البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

وأمّا إدراك النفس ذاتها وهويّتها فلا يفتقر إلى توسّط الآلة ؛ لكونه حضوريّا لا حصوليّا وارتساميّا ، مضافا إلى ما يقال من أنّ إدراك الجزئيّات المادّيّة محتاج إلى الآلة دون الجزئيّات المجرّدة ، والنفس من الجزئيّات المجرّدة (١).

المسألة الثانية عشرة : في قوى النفس.

قال : ( وللنفس قوى تشارك بها غيرها ، هي الغاذية والنامية والمولّدة ).

أقول : لمّا كان البدن آلة للنفس في أفاعيلها المنوطة به كان صلاحها بصلاحه. ولمّا كان البدن مركّبا من العناصر المتضادّة ، وكان تأثير الجزء الناريّ فيه الإحالة ، احتيج في بقائه إلى إيراد بدل ما يتحلّل منه ، فاقتضت حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوّة يمكنها بها استخلاف ما ذهب بما يأتي ، وذلك إنّما يكون بالغذاء ، وهي الغاذية.

ثمّ لمّا كان البدن أوّل خلقته محتاجا إلى زيادة في مقداره على تناسب في أقطاره بأجسام تنضمّ إليه من خارج ، وجب في حكمته تعالى جعل النفس ذات قوّة يمكنها بها تحصيل جواهر قابلة للتشبّه بالبدن منضمّة إليه على تناسب في أقطاره ، وهي النامية.

ثمّ لمّا كان البدن ينقطع ويعدم ويعرض الموت ، واقتضت عناية الله تعالى الاستحفاظ لهذا النوع وجب في حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوّة تحيل بعض الجواهر المستعدّة لقبول الصورة الإنسانيّة الى تلك الصورة ، وهي القوّة المولّدة. فكانت النفس ذات قوى ثلاث : الغاذية ، والنامية ، والمولّدة.

وهذه القوى مشتركة بين الإنسان والحيوان العجم والنبات.

والغاذية هي التي تحيل الغذاء إلى مشابهة المتغذّي ليخلف بدل ما يتحلّل.

__________________

(١) انظر : « شرح المقاصد » ٣ : ٣٣٦ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٠٥.

٣٦١

والنامية هي التي تزيد في أقطار الجسم على التناسب الطبيعي ليبلغ إلى تمام النشوء ، ولا يحصل نحو الاستسقاء من البرص.

والمولّدة هي التي تفيد المنيّ بعد استحالته في الرحم الصورة والقوى والأعراض ، أو تعدّه لها ، بناء على أنّ استناد التصوير إلى هذه القوّة باطل ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

والحاصل : أنّ النفس لها مراتب يطلق على كلّ مرتبة لفظ النفس :

الأولى : مرتبة النفس الجمادية ، وأثرها حفظ التركيب فقط.

الثانية : مرتبة النفس النباتيّة ، وأثرها ـ مضافا إلى ما ذكر ـ التغذية بالغاذية ، والتنمية بالنامية ، والتوليد ـ ولو بالإعداد المقتضي للاستعداد ـ بالمولّدة. وهذه القوى تسمّى بالنباتيّة والطبيعيّة.

الثالثة : مرتبة النفس الحيوانيّة ، وأثرها ـ مضافا إلى ما ذكر ـ الحركة بالإرادة والحسّ بالحواسّ الخمس الظاهرة والخمس الباطنة الموجبة للإدراكات الجزئيّة.

الرابعة : مرتبة النفس الناطقة الإنسانيّة التي يحصل بها إدراك الكلّيّات والجزئيّات المجرّدة بلا واسطة مضافا إلى ما ذكر.

الخامسة : مرتبة النفس الإلهيّة التي يحصل بها التخلّي عن الأخلاق الرذيلة ، والتحلّي بالأخلاق الحسنة ، ويسهل بها صدور الأفعال وتحمّل المشاقّ ، كالحلم والرياضة. فالقسم الأوّل عامّ العامّ ، والثاني هو العامّ ، والثالث هو الخاصّ ، والرابع خاصّ الخاصّ ، والخامس هو الأخصّ المخصوص بأمثال روح الله ونفس الله.

قال : ( وأخرى أخصّ بها يحصل الإدراك إمّا للجزئيّ أو للكلّيّ ).

أقول : للنفس أيضا قوى أخصّ من الأولى ، وأثرها الإدراك إمّا للجزئيّ وهو الإحساس ، وإمّا للكلّيّ وهو التعقّل ، فالإحساس مشترك بينه وبين الحيوان العجم خاصّة ، فهو أخصّ من القوى الأولى المشتركة بينها وبين النباتات ، والتعقّل أخصّ من الإحساس ؛ لأنّه لا يحصل للحيوان بل للإنسان.

٣٦٢

قال : ( فللغاذية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة ).

أقول : القوّة الغاذية يتوقّف فعلها على أربع قوى ليتمّ الاغتذاء ، وهي الجاذبة للغذاء ، والماسكة له لتهضمه الهاضمة ، والهاضمة وهي التي تحيل الغذاء الذي جذبته الجاذبة وأمسكته الماسكة إلى حال يستعدّ بها لأن تجعله الغاذية جزءا بالفعل من المتغذّي. وابتداء الهضم في الفم ؛ ولهذا كانت الحنطة الممضوغة ـ مثلا ـ تؤثّر في نضج الدماميل ، ثمّ في المعدة بصيرورته كيلوسا وجوهرا شبيها بماء الكشك الثخين ولو بمخالطة الرطوبة الداخلة ، كما في الحيوان الآكل للحجر ، ثمّ في الماساريق والكبد بصيرورته كيموسا مستحيلا إلى الأخلاط ، ثمّ في العروق ، ثمّ في الأعضاء. وحيث يفضل من الغذاء ما يوجب ثقل البدن وفساده ـ بل بعضه لا يقبل الاستحالة إلى ما يناسب المتخلّل ـ احتيج إلى الدافعة للفضلات.

قال : ( وقد تتضاعف هذه لبعض الأعضاء ).

أقول : قد تتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء كالمعدة ؛ فإنّ فيها التي تجذب غذاء كلّية البدن ، والتي تمسكه هناك ، والتي تغيّره إلى ما يصلح لأن يصير دما ، والتي تدفعه إلى الكبد. وفيها أيضا قوّة جاذبة لما تغتذي به المعدة خاصّة وقوّة ماسكة وقوّة هاضمة وقوّة دافعة ، فتلك القوى في المعدة مضاعفة ؛ فإنّها قد تكون لنفسها ، وقد تكون لغيرها ، فتأمّل.

قال : ( والنموّ مغاير للسمن ).

أقول : النموّ هو زيادة في الجسم بسبب اتّصال جسم آخر به من نوعه ، وتكون [ الزيادة ] (١) تداخله في أجزاء المزيد عليه ، وهو مغاير للسمن ؛ لتحقّق النموّ بدون السمن في الصبيّ المهزول. وعكسه في بعض الشيوخ ؛ فإنّ الأجزاء الأصليّة قد جفّت وصلبت ، فلا يقوى الغذاء على تفريقها ، فلا يتحقّق النموّ. وكذلك الذبول مغاير للهزال.

__________________

(١) الإضافة أثبتناها من « كشف المراد » : ١٩٤.

٣٦٣

قال : ( والمصوّرة عندي باطلة ؛ لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركّبة عن قوّة بسيطة ليس لها شعور أصلا ).

أقول : أثبت الحكماء للنفس قوّة يصدر عنها التصوير والتشكيل بشكل نوع ذي القوّة (١).

والحقّ ما ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله من أنّ ذلك محال ؛ لأنّ هذه الأشكال والصور أمور محكمة متقنة عجيبة عجزت عن إدراك حكمها العقول والأفهام.

وقد يقال : « إنّ المنافع المدوّنة في علم التشريح خمسة آلاف وما لم يعلم أكثر ممّا علم ، فلا تصدر عن طبيعة غير شاعرة لما يصدر عنها ، بل يجب إسنادها إلى مدبّر حكيم قدير » (٢).

وأيضا فإنّ هذه التشكيلات أمور مركّبة ، والقوّة البسيطة لا يصدر عنها أشياء كثيرة ، فتأمّل.

المسألة الثالثة عشرة : في أنواع الإحساس.

قال : ( وأمّا قوّة الإدراك للجزئي فمنه اللمس ، وهي قوّة منبثّة في البدن كلّه ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الأمر العامّ ـ أعني القوّة النباتيّة ـ شرع الآن في البحث عمّا هو أخصّ منه ـ وهو القوّة الحيوانيّة ـ أعني الإحساس المشترك بين الإنسان وغيره من الحيوانات العجم ـ وبدأ باللمس ؛ لأنّ اللمس كيفية قائمة بالبدن كلّه منبثّة في ظاهره أجمع ، ويدرك بها المنافي والملائم. مضافا إلى ما يقال من أنّه أوّل الحواسّ الذي يصير به الحيوان حيوانا ، ويجوز أن يفقد سائر القوى دونه (٣).

قال : ( وفي تعدّده نظر ).

__________________

(١) انظر : « الشفاء » كتاب النفس ٢ : ١٥١ ؛ « التحصيل » : ٧٨٥.

(٢) انظر : « شرح تجريد العقائد » : ٢٠٧.

(٣) القائل هو الشيخ في « الشفاء » ٤ : ٥٨ ، كتاب النفس ، الفصل الثالث من المقالة الثانية.

٣٦٤

أقول : اختلف الناس في اللمس هل هي قوّة واحدة أو قوى كثيرة؟ فالجمهور (١) على أنّه قوى أربع :

الأولى : الحاكمة بين الحارّ والبارد.

الثانية : الحاكمة بين الرطب واليابس.

والثالثة : الحاكمة بين الصلب واللين.

الرابعة : الحاكمة بين الخشن والأملس ، لأنّ القوّة الواحدة لا يصدر عنها أكثر من أمر واحد.

ومنهم من زاد الحاكمة بين الثقل والخفّة (٢).

وفيه نظر ؛ لإمكان تعدّد الجهة ، فلا تتوجّه قاعدة « الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد » مضافا إلى منع أصلها ، وإمكان القول بحصول الاستعداد للنفس بها فتدرك كلّها.

قال : ( ومنه الذوق ، ويفتقر إلى توسّط الرطوبة اللعابية الخالية عن المثل والضدّ ).

أقول : الذوق قوّة قائمة في سطح اللسان أو العصب المفروش على جرم اللسان ، وهو ثاني اللمس في المنفعة ؛ إذ يتمكّن به على جذب الملائم ودفع المنافر من المطعومات ، كما أنّ اللمس يتمكّن به على مثل ذلك في الملموسات ، ويوافقه في الاحتياج إلى الملامسة ، ولكن لا يكفي فيه الملامسة بل لا بدّ من توسّط الرطوبة اللعابيّة الخالية عن الطعوم المماثلة أو المضادّة ؛ لأنّها إن كانت ذات طعم مماثل للمدرك لم يتحقّق الإدراك ؛ لأنّ الإدراك إنّما يكون بالانفعال ، والشيء لا ينفعل عن

__________________

(١) منهم الشيخ في « الشفاء » ٢ : ٣٤ كتاب النفس ، الفصل الخامس من المقالة الأولى و ٢ : ٦٢ ، الفصل الثالث من المقالة الثانية ؛ « النجاة » ١٥٩ ـ ١٦٠ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٧٠ ـ ٢٧١ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٠٩ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٣٧٣.

(٢) لم ينسب إلى قائل معيّن ، كما في « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٢٩٢ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٠١ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٠٩ ، إلاّ أنّ بهمنيار في « التحصيل » : ٧٤٧ عدّهما بدل الخشن والأملس.

٣٦٥

مماثله. وإن كانت ذات طعم مضادّ لم تؤدّ الكيفيّة على صرافتها [ في الصحّة ] (١) كما في المرض ؛ فإنّ الممرور يجد طعم العسل مرّا وكذا غير ذلك.

قال : ( ومنه الشمّ ، ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل من (٢) ذي الرائحة إلى الخيشوم ).

أقول : الشمّ قوّة في الدماغ تحملها زائدتان نابتتان من مقدّم الدماغ في الخيشوم شبيهتان بحلمتي الثدي ، ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل من ذي الرائحة إلى الخيشوم (٣) ، أو وصول أجزاء من ذي الرائحة إليه ؛ لأنّه إنّما يدرك بالملاقاة.

وقد ذهب قوم إلى أنّ الشمّ إنّما يكون بتحلّل أجزاء الجسم ذي الرائحة وانتقاله مع الهواء المتوسّط إلى الحاسّة (٤).

وقال الآخرون : إنّ الهواء المتوسّط يتكيّف بتلك الكيفيّة لا غير ، وإلاّ لنقص وزن الجسم ذي الرائحة باستشمامها (٥).

المصنّف رحمه‌الله نبّه بكلامه على تجويز الأمرين ؛ لأنّ الشمّ يحصل بكلّ واحد منهما.

قال : ( ومنه السمع ، ويتوقّف على وصول الهواء المنضغط إلى الصماخ ).

أقول : السمع قوّة مودعة في العصب المفروش في مقعّر الصماخ.

وقد ذهب قوم (٦) إلى أنّ السمع يحصل عند تأدّي الهواء ـ المنضغط بين القالع

__________________

(١) الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : ١٩٥.

(٢) في « تجريد الاعتقاد » و « كشف المراد » المطبوعين : « أو » بدل « من ».

(٣) هو قول الجمهور على ما في « شرح المقاصد » ٣ : ٢٧٤ و « شرح تجريد العقائد » : ٢١٠ ، وبه قال الشيخ في « الشفاء » ٢ : ٦٧ و « النجاة » : ١٥٩.

(٤) انظر : « الشفاء » ٢ : ٦٢ ، كتاب النفس ، الفصل الرابع من المقالة الثانية ؛ « شرح المواقف » ٧ : ١٩٩ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٧٤.

(٥) منهم الإيجي في « المواقف ». انظر : « شرح المواقف » ٧ : ١٩٩ ، وقال الفخر الرازي بعد نقل القولين : « والحقّ أن كلا المذهبين صحيح » كما في « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٢٩٥.

(٦) لمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « الشفاء » ٢ : ٧٠ ـ ٧٦ ؛ « التحصيل » : ٧٥٣ ـ ٧٥٧ ؛ « المباحث المشرقيّة »

٣٦٦

والمقلوع ، أو القارع بالإمساس العنيف والمقروع المتكيّف بكيفيّة الصوت عند مقاومة المقلوع للقالع والمقروع للقارع ـ إلى الصماخ ؛ ولهذا يدرك الجهة ويسمع صوت المؤذّن من كان في جهة تهبّ الريح إليها وإن كان بعيدا ، ولا يسمعه غيره وإن كان قريبا.

ويتأخّر السماع عن الإبصار ؛ لتوقّف الأوّل على حركة الهواء دون الثاني.

ويشهد على ذلك أنّا إذا رأينا من البعيد إنسانا يضرب الفأس على الخشب رأينا الضرب قبل سماع الصوت.

والمصنّف رحمه‌الله مال إلى هذا هاهنا.

وأورد عليه : بأنّ الصوت قد يسمع من وراء الجدار المحيط بالسامع من جميع الجوانب ، والهواء لا يحمل الكلمة المخصوصة ما لم يتشكّل بشكل مخصوص في الخارج ، مع امتناع بقاء الشكل على حاله لو أمكن نفوذ الهواء.

وأجيب عنه : أنّ شرط السماع بقاء الهواء على كيفيّته التي هي الصوت المتفرّع على التموّج ، ولا يبعد أن ينفذ الهواء في المنافذ الضيّقة متكيّفا بالكيفيّة التي هي الصوت المخصوص (١).

والمراد بالشكل تلك الكيفيّة على سبيل التجوّز لا الشكل الحقيقي ، حتّى لا يتصوّر النفوذ به.

قال : ( ومنه البصر ، ويتعلّق بالذات بالضوء واللون ).

أقول : البصر ـ كما أفيد (٢) ـ قوّة مودعة في ملتقى العصبتين المجوّفتين اللتين

__________________

١ : ٤١٩ وما بعدها و ٢ : ٢٩٢ وما بعدها ؛ « شرح المواقف » ٢ : ٢٧٣ ـ ٢٧٨ و ٥ : ٢٥٦ ـ ٢٦٨ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٦٠ ـ ٥٧٤.

(١) لمزيد الاطّلاع حول الإيراد والجواب عنه راجع « المحصّل » : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٦١ ـ ٢٧١ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٧٦ ـ ٢٧٨ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٥٦٤ ـ ٥٧١ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢١١.

(٢) انظر : « شرح المقاصد » ٣ : ٢٧٨ ؛ « شرح تجريد العقائد » ٢١١ ـ ٢١٢ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٣٧٧.

٣٦٧

هما نابتتان من مقدّم الدماغ حتّى تتلاقيا وتتقاطعا تقاطعا جليّا ، ويصير تجويفهما واحدا ، ثمّ تتباعدان إلى العينين ، فذلك التجويف هو محلّ القوّة الباصرة ومجمع النور.

والمبصرات إمّا أن يتعلّق الإبصار بها أوّلا وبالذات وبلا واسطة شيء ، أو ثانيا وبالعرض.

والأوّل هو الضوء واللون لا غير ؛ فإنّ اللون أيضا تتعلّق به الرؤية بلا واسطة شيء وإن كان تعلّقها به مشروطا بالضوء.

والثاني ما عداهما ، كالشكل والحجم والمقدار والحركة والوضع والحسن والقبح وغير ذلك من أصناف المرئيّات.

قال : ( وهو راجع فينا إلى تأثّر الحدقة ).

أقول : الإدراك عند جماعة المعتزلة والفلاسفة ـ على ما حكي (١) ـ راجع إلى تأثّر الحاسّة ، فالإبصار بالعين معناه تأثّر الحدقة وانفعالها عن الشيء المرئيّ ، هذا في حقّنا ؛ ولهذا قيّده المصنّف رحمه‌الله بقوله : « فينا » لأنّ الإدراك ثابت في حقّه تعالى ولا يتصوّر فيه التأثّر.

وذهبت الأشاعرة إلى ثبوت الرؤية في حقّه تعالى من غير تأثّر الحدقة ؛ إذ لا جارحة هناك. (٢)

قال : ( ويجب حصوله مع شرائطه ).

أقول : شرائط الإدراك ـ كما أفيد (٣) ـ سبعة :

__________________

(١) حكاه عنهم العلاّمة رحمه‌الله في « كشف المراد » : ١٩٦.

(٢) انظر : « المطالب العالية » ٢ : ٨١ ـ ٨٧ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١١٥ وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٧٩ وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢١٢ و ٣٢٧ وما بعدها.

(٣) انظر : « المطالب العالية » ٢ : ٨٣ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٣٥ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٨٥ و ٤ : ١٩٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢١٢ ـ ٢١٣.

٣٦٨

الأوّل : عدم البعد المفرط.

الثاني : عدم القرب المفرط ، ولهذا لا يبصر ما يلتصق بالعين.

الثالث : عدم الحجاب.

الرابع : عدم الصغر المفرط.

الخامس : أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل.

السادس : وقوع الضوء على المرئيّ إمّا من ذاته أو من غيره.

السابع : أن يكون المرئيّ كثيفا حاجبا عن رؤية ما وراءه بمعنى وجود اللون والضوء له.

إذا عرفت هذا ، فنقول : عند المعتزلة والأوائل (١) أنّه عند حصول هذه الشرائط يجب الإدراك بالضرورة ؛ فإنّ سليم الحاسّة يشاهد الشمس إذا كانت على خطّ نصف النهار بالضرورة. ولو شكّك العقل في ذلك وجوّز عدم الإبصار معها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ورياض رائقة وكنّا لا ندركها. وذلك سفسطة.

وأمّا الأشاعرة (٢) فلم يوجبوا ذلك وجوّزوا مع حصول جميع الشرائط انتفاء الإدراك.

واحتجّوا بأنّا نرى الكبير صغيرا ، والسبب فيه رؤية بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الجميع في الشرائط.

وهو خطأ ؛ لوقوع التفاوت بالقرب والبعد ، فلهذا أدركنا بعض الأجزاء ، وهي القريبة دون الباقي.

قال : ( بخروج الشعاع ).

أقول : اختلف الناس في كيفيّة الإبصار على مذاهب عديدة ، والمشهور ثلاثة :

الأوّل : مذهب الرياضيّين ، وهو أنّ الإبصار بخروج الشعاع من العينين على هيئة

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة في الهامش المتقدّم.

(٢) راجع المصادر المذكورة في الهامش المتقدّم.

٣٦٩

مخروط رأسه عند مركز البصر وقاعدته عند سطح المبصر ، ولكن اختلفوا في كون ذلك المخروط مصمتا أو مركّبا من خطوط شعاعيّة مستقيمة أطرافها التي تلي البصر مجتمعة عند مركزه ، ثمّ تمتدّ متفرّقة إلى المبصر ، فما ينطبق عليه من المبصر أطراف تلك الخطوط أدركه البصر ، وما وقع بين أطراف تلك الخطوط لم يدركه ؛ ولذا يخفى على المبصر المسامات التي في غاية الدقّة في سطوح المبصرات (١).

وعن جماعة أنّ الخارج من العين خطّ واحد مستقيم إذا انتهى إلى المبصر تحرّك على سطحه في جهتي طوله وعرضه في غاية السرعة فيتخيّل هيئة مخروطة (٢).

وبالجملة ، فاختار المصنّف رحمه‌الله مذهب الرياضيّين.

الثاني : مذهب الطبيعيّين وهو أنّ الإبصار إنّما يكون بانطباع صورة المرئيّ في الجليديّة ، وهو المحكيّ عن أرسطو وأتباعه كالشيخ الرئيس وغيره (٣) ، قالوا : إنّ مقابلة المبصر للباصرة توجب استعداد يفيض به صورته على الجليديّة ، ولا يكفي في الإبصار الانطباع في الجليديّة ، وإلاّ لرأى الواحد اثنين ؛ لانطباع صورته على جليدتي العينين ، بل لا بدّ من تأدّي الصورة إلى ملتقى العصبتين المجوّفتين ، ومنه إلى الحسّ المشترك ، لا بالانتقال بل بإفاضة صورة مماثلة.

الثالث : مذهب طائفة من الحكماء ، وهو أنّ الإبصار ليس بخروج الشعاع والانطباع ، بل الهواء المشفّ الذي بين البصر والمرئيّ يتكيّف بكيفيّة الشعاع الذي في البصر ، ويصير بذلك آلة للإبصار (٤).

__________________

(١) انظر : « الشفاء » ٢ : ١٠٢ كتاب النفس ، الفصل الخامس من المقالة الثالثة ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٢٩٩ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ١٩٤ ـ ١٩٥ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٧٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢١٣.

(٢) انظر : « شرح المواقف » ٧ : ١٩٤ ـ ١٩٥ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٧٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢١٣.

(٣) « الشفاء » ٢ : ١٠٢ و ١٠٥ ؛ « التحصيل » : ٧٦٠ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٢٩٩ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ١٩٢ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢١٣.

(٤) انظر : « الشفاء » ٢ : ١٠٢ كتاب النفس ، الفصل الخامس من المقالة الثالثة ؛ « المباحث المشرقية » ٢ : ٢٩٩ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٧٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢١٣.

٣٧٠

والحقّ أنّ المذهب الأوسط أوسط ، كما لا يخفى.

وحيث كان انطباع الصورة غير انطباع العين في العين ، لا يرد أنّه يستحيل انطباع العظيم في الصغير (١).

قال : ( فإن انعكس إلى المدرك أبصر وجهه ).

أقول : الشعاع إذا خرج من العين واتّصل بالمرئيّ وكان صقيلا كالمرآة انعكس عنه إلى كلّ ما نسبته إلى المرئيّ كنسبة العين إليه ؛ ولهذا وجب تساوي زاويتي الشعاع والانعكاس ، ووجب أن يشاهد بالمرآة كلّ ما وضع إليها كوضع المرئيّ ، فإن انعكس الشعاع إلى الرائي نفسه أدرك وجهه ، فإذا انتفت الصقالة لم يحصل الانعكاس كالأشياء الخشنة ؛ فإنّه لا ينعكس عنها إلى غيرها ، هذا مذهب أصحاب الشعاع في رؤية الإنسان وجهه بالمرآة (٢).

وأمّا القائلون بالانطباع ، فقالوا : إنّه تنطبع في المرآة صورة الرائي ، ثمّ تنطبع في العين من تلك الصورة صورة أخرى ؛ ولهذا تكون الصورة على قدر المرآة لا المرئيّ وينتقش في الصيقلي المقابل للمنقّش نقشه مع عدم شعاع هناك (٣).

قال : ( وإن عرض تفرّق السهمين تعدّد المرئيّ ).

أقول : هذا إشارة إلى علّة الحول عند القائلين بالشعاع ، والسبب في الحول عندهم أنّ النور الممتدّ من العين على شكل المخروط قوّته في سهم المخروط ، فإذا خرج من العينين مخروطان والتقى سهماهما عند البصر واتّحدا أدرك المدرك [ الشيء ] (٤) كما هو ، وإن لم يلتق السهمان عند شيء واحد رأى الرائي الشيء

__________________

(١) أورده الفخر الرازي في « المحصّل » : ٢٦٠ ، وذكره العلاّمة في « كشف المراد » : ١٩٧.

(٢) انظر : « الشفاء » ٢ : ١٠٤ ـ ١٠٥ كتاب النفس ، الفصل الخامس من المقالة الثالثة ؛ « التحصيل » : ٧٦٦ ـ ٧٨١ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ١٩٥ و ١٩٧ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢١٥.

(٣) « شرح تجريد العقائد » : ٢١٦.

(٤) الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : ١٩٨.

٣٧١

الواحد شيئين (١).

وأمّا القائلون بالانطباع (٢) فإنّهم قالوا : الصورة تنطبع أوّلا في الجليديّة ، وليس الإدراك عندها وإلاّ لأدركنا الشيء الواحد شيئين ، كما إذا لمسنا باليدين كان لمسين ، ولكنّ الصورة التي في الجليديّة تتأدّى بواسطة الروح المصبوب في العصبتين إلى ملتقاهما وعند الملتقى روح مدرك ، وحينئذ ترتسم عند الروح من الصورتين صورة واحدة ، فيرى بها ذلك الشيء واحدا ، وإن عرض عارض اقتضى أن لا تتأدّى الصورتان من الجليدتين دفعة واحدة رأى متعدّدا.

المسألة الرابعة عشرة : في أنواع القوى الباطنة المتعلّقة بإدراك الجزئيّات.

قال : ( ومن هذه القوى المدركة للجزئيّات بنطاسيا ، الحاكمة بين المحسوسات ).

أقول : أثبت الأوائل (٣) للنفس قوى جزئيّة ، خمس باطنية : الحسّ المشترك ، والخيال ، والوهم ، والحافظة ، والمتصرّفة ، فنقول :

الأولى : ما يسمّى باليونانيّة بنطاسيا ، أي لوح النفس ، وهي الحسّ المشترك المدرك للصور الجزئيّة التي تجتمع عنده من المحسوسات ، وهو ـ كما أفيد (٤) ـ قوّة مرتّبة في مقدّم التجويف الأوّل من التجاويف الثلاثة التي في الدماغ تقبل جميع الصور المنطبعة في الحواسّ الظاهرة ، فهؤلاء كجواسيس لها ؛ ولذا تسمّى حسّا مشتركا.

__________________

(١) انظر : « الشفاء » : ٢ : ١٣٢ كتاب النفس ، الفصل الثامن من المقالة الثالثة ؛ « التحصيل » : ٧٦٣ ـ ٧٦٤ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٣٢٦.

(٢) انظر : « الشفاء » ٢ : ١٣٣ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٣٢٧ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢١٦.

(٣) انظر : « الشفاء » ٢ : ١٤٥ وما بعدها ؛ « النجاة » ١٦٢ ـ ١٦٣ ؛ « التحصيل » : ٧٨٢ وما بعدها.

(٤) « النجاة » : ١٦٣ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٣٣٥ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٠٤ ـ ٢٠٨ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

٣٧٢

الثانية : خزانته ، وهي الخيال ، وهو ـ كما أفيد (١) ـ قوّة مرتّبة في مؤخّر التجويف الأوّل تحفظ جميع الصور المحسوسة ؛ ولهذا يحصل التذكّر بعد الذهول.

الثالثة : الوهم ، وهو قوّة مرتّبة في آخر التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني الجزئيّة المتعلّقة بالمحسوسات ، كالصداقة الجزئيّة والعداوة الجزئيّة.

الرابعة : خزانته ، وهي الحافظة المرتّبة في أوّل التجويف الآخر من الدماغ تحفظ ما يدرك الوهم.

الخامسة : القوّة التي يكون سلطانها في أوّل التجويف الثاني من الدماغ ، وهي القوّة المتصرّفة في الصور الجزئيّة والمعاني الجزئيّة بالتركيب والتحليل ، فتركّب صورة إنسان يطير وجبل ياقوت.

وهذه القوّة تسمّى مخيّلة إن استعملتها القوّة الوهميّة ، ومفكّرة إن استعملها العقل والقوّة الناطقة.

إذا عرفت هذا فنقول : الدليل على ثبوت الحسّ المشترك وجوه :

أحدها : أنّا نحكم على صاحب لون معيّن بطعم معيّن ، فلا بدّ من حضور هذين المعنيين عند الحاكم وهو النفس ، وهي تدرك الجزئيّات بواسطة الآلات على ما تقدّم ، فيجب حصولهما معا في آلة واحدة ، وليس شيء من الحواسّ الظاهرة قابلا لذلك ، فلا بدّ من إثبات قوّة باطنة هي الحسّ المشترك.

وإلى هذا الدليل أشار بقوله : « الحاكمة بين المحسوسات ».

قال : ( لرؤية القطرة خطّا والشعلة دائرة ).

أقول : هذا دليل ثان على إثبات الحسّ المشترك.

وتقريره : أنّا نرى القطرة النازلة بسرعة خطّا مستقيما ، والشعلة الجوّالة بسرعة دائرة مع أنّه ليس في الخارج كذلك ، ولا في القوّة الباصرة ؛ لأنّ البصر إنّما يدرك

__________________

(١) « النجاة » : ١٦٣ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٠٨ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٩٤.

٣٧٣

الشيء على ما هو عليه ، ولا النفس ؛ لأنّها لا تدرك الجزئيّات. فلا بدّ من قوّة أخرى يحصل بها إدراك القطرة حال حصولها في المكان الأوّل ، ثمّ إدراكها حال حصولها في الثاني برسم الحصول الثاني قبل انمحاء الصورة الأولى عن القوّة الشاعرة ، فتتّصل الصورتان في الحسّ المشترك ، فيرى النقطة كالخطّ ، والشعلة كالدائرة.

واعترض (١) عليه بأنّه يجوز أن يكون اتّصال الارتسام في الباصرة بأن يرتسم المقابل الثاني قبل أن يزول المرتسم الأوّل ؛ لقوّة ارتسام الأوّل وسرعة تعقّب الثاني ، فيكونان معا ، فتأمّل.

قال : ( والمبرسم ما لا تحقّق له ).

أقول : هذا دليل ثالث على إثبات هذه القوّة.

وتقريره : أنّ صاحب البرسام ـ من جهة تعطّل حواسّه الظاهرة واشتغال نفسه بالمرض واستيلاء المتخيّلة ـ يشاهد صورا لا وجود لها في الخارج ، وإلاّ يشاهدها كلّ ذي حسّ سليم.

فلا بدّ من قوّة ترتسم فيها هذه الصورة حال المشاهدة ، وكذا النائم يشاهد صورا لا تحقّق لها في الخارج. والسبب فيه ما ذكرناه ، وقد بيّنّا أنّ تلك القوّة لا يجوز أن تكون هي النفس ، فلا بدّ من قوّة جسمانيّة ترتسم فيها هذه الصور.

قال : ( والخيال لوجوب المغايرة بين الحافظ والقابل ).

أقول : هذه هي القوّة الثانية المسمّاة بالخيال ، وهي خزانة الحسّ المشترك الحافظ لما يزول عنه بعد غيبوبة الصورة التي باعتبارها تحكم النفس بأنّ ما شوهد ثانيا هو الذي شوهد أوّلا.

ومن هنا يفرق بين السهو والنسيان بأنّ السهو هو المحو عن الحسّ المشترك دون الخيال ؛ ولهذا لا يحتاج إلى الكسب الجديد بل يكفي التذكّر بعد التأمّل ، وأمّا النسيان

__________________

(١) المعترض هو الفخر الرازي ، كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٣٤ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٢٠٦ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٨٧.

٣٧٤

فهو المحو عن الحسّ المشترك والخيال معا بحيث يحتاج إلى الكسب الجديد.

نعم ، السهو والنسيان كالجارّ والمجرور إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، كما يقال : إنّ الفقير والمسكين كالجارّ والمجرور.

واستدلّوا على مغايرتها للحسّ المشترك بأنّ هذه القوّة حافظة والحسّ المشترك قابل ، والحافظ يغاير القابل ؛ لامتناع صدور أثرين عن علّة واحدة ، ولأنّ الماء فيه قوّة القبول وليس فيه قوّة الحفظ ، فدلّ على المغايرة.

وهذا كلام ضعيف ؛ لجواز كون القوّة الواحدة قابلة وحافظة باختلاف الجهة ، كما أنّ الأرض تقبل الشكل للمادّة وتحفظه للصورة ، فالأولى التمسّك بوجدان حالتي السهو والنسيان ؛ لأنّهما تقتضيان أن توجد القوّتان ، كما أشرنا إليه.

قال : ( والوهم المدرك للمعاني الجزئيّة ).

أقول : هذه هي القوّة الثالثة المدركة للمعاني الجزئيّة وتسمّى الوهم ، وهي مغايرة للنفس الناطقة ، لما تقدّم من أنّ النفس لا تدرك الجزئيّات لذاتها. وأشار إليه بقوله : « الجزئيّة » وللحسّ المشترك ؛ لأنّ هذه القوّة تدرك المعاني ، والحسّ يدرك الصورة المحسوسة. وأشار إليه بقوله : « للمعاني » وللخيال ؛ لأنّ الخيال شأنه الحفظ ، والوهم شأنه الإدراك فيتغايران كما قلنا في الحسّ والخيال. وأشار إليه بقوله : « المدرك ».

قال : ( والقوّة الحافظة ).

أقول : هذه هي القوّة الرابعة المسمّاة بالحافظة ، وهي خزانة الوهم.

والدليل على إثباتها كما قلناه في الخيال سواء ، من جهة أنّ القبول غير الحفظ ، والحافظ للمعاني غير الحافظ للصور ، وهذه تسمّى المتذكّرة باعتبار قوّتها على استعادة الغائبات.

ولهم خلاف في أنّ المتذكّرة هي الحافظة كما حكي (١).

__________________

(١) انظر : « الشفاء » ٢ : ١٤٨ ـ ١٤٩ ؛ « النجاة » ١٦٣ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٤٧ ؛ « التحصيل » : ٧٨٧ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٣٤٣ ؛ « شرح المقاصد » ٣ : ٢٩٣.

٣٧٥

قال : ( والمتخيّلة المركّبة للصور والمعاني بعضها مع بعض ).

أقول : هذه هي القوّة الخامسة المسمّاة بالمتخيّلة باعتبار استعمال الحسّ لها والمتفكّرة باعتبار استعمال العقل لها ، وهي تركّب بعض الصور مع بعض ، كما تركّب صور جذع عليه رأس إنسان ، وتركّب بعض الصور مع بعض المعاني ، وتفصل بعض الصور عن بعض ، وكذا المعاني.

ويدلّ على مغايرتها لما تقدّم صدور هذا الفعل عنها دون غيرها من القوى ؛ لامتناع صدور أكثر من واحد عن قوّة واحدة ، فتأمّل.

اعلم أنّ الحيوان كما أنّ له القوّة المدركة كذلك له القوّة المحرّكة ؛ ولهذا يجعل فصله الحسّ والحركة بالإرادة. والقوّة المحرّكة باعثة وفاعلة ، والباعثة تسمى شوقيّة تحمل الفاعلة على تحريك الأعضاء إلى المطلوب بزعمها وإن كان ضارّا في نفس الأمر ، وحينئذ تسمّى قوّة شهويّة. وإن حملت على التحريك لدفع المبغوض كذلك تسمّى غضبيّة.

وأمّا الفاعلة فهي التي تعدّ العضلات بقبضها وبسطها ونحو ذلك على التحريك.

٣٧٦

[ الفصل الخامس : في الأعراض ]

قال : ( الفصل الخامس : في الأعراض ، وتنحصر في تسعة ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الجواهر ، انتقل إلى البحث عن الأعراض. وفي هذا الفصل مسائل :

[ الاول الكم ]

المسألة الأولى : في أنّ الأعراض منحصرة في تسعة. وهذا رأي أكثر الأوائل (١) ؛ فإنّهم قسّموا الموجود إلى واجب وممكن ، والواجب هو الله تعالى لا غير ، والممكن إمّا غنيّ عن الموضوع ـ وهو الجوهر ـ أو محتاج إليه وهو العرض.

وأقسامه تسعة : الكمّ ، والكيف ، والأين ، والوضع ، والملك ، والإضافة ، والفعل ، والانفعال ، والمتى.

والمتكلّمون ـ على ما حكي (٢) ـ حصروه في أحد وعشرين : الكون ، واللون ، والطعوم ، والروائح ، والحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، والتأليف ، والاعتماد ،

__________________

(١) انظر : « الشفاء » المنطق ١ : ٨٢ ـ ٨٨ ، الفصل الخامس من المقالة الثانية ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ ؛ « البصائر النصيرية » : ٢٣ وما بعدها ؛ « شرح المواقف » ٥ : ١٣ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ١٤١ ؛ « نهاية المرام » ١ : ٣١٣ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣١٣.

(٢) حكاه عنهم المحقّق الطوسي في « قواعد العقائد » المطبوع ضمن « نقد المحصّل » : ٤٣٩ ، والعلاّمة الحلّي في « كشف المراد » : ٢٠٢ ، وإلى ذلك أشير في « شرح المواقف » ٥ : ١١ وما بعدها و « شرح المقاصد » ٢ : ١٤١ وما بعدها.

٣٧٧

والظنّ ، والنظر ، والإرادة ، والكراهة ، والشهوة ، والنفرة ، والألم ، واللذّة ، والحياة ، والقدرة ، والاعتقاد.

وأثبت بعضهم أعراضا أخر (١) يأتي البحث عنها.

وهذه الأعراض مندرجة تحت تلك ، لأنّ الكون هو الأين أو ما يقاربه ، وباقي الأعراض التي ذكرناها مندرجة تحت الكيف ؛ ولأجل هذا بحث المصنّف رحمه‌الله عن الأعراض التسعة ؛ لدخول هذه تحتها. ومع ذلك فالأوائل يوجد لهم دليل على حصر الأعراض في التسعة (٢).

وبعضهم جعل أجناس الممكنات منحصرة في أربعة : الجوهر ، والكمّ ، والكيف ، والنسبة (٣).

وبالجملة ، فالحصر لم يقم عليه برهان.

المسألة الثانية : في قسمة الكمّ.

قال : ( الأوّل الكمّ ، فمتّصله القارّ جسم وسطح وخطّ ، وغيره الزمان ، ومنفصله العدد ).

أقول : الكمّ عرض يقبل لذاته القسمة بإمكان فرض الأجزاء ، وهو إمّا متّصل أو منفصل ، ونعني بالمتّصل ما يوجد فيه جزء مشترك يكون نهاية أحد القسمين وبداءة الآخر ، كالجسم إذا نصّف ؛ فإنّ موضع النصف حدّ مشترك بين النصفين ونهاية لأحدهما وبداءة للآخر ، والمنفصل ما لا يكون كذلك ، كالأربعة المنقسمة إلى اثنين

__________________

(١) انظر : « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ١١ ؛ « قواعد العقائد » المطبوع ضمن « نقد المحصّل » : ٤٣٩ ؛ « مناهج اليقين » : ١٣٠ ـ ١٣٦ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ١٤٦.

(٢) « الشفاء » المنطق ١ : ٨٣ ـ ٨٦ ، الفصل الخامس من المقالة الثانية ؛ « شرح المواقف » ٥ : ١٣ وما بعدها.

(٣) نسبه في « المطارحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٢٧٨ إلى عمر بن سهلان الساوي ، ونسب إلى البعض في كلّ من « المباحث المشرقيّة » ١ : ٢٧٠ ؛ « مناهج اليقين » ١٤٧ ؛ « شرح المواقف » ٥ : ٢٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ١٤٦.

٣٧٨

واثنين ؛ فإنّه ليس بينهما حدّ مشترك ، وكذلك الثلاثة.

ولا يتوهّم أنّ الوسط نهاية لأحد القسمين وبداية للآخر ؛ لأنّه إن عدّ منهما صارت الثلاثة أربعة ، وإن سقط منهما ، صارت اثنين ، ولا أولويّة لأحدهما دون الآخر.

فإذا عرفت هذا ، فنقول : المتّصل إمّا قارّ الذات وهو الذي تجتمع أجزاؤه في الوجود كالجسم ، أو غير قارّ الذات وهو الذي لا يكون كذلك كالزمان ؛ فإنّه لا يمكن أن يكون أحد الزمانين مجامعا لآخر.

والقارّ الذات إمّا أن ينقسم في جهة واحدة وهو الخطّ ، أو في جهتين وهو السطح ، أو في ثلاث وهو الجسم التعليمي ، أعني البعد الذي هو العرض والطول والعمق.

وغير قارّ الذات هو الزمان لا غير.

والمنفصل هو العدد خاصّة ؛ لأنّ تقوّمه من الوحدات التي إذا جرّدت عن معروضاتها كانت أجزاء العدد.

المسألة الثالثة : في خواصّه.

قال : ( ويشملها قبول المساواة وعدمها ، والقسمة ، وإمكان وجود العادّ فيه ).

أقول : ذكر للكمّ ثلاث خواصّ :

الأولى : قبول المساواة وعدمها ؛ فإنّ أحد الشيئين إنّما يساوي غيره أو يفاوته باعتبار مقداره لا باعتبار ذاته ؛ فإنّ كلّ الجسم وبعضه متساويان في الطبيعة ومتفاوتان في المقدار.

الثانية : قبول القسمة لذاته ، وذلك أنّ الماهيّة إنّما يعرض لها الانقسام والاثنينيّة بواسطة المقدار.

وهذا الانقسام قد يكون وهميّا ويعنى به كون الشيء بحيث يوجد فيه شيء

٣٧٩

غير شيء ، وهذا المعنى يلحق المقدار لذاته.

وقد يكون فعليّا ويراد منه قبول الاقتران بأن ينفصل وينقطع بالفعل وتحدث له هويّتان بعد أن كانت له هويّة واحدة ، وهو من توابع المادّة عندهم على ما سلف البحث فيه ، ومرادهم هنا الأوّل.

الثالثة : إمكان وجود العادّ فيه ، بمعنى اشتماله على أمر يفنيه بالإسقاط عنه مرارا إمّا بالفعل كما في الكمّ المنفصل ؛ فإنّ الواحد الموجود في الأعداد يفنيها بإسقاطه مرارا. وإمّا بالقوّة كما في الكمّ المتّصل.

بيان ذلك : أنّ المنقسم إنّما ينقسم إلى آحاد هي أجزاؤه ، فتلك الآحاد عادّة له.

ولمّا كان الانقسام قد يكون بالفعل كما في الكمّ المنفصل ، وقد يكون بالقوّة كما في الكمّ المتّصل ، كان اللازم المطلق للكمّ هو إمكان وجود واحد عادّ لا الوجود بالفعل.

قال : ( وهو ذاتيّ وعرضيّ ).

أقول : الكمّ منه ما هو بالذات ، كالأقسام التي عددناها له ، ومنه ما هو بالعرض ، وهو محلّ للكمّ بالذات كالجسم الطبيعي ، أو حالّ فيه كالشكل ، أو حالّ في محلّه كالسواد الحالّ في الجسم ؛ فإنّه مقدّر بقدره فكمّيّته عرضيّة لا ذاتيّة أو ما يتعلّق بما يعرض له تعلّقا مصحّحا لإجراء أوصافه عليه ، كقولنا : هذه القوّة قوّة متناهية أو غير متناهية بسبب تناهي أثرها في العدّة أو المدّة أو الشدّة ، وعدم تناهيه.

المسألة الرابعة : في أحكامه.

قال : ( ويعرض ثاني القسمين فيهما لأوّلهما ).

أقول : قد ذكر أنّ الكمّ إمّا متّصل وإمّا منفصل. وأيضا إمّا ذاتيّ أو عرضيّ ، فهناك تقسيمان.

وضمير قوله : « فيهما » راجع إلى التقسيمين ، وضمير قوله : « أوّلهما » إلى القسمين.

والمراد أنّه يعرض الكمّ المنفصل ـ الذي هو ثاني القسمين في التقسيم إلى

٣٨٠