إنّ الحسّ يشهد بسرعة ظهور ما يشرق عليه الضوء ؛ فإنّ الشمس إذا طلعت على وجه الأرض أشرقت دفعة ، ولو كان الضوء جسما ، افتقر إلى زمان يقطع هذه المسافة الطويلة ، وكان يحصل ضدّ السرعة المحسوسة ، فهذه الاحتمالات كلّها صالحة لتفسير قوله : « لحصل ضدّ المحسوس ».

قال : ( بل هو عرض قائم بالمحلّ معدّ لحصول مثله في المقابل ).

أقول : لمّا أبطل كونه جسما ثبت كونه عرضا قائما بالمحلّ ؛ لأنّ العرض لا يقوم بنفسه ، وإذا قام بالمحلّ حصل منه استعداد للجسم المقابل ؛ لتكيّفه بمثل كيفيّته ، كما في الأجسام النّيرة الحاصل منها النور في المقابل.

قال : ( وهو ذاتيّ وعرضيّ ، أوّل وثان ).

أقول : الضوء ، منه ذاتيّ وهو القائم بالمضيء لذاته كما للشمس ، ويسمّى ضياء ، وقد يخصّ اسم الضوء به. ومنه عرضيّ وهو القائم بالمضيء بالغير كما للقمر ، ويسمّى نورا.

والعرضيّ قسمان : ضوء أوّل حاصل من مقابلة المضيء لذاته كضوء القمر ، وضوء ثان حاصل من مقابلة المضيء بالغير كالأرض قبل طلوع الشمس.

قال : ( والظلمة عدم ملكة ).

أقول : الظلمة عدم الضوء عمّا من شأنه أن يكون مضيئا (١) ، ومثل هذا العدم المقيّد بموضوع خاصّ يسمّى عدم ملكة.

وليست الظلمة كيفيّة وجوديّة قائمة بالمظلم ، كما ذهب إليه من لا تحقيق له (٢) ؛

__________________

(١) انظر : « الشفاء » ٢ : ٨١ كتاب النفس ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤١٧ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٥٦ ـ ٥٥٩ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٤٤ ـ ٢٤٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٣.

(٢) نسبه في « نهاية المرام » ١ : ٥٥٦ إلى جماعة من الأشاعرة ، وفي « شرح المقاصد » ٢ : ٢٦٣ و « شرح تجريد العقائد » ٢٤٢ و « شوارق الإلهام » ٤٠٩ إلى البعض.

٤٠٢

لأنّ المبصر لا يجد فرقا بين حالتيه عند فتح العين في الظلمة وبين تغميضها في عدم الإدراك ، فلو كانت كيفيّة وجوديّة لحصل الفرق.

وفي هذا نظر ؛ فإنّه يدلّ على انتفاء كونها كيفيّة وجوديّة مدركة ، لا على أنّها وجوديّة مطلقة ، كما هو ظاهر قوله تعالى : ( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) (١) و ( جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً ) (٢) ونحو ذلك ؛ فإنّ المجعول لا يكون إلاّ موجودا.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العدم الصرف غير مجعول ، والعدم الخاصّ مجعول ، كما هو ظاهر قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ) (٣) فالوجدان والقرآن شاهدان مقبولان.

المسألة السابعة : في البحث عن المسموعات.

قال : ( ومنها المسموعات ، وهي الأصوات الحاصلة من التموّج المعلول للقرع والقلع ).

أقول : من الكيفيّات المحسوسة الأصوات ، وهي المدركة بالسمع.

واعلم أنّ الصوت عرض قائم بالمحلّ.

وقد ذهب قوم غير محقّقين ـ على ما حكي (٤) ـ إلى أنّ الصوت جوهر ينقطع بالحركة.

وهو خطأ ؛ لأنّ الجوهر يدرك باللمس والبصر ، والصوت ليس كذلك ، مع أنّ استلزام ما ذكر النقص بل الاضمحلال في محلّ الصوت بالانقطاع الجوهري ، وليس كذلك.

__________________

(١) الأنعام (٦) : ١.

(٢) الفرقان (٢٥) : ٤٧.

(٣) يس (٣٦) : ٣٧.

(٤) حكاه العلاّمة في « كشف المراد » ٢٢١ ونسبه في « نهاية المرام » ١ : ٥٦٠ إلى إبراهيم النظّام.

٤٠٣

وذهب آخرون إلى أنّه عبارة عن التموّج الحاصل في الهواء من القلع والقرع (١).

وآخرون قالوا : إنّه القرع والقلع (٢).

وهذان المذهبان أيضا باطلان ، وسبب غلطهم أخذ سبب الشيء مكانه ؛ فإنّ الصوت معلول للتموّج المعلول للقلع أو القرع ، فليس هو أحدهما ؛ لأنّا ندركه بحسّ البصر لا بالسمع ، فهما خلاف الصوت.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ القلع أو القرع إذا حصل حدث صراخ بين القارع والمقروع في الهواء ، وهي كيفيّة تحدث في الهواء فتموّج ذلك الهواء وانتقل ذلك التموّج إلى سطح الصماخ فأدرك الصوت.

ولا نعني بذلك أنّ تموّجا واحدا انتقل بعينه إلى الصماخ ، بل يحصل تموّج بعد تموّج عن صدم بعد آخر ، كما في تموّج الماء إلى أن يصل إلى الحسّ.

قال : ( بشرط المقاومة ).

أقول : القرع إنّما يحصل معه الصوت إذا حصلت المقاومة بين القارع والمقروع ؛ فإنّك إذا ضربت خشبة على وجه الماء بحيث تحصل المقاومة ، فإنّه يحدث الصوت ، ولو وضعتها عليه بسهولة لم يحصل الشرط.

ولا تشترط الصلابة ؛ لحصول الصوت من الماء والهواء ولا صلابة هناك.

وكذا حكم القلع ؛ لحصول الصوت في قلع الكرباس دون القطن.

ويشهد على ذلك الاستقراء الناقص المفيد للقطع بضميمة الحدس وإن لم يكن بالذات إلاّ كونه مفيدا للظنّ ، كما في مشاهدة خروج البول والغائط من الأسفل في بعض الحيوان والإنسان ، فإنّها بضميمة الحدس تفيد القطع بأنّ المخرج الطبيعي هو الأسفل.

قال : ( في الخارج ).

__________________

(١) « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٢٠ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٦٠ ـ ٥٦١ ؛ « شرح المواقف » ٣ : ٢٧٣ ، ولمزيد معرفة الأقوال في هذه المسألة انظر : « الشفاء » ٢ : ٧٠ ـ ٧٦ ، الفصل الخامس من المقالة الثانية من كتاب النفس.

(٢) « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٢٠ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٦٠ ـ ٥٦١ ؛ « شرح المواقف » ٣ : ٢٧٣ ، ولمزيد معرفة الأقوال في هذه المسألة انظر : « الشفاء » ٢ : ٧٠ ـ ٧٦ ، الفصل الخامس من المقالة الثانية من كتاب النفس.

٤٠٤

أقول : ذهب قوم (١) إلى أنّ الصوت ليس بحاصل في الخارج ، بل إنّما يحصل عند الصماخ ، وهو ما إذا تموّج الهواء وانتهى التموّج إلى أن قرع سطح الصماخ فيحصل الصوت.

وهو خطأ ، بل هو حاصل في الخارج ، وإلاّ لم يدرك الجهة ولا البعد كما في اللمس حيث كان إدراكه بالملاقاة.

ولا يمكن أن يقال (٢) : إنّ إدراك الجهة إنّما كان لأنّ القرع توجّه من تلك الجهة ، وإدراك البعد لأنّ ضعف الصوت أو قوّته يدلّ على القرب أو البعد.

لأنّا لو سددنا الأذن اليسرى لأدركنا باليمنى جهة الصوت الحاصل من جهة اليسرى ، والضعف لو كان للبعد لم يفرق بين القويّ البعيد والضعيف القريب.

قال : ( ويستحيل بقاؤه لوجوب إدراك الهيئة الصوريّة ).

أقول : الصوت غير قارّ الأجزاء ، ويستحيل عليه البقاء ، بل توجد أجزاؤه على سبيل التجدّد والتقضّي ، كما في الحركة والزمان ، خلافا للكراميّة (٣).

والدليل عليه أنّا إذا سمعنا لفظة « زيد » أدركنا الهيئة الصوريّة ، أعني ترتيب الحروف وتقدّم بعضها على بعض.

ولو كانت أجزاء الحروف باقية لم يكن إدراك هذا الترتيب أولى من باقي الترتيبات الخمسة [ التي ] يقال لها التقليبات.

واعترض (٤) عليه بأنّ حدوث حروف « زيد » ـ مثلا ـ ابتداء على هذه الهيئة المخصوصة دون غيرها يرجّح بقاءها وإدراكها ، فهي أولى.

__________________

(١) انظر : « الشفاء » ٢ : ٧٢ وما بعدها ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٧٠ ـ ٥٧٢ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٦٣ ـ ٢٦٧ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٢) أورد الإشكال وجوابه الفخر الرازي في « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٢١. وانظر : « نهاية المرام » ١ : ٥٧٠ ـ ٥٧١ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

(٣) انظر : « نهاية المرام » ١ : ٥٦٩ ؛ « كشف المراد » : ٢٢٢ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤١٢.

(٤) راجع « نهاية المرام » ١ : ٥٦٩ ـ ٥٧٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٤٥.

٤٠٥

فالأولى التمسّك بالبداهة ، لبداهة عدم البقاء في الخارج والحسّ. والترتّب في السماع بالنسبة إلى البعيد والقريب من جهة احتياج حدوث صوت آخر للبعيد إلى تموّج زائد موجب لحدوث مثل مسموع القريب لا عينه بشخصه.

قال : ( ويحصل منه آخر ).

أقول : الصوت ـ كما مرّ ـ إنّما يحصل باعتبار التموّج في الهواء الواصل إلى سطح الصماخ ، وقد بيّنّا وجوده في الخارج ، فإذا تأدّى التموّج إلى جسم كثيف مقاوم لذلك التموّج كالجبل والجدار ردّه فيحصل منه تموّج آخر ، وحصل من ذلك التموّج الآخر صوت آخر ، وهو الصدى.

قال : ( وتعرض له كيفيّة مميّزة يسمّى باعتبارها حرفا ).

أقول : قد تعرض للصوت كيفيّة يتميّز بها عن صوت آخر مثله تميّزا في المسموع ، ويسمّى الصوت باعتبار تلك الكيفيّة ـ أو مجموع العارض والمعروض ، لا نفس الكيفيّة كما عن الشيخ (١) ـ حرفا ، وهي حروف التهجّي الحاصلة عند خروج الصوت من مقطع الفم ؛ ولهذا زدنا كلمة « قد ».

وحصرها غير معلوم بالبرهان.

قال : ( إمّا مصوّت أو صامت ، متماثل أو مختلف بالذات أو بالعرض ).

أقول : ينقسم الحرف إلى قسمين : مصوّت وصامت.

فالمصوّت هو حرف المدّ ـ أعني الواو والألف والياء ـ إذا كانت ساكنة ، وكانت حركة ما قبلها من جنسها واتّصلت بالهمزة أو السكون ؛ فإنّها لامتدادها كأنّها مصوّتة مولّدة للصوت. وإمّا صامت وهو ما عداها.

والصامت إمّا متماثل لا اختلاف بينهما لا بالذات ولا بالعوارض المسمّاة بالحركة والسكون ، كالباءين الساكنتين أو المتحرّكتين بنوع واحد من الحركات ،

__________________

(١) راجع « نهاية المرام » ١ : ٥٧٥ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٧٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٤٥ ؛ « شوارق الإلهام : ٤١٣.

٤٠٦

أو مختلف. والمختلف إمّا بالذات كالجيم والخاء ، أو بالعرض كالجيمين إذا كان أحد الجيمين ـ مثلا ـ ساكنا والآخر متحرّكا ، أو يكون أحدهما متحرّكا بحركة والآخر بضدّها.

والظاهر جريان القسمة الأخيرة في مطلق الحروف من غير اختصاص بالصامت وإن كان ظاهر العبارة.

قال : ( وينتظم منها الكلام بأقسامه ).

أقول : هذه الحروف المسموعة إذا تألّفت تأليفا مخصوصا ـ أي بحسب الوضع ـ كانت كلاما. فحدّ الكلام ـ على هذا ـ هو ما انتظم من الحروف المسموعة ، ويدخل فيه المفرد وهو الكلمة الواحدة ، والمؤلّف التامّ. وهو المحتمل للصدق والكذب وغير المحتمل لهما من الأمر والنهي والاستفهام والتعجّب والنداء ، وغير التامّ التقييديّ وغيره.

وإلى هذا أشار بقوله : « بأقسامه ».

قال : ( ولا يعقل غيره ).

أقول : يريد أنّ الكلام إنّما هو المنتظم من الحروف المسموعة ، ولا يعقل غيره ، وهو ما أطلق عليه الأشاعرة (١) وأثبتوا معنى آخر سمّوه الكلام النفسانيّ غير المؤلّف من الحروف والأصوات ، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يدلّ هذا الكلام عليه. وهو مغاير للإرادة ؛ لأنّ الإنسان قد يأمر بما لا يريد ؛ إظهارا لتمرّد العبد عن السلطان ، فيحصل عذر في ضربه. ومغاير لتخيّل الحروف ؛ لأنّ تخيّلها تابع لها ويختلف باختلافها ، وهذا المعنى لا يختلف ، وظاهر أنّه مغاير للحياة والقدرة وغيرهما من الأعراض.

والمعتزلة بالغوا في إنكار هذا المعنى (٢) ، وادّعوا الضرورة في نفيه ، وقالوا : إذا صدر

__________________

(١) راجع « المحصّل » ٤٠٣ ـ ٤٠٨ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٩٤ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٤٤ وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٢) انظر : « المغني » ٧ : ١٤ للقاضي عبد الجبّار.

٤٠٧

من المتكلّم خبر ، فهناك ثلاثة أشياء : العبارة الصادرة عنه ، وعلمه بثبوت النسبة أو انتفائها ، ونفس ثبوت تلك النسبة وانتفائها في الواقع ؛ والأخيران ليسا كلاما حقيقيّا اتّفاقا ، فتعيّن الأوّل. وإذا صدر عنه أمر أو نهي فهناك شيئان : أحدهما : لفظ صادر عنه. والثاني : إرادة أو كراهة قائمة بنفسه متعلّقة بالمأمور به أو المنهيّ عنه ، وليست الإرادة والكراهة أيضا كلاما حقيقيّا اتّفاقا ، فتعيّن اللفظ. وقس على ذلك سائر أقسام الكلام.

ومدلول الكلام اللفظي الذي يسمّيه الأشاعرة كلاما نفسيّا ليس أمرا وراء العلم في الخبر ، والإرادة في الأمر ، والكراهة في النهي ، وهي غير الكلام بالضرورة.

ولا فرق في ذلك بين كلامنا وكلام الله عندنا وعند المعتزلة (١) ، خلافا للأشاعرة.

بيان ذلك : أنّ الأشاعرة (٢) قالوا : إنّ الكلام على قسمين :

لفظيّ مؤلّف من هذه الحروف.

ونفسي وهو المعنى القائم بالنفس الذي هو مدلول الكلام اللفظي ، كما قال الشاعر :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقالوا : إنّ كلام الله صفة له ، فليس من جنس الأصوات والحروف ، بل هو معنى قائم بذاته تعالى يسمّى الكلام النفسيّ ، وهو مدلول الكلام اللفظي ، وهو قديم.

وردّ (٣) : بأنّه خلاف الضرورة الحاكمة بأنّ المنتظم من الحروف المسموعة ، المفتتح

__________________

(١) راجع « النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر » : ١٦ ـ ١٨ ؛ « مفتاح الباب الحادي عشر » : ١٢١ ـ ١٢٨ ؛ « إحقاق الحقّ » ١ : ٣٠٢ وما بعدها ؛ « دلائل الصدق » ١ : ٢٥٥ ؛ « المغني » ٧ : ٨٤ ؛ « شرح الأصول الخمسة » ٥٢٨ ؛ « المحصّل » : ٤٠٣ ـ ٤٠٤ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٩ وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣١٦.

(٢) « المحصّل » : ٤٠٣ ـ ٤٠٨ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٩١ ـ ٩٧ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٤٣ و ١٤٧ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣١٦ ؛ « إحقاق الحقّ » ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

(٣) هذا الردّ هو أحد الوجوه الذي تمسّك به المعتزلة في المقام ، انظر : « شرح المقاصد » ٦ : ١٥١ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣١٦.

٤٠٨

بالتحميد ، المختتم بالاستعاذة قرآن ، ولهذا قال صاحب المواقف ـ على ما حكي (١) عنه ـ : إنّ لفظ « المعنى » يطلق تارة على مدلول اللفظ ، وأخرى على الأمر القائم بالغير ، فالشيخ الأشعري لمّا قال : الكلام هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أنّ مراده مدلول اللفظ وحده ، وهو القديم عنده ، وأمّا العبارات فإنّما تسمّى كلاما مجازا ؛ لدلالتها على ما هو كلام حقيقة ، ولزم مفاسد كثيرة : كعدم كون القرآن معجزة ، فوجب حمل كلامه على ما يعمّ اللفظ والمعنى ، وهو الأمر القائم بذات الله تعالى لفظا كان أو معنى ، وأنّ ترتّب الحروف في التلفّظ حادث والملفوظ قديم (٢).

وردّ (٣) : بأنّه أمر خارج عن طور العقل ؛ ولهذا قال المصنّف رحمه‌الله : « لا يعقل غيره ».

والإنصاف أنّ النزاع ناشئ عن عدم الفرق بين معاني الكلام ؛ فإنّ الكلام بمعنى القدرة على إيجاد ما يدلّ على المراد صفة له تعالى قديم بل عين ذاته ، وبمعنى إيجاد ما يدلّ على المراد صفة له تعالى في مقام الفعل ، وهو حادث بعد المشيئة. وبمعنى المتكلّم به ، معلول له تعالى ، ومجعول بجعله ومخلوق كسائر خلقه ، وهو أيضا حادث اسمه القرآن مثلا ، وبه وقع التحدّي والمعارضة ، وهو من المعجزات الباقية ، والموصوف بكونه ذكرا (٤) عربيّا (٥) مقروءا (٦) محفوظا (٧) ونحو ذلك من الصفات الثابتة للقرآن بالضرورة. وحينئذ يصير النزاع هاهنا لفظيّا.

__________________

(١) حكاه القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٣١٩.

(٢) نقله الجرجاني عن صاحب المواقف من مقالته المفردة في تحقيق كلام الله تعالى. انظر : « شرح المواقف » ٨ : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٣) الرادّ هو القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٣١٩.

(٤) كقوله تعالى في سورة آل عمران ، الآية ٥٨ : ( ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ).

(٥) كقوله تعالى في سورة يوسف ، الآية ٢ : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ).

(٦) كقوله تعالى في سورة المزمّل ، الآية ٢٠ : ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ).

(٧) كقوله تعالى في سورة الحجر ، الآية ٩ : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ).

٤٠٩

المسألة الثامنة : في البحث عن المطعومات.

قال : ( ومنها المطعومات التسعة الحادثة من تفاعل الثلاثة (١) في مثلها (٢) ).

أقول : المشهور عند الأوائل (٣) أنّ الجسم إن كان عديم الطعم فهو التفه. وتعدّ التفاهة من الطعوم التسعة ، وإن كان ذا طعم لم ينفكّ عن أحد الطعوم الثمانية ، وهي : الحلاوة والحموضة والملوحة والحرافة والمرارة والعفوصة والقبض والدسومة.

وهذه الطعوم التسعة تحصل من تفاعل ثلاث كيفيّات ـ وهي : الحرارة والبرودة والكيفيّة المعتدلة ـ في مثلها في العدد ـ أعني ثلاث كيفيّات ـ لا مثلها في الحقيقة ، وهي الكثافة واللطافة والكيفيّة المعتدلة. فإنّ الحارّ إن فعل في الكثيف حدثت المرارة ، وفي اللطيف الحرافة ، وفي المعتدل الملوحة. والبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصة ، وفي اللطيف الحموضة ، وفي المعتدل القبض. والمعتدل إن فعل في اللطيف حدثت الدسومة ، وفي الكثيف الحلاوة ، وفي المعتدل التفاهة.

وهي على قسمين : أحدهما : أن لا يكون له طعم أصلا بحسب الواقع ، والتفه بهذا المعنى يسمّى مسخا.

والثاني : أن يكون له طعم غير مدرك بالحسّ ؛ لشدّة الالتحام بين أجزائه بحيث لا يتحلّل منه شيء يخالط اللسان ، فلا يحسّ بطعمه إلاّ إذا احتيل في تحليل أجزائه وتلطيفها كالنحاس والحديد ، وهذا هو المعدود في الطعوم دون الأوّل.

المسألة التاسعة : في البحث عن المشمومات.

قال : ( ومنها المشمومات ، ولا أسماء لأنواعها إلاّ من حيث المخالفة والموافقة ).

__________________

(١) أي الحرارة والبرودة والكيفيّة المتوسّطة بينهما. ( منه رحمه‌الله ).

(٢) أي الكثيف واللطيف والمعتدل. ( منه رحمه‌الله ).

(٣) انظر : « الشفاء » ٢ : ٦٥ كتاب النفس ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٢٤ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٨٨ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٨٢ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٨٧.

٤١٠

أقول : من أنواع الكيفيّات المحسوسة الروائح المدركة بحاسّة الشمّ ، ولم يوضع لأنواعها أسماء مختصّة بها كما وضعوا لغيرها من الأعراض ، بل ميّزوا بينها من حيث إضافتها إلى الطبائع أو إلى المحلّ كرائحة المسك والجيفة ، فيقال : رائحة طيّبة ، ورائحة منتنة ، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، أو يقال : رائحة الورد والجيفة أو نحو ذلك.

المسألة العاشرة : في البحث عن الكيفيّات الاستعداديّة.

قال : ( والاستعدادات المتوسّطة بين طرفي النقيض ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الكيفيّات المحسوسة ، شرع في القسم الثاني من أقسام الكيف ، الأربعة ، وهي الكيفيّات الاستعدادية ، وهي ما يترجّح به القابل في أحد جانبي قبوله ، وهي متوسّطة بين طرفي النقيض : الوجود والعدم ؛ وذلك لأنّ الرجحان لا يزال يتزايد في أحد طرفي الوجود والعدم إلى أن ينتهي إليهما ، فذلك الرجحان القابل للشدّة والضعف المتوسّط بين طرفي الوجود والعدم هو الكيف الاستعدادي ، وطرفاه الوجود والعدم.

وهذا الرجحان إن كان نحو الفعل فهو القوّة. وإن كان نحو الانفعال فهو اللاقوّة.

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن الكيفيّات النفسانيّة.

قال : ( الكيفيّات النفسانيّة حال أو ملكة ).

أقول : هذا هو القسم الثالث من أقسام الكيف ، وهو الكيفيات النفسانيّة.

ونعني بها المختصّة بذوات الأنفس الحيوانيّة بالنسبة إلى النبات والجماد ، فلا ينافي وجوده في الواجب تعالى مثلا.

وهي إمّا أن تكون سريعة الزوال ، وتسمّى حالا لسرعة زوالها ، أو بطيئة الزوال ، وتسمّى ملكة.

٤١١

وقد يقال : إنّ الكيفيّة النفسانيّة إن كانت راسخة سمّيت ملكة ، وإن كانت غير راسخة سمّيت حالا.

وهو الأنسب بلفظ الملكة ؛ فإنّه من الملك الذي يناسبه تعذّر الزوال أو تعسّره.

والفرق بينهما ليس بفصول مميّزة ، بل بعوارض خارجيّة ، وربّما كان الشيء حالا ثمّ صار بعينه ملكة.

المسألة الثانية عشرة : في البحث عن العلم بقول مطلق.

قال : ( منها العلم ، وهو إمّا تصوّر أو تصديق جازم مطابق ثابت ).

أقول : من الكيفيّات النفسانيّة العلم ، ولفظ « العلم » يطلق على معان.

منها : الإدراك مطلقا ، تصوّرا كان أو تصديقا.

وبعبارة أخرى : حصول صورة الشيء في الذهن أو قبوله.

ومنها : الصورة الحاصلة في الذهن.

ومنها : التصديق بالمسائل.

ومنها : نفس المسائل.

ومنها : الملكة الحاصلة من تكرّر الإدراكات.

ومنها : منشأ انكشاف الأشياء وسبب ظهور المعلوم للعالم.

وقد يقال : العلم صفة توجب لمحلّها تميّزا لا يحتمل متعلّق ذلك التميّز نقيض ذلك التميز (١).

وبالجملة ، فالعلم بالمعنى الأوّل بل الثاني والأخير أيضا ينقسم إلى التصوّر ، وهو عبارة عن حصول صورة الشيء في الذهن ، وإلى التصديق الجازم المطابق الثابت ، وهو الحكم اليقيني بنسبة أحد المتصوّرين إلى الآخر إيجابا أو سلبا.

__________________

(١) نسبه الفخر الرازي إلى أكثر المتكلّمين في « المطالب العالية » ٣ : ١٠٤ ، والجرجاني إلى جماعة من الأشاعرة في « شرح المواقف » ٦ : ٢.

٤١٢

وإنّما شرط في التصديق الجزم ؛ لأنّ الخالي منه ليس بعلم بهذا المعنى وإن كان يطلق عليه اسم العلم بالمجاز ، وإنّما هو الظن.

وشرطه عند المصنّف رحمه‌الله المطابقة ؛ لأنّ الخالي منها هو الجهل المركّب.

وشرطه الآخر الثبات ؛ لأنّ الخالي منه هو التقليد.

أمّا الجامع لهذه الصفات فهو العلم ، فتأمّل.

قال : ( ولا يحدّ ).

أقول : اختلف العقلاء في العلم.

فقال قوم (١) : إنّه لا يحدّ ؛ لظهوره ؛ فإنّ الكيفيّات الوجدانيّة لظهورها لا يمكن تحديدها ؛ لعدم انفكاكه عن تحديد الشيء بالأخفى ، والعلم منها ، ولأنّ غير العلم إنّما يعلم بالعلم ، ولو علم بغيره لزم الدور.

واعترض (٢) عليه : بأنّ معلومية غير العلم إنّما تكون بحصول علم جزئيّ متعلّق بذلك الغير ، لا بمعلوميّته ولا بمعلوميّة حقيقة العلم ، والموقوف على معلوميّة الغير هو معلوميّة حقيقة العلم ، لا حصول العلم الجزئيّ ، فلا يلزم الدور.

وقال آخرون : يحدّ (٣).

وقال بعضهم (٤) : إنّه اعتقاد أنّ الشيء كذا ، أو لا يكون إلاّ كذا.

وقال آخرون (٥) : إنّه اعتقاد يقتضي سكون النفس.

وكلاهما غير مانع.

قال : ( ويقتسمان الضرورة والاكتساب ).

__________________

(١) انظر : « المحصّل » : ٢٤٣ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٥٠ ـ ٤٥٣ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣١٤ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٦.

(٢) المعترض هو المحقّق الطوسي في « نقد المحصّل » : ١٥٥.

(٣) راجع « أصول الدين » : ٥ ـ ٦ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٢ ؛ « التعريفات » : ١٩٩ / ٩٨٨.

(٤) نسبه في « أصول الدين » : ٥ إلى الكعبي وأبي عليّ الجبائي ، وفي « مناهج اليقين » : ٨٦ إلى الآخرين.

(٥) نسبه في « أصول الدين » إلى أبي هاشم ، وفي « مناهج اليقين » إلى الآخرين.

٤١٣

أقول : يريد أنّ كلّ واحد من التصوّر والتصديق ينقسم إلى الضروريّ والمكتسب.

ويريد بالضروريّ من التصوّر ما لا يتوقّف على طلب وكسب ونظر ، ومن التصديق ما يكفي تصوّر طرفيه في الحكم بنسبة أحدهما إلى الآخر إيجابا أو سلبا.

وأمّا المكتسب فهو ضدّ ذلك فيهما ؛ فإنّه يتوقّف على النظر ، وهو ترتيب أمور معلومة لتحصيل المجهول.

المسألة الثالثة عشرة : في أنّ العلم يتوقّف على الانطباع.

قال : ( ولا بدّ فيه من الانطباع ).

أقول : اختلف العلماء في ذلك ، فذهب جمهور الأوائل (١) إلى أنّ العلم يستدعي انطباع المعلوم وانتقاش مثاله وشبحه في العالم ، فبشهادة الوجدان بعدم الفرق بين العلم بالموجود والمعدوم يحكم بأنّ العلم مطلقا يجب فيه الانطباع إذا لم يكن المعلوم أو علّته حاضرا عند العالم ولو على وجه المغايرة الاعتباريّة ، ولا يحصل العلم الأقوى من غير انطباع ؛ لأنّ انكشاف الشيء للعالم لأجل حضوره بنفسه أو بعلّته أقوى من حضوره بصورته ، فلا يرد الإشكال في علم الواجب تعالى حتّى بالمعدومات بل الممتنعات (٢) ، كما سيأتي إن شاء الله.

وأنكره آخرون (٣).

احتجّ الأوّلون (٤) بأنّا ندرك أشياء لا تحقّق لها في الخارج ، فلو لم تكن منطبعة في الذهن ، كانت عدما صرفا ونفيا محضا ، فيستحيل الإضافة إليها.

__________________

(١) انظر : « الشفاء » ٢ : ٥٠ ـ ٥٧ ؛ « المباحثات » : ١٨٤ / ٥٤٦ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٠٨ ؛ « نقد المحصّل » : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، ونسبه في « شرح المواقف » ٦ : ٣ إلى الحكماء.

(٢) أورد القوشجي هذا الاستدلال والجواب عليه في « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٣) انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٤٢ ـ ٤٤٣ ؛ « نهاية المرام » ١٢ ـ ٣٣ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٧.

(٤) « شرح المواقف » ٦ : ٣ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٠٠ ؛ « المحاكمات » في هامش « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٠٠.

٤١٤

واحتجّ الآخرون (١) بوجهين :

الأوّل : أنّ التعقّل لو كان حصول صورة المعقول في العاقل ، لزم أن يكون الجدار المتّصف بالسواد متعقّلا له ، والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

الثاني : أنّ الذهن قد يتصوّر أشياء متقدّرة ، فيلزم حلول المقدار فيه فيكون متقدّرا.

والجواب عنه ما سيأتي.

قال : ( في المحلّ المجرّد القابل ).

أقول : هذا إشارة إلى الجواب عن الإشكالين.

وتقريره : أنّ المحلّ الذي جعلنا عاقلا مجرّد عن الموادّ كلّها ؛ لأنّه النفس ، وهي مجرّدة كما مرّ ، والمجرّد لا يتّصف بالمقدار باعتبار حلول صور فيه ؛ فإنّ صورة المقدار لا يلزم أن تكون مقدارا.

وأيضا هذه الصور القائمة بالعاقل حالّة في محلّ قابل لتعقّلها ؛ ولهذا كان عاقلا لها.

أمّا الجسم فليس محلاّ قابلا لتعقّل السواد ، فلا يلزم أن يكون متعقّلا له ، مع أنّ الحصول في الذهن غير الحصول في الشيء.

قال : ( وحلول المثال مغاير ).

أقول : هذا إشارة إلى كيفيّة حصول الصورة في العاقل.

وتقريره : أنّ الحالّ في العاقل إنّما هو مثال المعقول وصورته ، لا ذاته ونفسه ؛ ولهذا جوّزنا حصول صور الأضداد في النفس ، ولم نجوّز حصول الأضداد في محلّ واحد في الخارج.

__________________

(١) ما ذكره المصنّف هنا من الوجهين هو كلام العلاّمة في « كشف المراد » : ٢٢٦ ، ولم نعثر على الوجهين بهذا البيان في كتب القوم. انظر : « المحصّل » : ٢٤٤ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٤٢ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ١٢٠ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٧.

٤١٥

واعلم أنّ حلول مثال الشيء وصورته مغاير لحلول ذلك الشيء. ولمّا كان هذا الكلام ممّا يستعان به على حلّ ما تقدّم من الشكوك ذكره عقيبه.

قال : ( ولا يمكن الاتّحاد ).

أقول : ذهب قوم (١) من أوائل الحكماء إلى أنّ التعقّل إنّما يكون باتّحاد صورة المعقول والعاقل.

وهو خطأ فاحش ؛ فإنّ الاتّحاد محال بالبديهة.

ويلزم أيضا المحال من وجه آخر ، وهو اتّحاد الذوات المعقولة.

فلذلك ذهب آخرون (٢) إلى أنّ التعقّل يستدعي اتّحاد العاقل بالعقل الفعّال.

وهو خطأ أيضا ؛ لما تقدّم ، ولاستلزامه تعقّل كلّ شيء ثابت فيه عند تعقّل شيء واحد.

قال : ( ويختلف باختلاف المعقول ).

أقول : اختلف الناس هنا ، فذهب قوم (٣) إلى جواز تعلّق علم واحد بمعلومين.

ومنعه آخرون (٤). وهو الحقّ ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ التعقّل هو حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، وصور الأشياء المختلفة تختلف باختلافها ، فلا يمكن أن تكون صورة واحدة لمختلفتين ، فلا يتعلّق علم واحد باثنين. وإنّما جوّز ذلك من جعل

__________________

(١) نسبه الشيخ في « الإشارات والتنبيهات » إلى قوم من المشّائين ، منهم فورفوريوس ، انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٢٩٢ ـ ٢٩٥ ، ولمزيد التوضيح راجع « الشفاء » الطبيعيّات ٢ : ٢١٢ ـ ٢٢٠ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٤٦ ـ ٤٤٩ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٣٦ ـ ٤٦.

(٢) منهم الشيخ في كتابه « المبدأ والمعاد » ٧ ـ ١٠ على ما نسبه إليه الفخر الرازي في « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٤٨ والعلاّمة في « نهاية المرام » ٢ : ٣٧ ، ولكنّ الأمر ليس كذلك ؛ لأنّ الشيخ صنّفه تقريرا لمذهبهم في المبدأ والمعاد. انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٢٩٣ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤١٧.

(٣) منهم الجبائي ، انظر : « نقد المحصّل » : ١٥٨ ، ونسبه إلى بعض أصحاب الأشاعرة في « شرح المواقف » ٦ : ١٧ و « شرح المقاصد » ٢ : ٣٢٥.

(٤) منهم أبو الحسن الأشعري وكثير من المعتزلة ، انظر : « أصول الدين » ٣٠ ـ ٣١ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٧ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٢٥ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٥١.

٤١٦

العلم أمرا وراء الصورة.

قال : ( كالحال والاستقبال ).

أقول : هذا إشارة إلى إبطال مذهب جماعة من المعتزلة (١) ، حيث ذهبوا إلى أنّ العلم بالاستقبال علم بالحال عند حصول الاستقبال ، فقالوا : إنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد.

وإنّما دعاهم إلى ذلك ما ثبت من أنّ الله تعالى عالم بكلّ معلوم ، فإذا علم أنّ زيدا سيوجد ثمّ وجد ، فإن زال العلم الأوّل وتجدّد علم آخر لزم كونه تعالى محلاّ للحوادث ، وإن لم يزل كان هو المطلوب (٢).

وهذا خطأ ؛ فإنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد علم بالعدم الحالي والوجود في ثاني الحال ، والعلم بأنّ الشيء موجود غير مشروط بالعدم الحالي ، بل هو مناف له ، فيستحيل اتّحادهما.

والوجه في حلّ الشبهة المذكورة أنّ علمه تعالى بالمعدومات إنّما يكون في مقام علمه تعالى بذاته علما تامّا ؛ لأنّ ذاته تعالى علّة تامّة للأشياء ، والعلم التامّ بالعلّة التامّة علّة تامّة للعلم التامّ بالمعلول ، فالتغيّر يكون في المعلوم لا العلم المتعالي عن الزمان والمكان.

مضافا إلى ما التزمه أبو الحسين هنا من أنّ الزوائل هي التعلّقات ـ الحاصلة بين العلم والمعلوم ـ لا العلم نفسه (٣).

وسيأتي زيادة تحقيق في هذا الموضع إن شاء الله تعالى.

قال : ( ولا يعقل إلاّ مضافا ، فيقوى الإشكال مع الاتّحاد ).

__________________

(١) نسبه إلى جمهور المشايخ في « مناهج اليقين » : ٩٤ والى أبي هاشم وجماعة في « نهاية المرام » ١ : ٢٣٧ ، وإلى مشايخ المعتزلة وكثير من الأشاعرة في المواقف وشرحه ٨ : ٧٥ وإلى كثير من المعتزلة وأهل السنّة في « شرح المقاصد » ٤ : ١٢٤.

(٢) راجع « نهاية المرام » ١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٧ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٧٤ ـ ٧٥ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٢٢ و ١٢٤.

(٣) المنقول عنه خلاف ذلك ، كما في « نهاية المرام » ١ : ٢٣٧ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٢٥.

٤١٧

أقول : اعلم أنّ العلم وإن كان من الكيفيّات الحقيقيّة القائمة بالنفس ، إلاّ أنّه لا يعقل إلاّ مضافا إلى الغير ؛ فإنّ العلم علم بالشيء ، ولا يعقل تجرّده عن الإضافة حتّى توهّم بعضهم (١) أنّه نفس الإضافة الحاصلة بين العلم والمعلوم ، ولم يثبت كونه أمرا حقيقيّا مغايرا للإضافة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الإشكال يقوى على الاتّحاد كما قاله المصنّف رحمه‌الله ؛ فإنّ العاقل والمعقول إذا كانا شيئا واحدا ـ كما إذا عقل الشخص نفسه ـ يرد الإشكال (٢) عليه بأن يقال : أنتم قد جعلتم العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم ، وهذا لا يتصوّر هاهنا ؛ لاستحالة اجتماع الأمثال.

ويقوى الإشكال (٣) باعتبار الإضافة ؛ إذ الإضافة لا تعقل إلاّ بين الشيئين ، لا بين الشيء الواحد ونفسه ، فلا يتحقّق علم الشيء بذاته.

والجواب عن الأوّل (٤) : أنّ العلم إنّما يستدعي الصورة لو كان العالم عالما بغيره ، أمّا إذا كان عالما بذاته فإنّ ذاته تكفي في علمه من غير احتياج إلى صورة أخرى ؛ لأنّ علمه حينئذ علم حضوري ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم ، لا حضوره عنده حقيقة ، وليس علمه حصوليّا حتّى يحتاج إلى صورة أخرى.

وعن الثاني (٥) : أنّ العاقل من حيث إنّه عاقل مغاير له من حيث إنّه معقول ، فأمكن

__________________

(١) هو الفخر الرازي ، كما في « المحصّل » : ٢٤٥ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٥٠ ؛ « شرحي الإشارات » ١ : ١٣٣ ـ ١٣٤ ، واختاره في « المطالب العالية » ٣ : ١٠٤ بعد نسبته إلى جمع عظيم من الحكماء والمتكلّمين.

(٢) راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٢٠ ـ ٣٢١ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ١٢ ـ ١٣ ؛ « كشف المراد » : ٢٢٨ ؛ « اللوامع الإلهيّة » : ٥٥ ؛ « شرح المواقف » : ١٥ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٢.

(٣) « مناهج اليقين » : ٨٧ ـ ٨٨ ؛ « كشف المراد » : ٢٢٨ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٠٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » ٢٥٢.

(٤) « كشف المراد » : ٢٢٨ ، ويعتبر هذا أحد الأجوبة ، وللمزيد انظر : « شرح المواقف » ٦ : ١٥ ـ ١٦ ؛ « اللوامع الإلهيّة » : ٥٥ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٠٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٢.

(٥) « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٥٠ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٢١ ؛ « كشف المراد » : ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ؛ « نهاية

٤١٨

تحقّق الإضافة ؛ لكفاية التغاير الاعتباري فيها ؛ ولأنّ العالم هو الشخص والمعلوم هو الماهيّة الكلّيّة. كذا أجيب.

واعترض (١) على الجوابين عن الثاني بأنّهما دوريّان.

أمّا الأوّل : فلأنّ المغايرة بين العاقل من حيث إنّه عاقل والمعقول من حيث إنّه معقول متوقّفة على التعقّل ، فلو جعلنا التعقّل متوقّفا على هذا من حيث التغاير دار.

وفيه : أنّ العلم سبب الإضافة لا نفسها ، فلا يلزم الدور.

وأمّا الثاني : فلأنّ العالم هاهنا يكون عالما بجزئه ، وليس البحث فيه ، فتأمّل.

قال : ( وهو عرض لوجود حدّه فيه ).

أقول : ذهب المحقّقون (٢) إلى أنّ العلم عرض. وأكثر الناس كذلك في العلم بالعرض. واختلفوا في العلم بالجوهر.

فالذين قالوا : إنّ العلم إضافة بين العالم والمعلوم قالوا : إنّه عرض أيضا (٣).

والذين قالوا : إنّ العلم صورة اختلفوا ، فقال بعضهم (٤) : إنّه جوهر ؛ لأنّ حدّه صادق عليه ؛ إذ الصورة الذهنيّة ماهيّة إذا وجدت في الأعيان كانت لا في الموضوع ، وهذا معنى الجوهر.

والمحقّقون (٥) قالوا : إنّه عرض أيضا ؛ لوجود حدّ العرض فيه ، فإنّه موجود حالّ في النفس ، لا كجزء منها ، بل كقيام باقي الكيفيّات النفسانيّة ، وهذا معنى العرض.

واستدلال القائلين (٦) بأنّه جوهر خطأ ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة يمتنع وجودها في

__________________

المرام » ٢ : ١٣ ؛ « مناهج اليقين » : ٨٧ ـ ٨٨ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٠٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٢.

(١) المعترض هو العلاّمة على ما في « كشف المراد » : ٢٢٩ و « مناهج اليقين » : ٨٨.

(٢) انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٥٨ ؛ « مناهج اليقين » : ٨٩ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٢.

(٣) انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٥٨ ؛ « مناهج اليقين » : ٨٩ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٥٢.

(٤) نسبه في « مناهج اليقين » : ٨٩ إلى قوم من الأوائل.

(٥) منهم العلاّمة في « مناهج اليقين » : ٨٩.

(٦) انظر : « مناهج اليقين » : ٨٩ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ١٥٩.

٤١٩

الخارج ، وإنّما الموجود ما هي مثال له.

المسألة الرابعة عشرة : في أقسام العلم.

قال : ( وهو فعليّ وانفعالي وغيرهما ).

أقول : العلم منه ما هو فعليّ ، وهو المحصّل للأشياء الخارجيّة ، الذي يكون سببا لوجود المعلوم في الخارج ، كعلم واجب الوجود تعالى بمخلوقاته ، وكما إذا تصوّرنا شيئا لم نستفد صورته من الخارج ثمّ أوجدنا في الخارج ما يطابقه.

ومنه انفعاليّ ، وهو المستفاد من الأعيان الخارجيّة ، كعلمنا بالسماء والأرض.

ومنه ما ليس كذلك بأحدهما ، كعلم واجب الوجود تعالى بذاته ، وكما إذا تصوّرنا الأمور المستقبلة التي ليست فعلا لنا.

قال : ( وضروريّ ـ له أقسام ستّة ـ ومكتسب ).

أقول : قد تقدّم أنّ العلم إمّا ضروريّ وإمّا كسبيّ ، ومضى تعريفهما.

وأقسام الضروريّ ستّة :

[ الأوّل ] : البديهيّات ، وهي قضايا يحكم بها العقل لذاته لا بسبب خارجي هو تصوّر طرفيها ، كالحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء وغيره من البديهيّات.

الثاني : المشاهدات ، وهي إمّا مستفادة من الحواسّ الظاهرة كالحكم بحرارة النار ، أو من الحواسّ الباطنة وهي القضايا الاعتباريّة بمشاهدة قوى غير الحسّ الظاهر ، أو بالوجدان من النفس لا باعتبار الآلات مثل شعورنا بذواتنا وبأفعالنا.

الثالث : المجرّبات ، وهي قضايا تحكم بها النفس باعتبار تكرار المشاهدات ، كالحكم بأنّ الضرب بالخشب مؤلم. وتفتقر إلى أمرين : المشاهدة المتكرّرة ، والقياس الخفيّ ، وهو أنّه لو كان الوقوع على سبيل الاتّفاق ، لم يكن دائما ولا أكثريّا.

والفارق بين هذه وبين الاستقراء هذا القياس.

الرابع : الحدسيّات ، وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قويّ يزول معه الشكّ ،

٤٢٠