البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

ظاهر ، وإمّا ممكن مستند إلى الواجب بالذات الموجب بالذات ـ بناء على ما مرّ من امتناع استناد القديم إلى الفاعل بالاختيار ـ وحينئذ تكون علّته التامّة موجودة بالدوام ، ودوام العلّة يقتضي دوام المعلول ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، كما سيأتي ، فيكون ممتنع العدم بالغير وإن كان ممكنا بالذات ، ولكن لمّا كان المختار أنّ الواجب فاعل مختار من غير إيجاب واضطرار ، لم يكن شيء من معلولاته قديما ممتنع العدم. وسيأتي لذلك زيادة كلام إنّ شاء الله تعالى.

١٨١
١٨٢

الفصل الثاني : في الماهيّة ولواحقها

قال : ( الفصل الثاني : في الماهيّة ولواحقها ، وهي مشتقّة (١) عن « ما هو » وهو ما به يجاب عن السؤال بـ « ما هو؟ » وتطلق غالبا على الأمر المعقول ، ويطلق « الذات » و « الحقيقة » عليها مع اعتبار الوجود ، والكلّ من ثواني المعقولات ).

أقول : في هذا الفصل مباحث شريفة جليلة نحن نذكرها في مسائل :

المسألة الأولى : في « الماهيّة » و « الحقيقة » و « الذات ».

أمّا الماهيّة : فهي لفظة مأخوذة عن « ما هو؟ » وهو ما به الشيء هو هو ، وما به يجاب عن السؤال بـ « ما هو؟ » ؛ فإنّك إذا قلت : « الإنسان ما هو؟ » فقد سألت عن حقيقته وماهيّته ، فإذا قلت : « حيوان ناطق » كان هذا الجواب هو ماهيّة الإنسان.

وهذه اللفظة ـ أعني الماهيّة ـ إنّما تطلق في الغالب من الاستعمال على الأمر المعقول الموجود في الذهن بلا اعتبار الوجود ، وإذا لوحظ مع ذلك الوجود المطلق أو خصوص الخارجي ، قيل له : « حقيقة » و « ذات » كما يطلق عليها « الطبيعة » أيضا باعتبار خصوص الوجود الخارجي.

وقد يراد بالذات ما صدقت الماهيّة عليه من الأفراد.

والحقيقة الجزئيّة تسمّى هويّة ، وقد يراد بالهويّة التشخّص ، وقد يراد بها الوجود الخارجي.

__________________

(١) إشارة إلى أنّ الياء للنسبة ، فألغى المنسوبة إلى ما هو ؛ لوقوعها جوابا عنه. ( منه رحمه‌الله ).

١٨٣

والصورة الذهنيّة إن كانت مطابقة لها بذاتها بدون اعتبار أمر خارج ، تسمّى ماهيّة وكنها ، كصورة الحيوان الناطق للإنسان ، وإن كانت مطابقة لها لا بذاتها بل باعتبار أمر خارج ، تسمّى وجها ، وتصوّر الشيء بها يسمّى تصوّرا بالوجه ، كصورة مفهوم الضاحك للإنسان.

والماهيّة والحقيقة والذات من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ؛ فإنّ حقيقة الإنسان ـ أعني الحيوان الناطق ـ معروضة ؛ لكونها ماهيّة وذاتا وحقيقة ، وهذه عوارض لها.

قال : ( وحقيقة كلّ شيء مغايرة لما يعرض لها من الاعتبارات ، وإلاّ لم تصدق على ما ينافيها ).

أقول : كلّ شيء له حقيقة هو بها هو ، فالإنسانيّة من حيث هي إنسانيّة ماهيّة ، وهي مغايرة لجميع ما يعرض لها من الاعتبارات ؛ فإنّ الإنسانيّة من حيث هي إنسانيّة لا يدخل في مفهومها الوجود والعدم ، ولا الوحدة والكثرة ، ولا الكلّيّة والجزئيّة ، ولا غير ذلك من الاعتبارات اللاحقة بها ؛ لأنّ الوحدة لو دخلت في مفهوم الإنسانيّة ، لم تصدق الإنسانيّة على ما ينافيها ، لكنّها تصدق عليه ؛ لصدقها على الكثرة. وكذلك القول في الكثرة ، وكذا الوجود والعدم والكلّيّة والجزئيّة وغيرها ، فهي إذن مغايرة لهذه الاعتبارات وقابلة لها قبول المادّة للصور المختلفة والأعراض المتضادّة ، ولكن عوارض الماهيّة ثلاثة أقسام :

قسم يلحق الماهيّة من حيث هي هي بأيّ وجود وجدت ، كالزوجيّة للأربعة.

وقسم يلحقها باعتبار وجودها الخارجي ، كالتناهي للجسم.

وقسم يلحقها باعتبار وجودها الذهني ، وهو الذي يسمّى معقولا ثانيا ، كالذاتيّة والعرضيّة ونحوهما.

قال : ( وتكون الماهيّة مع كلّ عارض مقابلة لها مع ضدّه ).

أقول : إذا أخذت الماهيّة مع قيد الوحدة ـ مثلا ـ صارت واحدة ، وإذا أخذت مع

١٨٤

قيد الكثرة صارت كثيرة ، فالواحديّة أمر مضموم إليها ، ومغايرة لها تصير بها الماهيّة واحدة ، وتقابل باعتبارها الماهيّة باعتبار القيد الآخر ؛ فإنّ الإنسان الواحد مقابل للإنسان الكثير باعتبار العارضين ، لا باعتبار الماهيّة نفسها.

قال : ( وهي من حيث هي ليست إلاّ هي. ولو سئل بطرفي النقيض فالجواب السلب لكلّ شيء قبل الحيثيّة لا بعدها ).

أقول : الإنسانيّة من حيث هي هي ليست إلاّ الإنسانيّة ، وجميع ما يعرض لها من الاعتبارات مغاير لها ، كالوحدة والكثرة على ما تقدّم.

إذا عرفت هذا ، فإذا سئلنا عن الإنسان بطرفي النقيض فقيل ـ مثلا ـ : هل الإنسان ألف أو ليس بألف؟ كان الجواب دائما بالنسبة إلى كلّ واحد من العوارض بالسلب ، على أن يكون حرف السلب قبل « من حيث » لا بعد « من حيث » فنقول : « الإنسان ليس من حيث هو إنسان ألفا » ولا نقول : « الإنسان من حيث هو إنسان ليس ألفا » لاحتمال الإيجاب العدولي.

وإنّما قال : « بطرفي النقيض » إذ هناك يستحقّ الجواب قطعا باختيار أحد شقّي الترديد.

وأمّا إذا سئل بالترديد بين الإيجاب المحصّل والمعدول ، كأن يقال : « هل الإنسان ألف أو لا ألف؟ » فلا يستحقّ الجواب ، وإن أجيب ، يجاب بسلب شقّي الترديد معا ، فيقال : « لا هذا ولا ذاك ».

ولو قيل : الإنسانيّة التي في « زيد » لا تغاير التي في « عمرو » من حيث هي إنسانيّة ، لم يلزم منه أن نقول : « فإذن تلك وهي واحدة بالعدد » لأنّ قولنا : « من حيث هي إنسانيّة » أسقط جميع الاعتبارات ، وقيد الوحدة زائد ، فيجب حذفه.

المسألة الثانية : في أقسام الكلّيّ.

قال : ( وقد تؤخذ الماهيّة محذوفا عنها ما عداها بحيث لو انضمّ إليها شيء لكان

١٨٥

زائدا ، ولا يكون مقولا على ذلك المجموع ، وهو الماهيّة بشرط لا شيء ، ولا توجد إلاّ في الأذهان ).

أقول : للماهيّة باعتبار العوارض أحوال ثلاث :

الأولى : أن تؤخذ غير مشروطة لا بالمقارنة ولا بعدمها ، وهي المطلقة والماهيّة لا بشرط شيء.

الثانية : أن تؤخذ بشرط مقارنتها بشيء ، وهي المخلوطة والماهيّة بشرط شيء.

الثالثة : أن تؤخذ بشرط أن لا يقارنها شيء من العوارض ، وحينئذ تسمّى المجرّدة والماهيّة بشرط لا شيء ، فمورد القسمة حال الماهيّة بالقياس إلى عوارضها ، لا نفسها حتّى يلزم كون الشيء قسما من نفسه.

والمخلوطة والمجرّدة متباينتان مندرجتان تحت المطلقة.

والمصنّف أشار إلى الحالة الثالثة ، فأفاد أنّ الماهيّة كالحيوان ـ مثلا ـ قد تؤخذ محذوفا عنها جميع ما عداها بحيث لو انضمّ إليها شيء لكان ذلك الشيء زائدا على تلك الماهيّة ، ولا تكون الماهيّة صادقة على ذلك المجموع ، وهو الماهيّة بشرط لا شيء ، وهذا لا يوجد إلاّ في الأذهان ؛ لأنّ ما في الخارج مشخّص ، وكلّ مشخّص فليس بمجرّد عن الاعتبارات.

قال : ( و [ قد ] (١) تؤخذ لا بشرط شيء ، وهو كلّ (٢) طبيعيّ موجود في الخارج هو جزء من الأشخاص وصادق على المجموع الحاصل منه وممّا يضاف إليه ).

أقول : هذا اعتبار آخر للماهيّة معقول ، وهو أن تؤخذ الماهيّة من حيث هي هي لا باعتبار التجرّد ولا باعتبار عدمه ، كما نأخذ الحيوان من حيث هو هو لا باعتبار تجرّده عن الاعتبارات ، بل مع تجويز أن يقارنه غيره ممّا يدخل في حقيقته.

وهذا هو الحيوان لا بشرط شيء ، وهو الكلّيّ الطبيعي ؛ لأنّه نفس طبائع

__________________

(١) الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد ».

(٢) كذا في النسخ ، ولعلّ الصحيح : « كلّيّ » بدل « كلّ ».

١٨٦

الأشياء وحقائقها.

وهذا الكلّيّ موجود في الخارج ، فإنّه جزء من أجزاء الشخص الموجود في الخارج ، فأجزاؤه موجودة في الخارج ، فالحيوان من حيث هو هو ـ الذي هو جزء من هذا الحيوان ـ موجود.

وهذا الحيوان جزء من الأشخاص الموجودة ، وهو صادق على الموجود المركّب منه ومن قيد الخصوصيّة المضاف إليه ، فإنّا إذا رأينا زيدا ـ مثلا ـ حصل في أذهاننا مفهوم الحيوان مثلا ، وكان هناك أمور ثلاثة : زيد ـ وهو شخص موجود في الخارج لا يمكن أن يوصف بالكلّيّة ـ والصورة العقليّة لمفهوم الحيوان ، وهي أيضا لا تتّصف بالكلّيّة ؛ لأنّها صورة جزئيّة في نفس جزئيّة ، ومفهوم الحيوان وهو غير صورته العقليّة ، لأنّه معلوم لا علم ، وصورته العقليّة علم لا معلوم ، وهو الموصوف بالكلّيّة والاشتراك بين الكثيرين بمعنى حمله عليها إيجابا.

قال : ( والكلّيّة العارضة للماهيّة يقال لها : كلّيّ منطقي وللمركّب عقليّ ، وهما ذهنيّان ، فهذه اعتبارات ثلاثة ينبغي تحصيلها في كلّ ماهيّة معقولة ).

أقول : هذان اعتباران آخران للكلّي :

أحدهما : الكلّيّة العارضة له ، وهو الكلّيّ المنطقي ؛ لأنّ المنطقي يبحث عنه من غير أن يشير إلى طبيعة من الطبائع.

والثاني (١) : العقلي ، وهو المركّب من الماهيّة ومن الكلّيّة العارضة لها ، فإنّ هذا

__________________

(١) اعلم أنّ المفهوم ـ الذي هو عبارة عمّا حصل في الفهم والذهن ـ إن لم يكن نفس تصوّره مانعا عن وقوع الشركة بين الكثيرين يسمّى كلّيّا.

والكلّي باعتبار أنّه مقول على الكثيرين يسمّى كلّيا منطقيا ، وباعتبار أنّه صورة كلّية منتزعة بانتزاع العقل من ذوات الأشخاص لا من الأعراض المكتنهة بحسب استعدادات مختلفة واعتبارات متشتّتة أو صورة عقلية مطابقة لها يسمّى كلّيا طبيعيّا.

١٨٧

اعتبار آخر مغاير للأوّلين.

وهذان الكلّيّان عقليّان ، ولا وجود لهما في الخارج.

أمّا المنطقي : فلأنّه لا يتحقّق إلاّ عارضا لغيره ؛ إذ الكلّيّة من ثواني المعقولات ليست متأصّلة في الوجود ؛ إذ ليس في الخارج شيء هو كلّيّ مجرّد.

فالكلّيّة إذن عارضة لغيرها ، وكلّ معروض للكلّيّ من حيث هو معروض له فهو ذهنيّ ؛ إذ كلّ موجود في الخارج شخصيّ ، وكلّ شخصيّ ليس بكلّي ، فالكلّيّ ذهنيّ ، وكذا الكلّيّ العقلي ؛ لهذا ، فهذه اعتبارات ثلاثة في كلّ معقول ينبغي تحصيلها :

أحدها : الكلّيّ الطبيعيّ ، وهو نفس الماهيّة.

الثاني : الكلّيّ المنطقيّ ، وهو العارض لها.

الثالث : الكلّيّ العقليّ وهو المركّب منهما.

فإذا عرفت مراد المصنّف رحمه‌الله ممّا ذكره ، فاعلم أنّ العلماء اختلفوا في وجود الكلّيّ الطبيعي حقيقة ، وعدمه ـ بمعنى أنّ الموجود هو أشخاصه ـ على قولين :

الأوّل : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ موجود في الخارج ، بمعنى كونه جزءا عقليّا للذات الموجودة في الخارج بتحليل العقل للذات إلى ذلك الكلّيّ والتشخّص نظير الجنس والفصل ، لا جزءا خارجيّا موجودا بوجود على حدة وراء موجود الشخص ليلزم وجود أفراد غير متناهية ، وهو المحكيّ (١) عن جمع منهم العلاّمة التفتازاني (٢).

الثاني : أنّه غير موجود ، كما عن بعض ، كالسيّد الجرجاني (٣).

__________________

فالكلّي الطبيعي عبارة عن الماهيّة لا بشرط شيء ، وهو معروض الكلّي المنطقي ، ومجموع العارض والمعروض الذي لا يوجد إلاّ في العقل يسمّى كلّيا عقليّا.

والكلّي الطبيعي باعتبار الوجود الخارجي يسمّى طبيعة وحقيقة وذاتا. ( منه رحمه‌الله ).

(١) حكاه اللاهيجي في « شوارق الإلهام » المسألة الثالثة من الفصل الثاني.

(٢) انظر : « شرح المقاصد » ١ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٣) حكاه اللاهيجي ـ أيضا ـ في « شوارق الإلهام » المسألة الثالثة من الفصل الثاني ؛ وما في « شرح المواقف » و « حاشية الشمسية » خلافه. راجع « شرح المواقف » ٣ : ٣٠ ؛ « شروح الشمسية » ١ : ٢٩٣.

١٨٨

حجّة الأوّل أوّلا : أنّ الكلّيّ الطبيعي ما يحلّل العقل إليه ذات الموجود في الخارج ، وكلّ ما هو كذلك فهو موجود بوجود تلك الذات.

وثانيا : أنّ الشخص ـ الذي هو عبارة عن الماهيّة بشرط شيء ـ إن كان موجودا ، كانت الماهيّة لا بشرط شيء أيضا موجودة ، لكنّ الشخص موجود.

وثالثا : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ ماهيّة للشخص الموجود في الخارج ، وكلّ ما هو كذلك فهو موجود في الخارج.

أما الصغرى : فلأنّ الصورة المجرّدة المنتزعة عن التشخّص ظلّ لما هو ماهيّة للفرد ؛ فإنّ ماهيّة الشيء ما به الشيء هو هو.

وأمّا الكبرى : فلبداهة استلزام وجود الشيء وجود ما به هو هو.

ورابعا : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ لو لم يكن موجودا في الخارج ، لما وقع من ذوات الأشخاص المتّحدة نوعا صورة متّحدة ، وتكون مشاهدتها كمشاهدة أشخاص نوع آخر.

وخامسا : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ لو لم يكن موجودا لما كان الشخص موجودا ؛ لأنّ التشخّص عرض لا بدّ له من محلّ يتقوّم به.

وحجّة القول الثاني أوّلا : أنّ وجود الكلّي الطبيعيّ بعينه في الأفراد مستلزم للمحال ، وهو اتّصاف الشيء الواحد بالصفات المتضادّة ونحوه.

وفيه : أنّ وجود الماهيّة المجرّدة من حيث إنّها متّحدة الوجود مع التشخّص ، والصفات للأشخاص من جهة أنّها لازمة للوجود لا الماهيّة.

وثانيا : أنّ وجود الكلّيّ الطبيعي مستلزم لعدم الاحتياج إلى شيء ، مع أنّه ما لم يتشخّص لم يوجد.

وفيه ما فيه.

وثالثا : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ لو كان موجودا في الخارج لكان العمى ـ الذي هو جزء هذا الأعمى ـ موجودا فيه ، مع أنّه ليس بموجود فيه.

١٨٩

وفيه : أنّ العمى جزء لمفهوم هذا الأعمى الذي هو عرضيّ بالنسبة إلى ذات الأعمى ، وليس ماهيّة له.

فالحقّ وجود الكلّيّ الطبيعيّ ؛ لما مرّ ، بل الظاهر أنّه بديهيّ ؛ لاستلزام عدمه جواز اعتبار صدق الحمار على أفراد الإنسان.

ويشهد عليه ظاهر الآيات والأخبار ؛ لقوله تعالى : ( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) (١) لكون اسم الجنس المحلّى باللام حقيقة في تعريف الماهيّة ، مع أنّ الماهيّة ـ بمعنى ما به الشيء هو هو ـ إذا لم تكن موجودة يلزم عدم وجود ذلك الشيء ، فيلزم كون الموجود معدوما.

وأيضا : إنّا إذا رأينا زيدا ، حصل في أذهاننا صورة إنسانيّة معرّاة عن اللواحق الخارجيّة ، وهي بعينها حاصلة من رؤية عمرو وخالد وغيرهما ، بخلاف ما إذا رأينا فرسا وغيره.

وكونها باعتبار أنّها صورة كالظلّ في عدم التأصّل وماهيّة كلّيّة غير قادح في وجودها الخارجي باعتبار ضمّ الأعراض المشخّصة.

فتوهّم أنّ الماهيّة صورة كلّيّة ينتزعها العقل من ذوات الأشخاص أو أعراضها المكتنفة بها بحسب استعدادات مختلفة من غير أن تكون موجودة في الخارج حكم وهميّ عن حكم العقل خارج.

المسألة الثالثة : في انقسام الماهيّة إلى البسيطة والمركّبة ومجعوليّتهما.

قال : ( والماهيّة ، منها بسيطة ، وهي ما لا جزء له ، ومنها مركّبة ، وهي ما له جزء ، وهما موجودان ضرورة ).

أقول : الماهيّة إمّا أن يكون لها جزء تتقوّم منه ومن غيره ، وإمّا أن لا تكون كذلك.

والقسم الأوّل هو المركّب ، كالإنسان المتقوّم من الحيوان والنطق.

__________________

(١) الرحمن (٥٥) : ١٤ و ١٥.

١٩٠

والثاني هو البسيط ، كالجوهر الذي لا جزء له.

وهذان القسمان موجودان بالضرورة ؛ فإنّا نعلم قطعا وجود المركّبات ، كالجسم والإنسان والفرس وغيرها من الحقائق المركّبة ، ووجود المركّب يستلزم وجود أجزائه ، والبسائط موجودة بالضرورة.

قال : ( ووصفاهما اعتباريّان متنافيان ، وقد يتضايفان فيتعاكسان في العموم والخصوص مع اعتبارهما بما مضى ).

أقول : يعني أنّ وصف البساطة والتركيب اعتباريّان عقليّان عارضان لغيرهما من الماهيّات ؛ إذ لا موجود هو بسيط أو مركّب محض ، فالبساطة والتركيب لا يعقلان إلاّ عارضين ، فهما من ثواني المعقولات ، ولو كانا موجودين لزم التسلسل.

وهما متنافيان ؛ إذ لا يصدق على شيء أنّه بسيط ومركّب ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين فيه ، وهو محال.

وقد يتضايفان ـ أعني يؤخذ البسيط بسيطا بالنسبة إلى مركّب مخصوص ـ فتكون بساطته باعتبار كونه جزءا من ذلك المركّب ، ويكون المركّب ـ بمعنى كون الشيء كلاّ لشيء آخر ـ مركّبا بالقياس إليه ، فتتحقّق الإضافة بينهما ، وهذا كالحيوان ؛ فإنّه بسيط بالنسبة إلى الإنسان على أنّه جزء ، فيكون أبسط منه ، فإذا أخذا باعتبار التضايف تعاكسا ـ مع اعتبارهما الأوّل أعني الحقيقة ـ عموما وخصوصا ؛ وذلك لأنّهما بالمعنى الحقيقي متنافيان ؛ لأنّ البسيط لا يصدق عليه أنّه مركّب بذلك المعنى.

وإذا أخذا بالمعنى الإضافي جوّزنا أن يكون البسيط مركّبا ؛ لأنّ بساطته ليست باعتبار نفسه ، بل باعتبار كونه جزءا من غيره. وإذا جاز كون البسيط بهذا المعنى مركّبا كان أعمّ من البسيط بالمعنى الأوّل ، فيكون المركّب بهذا المعنى أخصّ منه بالمعنى الأوّل ، فقد تعاكسا ـ أعني البسيط والمركّب ـ في العموم والخصوص باختلاف الاعتبار ، بمعنى أنّ النسبة بين البسيطين على عكس النسبة بين المركّبين ؛

١٩١

فإنّ البسيط الإضافي أعمّ مطلقا من البسيط الحقيقي ، كما مرّ ، والمركّب الإضافي أخصّ مطلقا من المركّب الحقيقي ؛ لأنّ كلّ مركّب إضافيّ مركّب حقيقي من غير عكس ؛ لجواز أن لا يعتبر إضافة المركّب الحقيقي إلى جزئه.

وأورد عليه : بأنّ البسيط الحقيقي قد لا يكون بسيطا إضافيّا بأن لا يعتبر جزءا من شيء أصلا ، وأنّ النسبة بين البسيطين عموم من وجه ؛ لتصادقهما في بسيط حقيقيّ هو جزء من مركّب ، كالوحدة للعدد ، وصدق الحقيقي بدون الإضافي في بسيط حقيقيّ لا يتركّب منه شيء ، كالواجب ، وبالعكس في مركّب وقع جزءا لمركّب آخر ، كالجسم للحيوان. وبين المركّبين مساواة إن لم يعتبر في الإضافي اعتبار الإضافة ؛ لأنّ كلّ مركّب حقيقيّ لا بدّ أن يكون له جزء ، فيكون هو مركّبا إضافيّا بالقياس إلى ذلك الجزء وبالعكس ، وعموم مطلق إن اشترط ذلك ؛ لأنّ كلّ مركّب بالقياس إلى جزئه فهو مركّب حقيقيّ ، ولا ينعكس ؛ لجواز أن لا يعتبر في الحقيقيّ الإضافة إلى جزئه ، فيكون أعمّ مطلقا من الإضافي (١) وهو جيّد.

قال : ( وكما تتحقّق الحاجة في المركّب فكذا في البسيط ).

أقول : اختلفوا في أنّ الماهيّات الممكنة هل هي مجعولة بجعل جاعل أم لا؟

على أقوال ثلاثة ، واختار المصنّف رحمه‌الله أنّ كلّها مجعولة من البسيط والمركّب (٢) ، فإنّ كلّ واحد منهما ممكن ، وكلّ ممكن على الإطلاق فإنّه محتاج إلى السبب ، فالحاجة ثابتة في كلّ واحد منهما ، فيكون المجعول ذات الممكن بإعطاء الوجود.

وعن بعض : أنّ الماهيّة غير مجعولة مطلقا ، مركّبة كانت أو بسيطة ، وإلاّ يلزم سلب الإنسانيّة عن نفسها عند عدم جعل الجاعل ، وسلب الشيء عن نفسه محال (٣).

__________________

(١) أورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٨٠.

(٢) نسبه التفتازاني إلى المتكلّمين في « شرح المقاصد » ١ : ٤٢٨.

(٣) نسب إلى جمهور الفلاسفة والمعتزلة ، كما في « شرح المقاصد » ١ : ٤٢٨ ؛ « شوارق الإلهام » المسألة الرابعة من الفصل الثاني.

١٩٢

وردّ : بأنّ المحال هو الإيجاب المعدول ، وأمّا سلب جميع الأشياء حتّى سلب نفسها عند عدم الجعل فلا (١).

وعن بعض الناس : احتياج المركّبة خاصّة إلى المؤثّر ؛ لأنّ علّة الحاجة هي الإمكان ، وهو أمر نسبيّ يقتضي الاثنينيّة ، فما لم تتحقّق الاثنينيّة لم تتحقّق الحاجة ، ولا اثنينيّة في البسيط فلا احتياج له (٢).

والجواب : أنّ الإمكان نسبة بين الماهيّة والوجود ، لا بين أجزاء الماهيّة حتّى يقتضي الاثنينيّة (٣).

وقد يقال : المجعوليّة بمعنى جعل الماهيّة تلك الماهيّة منتفية عن المركّبة والبسيطة ، وبمعنى جعل الماهيّة موجودة ـ بكون الماهيّات في كونها موجودة مجعولة ـ ثابتة لهما معا (٤).

والتحقيق أنّ الماهيّة ـ التي تعلّق بها علم الجاعل ـ جعلها الجاعل ماهيّة خارجيّة ، كما جعل الوجود ـ الذي تعلّق به علمه ـ وجودا خارجيّا ؛ لعدم صحّة السلب الخارجي ، ويكفي في صحّة توسّط الجعل التغاير الاعتباري ، فيتعلّق الجعل بالماهيّة المركّبة والبسيطة وبوجودهما الخارجي من جهة الإمكان ، فتتحقّق باعتباره الحاجة لكلّ واحد منهما إلى المؤثّر ، فيكون الجعل مركّبا بمعنى توسّطه بين الماهيّة ونفسها باعتبار التغاير الاعتباري ، وكذا الوجود ، بل بمعنى تعلّقه بمجموع الماهيّة والوجود أيضا ؛ لما ذكرنا ، فالقول بأنّ الجعل بسيط خطأ.

قال : ( وهما قد يقومان بأنفسهما ، وقد يفتقران إلى المحلّ ).

أقول : كلّ واحد من البسيط والمركّب قد يكون قائما بنفسه ، كالجوهر ، أو

__________________

(١) راجع « شرح المواقف » ٣ : ٤١ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٤٣١ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٨١.

(٢) « شرح المقاصد » ١ : ٤٢٨ ، وقد نسبه أيضا إلى البعض.

(٣) راجع « شرح تجريد العقائد » : ٨١.

(٤) القائل هو الشريف الجرجاني في « شرح المواقف » ٣ : ٥٣.

١٩٣

الواجب تعالى ، والحيوان ؛ وقد يكون مفتقرا إلى المحلّ ، كالنقطة والسواد ، وهما ظاهران.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ المركّب الأوّل لا بدّ أن يكون أحد أجزائه قائما بنفسه والآخر قائما به كالهيولى والصورة ؛ لئلاّ يصير كالحجر الموضوع بجنب الإنسان ، والمركّب الثاني لا بدّ وأن يكون جميع أجزائه محتاجا إلى المحلّ إمّا إلى ما حلّ فيه المركّب ، أو البعض إليه والباقي إلى ذلك البعض.

قال : ( والمركّب إنّما يتركّب عمّا يتقدّمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن والخارج ، وهو (١) علّة الغنى عن السبب ، فباعتبار الذهن بيّن ، وباعتبار الخارج غنيّ ، فتحصل خواصّ ثلاث ، واحدة متعاكسة ، واثنتان أعمّ ).

أقول : المركّب هو الذي تلتئم ماهيّته عن عدّة أمور ، فبالضرورة يكون تحقّقه متوقّفا على تحقّق تلك الأمور ، والتوقّف على الغير متأخّر عنه ، فالمركّب متأخّر عن تلك الأمور.

وكلّ واحد منها موصوف بالتقدّم في ظرف الوجود ، ثمّ إذا عدم أحدها لم يلتئم بكلّ الأمور ، فلا تحصل الماهيّة ، فيكون عدم أيّ جزء كان من تلك الأمور علّة لعدم المركّب ، والعلّة متقدّمة على المعلول ، فكلّ واحد من تلك الأمور موصوف بالتقدّم في طرف العدم أيضا.

فقد ظهر أنّ جزء الحقيقة متقدّم عليها في الوجود.

ثمّ إنّ الذهن مطابق للخارج فيجب أن يحكم بالتقدّم في الوجود الذهني فقد تحقّق أنّ المركّب إنّما يتركّب عمّا يتقدّمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن والخارج.

إذا عرفت هذا ، فنقول : هذا التقدّم ـ الذي هو من خواصّ الجزء ـ يستلزم استغناء

__________________

(١) أي التقدّم.

١٩٤

الجزء عن تحقّق الكلّ عن السبب الجديد ؛ لامتناع تحصيل الحاصل ، فالتقدّم علّة الغنى عن السبب الجديد ، لا عن مطلق السبب ؛ فإنّ فاعل الجزء هو فاعل الكلّ ، فإذا اعتبر هذا التقدّم بالنسبة إلى الذهن ، يسمّى الجزء بيّن الثبوت ، وإذا اعتبر بالنسبة إلى الخارج فهو الغنيّ عن السبب ، وهذه الخاصّة أعمّ من الخاصّة الأولى ؛ لأنّ الأولى هي الحصول المخصوص المعبّر عنه بالتقدّم ، والثانية هي الحصول المطلق ؛ ولهذا قيل : لا يلزم من كون الوصف بيّن الثبوت للشيء وكونه غنيّا عن السبب الجديد كونه جزءا ، فقد حصل لكلّ ذاتيّ على الإطلاق خواصّ ثلاث :

الأولى : وجوب تقدّمه في الوجودين والعدمين. وهذه خاصّة مساوية للجزء ، متعاكسة عليه ؛ فإنّ كلّ جزء متقدّم على الكلّ ، وكلّ ما هو متقدّم على كلّه فهو جزء ، فتأمّل.

الثانية : استغناؤه عن الواسطة في التصديق الذي هو لازم التقدّم في الوجود الذهني ، بمعنى أنّ جزم العقل بثبوت الجزء للماهيّة لا يتوقّف على ملاحظة وسط واكتساب بالبرهان ، بل يجب إثباته لها ، ويمتنع سلبه عنها بمجرّد تصوّرهما.

الثالثة : الاستغناء عن السبب في الثبوت الخارجي وحصول الجزء للمركّب الذي هو لازم للتقدّم في الوجود الخارجي من جهة امتناع رفعه عمّا هو ذاتيّ له ، وهاتان الخاصّتان إضافيّتان أعمّ منه ؛ لمشاركته بعض اللوازم فيهما.

المسألة الرابعة : في أحكام الجزء.

قال : ( ثمّ التركيب قد يكون اعتباريّا ، وقد يكون حقيقيّا ، ولا بدّ من حاجة ما لبعض الأجزاء إلى البعض ، ولا يمكن شمولها باعتبار واحد ).

أقول : كلّ مركّب على الإطلاق فإنّه يتركّب عن جزءين فصاعدا. والتركيب قد يكون اعتباريّا بأن يكون هناك عدّة أمور يعتبرها العقل أمرا واحدا من غير أن تحقّق حقيقة واحدة ، كالعشرة من الآحاد ، والعسكر من الأفراد ، ولا يلزم فيه

١٩٥

احتياج لبعض الأجزاء إلى البعض إلاّ بمحض اعتبار العقل في احتياج الهيئة الاجتماعيّة إلى الأجزاء المادّيّة مع أنّه لا تحقّق لها في الخارج. وقد يكون حقيقيّا بأن يحصل من اجتماع موجودات متعدّدة حقيقة واحدة مختصّة باللوازم والآثار الخارجيّة ، وفي هذا المركّب لا بدّ أن يكون لأحد الأجزاء حاجة إلى جزء آخر مغاير له ؛ فإنّه لو استغنى كلّ جزء عن باقي الأجزاء لم يحصل منها حقيقة واحدة ، كما لا يحصل من الإنسان الموضوع فوق الحجر حقيقة متّحدة ، فلا بدّ في كلّ مركّب حقيقي على الإطلاق من حاجة ما لبعض أجزائه إلى بعض.

ثمّ المحتاج قد يكون هو الجزء الصوري لا غير ، كالهيئة الاجتماعيّة في العسكر ، والبلدة في البيوت ، والعشر في العدد ، والمعجون عن اجتماع الأدوية. وقد تشمل الحاجة الجزءين لا باعتبار واحد حتّى يلزم الدور ، بل باعتبارين ، كالمادّة المحتاجة في وجودها إلى الصورة ، والصورة في تشخّصها إلى المادّة.

قال : ( وهي قد تتميّز في الخارج وقد تتميّز في الذهن ).

أقول : أجزاء الماهيّة لا بدّ أن تكون متمايزة ، والتميّز قد يكون خارجيّا بأن يكون لكلّ منها وجود مستقلّ في الخارج ، كامتياز النفس والبدن اللذين هما جزء الإنسان. وقد يكون ذهنيّا ، كامتياز جنس السواد عن فصله ؛ فإنّه لو كان خارجيّا ، لم يخل إمّا أن يكون كلّ واحد منهما متقوّما أو لا.

والأوّل باطل ؛ لأنّه إن ماثل السواد استحال جعله متقوّما ؛ لعدم الأولويّة ، ولزوم كون الشيء مقوّما لنفسه. وإن خالفه فإذا انضاف الفصل إلى الجنس ، فإمّا أن لا تحدث هيئة أخرى ، فيكون المحسوس هو اللونيّة المطلقة ، فالسواديّة المحسوسة هي اللونيّة المطلقة ، هذا خلف. أو تحدث هيئة أخرى ، فلا يكون الإحساس بمحسوس واحد ، بل بمحسوسين ، هذا خلف.

والثاني أيضا باطل ؛ لأنّه إن لم تحصل عند الاجتماع هيئة أخرى ، كان السواد غير محسوس. وإذا حدث حادث هو السواد وهو معلول الجزءين وخارج عنهما ،

١٩٦

فيكون التركيب في قابل (١) السواد أو فاعله لا فيه ، هذا خلف.

قال : ( وإذا اعتبر عروض العموم ومضايفه [ وعدم عروضهما (٢) ] ، فقد تتباين وقد تتداخل ).

أقول : المراد أنّه إذا اعتبر عروض العموم ومضايفه ـ أعني الخصوص ـ للأجزاء ، تحدث قسمة تلك الأجزاء إلى المتباينة ـ التي لا يكون بينها عموم وخصوص لا مطلقا ولا من وجه ـ وإلى المتداخلة التي بينها عموم وخصوص ؛ وذلك لأنّ أجزاء الماهيّة إمّا أن يكون بعضها أعمّ من البعض ، فتسمّى المتداخلة ، أو لا يكون ، فتسمّى المتباينة بناء على امتناع تركّب الماهيّة الحقيقيّة من أمرين متساويين ، وإلاّ يلزم إدراج المتساوية في المتباينة ، وفيه بعد ، ولهذا أدرجها بعض (٣) في المتداخلة بجعلها عبارة عمّا يكون بينها تصادق بالمساواة والعموم مطلقا أو من وجه ، فتكون القسمة إلى المتصادقة والمتباينة ، ثمّ يقسّم المتصادقة إلى المتداخلة والمتساوية.

والمتداخلة قد يكون العامّ فيها عامّا مطلقا إمّا متقوّما بالخاصّ وموصوفا به كالجنس ومضايفه الفصل ، أو صفة له كالموجود المقول على المقولات العشر ، أو مقوّما للخاصّ كالنوع الأخير المقوّم لخواصّه المطلقة. وقد يكون مضافا ومن وجه كالحيوان والأبيض.

والمباينة ما تتركّب عن الشيء وإحدى علله أو معلولاته أو غيرهما إمّا بعضها عدميّ كالأوّل ، أو كلّها وجوديّة حقيقيّة متشابهة كالآحاد في العدد ، أو مختلفة إمّا معقولة كالمادّة والصورة والعفّة والحكمة في العدالة ، أو محسوسة كاللون والشكل في الخلقة والسواد والبياض في البلقة ، أو بعضها إضافيّ كالسرير المعتبر في تحقّقه نوع إضافة ، أو كلّها كذلك كالأقرب والأبعد ، فهذه أصناف المركّبات.

__________________

(١) في الأصل : « مقابل » بدل « قابل » والصحيح ما أثبتناه.

(٢) لم ترد هذه العبارة في « تجريد الاعتقاد » المطبوع ولا في « كشف المراد ».

(٣) هو التفتازاني في « شرح المقاصد » ١ : ٤٢٥.

١٩٧

قال : ( وقد تؤخذ موادّ وقد تؤخذ محمولة ).

أقول : أجزاء الماهيّة قد ينظر إليها باعتبار كونها موادّ ، فتكون أجزاء حقيقيّة ، ولا تحمل على المركّب حمل هو هو ؛ لاستحالة كون الكلّ هو الجزء ، وقد ينظر إليها باعتبار كونها محمولة صادقة على المركّب.

مثاله : الحيوان قد يؤخذ مع الناطق ليكون هو الإنسان نفسه ، وقد يؤخذ بشرط التجرّد والخلوّ عن الناطق وهو المادّة ، على ما تقدّم تحقيقه ، فيستحيل حمله على المجموع المركّب منه ومن غيره ، وإذا أخذ من حيث هو هو مع قطع النظر عن القيدين كان محمولا.

قال : ( فتعرض لها الجنسيّة والفصليّة ).

أقول : إذا اعتبرنا حمل الجزء على الماهيّة حصلت الجنسيّة والفصليّة ؛ لأنّ الجنس هو الجزء المشترك ، والفصل هو الجزء المميّز ، والجزء المحمول يكون أحدهما قطعا ، فإذا أخذ الجزء محمولا حصلت الجنسيّة ـ أعني مقوليّة ذلك الجزء على كثيرين ـ أو الفصليّة ـ أعني تمييز الجزء ـ فجزء الماهيّة إمّا جنس أو فصل ، والجنس هو الكلّيّ المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو؟

والفصل هو المقول على الشيء في جواب أيّ شيء هو في جوهره؟

قال : ( وجعلاهما واحد ).

أقول : يعني به جعل الجنس والفصل ، ولم يكونا مذكورين صريحا ، بل أعاد الضمير إليهما ؛ لكونهما في حكم المصرّح بهما.

وإنّما كان جعلاهما واحدا ؛ لأنّ الفاعل لم يفعل حيوانا مطلقا ، ثمّ غيّره بانضمام الفصل إليه ؛ فإنّ المطلق لا وجود له ، بل جعل الحيوان هو بعينه جعل الناطق.

واعتبر هذا في اللونيّة ؛ فإنّه لو كان لها وجود مستقلّ ، فهي هيئة إمّا في السواد ، فيوجد السواد ، لا بها ، وهذا خلف ، أو في محلّه ، فالسواد عرضان : لون وفصله ، لا واحد ، هذا أيضا خلف ، فجعله لونا هو بعينه جعله سوادا.

١٩٨

قال : ( والجنس منهما (١) كالمادّة وهو معلول ، والفصل كالصورة وهو علّة ).

أقول : الجنس إذا نسب مع فصله إلى المادّة والصورة ، وجد الجنس أشبه بالمادّة من الفصل في أنّ الشيء المركّب حاصل معها بالقوّة ، والفصل أشبه بالصورة منه في أنّ الشيء المركّب حاصل معها بالفعل.

وهذا الجنس هو المعلول ، والفصل هو العلّة ، بمعنى أنّ الطبيعة الجنسيّة إذا حصلت في العقل ، كانت أمرا مبهما متردّدا بين أشياء متكثّرة هو عين كلّ واحد منها بحسب الخارج ، وكانت غير منطبقة على تمام حقيقة واحدة منها ، فإذا انضمّ إليها الفصل تعيّنت وزال عنها الإبهام والتردّد ، وانطبقت على تمام حقيقة واحدة منها ، فالفصل علّة لصفات الجنس في الذهن ، وهي التعيّن وزوال الإبهام والتحصّل ، أعني الانطباق على تمام الماهيّة بديهة ، فيصدق عليه أنّه علّة للجنس من حيث هو موصوف بتلك الصفات ، لا أنّه علّة لوجوده في الذهن ، وإلاّ لم يعقل الجنس إلاّ مع الفصل أو لوجوده في الخارج ، وإلاّ لتغايرا في الوجود ، وامتنع الحمل بالمواطاة.

قال : ( وما لا جنس له لا فصل له ).

أقول : الفصل هو الجزء المميّز للشيء عمّا يشاركه في الجنس على ما تقدّم ، فإذا لم يكن للشيء جنس لم يكن له فصل ، هذا هو التحقيق في هذا المقام.

وقد ذهب غير المحقّقين (٢) إلى أنّ الفصل هو المميّز في الوجود ، وجوّزوا تركيب الشيء من أمرين متساويين وشيء من الأمرين ليس جنسا ، فيكون فصلا يتميّز به المركّب عمّا يشاركه في الوجود.

وهذا خطأ ؛ لأنّ الأشياء المختلفة لا تفتقر في تمايزها عمّا يشاركها في الوجود

__________________

(١) في « كشف المراد » : « هاهنا » بدل « منهما » ولعلّه هو الأصحّ.

(٢) ذهب إليه الفخر الرازي ومن سبقه كما في « شرح الإشارات » ١ : ٨٦ ، والكاتبي في « الشمسيّة » كما في « شروح الشمسية » ١ : ٢٦٦ ـ ٢٧٠ ، ونسبه اللاهيجي إلى جمهور المتأخّرين في « شوارق الإلهام » المبحث الثالث بعد المسألة الخامسة من الفصل الثاني.

١٩٩

وغيره من العوارض إلى أمر مغاير لذواتها ، فإنّ كلّ واحد من الجزءين المتساويين كما يتمايز بنفسه عمّا يشاركه في الوجود ، كذلك المركّب منهما.

ولو افتقر كلّ مشارك في الوجود أو في غيره من الأعراض إلى فصل لزم التسلسل ، ولم يجعل كلّ منهما فصلا للمركّب ، ولم يكن المركّب فصلا لكلّ منهما ، لتساوي نسبته ونسبتهما إلى الموجد.

قال : ( وكلّ فصل تامّ فهو واحد ).

أقول : الفصل ، منه ما هو تامّ وهو كمال الجزء المميّز عن تمام المشاركات وهو الفصل القريب ، ومنه غير تامّ وهو الجزء الذاتي المميّز عن بعض المشاركات وهو الفصل البعيد. والأوّل لا يكون إلاّ واحدا ؛ لأنّه لو تعدّد لزم امتياز المركّب بكلّ واحد منهما ، فيستغني عن الآخر في التميّز ، فلا يكون فصلا ، ولأنّ الفصل علّة للحصّة فيلزم تعدّد العلل على المعلول الواحد ، وهو محال. أمّا الفصل الناقص ـ وهو جزء الفصل ـ فإنّه يكون متعدّدا ، كقابل الأبعاد والنامي.

قال : ( ولا يمكن وجود جنسين في مرتبة واحدة لماهيّة واحدة ).

أقول : الجنس للماهيّة قد يكون واحدا كالجسم الذي له جنس واحد هو الجوهر.

وقد يكون كثيرا كالحيوان الذي له أجناس كثيرة ، لكن هذه الكثرة لا يمكن أن تكون في مرتبة واحدة بأن لا يكون أحدهما جنسا للآخر ، وكان كلّ منهما جنسا عاليا مثلا ، بل يجب أن تكون مترتّبة في العموم والخصوص ، فلا يمكن وجود جنسين في مرتبة واحدة لنوع واحد ؛ لأنّ فصلهما إن كان واحدا كان جعل الجنسين جعلا واحدا ، وهو محال (١) ، وإن تغاير لم يكن النوع نوعا واحدا بل نوعين ، هذا خلف.

قال : ( فلا تركيب عقليّ إلاّ منهما ).

أقول : التركيب قد يكون عقليّا ، وقد يكون خارجيّا كتركيب العشرة من الآحاد.

__________________

(١) لأنّ الجنس الذي يكون تمام المشترك مثلا إذا حصل بالفصل ، يستحيل حصول تمام مشترك آخر ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل. ( منه قدس‌سره ).

٢٠٠