البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

واستدلّوا على ذلك بوجوه :

أحدها : أنّ الحركة لو كانت موجودة لكانت إمّا منقسمة فيكون الماضي غير المستقبل ، أو غير منقسمة فيلزم تركيبها من الأجزاء التي لا تتجزّأ ، واللازمان باطلان.

الثاني : أنّ الحركة ليست هي الحصول في المكان الأوّل ؛ إذ الجسم لم يتحرّك بعد ، ولا في المكان الثاني ؛ إذ الحركة انتهت وانقطعت ، ولا المجموع ؛ لامتناع تحقّق جزأيه معا في الوجود.

الثالث : أنّ الحركة ليست واحدة ، فلا تكون موجودة. وهذه الاستدلالات في مقابلة الحكم الضروري ممنوعة.

قال : ( ويتوقّف على المتقابلين والعلّتين والمنسوب إليه والمقدار ).

أقول : وجود الحركة يتوقّف على أمور ستّة :

أحدها : ما منه الحركة.

والثاني : ما إليه الحركة ، أعني مبدأ الحركة ومنتهاها.

[ و ] الظاهر أنّ مراده بالمتقابلين هذان ؛ لأنّ المبدأ والمنتهى متقابلان لا يجتمعان في شيء واحد باعتبار واحد.

والثالث : ما به الحركة ، وهو السبب ، وهو العلّة الفاعليّة لوجودها.

والرابع : ما له الحركة ، أعني الجسم المتحرّك ، وهو العلّة القابليّة.

وهذان هما المرادان بقوله : « والعلّتين ».

والخامس : ما فيه الحركة ، أعني المقولة التي ينتقل الجسم فيها من نوع إلى آخر.

والظاهر أنّه المراد بقوله : « والمنسوب إليه » ؛ اذ المقولة تنسب الحركة إليها بالقسمة.

__________________

« التحصيل » : ٤٢٠ ؛ « المحصّل » : ٢٧٠ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٦٧٣ ـ ٦٧٦ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٢ : ٣٠ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣٣٨ ـ ٣٤١ ؛ « مناهج اليقين » : ٥٧ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٩٨ ـ ٢٠٣ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤١١ ـ ٤١٣ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٩١ ـ ٢٩٣ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٦٢ ـ ٤٦٤.

٤٨١

والسادس : الزمان الذي تقع فيه الحركة. وهو المراد بقوله : « والمقدار » فإنّ الزمان مقدار الحركة.

قال : ( فما منه وما إليه قد يتّحدان محلاّ ، وقد يتضادّان ذاتا وعرضا »

أقول : المراد أنّ مبدأ الحركة ومنتهاها قد يتّحدان محلاّ ، بكون محلّهما واحدا لكن لا باعتبار واحد كالنقطة في الحركة المستديرة ؛ فإنّها بعينها مبدأ للحركة المستديرة ومنتهى لها ، لكن باعتبارين.

وقد يتغاير محلّهما كما في الحركة المستقيمة.

وقد يتضادّ المحلّ في المتكثّر إمّا ذاتا كالحركة من السواد إلى البياض ، أو عرضا كالحركة من اليمين إلى الشمال.

قال : ( ولهما اعتباران متقابلان أحدهما بالنظر إلى ما يقالان له ).

أقول : الذي فهمناه من هذا الكلام أنّ لكلّ واحد من المبدأ والمنتهى اعتبارين :

أحدهما على سبيل التضايف ، وهو اعتبار كلّ منهما بالقياس إلى ما يقال له ، أعني ذا المبدأ وذا المنتهى.

الثاني ما يكون على سبيل التضادّ ؛ وذلك لأنّ المبدأ لا يضايف المنتهى ؛ لانفكاكهما تصوّرا ، بل يضايف ذا المبدأ ؛ فإنّ المبدأ مبدأ لذي المبدأ ، وكذا المنتهى.

وأمّا اعتبار المبدأ إلى المنتهى فإنّه مضادّ له ؛ إذ ليس مضايفا ولا سلبا ولا إيجابا ولا عدما وملكة ، فلم يبق إلاّ التضادّ. وهذان الاعتباران ـ أعني التضايف والتضادّ ـ متقابلان.

واعلم أنّ هاهنا إشكالا (١) ، وهو أن يقال : الضدّان لا يعرضان لموضوع واحد مجتمعين فيه ، والمبدأ والمنتهى قد يعرضان لجسم واحد.

والجواب : أنّ الضدّين قد يجتمعان في جسم واحد إذا لم يكن الجسم موضوعا

__________________

(١) حول هذا الإشكال وجوابه انظر : « المباحث المشرقيّة » : ٦٨٣ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣٦١ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٢٤٤.

٤٨٢

قريبا لهما ، وحال المبدأ والمنتهى هنا كذلك ؛ لأنّ موضوعهما الأطراف في الحركة المستقيمة ، وتلك مغايرة.

بقي أن يقال (١) : إنّ هذا لا يتأتّى في الحركات المستديرة إلاّ بسبب الاعتبارين المتضادّين.

وقد نبّه المصنّف رحمه‌الله على ذلك بقوله : « قد يتّحدان محلاّ » فيكون وجه الخلاص عدم اجتماع الوصفين ؛ إذ حالة وصفه بكونه منتهى ينتفي عنه كونه مبدأ.

قال : ( ولو اتّحدت العلّتان انتفى المعلول ).

أقول : قد بيّنّا أنّه يريد بالعلّتين هنا الفاعليّة ، أعني المحرّك ، والقابليّة ، أعني المتحرّك. وادّعي تغايرهما ، على معنى أنّه لا يجوز أن يكون الشيء محرّكا لنفسه ، بل إنّما يتحرّك بقوّة موجودة إمّا فيه كالطبيعة أو خارجة عنه ؛ لأنّه لو تحرّك لذاته لانتفت الحركة ؛ إذ بقاء العلّة يستلزم بقاء المعلول ، فإذا فرضنا أنّ الجسم لذاته علّة للحركة كان علّة لأجزائها ، فيكون كلّ جزء منها باقيا ببقاء الجسم ، لكن بقاء الجزء الأوّل منها يقتضي أن لا يوجد الثاني ؛ لامتناع اجتماع أجزائها في الوجود ، فلا توجد الحركة وقد فرضناها موجودة ، هذا خلف.

وإلى نفي الحركة أشار بقوله : « انتفى المعلول ».

قال : ( وعمّ ).

أقول : هذه حجّة ثانية على أنّ الفاعل للحركة ليس هو القابل المعروض لها ، أعني نفس الصورة الجسميّة بالنسبة إلى الحركة الأينيّة والوضعيّة ، والهيولى بالنسبة إلى الحركة الكمّيّة والكيفيّة.

وتقريره : أن نقول : الأجسام متساوية في الماهيّة ، فلو اقتضت لذاتها الحركة لزم عمومها لكلّ جسم ، فكان كلّ جسم متحرّكا ، هذا خلف.

__________________

(١) انظر : « نهاية المرام » ٣ : ٣٦٢ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٢٤٤.

٤٨٣

ثمّ إنّ الصورة الجسميّة إن اقتضت الحركة إلى جهة معيّنة لزم حركة كلّ الأجسام إليها ، وهو باطل بالضرورة. وإن كان إلى غير جهة معيّنة انتفت الحركة ؛ لعدم المرجّح.

وأشار إلى هذا الدليل بقوله : « وعمّ » أي وعمّ ما فرضناه معلولا ـ وهو الحركة ـ إمّا مطلقا أو إلى جهة معيّنة كما ذكرنا.

قال : ( بخلاف الطبيعة المختلفة المستلزمة في حال ما ).

أقول : هذا جواب عن إشكال (١) يرد على هذين الدليلين.

وتقريره أن نقول : الطبيعة قد تقتضي الحركة ، ولا يلزم دوامها بدوام الطبيعة ولا عمومها بعمومها.

وتقرير الجواب أن نقول : الطبائع مختلفة ، فجاز اقتضاء بعضها الحركة إلى جهة معيّنة ، بخلاف غيرها.

وإلى هذا أشار بقوله : « المختلفة ».

وأيضا : الطبيعة لم نقل إنّها مطلقا علّة للحركة ، وإلاّ لزم المحال ، بل إنّما تقتضيه في حال ما ، وهو حال خروج الجسم عن مكانه الطبيعي ، وأمّا حال بقاء الجسم في مكانه الطبيعي ، فلا يقتضي الحركة.

وإليه أشار بقوله : « في حال ما ».

قال : ( والمنسوب إليه أربع ؛ فإنّ بسائط الجواهر توجد دفعة ومركّباتها تعدم بعدم أجزائها ).

أقول : يريد بالمنسوب إليه ما توجد فيه الحركة على ما تقدّم تفسيره.

والمراد : أنّ الحركة تقع في أربع مقولات لا غير هي : الكمّ ، والكيف ، والأين ،

__________________

(١) أقاموا ـ هاهنا ـ أدلّة سبعة ، وللفخر الرازي إشكال على كلّ واحد منها. انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٦٧٦ ـ ٦٨١ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣٥٠ ـ ٣٥٧ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٢٢٤ ـ ٢٢٩ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤٣٠ ـ ٤٣١ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٦٦.

٤٨٤

والوضع ، ولا تقع في سوى ذلك.

أمّا الجوهر فقسمان : بسيط ومركّب.

فالبسيط يوجد دفعة ، فلا تتحقّق فيه حركة.

والمركّب يعدم بعدم أحد أجزائه ، وانعدام كلّ جزء منها دفعي ، فانعدام المركّب أيضا دفعي ، فنقول : إنّ المتحرّك باق حال الحركة ، والمركّب ليس بباق حال الحركة ؛ فلا تقع فيه حركة أيضا.

وبالجملة ، فالحركة الجوهريّة غير معقولة ؛ لأنّ الحركة تقتضي انعدام شيء ينتقل عنه وحدوث شيء ينتقل إليه ، وذلك يستلزم في الجوهر انتفاء الموضوع ولو بانتفاء جزئه وحدوث موضوع آخر ، فلا يكون المتحرّك باقيا في الحركة العرضيّة. وأمّا صيرورة العذرة دودا أو نحو ذلك كما في النطفة فهي استحالة لا حركة.

وظنّي أنّ ما يحكى من بعض (١) أهل الحكمة من القول بالحركة الجوهريّة لا يتمّ إلاّ بالقول بأصالة الوجود ووحدة الوجود (٢) وتنزّلاته وترقّياته من شأن إلى شأن ، كلّ يوم هو في شأن ، وذلك يستلزم الكفر والزندقة كما لا يخفى على من له فطانة.

قال : ( والمضاف تابع ).

أقول : المضاف لا تقع فيه حركة بالذات ؛ لأنّه تابع لغيره ، فإن كان متبوعه ومعروضه قابلا للحركة من جهة الشدّة والضعف قبلهما هو أيضا ، كانتقال الماء ـ الذي هو أشدّ سخونة من ماء آخر ـ من الأشدّيّة إلى الأضعفيّة مثلا ، وإلاّ فلا.

قال : ( وكذا متى ).

أقول : ذكر أنّه قال الشيخ في النجاة : « إنّ متى توجد للجسم بتوسّط الحركة ،

__________________

(١) هذا البعض هو صدر المتألّهين محمد بن إبراهيم الشيرازي الذي أثبت الحركة الجوهريّة في كتاب « الأسفار الأربعة » ٢ : ١٧٦ و ٣ : ٧٨ و ٨٥ و ٤ : ٢٧١ و ٥ : ٢٧٢ و ٦ : ٤٧ و ٨ : ٢٥٨ و ٩ : ١١٦.

(٢) تطلق عبارة « وحدة الوجود » على أيّة نظريّة تحاول تفسير الوجود بإرجاعه كلّه إلى مبدأ واحد ، وقد نشأت عدّة مدارس ومذاهب فكريّة في تاريخ الفلسفة فسّرت الوجود بتفسيرات مختلفة. راجع « الموسوعة الفلسفيّة العربيّة » ٢ : ١٥١٧.

٤٨٥

فكيف يكون فيه حركة!؟ فإنّ كلّ حركة في متى ، فلو كان فيه حركة كان لمتى متى آخر » (١).

وقال في الشفاء : « إنّ حال متى كحال الإضافة في أنّ الانتقال لا يكون فيه ، بل يكون في كمّ أو كيف » (٢).

قال : ( والجدة توجد دفعة ).

أقول : مقولة الملك لا تتحقّق فيها حركة ؛ لأنّها عبارة عن نسبة التملّك ، فإن حصل وقع دفعة ، وإلاّ فلا حصول له ، فلا تعقل فيه حركة.

قال : ( ولا تعقل حركة في مقولتي الفعل والانفعال ).

أقول : هاتان مقولتان لا توجد الحركة فيهما ؛ لأنّ الانتقال من التبرّد إلى التسخّن إن كان بعد كمال التبرّد وانتهائه ، لم يكن الانتقال من التبرّد بل من البرودة ؛ إذ التبرّد قد انقطع وعدم. وإن كان قبل كماله كان الجسم في حال واحد ـ أعني حال الحركة ـ متوجّها إلى كيفيّتين متضادّتين ، وهذا خلف.

قال : ( ففي الكمّ باعتبارين : لدخول الماء القارورة المكبوبة عليه ، وتصدّع الآنية عند الغليان ).

أقول : لمّا بيّن أنّ الحركة تقع في أربع مقولات وأبطل وقوعها في الزائد ، فشرع [ في ] تفصيل وقوع الحركة في مقولة مقولة وابتدأ بالكمّ ، وذكر أنّ الحركة تقع فيه باعتبارين :

أحدهما : التخلخل والتكاثف.

والثاني : النموّ والذبول.

أمّا الأوّل فالمراد به زيادة مقدار الجسم ونقصانه من غير ورود أجزاء جسمانيّة عليه أو نقصان أجزاء منه ؛ بناء على أنّ المقدار أمر زائد على الجسم ، وأنّ الجسم

__________________

(١) « النجاة » : ١٠٦.

(٢) « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ١٠٣.

٤٨٦

قابل للانتقال من نوع منه إلى نوع آخر على التدريج.

واستدلّ على وقوع الحركة بهذا الاعتبار بوجهين :

الأوّل : أنّ القارورة إذا كبّت على الماء فإن كان بعد المصّ القويّ دخلها الماء ، وإلاّ فلا ، مع أنّ الخلاء محال على رأيهم ، فليس ذلك إلاّ لأنّ الهواء الذي في داخل القارورة له مقدار طبيعي ، وبسبب المصّ يخرج شيء من الهواء ، فيكتسب الباقي ـ لضرورة امتناع الخلاء ـ مقدارا أكثر غير طبيعي بالتخلخل ، فإذا كبّت القارورة على الماء أوجد البرد الذي في الماء تكاثفا في ذلك الهواء ، فصغر حجمه إلى مقداره الطبيعي ، فدخلها الماء بالمصّ.

الثاني : أنّ الآنية إذا ملئت ماء وشدّ رأسها شدّا محكما ، وغليت بالنار فإنّها تنشقّ ، وليس ذلك لمداخلة أجزاء النار ؛ لعدم الثقب في الآنية ، فبقي أن يكون ذلك لزيادة مقدار ما فيها من الماء بالتخلخل وازدياد الحجم بحيث لا تسعه الآنية فتنصدع.

وفيه : أنّه يجوز كون الانصداع من جهة ميل الأبخرة إلى الصعود ، فتدبّر.

قال : ( وحركة أجزاء المغتذي في جميع الأقطار على التناسب ).

أقول : هذا هو الاعتبار الثاني ، وهو الحركة في الكمّ باعتبار النموّ.

واعلم أنّ النامي يزداد جسمه بسبب اتّصال جسم آخر به ، وتلك الزيادة ليست مطلقا موجبة للنموّ ، بل إذا كانت المداخلة في جميع الأقطار بنسبة طبيعيّة فيخرج السمن ؛ لعدم كونه في جميع الأقطار ، وكذا الورم ؛ لعدم كونه على نسبة طبيعيّة.

وأمّا الذبول فهو انتقاص حجم الأجزاء الأصليّة للجسم بسبب ما ينفصل عنه في جميع الأقطار على نسبة طبيعيّة.

ويشهد على ما ذكرنا أنّ الواقف في النموّ قد يسمن ، كما أنّ المتزايد في النموّ قد يهزل ؛ وذلك لأنّ الزيادة إذا حدثت في المنافذ ودخلت فيها وشبهت بطبيعة الأصل واندفعت أجزاء الأصل إلى جميع الأقطار على نسبة واحدة في نوعه فذاك هو النموّ. والشيخ قد يسمن ؛ لأنّ أجزاءه الأصليّة قد جفّت وصلبت ، فلا يقوى

٤٨٧

المفيد (١) على تفريقها والنفوذ فيها ، فلا تتحرّك أجزاؤه الأصليّة إلى الزيادة ، فلا يكون ناميا وإن تحرّك لحمه إلى الزيادة ، فيكون في الحقيقة نموّا في اللحم ، لكنّ المسمّى باسم النموّ إنّما هو حركة الأعضاء الأصليّة.

قال : ( وفي الكيف للاستحالة المحسوسة مع الجزم ببطلان الكمون والورود ، لتكذيب الحسّ لهما ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الحركة في الكمّ شرع في الحركة في الكيف ، أعني الاستحالة.

واستدلّ على ذلك بالحسّ ؛ فإنّا نشاهد أنّه يصير الماء البارد حارّا على التدريج وبالعكس ، وكذا في الألوان وغيرها من الكيفيّات المحسوسة.

واعلم أنّ الآراء لم تتّفق على هذا ؛ فإنّ جماعة من القدماء (٢) ـ كما حكي ـ أنكروا الاستحالة ، وافترقوا في الاعتذار عن الحرارة المحسوسة في الماء إلى قسمين :

أحدهما : من (٣) ذهب إلى أنّ في الماء أجزاء ناريّة كامنة ، فإذا ورد عليه نار من خارج برزت تلك الأجزاء وظهرت.

والثاني : من ذهب إلى أنّ الأجزاء الناريّة ترد عليه من خارج وتداخله فيحسّ منه بالحرارة.

والقولان باطلان ؛ فإنّ الحسّ يكذّبهما :

أمّا الأوّل : فلأنّ الأجزاء الكامنة يجب الإحساس بها عند مداخلة اليد لجميع

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصحيح : « المغتذي ».

(٢) للتعرّف على الأقوال في هذه المسألة راجع « الشفاء » الطبيعيّات ٢ : ٧٧ ـ ٨٥ ؛ « النجاة » : ١٤٥ ـ ١٤٨ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٦٩٥ ـ ٧٠٠ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣٨٠ ـ ٣٩٤ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٢٠٩ ـ ٢١١ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤٢٠ ـ ٤٢٣.

(٣) عرفوا بأصحاب الخليط وأصحاب الكمون والبروز ، وهم انكساغورس وأصحابه كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٧٨ ، وعند الإسلاميّين عرف بذلك إبراهيم النظّام وأصحابه كما في « الفرق بين الفرق » : ١٤٢ ؛ « الملل والنحل » ١ : ٥٦.

٤٨٨

أجزاء الماء وتفريقها قبل ورود الحرارة عليه ، ولمّا لم يكن كذلك دلّ على بطلان الكمون.

وأمّا الثاني : فلأنّا نشاهد جبلا من كبريت تقرب منه نار صغيرة فيحترق ، مع أنّا نعلم أنّه لم يكن في تلك النار الصغيرة من الأجزاء الناريّة ما يلاقي الجبل ويغلب عليه حسّا.

قال : ( وفي الأين والوضع ظاهر ).

أقول : وقوع الحركة في هاتين المقولتين ـ أعني الأين والوضع ـ ظاهر ؛ فإنّا نشاهد المتحرّك من مكان إلى آخر ، ونرى أنّ الفلك يتحرّك من وضع إلى آخر من غير خروجه عن مكانه.

واعلم أنّ الحركة في الوضع وإن استلزمت حركة الأجزاء في الأين ، لكن ذلك باعتبار آخر مغاير لاعتبار حركة الجميع في الأين.

قال : ( وتعرض لها وحدة باعتبار وحدة المقدار والمحلّ والقابل ).

أقول : الحركة منها واحدة بالعدد ، ومنها كثيرة.

أمّا الواحدة فهي الحركة المتّصلة من مبدأ المسافة إلى نهايتها ـ وقد بيّنّا تعلّق الحركة بأمور ستّة ـ والمقتضي لوحدتها إنّما هو ثلاثة منها لا غير.

الأوّل : وحدة الموضوع ، وهو أمر ضروريّ في وحدة كلّ عرض ؛ لاستحالة قيام عرض بمحلّين.

وإليه أشار بقوله : « والمحلّ ».

الثاني : وحدة الزمان ، وهو كذلك أيضا ؛ لاستحالة إعادة المعدوم بعينه.

وإليه أشار بقوله : « المقدار ».

الثالث : وحدة المقولة التي فيها الحركة ؛ فإنّ الجسم الواحد قد يتحرّك في الزمان الواحد حركتين كحركتي كيف وأين.

وإليه أشار بقوله : « والقابل ».

٤٨٩

ويحتمل أن يكون القابل هو الموضوع والمحلّ هو المقولة.

ووحدة المحرّك غير شرط ؛ فإنّ المتحرّك بقوّة ما مسافة إذا تحرّك بأخرى قبل انقطاع فعل الأولى ، اتّحدت الحركة ، وإذا اتّحدت الأشياء الثلاثة ، اتّحد ما منه وما إليه ، لكن كلّ واحد منهما غير كاف ؛ فإنّ المتحرّك من مبدأ قد ينتهي إلى شيئين ، والمنتهي إلى شيء واحد قد يتحرّك من مبدأين.

قال : ( واختلاف المتقابلين والمنسوب إليه يقتضي الاختلاف ).

أقول : إذا اختلف أحد هذه الأمور الثلاثة ـ أعني ما منه الحركة ، وما إليه الحركة ، وما فيه الحركة ـ اختلفت الحركة بالنوع ؛ فإنّ الحركة في الكيف تغاير الحركة في الأين ، وهذا ظاهر. وأيضا الصاعدة ضدّ الهابطة.

وأراد بـ « المتقابلين » ما منه الحركة ، وما إليه الحركة ، وما فيه الحركة.

ولا يشترط اختلاف الموضوع ؛ فإنّ الحجر والنار قد يتحرّكان حركة واحدة بالنوع ، ولا الفاعل ؛ لأنّ الطبيعة والنفس قد يصدر عنهما حركة واحدة به ، ولا الزمان ؛ لجواز الانتقال في زمان معيّن من أين إلى أين ومن وضع إلى وضع ومن مقدار إلى مقدار ومن كيفيّة إلى كيفيّة.

قال : ( وتضادّ الأوّلين التضادّ ).

أقول : من الحركات ما هو متضادّ ، وهي الداخلة تحت جنس آخر كالصاعدة والهابطة ، فعلّة تضادّها ليس تضادّ المتحرّك ؛ لإمكان صعود الحجر والنار ، ولا تضادّ المحرّك ؛ لصدور الصعود عن الطبع والقسر ، ولا الزمان ؛ لعدم تصوّر التضادّ فيه ؛ إذ لا يتصوّر فيه التوارد على موضوع واحد ؛ لأنّه إمّا على سبيل التعاقب أو على سبيل الاجتماع ، وكلّ منهما يقتضي الزمان ، ولا يتصوّر للزمان زمان ولا ما فيه (١) ؛ لاتّحاد المسافة فيهما فلم يبق إلاّ ما منه وما إليه.

__________________

(١) أي : ولا تضادّ ما فيه الحركة.

٤٩٠

وإليه أشار بقوله : « وتضادّ الأوّلين التضادّ » أي : وتضادّ المبدأ والمنتهى يقتضي التضادّ.

ولا يمكن التضادّ بالاستدارة والاستقامة ؛ لأنّهما غير متضادّين ؛ لعدم تصوّر غاية الخلاف بين المستقيم والمستدير ، وكذا بين المستديرتين كما أفادوا (١).

قال : ( ولا مدخل للمتقابلين والفاعل في الانقسام ).

أقول : الحركة تنقسم بانقسام الزمان ؛ فإنّ الحركة في نصف الزمان نصف الحركة في جميعه مع التساوي في السرعة والبطء. وبانقسام المتحرّك ؛ فإنّها عرض حالّ فيه ، والحالّ في المنقسم يكون منقسما. وبانقسام ما فيه ، أعنى المسافة ؛ فإنّ الحركة إلى منتصفها نصف الحركة إلى منتهاها.

ولا مدخل للمتقابلين ـ أعني المبدأ والمنتهى ـ في الانقسام ، ولا الفاعل ، أعني المحرّك [ وذلك ] كلّه ظاهر.

قال : ( وتعرض لها كيفيّة تشتدّ ، فتكون الحركة سريعة ، وتضعف فتكون بطيئة ، ولا تختلف بهما الماهيّة ).

أقول : تعرض الحركة كيفيّة واحدة تشتدّ تارة وتضعف أخرى ، فتكون الحركة باعتبار شدّتها سريعة وباعتبار ضعفها بطيئة.

ويعبّر عن السرعة بأنّها كيفيّة تقطع بها الحركة المسافة المساوية في الزمان الأقلّ ، أو المسافة الأطول في الزمان المساوي أو الأطول. وعن البطء بأنّه كيفيّة تقطع بها الحركة المسافة المساوية في الزمان الأطول ، أو المسافة الأقصر في الزمان المساوي أو الأطول.

ولا تختلف ماهيّة الحركة بسبب اختلاف السرعة والبطء ؛ لأنّ السرعة والبطء

__________________

(١) « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ٢٨٥ ـ ٢٨٩ ؛ « النجاة » : ١١٢ ـ ١١٤ ؛ « التحصيل » : ٤٤١ ـ ٤٤٣ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٧٢٨ ـ ٧٢٩ ؛ « مناهج اليقين » : ٥٨ ـ ٦٠ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٤٥٣ ـ ٤٥٦ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٢٤٤ ـ ٢٤٧ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

٤٩١

يقبلان الشدّة والضعف ، ولا شيء من الفصول بقابل لهما ؛ وذلك لأنّ سرعة بعض الحركات تختلف بالقياس إلى غيرها ، فما هو سريع بالنسبة إلى شيء قد يكون بطيئا بالنسبة إلى غيره.

قال : ( وسبب البطء الممانعة الداخليّة أو الخارجيّة ، لا تخلّل السكنات ، وإلاّ لما أحسّ بما اتّصف بالمقابل )

أقول : اعلم أنّ المتكلّمين ـ كما حكي (١) ـ ذهبوا إلى أنّ تخلّل السكنات بين أجزاء الحركة سبب للإحساس بالبطء.

والفلاسفة نفوا ذلك (٢).

واختار المصنّف مذهب الفلاسفة ، فمنعوا استناد البطء إلى تخلّل السكنات ، بل أسندوه إلى الموانع الخارجيّة كغلظ قوام ما يتحرّك فيه في الحركات الطبيعيّة ، وإلى الداخليّة كالميول الطبيعيّة بالنسبة إلى الحركات القسريّة ؛ لأنّه لو كان تخلّل السكنات سببا لبطء الحركة ، لما أحسّ بما اتّصف بالمقابل ، يعني أنّه يلزم عدم الإحساس بالحركات المتّصفة بالسرعة التي هي مقابلة للبطء ؛ لأنّ حركة الفرس في يوم واحد خمسين فرسخا ـ مثلا ـ أقلّ من حركة الفلك الأعظم في ذلك اليوم في الغاية ، فتكون حركة الفرس في غاية البطء بالنسبة إلى حركة الفلك ، بل تزيد حركة الفلك على حركة الفرس بألف ألف مرّة ، فلو كان البطء لتخلّل السكنات المتخلّلة بين حركات الفرس في ذلك الوقت أزيد من حركاته ألف ألف مرّة ، فيلزم أن لا تكون حركات الفرس محسوسة ؛ لكونها قليلة مغمورة في سكنات تزيد عليها

__________________

(١) حكاه عنهم العلاّمة في « كشف المراد » : ٢٧٠ و « نهاية المرام » ٣ : ٤٣٧ والقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٣٠٤ واللاهيجي في « شوارق الإلهام » : ٤٨٣. وانظر : « شرح المواقف » ٦ : ٢٥١ ـ ٢٥٤ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤٤٦ ـ ٤٤٧.

(٢) انظر : « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ١٥٥ و ١٩٤ ؛ « النجاة » : ١١٠ ـ ١١١ ؛ « التحصيل » : ٤٣٣ ـ ٤٣٤ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٧٢٠ ـ ٧٢١ ؛ « شرح حكمة العين » : ٤٤٦ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٤٣٧ ـ ٤٤٠ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٢٥٤ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤٤٧ ـ ٤٤٩.

٤٩٢

بألف ألف مرّة ، وليس كذلك ؛ لأنّا نشاهد حركته سريعة في الغاية ، ولا نرى شيئا من السكنات المفروضة كما تقدّم في مسألة الجزء الذي لا يتجزّأ.

قال : ( ولا اتّصال لذوات الزوايا ، والانعطاف لوجود زمان بين آني الميلين ).

أقول : كلّ حركة يكون لها رجوع عن الصوب الذي كانت له إن كان رجوعها إلى الصوب الأوّل بعينه تسمّى حركة ذات انعطاف ، وإن كان إلى صوب آخر تسمّى ذات زاوية.

وقد اختلفوا [ في ] أنّ المتحرّك بين الحركتين متّصف بالحركة كما عن أفلاطون وأكثر المتكلّمين (١) ، أو بالسكون كما عن أرسطو وأتباعه (٢) ، واختاره المصنّف ، فأفاد أنّ كلّ حركتين مستقيمتين مختلفتين فإنّ بينهما زمان سكون ، كما بين الصاعدة والهابطة ؛ لأنّ لكلّ حركة علّة تقتضي إيصال الجسم إلى المطلوب ، والوصول موجود فعلّته كذلك ، وعلّته هي الميل ، فيكون للحركة الأولى ميل يقتضي الوصول ، وللحركة الثانية ميل يقتضي زوال الوصول ، فهنا ميلان ، وكلّ منهما في آن ، والآن الذي يوجد فيه الميل المقتضي للوصول ليس هو الآن الذي يوجد فيه ميل يقتضي المفارقة ؛ للقطع باستحالة اجتماع الميلين المتخالفين في آن واحد ، ولا يتّصل الآنان ، فلا بدّ من فاصل ، وهو زمان عدم الميل بين آني الميلين ، فيكون الجسم ساكنا فيه ، وهو المطلوب.

ويرد عليه منع عدم اتّصال الآنين ؛ لإمكان زوال الميل الأوّل بمجرّد الوصول وحدوث الميل الثاني بعده بلا فصل بالآن فضلا عن الزمان مع إمكان وحدة الميل المقتضي للحركة ذات الزاوية أو الانعطاف.

مضافا إلى أنّه لو فرض صعود الخفيف وهبوط الحجر الثقيل وتلاقيهما في

__________________

(١) « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ٢٩٢ ـ ٢٩٩ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٧٧ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٢ : ٩٤ ـ ١٠٢ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٧٣٢ ؛ « مناهج اليقين » : ٥٨ ـ ٦٠ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٤٥٧ ـ ٤٦٥ ؛ « شرح حكمة العين » : ٤٥١ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٢٥٥ ـ ٢٦١ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤٥٠ ـ ٤٥٥ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٨٤ ـ ٤٨٧.

(٢) « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ٢٩٢ ـ ٢٩٩ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٧٧ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٢ : ٩٤ ـ ١٠٢ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٧٣٢ ؛ « مناهج اليقين » : ٥٨ ـ ٦٠ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٤٥٧ ـ ٤٦٥ ؛ « شرح حكمة العين » : ٤٥١ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٢٥٥ ـ ٢٦١ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤٥٠ ـ ٤٥٥ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٨٤ ـ ٤٨٧.

٤٩٣

الوسط الموجب لعود الخفيف وهبوطه وانعطافه ، يلزم سكون الحجر آن انعطاف ذلك الخفيف لو قلنا بتخلّل السكون بين الحركتين ، وهو باطل بالضرورة ، فالحقّ مع أفلاطون والأكثر.

قال : ( والسكون حفظ النسب ، فهو ضدّ ).

أقول : اختلف الناس في تحقيق ماهيّة السكون ، وأنّها هل هي وجوديّة أو عدميّة؟

والمتكلّمون (١) على الأوّل ، فجعلوه عبارة عن حصول الجسم في حيّز واحد أكثر من زمان واحد.

وبعبارة أخرى : كون الشيء في الآن الثاني في المكان الأوّل بعد الاستقرار زمانا يمكن فيه الحركة.

والحكماء (٢) على الثاني ، فقالوا : إنّه عدم الحركة عمّا من شأنه أن يتحرّك.

والمصنّف رحمه‌الله اختار قول المتكلّمين ، وهو أنّه وجوديّ ، وأنّ مقابلته للحركة تقابل الضدّية ، لا تقابل العدم والملكة ، وجعله عبارة عن حفظ النسب بين الأجسام الثابتة على حالها.

قال : ( يقابل الحركتين ).

أقول : قال العلاّمة رحمه‌الله :

يمكن أن يفهم من هذا الكلام معنيان :

أحدهما : أنّه إشارة إلى الصحيح من الخلاف الواقع بين الأوائل أنّ المقابل للحركة هو السكون في مبدأ الحركة لا نهايتها ، أو أنّ السكون مقابل للحركة من مكان السكون.

__________________

(١) « الفرق بين الفرق » : ١٣٨ ؛ « أصول الدين » : ٤٠ ـ ٤٦ ؛ « التوحيد » : ٧٦ ؛ « الفصل في الملل والأهواء والنحل » ٥ : ١٧٥ ـ ١٧٩ ؛ « المطالب العالية » ٤ : ٢٨٣ ـ ٢٩٢ ؛ « المحصّل » : ٢٣٧ ـ ٢٣٩ ؛ « تلخيص المحصّل » : ١٤٩ ـ ١٥٠ ؛ « مناهج اليقين » : ٦٠ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣٤٢ ـ ٣٤٧ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٧٢ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٤٥٧ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٠٥.

(٢) « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ١٠٨ ـ ١١١ ؛ « النجاة » : ١٠٧ ؛ « التحصيل » : ٤٢٩ ـ ٤٣١ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٢ : ٣٠ و ٤٠ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٧١٢ ـ ٧١٣ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ؛ « مناهج اليقين » : ٦٠.

٤٩٤

والحقّ هو الأخير ؛ لأنّ السكون ليس عدم الحركة خاصّة ، وإلاّ لكان المتحرّك إلى جهة ، ساكنا في غير تلك الجهة ، بل هو عدم كلّ حركة ممكنة في ذلك المكان.

واحتجّ الأوّلون بأنّ السكون في النهاية كمال للحركة ، وكمال الشيء لا يقابله.

والجواب : أنّ السكون ليس كمالا للحركة ، بل للمتحرّك.

الثاني : أنّ السكون ضدّ يقابل الحركة المستقيمة والمستديرة معا ؛ وذلك لأنّه لمّا بيّن أنّ السكون عبارة عن حفظ النسب ، وكان حفظ النسب إنّما يتمّ ببقاء الجسم في مكانه على وصفه (١) ، وجب أن يكون السكون مقابلا للحركة المستقيمة والمستديرة معا ؛ لانتفاء حفظ النسب فيهما (٢).

ولا يخفى أنّ الظاهر هو الأخير ، وإلاّ كان الصحيح أن يقول : « كلّ حركة » لا « الحركتين ».

ويمكن أن يكون المراد الحركة الأينيّة وغيرها.

قال : ( وفي غير الأين حفظ النوع ).

أقول : لمّا بيّن أنّ السكون عبارة عن حفظ النسب ، وكان ذلك إنّما يتحقّق في السكون في المكان والأين لا كلّ سكون ، فوجب عليه أن يفسّر السكون في غير الأين من المقولات الأربع ، فجعله عبارة عن حفظ النوع في المقولة التي تقع عنها الحركة ، وذلك بأن تقف في الكمّ من غير نموّ وذبول وتخلخل وتكاثف ، وفي الكيف من غير اشتداد وضعف ، وفي الوضع من غير تبدّل إلى وضع آخر.

وينبغي حمل النوع على مطلق الكلّي ؛ لئلاّ يرد أنّ الحركة قد تكون من صنف إلى صنف أو من فرد إلى فرد ، فيكون النوع محفوظا ولا سكون.

قال : ( ويتضادّ لتضادّ ما فيه ).

أقول : قد يعرض السكون التضادّ كما تعرض الحركة ؛ فإنّ السكون في المكان الأعلى

__________________

(١) في المصدر : « وضعه » بدل « وصفه ».

(٢) « كشف المراد » : ٢٧١.

٤٩٥

يضادّ السكون في المكان الأسفل ، فعلّة تضادّه ليست تضادّ الساكن ولا المسكن ولا الزمان ؛ لما تقدّم في الحركة ، ولا تعلّق له بالمبدإ والمنتهى ، فوجب أن تكون علّة تضادّه هو تضادّ ما فيه من المقولة التي يقع فيها السكون ؛ فإنّ سكون الجسم في الحرارة يضادّ سكونه في البرودة ؛ لتضادّ الحرارة والبرودة اللتين يقع فيهما السكون.

قال : ( ومن الكون طبيعيّ وقسريّ وإراديّ ).

أقول : الكون يريد به هنا الجنس الشامل للحركة والسكون ـ كما اصطلح عليه المتكلّمون (١) ـ وهو ينقسم إلى أقسام ثلاثة ؛ وذلك لأنّه عبارة عن حصول الجسم في الحيّز ، وذلك الحصول قد بيّنّا أنّه لا يجوز استناده إلى ذات الجسم ، فلا بدّ من قوّة استند إليها ، وتلك القوّة إمّا أن تكون مستفادة من الخارج وهي القسريّة ، أو لا وهي الطبيعيّة إن لم تقارن الشعور ، والإراديّة إن قارنته.

قال : ( فطبيعيّ الحركة إنّما يحصل عند مقارنة أمر غير طبيعيّ ).

أقول : الطبيعة أمر ثابت والحركة غير ثابتة ، فلا تستند إليها لذاتها ، بل لا بدّ من اقتران الطبيعة بأمر غير طبيعي ، ويفتقر في الردّ إليه إلى الانتقال ، فيكون ذلك الانتقال طبيعيّا ، أمّا في الأين فكالحجر المرميّ إلى فوق ، وتتبعها الحركة في الوضع ، وأمّا في الكيف فكالماء المسخّن ، وأمّا في الكمّ فكالذابل بالمرض.

قال : ( لردّ الجسم إليه فيقف ).

أقول : غاية الحركة الطبيعيّة إنّما هي حصول الحالة الملائمة للطبيعة التي فرضنا زوالها حتّى اقتضت الطبيعة الحركة وردّ الجسم إليها بعد عدمها عنه ، لا الهرب عن الحالة غير الطبيعيّة.

نعم ، كلّ طريق غير طبيعي مهروب عنه.

__________________

(١) « شرح الأصول الخمسة » : ٩٦ ؛ « أصول الدين » : ٤٠ ؛ « الأربعين في أصول الدين » : ٢١ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٣١٩ ـ ٣٢٢ ؛ « مناهج اليقين » : ٥٣ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٦٥ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٩٢ وما بعدها ؛ « إرشاد الطالبين » : ٧٢ ـ ٧٤ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٠٦ و ٣٨٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٥٨.

٤٩٦

وعلى كلّ تقدير فإذا حصلت الحالة الطبيعيّة وقف الجسم وعدمت الحركة الطبيعيّة ؛ لزوال الشرط ، وهو مقارنة الحالة غير الطبيعيّة.

قال : ( فلا تكون دوريّة ).

أقول : هذا نتيجة ما تقدّم ؛ فإنّ الحركة الطبيعيّة يطلب بها استرداد الحالة الطبيعيّة بعد زوالها بالهرب عن حالة غير طبيعيّة وطلب حالة طبيعيّة ، والحركة الدوريّة يطلب بها ما يهرب عنه فلا تكون طبيعيّة ، وهو ظاهر ؛ لأنّ كلّ نقطة يفرض كونها مطلوبة بالحركة ، فهي مهروب عنها بتلك الحركة ، ومن المحال أن يكون المطلوب بالطبع مهروبا عنه بالطبع.

قال : ( وقسريّتها تستند إلى قوّة مستفادة قابلة للضعف ).

أقول : الحركة القسريّة إمّا أن تكون في ملازم المتحرّك أو مع مقارنه ، والأوّل لا إشكال فيه ، والبحث في الثاني.

والمشهور أنّ المحرّك كما يفيد المقسور حركة كذلك يفيد قوّة فاعلة لتلك الحركة قابلة للضعف بسبب الأمور الخارجيّة والطبيعيّة المقاومة ، وكلّما ضعفت القوّة القسريّة بسبب المصادمات ، قويت الطبيعة إلى أن تفنى تلك القوّة بالكلّية ، فتفيد الطبيعة الحركة الطبيعيّة.

والمراد من ضعف القوّة ضعف أثرها بالمصادمة ، فلا يرد أنّ القوّة المستفادة من القاسر باقية لا تشتدّ ولا تضعف ، مع إمكان القول بقبول الضعف ، فتبطل القوّة القسريّة بالكلّيّة.

قال : ( وطبيعيّ السكون يستند إلى الطبيعة مطلقا ).

أقول : السكون ، منه طبيعيّ ، كاستقرار الأرض في المركز ، ومنه قسريّ ، كالحجر الواقف في الهواء قسرا ، ومنه إراديّ ، كسكون الحيوان بإرادته في مكان ما.

والطبيعيّ من السكون ما يستند إلى الطبيعة مطلقا ، بخلاف الحركة الطبيعيّة ؛ فإنّها المستندة إلى الطبيعة لا مطلقا ، بل عند مقارنة أمر غير ملائم ، كما مرّ.

٤٩٧

قال : ( وتعرض البساطة ومقابلها للحركة خاصّة ).

أقول : من الحركات ما هو بسيط ، كحركة الحجر إلى أسفل ، ومنها ما هو مركّب ، كحركة النملة على الرحى إذا اختلفا في المقصد ؛ فإنّ حركة كلّ واحدة من النملة والرحى وإن كانت بسيطة لكن إذا نظر إلى حركة النملة الذاتيّة وحركتها بالعرض باعتبار حصولها في محلّ متحرّك ، حصل لها تركيب.

ثمّ إن كانت إحدى الحركتين مساوية للأخرى حدث للنملة حالة كالسكون بالنسبة إلى الأمور الثابتة. وإن فضلت إحداهما على الأخرى حصل لها حركة بقدر فضل إحداهما على الأخرى.

قال : ( ولا يعلّل الجنس ولا أنواعه بما يقتضي الدور ).

أقول : الظاهر أنّ المراد هو الردّ على أبي هاشم (١) وأتباعه حيث قال ـ كما حكي ـ : إنّ جنس الأنواع الأربعة ـ وهو الحصول في الحيّز ـ معلّل بمعنى فسّرته طائفة بالكائنيّة ، فالمعنى لا يعلّل الجنس ـ أي الحصول في الحيّز ـ ولا أنواعه ـ أي الحركة والسكون ـ بالكائنيّة ؛ لأنّ الكائنيّة معلّلة بالكون الذي هو حصول الجوهر في الحيّز ، فلو علّل الحصول بها لزم الدور.

المسألة السادسة : في المتى.

قال : ( الخامس : المتى وهو النسبة إلى الزمان أو طرفه ).

أقول ، لمّا فرغ من البحث عن مقولة الأين شرع في البحث عن المتى (٢).

__________________

(١) نقله عنه في « التوحيد » : ٧٦ ؛ « نقد المحصّل » : ١٤٨ ؛ « مناهج اليقين » : ٥٣ ـ ٥٧ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٢٦٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٠٧ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٩٠. وذكر الفخر الرازي هذا القول من دون نسبته إلى قائل ونقضه ، كما في « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٨١ ، ونسبه إلى جمهور المتأخّرين في « الأربعين في أصول الدين » : ٢١ ، ونسبه الإيجي إلى قوم من المعتزلة ، على ما في « شرح المواقف » ٦ : ١٦٢.

(٢) حول تعريف المتى راجع « المنطق عند الفارابي » ١ : ١٠٨ ؛ « المنطقيّات » ١ : ٦٠ ؛ « الشفاء » المنطقيّات ١ : ٢٣١ ؛

٤٩٨

والمراد بها نسبة الشيء إلى الزمان أو طرفه بالحصول فيه أو في طرفه كالحروف الآنيّة الحاصلة دفعة.

وهو إمّا حقيقيّ ، وهو كون الشيء في زمان لا يفضل عليه كالصيام في النهار ، والكسوف في ساعة معيّنة. وإمّا غير حقيقيّ كالصلاة فيه أو الكسوف في يوم كذا.

والفرق بين المتى الحقيقيّ والأين الحقيقيّ في النسبة أنّ المتى الواحد قد يشترك فيه كثيرون ، بخلاف الأين الحقيقيّ.

قال : ( والزمان مقدار الحركة من حيث التقدّم والتأخّر العارضين لها باعتبار آخر ).

أقول : الحركة يعرض لها التقدّم والتأخّر وتتقدّر باعتبارهما ؛ فإنّ الحركة لا بدّ لها من المسافة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها ، ولا بدّ لها من زمان ، ويعرض لأجزائها تقدّم وتأخّر باعتبار تقدّم بعض أجزاء المسافة على بعض ؛ فإنّ الجزء من الحركة الحاصل في الجزء المتقدّم من المسافة متقدّم على الحاصل في المتأخّر ، وكذلك الحاصل في المتقدّم من الزمان متقدّم على الحاصل في متأخّره.

لكنّ الفرق بين تقدّم المسافة وتقدّم الحركة أنّ المتقدّم من المسافة يجامع المتأخّر ، بخلاف أجزاء الحركة ، ويحصل للحركة عدد باعتبارين ، فالزمان هو مقدار الحركة وعددها من حيث التقدّم والتأخّر العارضين لها باعتبار المسافة لا باعتبار الزمان ، وإلاّ لزم الدور.

وإلى هذا أشار بقوله : « باعتبار آخر » مغاير لاعتبار الزمان.

وأمّا ما أفاد الشارح القوشجي (١) ـ من أنّ معناه أنّ هذا التقدّم والتأخّر العارضين لأجزاء الزمان ليس باعتبار الزمان على ما ذهب إليه الحكماء ، بل باعتبار آخر ؛ لأنّ

__________________

« التحصيل » : ٤١٤ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥٨١ ؛ « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٣٧٤ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٣٨٣ ؛ « التعريفات » : ٢٥٧ ، الرقم ١٢٧٤ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٠٧.

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٣٠٧.

٤٩٩

تقدّم بعض أجزاء الزمان على بعض ذاتيّ لا زمانيّ.

فغير وجيه. ويشهد على ذلك قوله : « لها » لا « له ».

وبالجملة ، فالزمان أمر ممتدّ غير المسافة تتقدّر به الحركة.

وقد يقال : إنّ الزمان كالحركة له معنيان (١) :

أحدهما : أمر موجود في الخارج غير منقسم ، وهو مطابق للحركة بمعنى التوسّط ، ويسمّى بالآن السيّال (٢) أيضا.

والثاني : أمر متوهّم لا وجود له في الخارج ، فيكون أمرا ممتدّا وهميّا للحركة بمعنى القطع.

قال : ( وإنّما تعرض المقولة بالذات للمتغيّرات وبالعرض لمعروضها ).

أقول : هذه المقولة التي هي المتى إنّما تعرض بالذات للمتغيّرات كالحركة ، وإنّما تعرض لغيرها بالعرض وبواسطتها ؛ فإنّ ما لا يتغيّر لا تعرض له هذه النسبة إلاّ باعتبار عروض صفات متغيّرة له ، كالأجسام التي تعرض لها الحركات ونحوها من الصفات المتغيّرة ، فتلحقها هذه النسبة.

قال : ( ولا يفتقر وجود معروضها وعدمه إليه ).

أقول : الذي فهمناه من هذا أمران :

أحدهما : أنّ وجود معروض المتغيّرات وعدمه لا يفتقر إلى الزمان ؛ لأنّه مقدار التغيّرات ، وهي متأخّرة عن المتغيّرات التي هي معروضها ؛ ضرورة تقدّم المعروض على عارضه ، والتغيّرات متقدّمة على الزمان ؛ لأنّ الشيء متقدّم على مقداره القائم به ، فتكون المتغيّرات أيضا متقدّمة على الزمان ؛ لأنّ المتقدّم على المتقدّم متقدّم ،

__________________

(١) انظر : « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ١٦٠ ـ ١٦٥ ؛ « النجاة » : ١١٥ ـ ١١٨ ؛ « التحصيل » : ٤٥٣ ـ ٤٦٤ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٢ : ٧٧ ـ ٨٠ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٧٨٣ ـ ٧٨٧ ؛ « المطالب العالية » ٥ : ٨٣ ـ ٨٨ ؛ « نهاية المرام » ٣ : ٥٢٩ ـ ٥٣٤.

(٢) انظر : « المباحث المشرقيّة » ١ : ٧٨٦ ـ ٧٨٧ ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » ١ : ٧٢ ـ ٧٥.

٥٠٠