البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

والتركيب العقليّ لا يكون إلاّ من الجنس والفصل ؛ لأنّ الجزء إمّا أن يكون مختصّا بالمركّب أو مشتركا.

والأوّل هو الفصل القريب.

والثاني إمّا أن يكون تمام المشترك أو جزءا منه ، والأوّل هو الجنس ، والثاني إمّا أن يكون مساويا أو أعمّ منه ، والأوّل يلزم منه كونه فصلا للجنس ، فيكون فصلا مطلقا ، والثاني إمّا أن يكون تمام المشترك بين تمام المشترك وما لا يصدق عليه تمام المشترك أو لا يكون ، والأوّل جنس ، والثاني فصل جنس ، وإلاّ لزم التسلسل وهو محال ، فقد ثبت أنّ كلّ جزء محمول إمّا أن يكون جنسا أو فصلا ، وهو المطلوب.

قال : ( فيجب تناهيهما ).

أقول : الجنس والفصل قد يترتّبان في العموم والخصوص ، كالحيوانيّة والجسميّة ، وقد لا يترتّبان ، والمترتّبة يجب تناهيهما في الطرفين ؛ لأنّه لو لا تتناهى الأجناس لم تتناه الفصول التي هي العلل ، فيلزم وجود علل ومعلولات لا نهاية لها ، وهو محال.

قال : ( وقد يكون منهما عقليّ وطبيعيّ ومنطقيّ كنجسهما ).

أقول : يعني أنّ من الأجناس ما هو عقليّ وهو الحيوانيّة مع قيد الجنسيّة ، ومنها ما هو طبيعيّ وهو الحيوانيّة من حيث هي هي لا باعتبار الجنسيّة ولا باعتبار عدمها ، ومنها ما هو منطقيّ وهي الجنسيّة العارضة للحيوان.

وهذه الثلاثة أيضا قد تحصل في الفصل ؛ وذلك كما أنّ جنسهما ـ يعني جنس الجنس وجنس الفصل وهو الكلّيّ من حيث هو كلّي ـ قد انقسم إلى هذه الثلاثة ، كذلك هذان ـ أعني الجنس والفصل ـ ينقسمان إليهما.

قال : ( ومنهما عوال وسوافل ومتوسّطات ، وفصل كلّ جنس يكون في مرتبته ).

أقول : الجنس قد يكون عاليا ، وهو الجنس الذي ليس فوقه جنس آخر كالجوهر ، فيسمّى جنس الأجناس وقد يكون سافلا ، وهو الجنس الأخير الذي

٢٠١

لاجنس تحته كالحيوان. وقد يكون متوسّطا ، وهو الذي فوقه جنس وتحته جنس كالجسم.

والفصل أيضا قد يكون عاليا ، وهو فصل الجنس العالي كقابل الأبعاد. وقد يكون سافلا ، وهو فصل النوع السّافل كالنّاطق. وقد يكون متوسّطا ، وهو فصل الجنس المتوسّط كالنامي. فظهر أنّ فصل كلّ جنس يكون في مرتبته بمعنى أنّ فصل الجنس العالي يسمّى فصلا عاليا ، وفصل الجنس السافل يسمّى فصلا سافلا ، وفصل الجنس المتوسّط يسمّى فصلا متوسّطا.

قال : ( ومن الجنس ما هو مفرد ، وهو الذي لا جنس له وليس تحته جنس ، وهما إضافيّان ، وقد يجتمعان مع التقابل ).

أقول : من أقسام الجنس الجنس المفرد ، وهو الذي لا جنس فوقه ولا تحته ، ونذكر في مثاله العقل بشرط أن لا يكون الجوهر جنسا له ، وأن يكون صدقه على أفراده صدق الجنس على أنواعه.

إذا عرفت هذا ، فالجنس والفصل إضافيّان ، وكذا باقي المقولات الخمس ـ أعني النوع والخاصّة والعرض العامّ ـ فإنّ الجنس ليس جنسا لكلّ شيء بل لنوعه ، وكذا الفصل وسائرها.

وقد يجتمع الجنس والفصل في شيء واحد مع تقابلهما ؛ لأنّ الجنس مشترك ، والفصل خاصّ ، وذلك كالإدراك الذي هو جنس السمع والبصر وباقي الحواسّ ، وفصل الحيوان ، بل قد تجتمع الخمسة في شيء واحد لا باعتبار واحد ؛ لتقابلهما ؛ فإنّ الجنس لشيء يستحيل أن يكون فصلا لذلك الشيء أو نوعا له أو خاصّة أو عرضا بالقياس إليه.

قال : ( ولا يمكن أخذ الجنس بالنسبة إلى الفصل ).

أقول : لا يمكن أن يؤخذ الجنس بالنسبة إلى الفصل ، فيكون الجنس جنسا له كما هو جنس للنوع ، وإلاّ لكان مقوّما للفصل ، فلا يكون الفصل محصّلا له.

٢٠٢

قال : ( وإذا نسبا إلى ما يضافان إليه كان الجنس أعمّ والفصل مساويا ).

أقول : يعني إذا نسب الجنس إلى النوع كان الجنس أعمّ من المضاف إليه ـ أعني النوع ـ لوجوب الشركة بين الكثيرين المختلفين في الحقائق في الجنس دون النوع.

وأمّا الفصل فإنّه يكون مساويا للنوع الذي يضاف الفصل إليه بأنّه فصل له ، ولا يجوز أن يكون أعمّ من النوع ؛ لاستحالة استفادة التمييز من الأعمّ.

المسألة الخامسة : في التشخّص.

قال : ( والتشخّص من الأمور الاعتباريّة ، فإذا نظر إليه من حيث هو أمر عقلي وجد مشاركا لغيره من التشخّصات فيه ، ولا يتسلسل بل ينقطع بانقطاع الاعتبار ).

أقول : الماهيّة النوعيّة من حيث هي هي لا يمنع نفس تصوّرها من الشركة ، بل يمكن للعقل فرض اشتراكها بحملها على كثيرين.

وأمّا الشخص فنفس تصوّره مانع من الشركة بلا ريبة ، بمعنى أنّ مفهوم زيد ليس مفهوم الإنسان وحده ، وإلاّ لصدق على عمرو أنّه زيد ، كما يصدق عليه أنّه إنسان ، فإذن لا بدّ أن يتحقّق في الشخص أمر زائد على الماهيّة ، ويقال له : التشخّص ، وهو من ثواني المعقولات ومن الأمور الاعتباريّة لا من العينيّة ، وإلاّ لكان له تشخّص ، وننقل الكلام إليه ، وحينئذ لزم التسلسل.

ثمّ إذا نظر إليه من حيث هو أمر عقليّ كان مشاركا لغيره من التشخّصات ، ولا يتسلسل ذلك بل ينقطع بانقطاع الاعتبار.

وهذا كأنّه جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّ التشخّص من الأمور العينيّة ولزم التسلسل ؛ لأنّ أفراد التشخّصات قد اشتركت في مطلق التشخّص ، فيحتاج إلى مخصّص آخر مغاير لما وقع به الاشتراك ، ولا يجوز أن يكون عدميّا ؛ لإفادة الامتياز ، ولأنّه يلزم أن تكون الماهيّة المتشخّصة عدميّة ؛ لعدم أحد جزأيها.

والجواب : أنّه أمر اعتباريّ عقليّ ينقطع بانقطاع الاعتبار ومثل ذلك ما يقال من

٢٠٣

أنّ التشخّص جزء الشخص الموجود في الخارج ، وجزء الموجود في الخارج موجود فيه بالضرورة ، وأنّ الطبيعة النوعيّة لا تتكثّر بنفسها بل تكثّرها بالتشخّص ، فلا بدّ من وجوده ونحو ذلك ؛ وذلك لأنّ جزء الموجود في الخارج هو العوارض المشخّصة الموجبة لحصول التشخّص والتكثّر عند الاعتبار وهي موجودة ، والتشخّص اعتباريّ كالوحدة ، فلا حاجة إلى أن يقال : إنّ التشخّص بذاته لا بتشخّص زائد على ذاته حتّى يلزم التسلسل. واشتراكه مع سائر التشخّصات في مفهوم التشخّص اشتراك في أمر عرضيّ.

قال : ( وأمّا ما به التشخّص فقد يكون نفس الماهيّة فلا يتكثّر ، وقد يستند إلى المادّة المتشخّصة بالأعراض الخاصّة الحالّة فيها ).

أقول : لمّا حقّق أنّ التشخّص من الأمور الاعتباريّة لا العينيّة ، شرع في البحث عن سبب التشخّص.

واعلم أنّه قد يكون نفس الماهيّة المشخّصة ، وقد يكون غيرها.

أمّا الأوّل : فلا يمكن أن يتكثّر نوعه في الخارج فلا يوجد منه البتّة إلاّ شخص واحد ؛ لأنّ الماهيّة علّة لذلك التشخّص ، فلو وجدت مع غيره لزم تحصيل الحاصل وانفكّت العلّة عن المعلول ، هذا خلف. وقد مثّل بالواجب تعالى.

وأمّا الثاني : فلا يجوز أن يكون الغير المشخّص فيه أمرا منفصلا عن الشخص ؛ لأنّ نسبته إلى كلّ الأفراد والتشخّصات على السواء ، ولا حالاّ فيه ؛ لأنّ الحالّ في الشخص لافتقاره إليه يكون متأخّرا عنه ، فلو كان علّة لتشخّصه المتقدّم عليه ؛ لكونه مقوّما له وكون نسبته إلى الشخص نسبة الفصل إلى النوع كان متقدّما عليه ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه وهو محال ، فتعيّن أن يكون محلاّ ، فلا بدّ له من مادّة قابلة له وللتكثّر ، وتلك المادّة تتشخّص بانضمام أعراض خاصّة إليها تحلّ فيها مثل الكمّ المعيّن ، والوضع المعيّن وباعتبار تشخّص تلك المادّة تتشخّص هذه الماهيّة الحالّة فيها.

٢٠٤

قال : ( ولا يحصل التشخّص بانضمام كلّيّ عقليّ إلى مثله ).

أقول : إذا قيّد الكلّي العقليّ بالكلّي العقليّ لا تحصل الجزئيّة ، فإنّا إذا قلنا لزيد : إنّه إنسان ، ففيه شركة ذهنيّة وخارجيّة تبعيّة. فإذا قلنا : العالم الزاهد ابن فلان الذي يتكلّم يوم كذا في موضع كذا ، لم يزل احتمال الشركة الذهنيّة ؛ لاحتمال فرض الاشتراك ، فلا يكون جزئيّا.

نعم ، هو كلّيّ ينحصر في شخص خارجي ، فيكون كالخاصّة المركّبة ، كالماشي على الرّجلين المستقيم القامة ، والطائر الولود.

وإنّما قيّد بالعقلي ، لأنّه ليس في الخارج شركة ولا كلّيّة ، إذ الكلّيّ ما يحصل في العقل والذهن ، كما أنّ الجزئي ما يحصل في الحسّ والخارج.

قال : ( والتميّز يغاير التشخّص ، ويجوز امتياز كلّ من الشيئين بالآخر ).

أقول : التشخّص للشيء إنّما هو في نفسه ، وامتيازه إنّما هو بالقياس إلى ما يشاركه في معنى كلّي بحيث لو لم يشاركه غيره ، لما احتاج إلى مميّز زائد على حقيقته مع أنّه متشخّص ، فالتميّز والتشخّص متغايران.

ويجوز أن يمتاز كلّ واحد من الشيئين بصاحبه لا بامتيازه ، فلا دور. ولا يجوز أن يتشخّص كلّ من الشيئين بذات الآخر ، وإلاّ لزم إفادة تقييد الكلّيّ بالكلّي التشخّص ، وقد مرّ فساده.

قال : ( والتشخّص قد لا يعتبر مشاركته ، والكلّيّ قد يكون إضافيّا فيتميّز ، والمتشخّص المندرج تحت غيره متميّز ).

أقول : لمّا ذكر أنّ التشخّص والتميّز متغايران ، بيّن هنا عدم العموم المطلق بينهما ؛ وذلك لأنّ كلّ واحد منهما يصدق بدون الآخر ، ويصدقان معا على شيء ثالث ، وكلّ شيئين هذا شأنهما فبينهما عموم من وجه.

أمّا صدق التشخّص بدون التميّز ففي التشخّص الذي لا تعتبر مشاركته مع غيره في مفهوم من المفهومات ، وإن كان لا بدّ له من المشاركة في نفس الأمر ولو في

٢٠٥

الأعراض العامّة.

وأمّا صدق التميّز بدون التشخّص ففي الكلّيّ إذا كان جزئيّا إضافيّا يندرج تحت كلّيّ آخر ، فإنّه يكون ممتازا عن غيره وليس بمشخّص.

وأمّا صدقهما على واحد ففي التشخّص المندرج تحت غيره إذا اعتبر اندراجه ، فإنّه متشخّص ومتميّز.

المسألة السادسة : في البحث عن الوحدة والكثرة.

قال : ( والتشخّص يغاير الوحدة التي هي عبارة عن عدم الانقسام ).

أقول : الوحدة عبارة عن كون المعقول غير قابل للقسمة من حيث هو واحد ، وهو مغاير للتشخّص ؛ لأنّ الوحدة قد تصدق على الكلّيّ الطبيعي غير المتشخّص وعلى الكثرة نفسها من دون صدق التشخّص عليهما ، فكلّ متشخّص يصدق عليه أنّه واحد من غير عكس كلّيّ.

قال : ( وهي مغايرة للوجود ؛ لصدقه على الكثير من حيث هو كثير ، بخلاف الوحدة ، وتساوقه ).

أقول : قد ظنّ قوم أنّ الوجود والوحدة عبارتان عن شيء واحد ؛ لصدقهما على جميع الأشياء (١).

وهو خطأ ؛ فإنّه لا يلزم من الملازمة الاتّحاد.

ثمّ الدليل على تغايرهما أنّ الكثير من حيث إنّه كثير يصدق عليه أنّه موجود وليس بواحد ، فالموجود غير الواحد من الشكل الثالث.

نعم ، الوحدة تساوق الوجود وتلازمه ، فكلّ موجود فهو واحد. والكثرة يصدق عليها الواحد لا من حيث هي كثرة ، على معنى أنّ الوحدة تصدق على العارض ـ أعني الكثرة ـ لا على ما عرضت له الكثرة ، وكذلك كلّ واحد فهو موجود إمّا في

__________________

(١) نسبه في « شرح المواقف » ٤ : ٢١ و « شرح المقاصد » ٢ : ٢٨ إلى البعض ، ونقله اللاهيجي عن الفارابي كما في « شوارق الإلهام » المسألة السابعة من الفصل الثاني.

٢٠٦

الأعيان أو في الأذهان ، فهما متلازمان.

المسألة السابعة : في أنّ الوحدة غنيّة عن التعريف.

قال : ( ولا يمكن تعريفها إلاّ باعتبار اللفظ ).

أقول : الوحدة والكثرة من المتصوّرات البديهيّة فلا يحتاج في تصوّرها إلى اكتساب ، فلا يمكن تعريفها إلاّ باعتبار اللفظ ، بمعنى أنّ تبدّل لفظا بلفظ آخر أوضح منه ، لا أنّه تعريف معنوي.

قال : ( وهي والكثرة عند العقل والخيال تستويان في كون كلّ منهما أعرف من صاحبه بالاقتسام ).

أقول : الوحدة والكثرة عند العقل والخيال تستويان في كون كلّ منهما أعرف من صاحبه بالاقتسام ؛ فإنّ الوحدة أعرف عند العقل ، والكثرة أعرف عند الخيال ، لأنّ الخيال يدرك الكثرة أوّلا ، ثمّ العقل ينزع منها أمرا واحدا أعمّ. بمعنى أنّ الصور الكلّيّة المرتسمة في النفس منتزعة عن صور جزئيّاتها المرتسمة في الآلات ؛ فإنّ النفس تدرك أوّلا بآلاتها جزئيّات متكثّرة ترتسم صورها في تلك الآلات ، ثمّ ينتزع منها بحذف مشخّصاتها صورة واحدة كلّيّة فيها ، والعقل يدرك أعمّ الأمور أوّلا ـ وهو الواحد ـ ثمّ يأخذ بعد ذلك في التفصيل.

فقد ظهر أنّ الكثرة والوحدة متساويتان في كون كلّ واحدة منهما أعرف من صاحبتها لكن بالانقسام ؛ فإنّ الكثرة أعرف عند الخيال ، والوحدة أعرف عند العقل ، فقد اقتسم العقل والخيال وصف الأعرفيّة لهما ، فإذا حاولنا تعريف الوحدة عند الخيال عرّفناها بالكثرة. وإذا حاولنا تعريف الكثرة عند العقل عرّفناها بالوحدة.

المسألة الثامنة : في أنّ الوحدة ليست ثابتة في الأعيان.

قال : ( وليست الوحدة أمرا عينيّا ، بل هي من ثواني المعقولات ، وكذا الكثرة ).

٢٠٧

أقول : الوحدة إن كانت سلبيّة لم تكن سلب أيّ شيء كان ، بل سلب مقابلها ، أعني الكثرة ، فالكثرة إن كانت عدما كانت الوحدة عدما للعدم فتكون ثبوتيّة ، وإن كانت وجوديّة كان مجموع العدمات أمرا وجوديّا وهو محال. وإن كانت ثبوتيّة فإن كانت ثابتة في الخارج لزم التسلسل ، وإن كانت ثابتة في الذهن فهو المطلوب.

فإذن الوحدة أمر عقليّ اعتباريّ يحصل في العقل عند فرض عدم انقسام الملحوق ، وهي من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ، وكذا الكثرة ؛ لأنّه لا يمكن أن يتصوّر وحدة أو كثرة قائمة بنفسها ، بل إنّما تتصوّر عارضة لمعقول آخر.

المسألة التاسعة : في التقابل بين الوحدة والكثرة.

قال : ( وتقابلهما لإضافة العلّيّة والمعلوليّة والمكيليّة والمكياليّة ، لا لتقابل جوهريّ بينهما ).

أقول : إنّ الوحدة وإن كانت تعرض لجميع الأشياء حتّى الكثرة نفسها ، لكنّها لا تجامع الكثرة في موضوع واحد بالقياس إلى شيء واحد ؛ فإنّ موضوع الكثرة من حيث صدق الكثرة عليه لا يمكن صدق الوحدة عليه ، فبينهما تقابل قطعا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّك ستعلم أنّ أصناف التقابل أربعة : إمّا تقابل السلب والإيجاب ، أو العدم والملكة ، أو التضايف ، أو التضادّ. وليس بين الوحدة والكثرة تقابل جوهري ـ أي ذاتي ـ يستند إلى ذاتيهما بوجه من الوجوه الأربعة ؛ لأنّ الوحدة مقوّمة للكثرة ومبدأ لها وهما ثبوتيّتان ، فليستا بسلب وإيجاب ولا عدم وملكة ولا متضايفين ؛ لأنّ المقوّم متقدّم والمضايف مصاحب ، ولا متضادّين ؛ لامتناع تقوّم أحد الضدّين بالآخر ، فلم يبق بينهما إلاّ تقابل عرضي ، وهو باعتبار عروض العلّيّة والمعلوليّة والمكياليّة والمكيليّة العارضتين لهما ؛ فإنّ الوحدة علّة مقوّمة للكثرة ومكيال لها ؛ لأنّ الوحدة تفنيها إذا صدقت مرّة بعد أخرى وهو معنى الكيل ، والكثرة

٢٠٨

معلولة ومكيلة ، فبينهما هذا النوع من التضايف ، فكان التقابل عرضيّا لا ذاتيّا.

المسألة العاشرة : في أقسام الوحدة.

قال : ( ثمّ معروضهما (١) قد يكون واحدا فله جهتان (٢) بالضرورة ، فجهة الوحدة إن لم تقوّم (٣) جهة الكثرة ولا تعرض لها فالوحدة عرضيّة ، وإن عرضت (٤) كانت موضوعات أو محمولات عارضة لموضوع واحد (٥) أو بالعكس. (٦) وإن قوّمت فوحدة جنسيّة أو نوعيّة أو فصليّة. وقد تتغاير ، فموضوع مجرّد عدم الانقسام لا غير (٧) وحدة (٨) بقول مطلق ، وإلاّ نقطة إن كان له مفهوم زائد ذو وضع ، ومفارق إن لم يكن ذا وضع ، هذا إن لم يقبل القسمة ، وإلاّ فهو مقدار أو جسم بسيط أو مركّب ).

أقول : قد بيّنّا أنّ الوحدة والكثرة من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى.

إذا عرفت هذا ، فموضوعهما ـ أعني المعروض ـ إمّا أن يكون واحدا أو كثيرا ، فإن كان واحدا كانت جهة وحدته غير جهة كثرته بالضرورة ؛ لاستحالة كون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد واحدا وكثيرا. وإذا ثبت أنّه ذو جهتين ، فإمّا أن تكون جهة الوحدة مقوّمة لجهة الكثرة بكونها ذاتيّة لها ، أولا بأن لم تكن ذاتيّة لها. فإن لم تكن مقوّمة ، فإمّا أن تكون عارضة لها بكونها خارجة محمولة كما في وحدة الكاتب

__________________

(١) أي الوحدة والكثرة. ( منه رحمه‌الله ).

(٢) كما في أفراد الإنسان فإنّها كثيرة من حيث ذاتها وواحدة من حيث إنّها إنسان. ( منه رحمه‌الله ).

(٣) لو لم تكن ذاتية لهما. ( منه رحمه‌الله ).

(٤) جهة الوحدة لجهة الكثرة كانت جهة الكثرة. ( منه رحمه‌الله ).

(٥) أي لم تكن عارضة محمولة عليهما. ( منه رحمه‌الله ).

(٦) أي موضوعات معروضة لمحمول واحد ، ففي الكلام لفّ ونشر مشوّس. ( منه رحمه‌الله ).

(٧) أي لا يكون له مفهوم سوى عدم الانقسام. ( منه رحمه‌الله ).

(٨) أي وحدة الوحدة من غير أن يقيّد بكونها وحدة النقطة مثلا. ( منه رحمه‌الله ).

٢٠٩

والضاحك من حيث إنّهما إنسان ؛ فإنّ الإنسان ـ الذي هو جهة الوحدة ـ عارض وخارج محمول ، أو لا تكون عارضة بكونها خارجة غير محمولة. فإن لم تكن عارضة فهي الوحدة بالعرض ، كما تقول : نسبة الملك إلى المدينة كنسبة الرّبّان إلى السفينة من حيث التدبير ، وكذلك حال النفس إلى البدن كحال الملك إلى البلد ؛ فإنّه ليس هناك نسبة واحدة ولا حالة واحدة ، بل هما نسبتان وحالتان ، فالوحدة فيهما عرضيّة فإنّ المدبّر جهة الوحدة بين الشيئين ، فاتّصافهما بالوحدة من حيث التدبير إنّما هو بالعرض وبتبعيّة اتّصاف النفس والملك بالوحدة من حيث التدبير على طريق وصف الشيء بوصف ما هو متعلّق به.

وإن كانت جهة الوحدة عارضة للكثرة ، فأقسامه ثلاثة :

أحدها : أن يكون بعضها موضوعا وبعضها محمولا ، كما نقول : « الإنسان هو الكاتب » فإنّ جهة الوحدة هنا الإنسانيّة ، وهي موضوع.

الثاني : أن يكون محمولات عرضت لموضوع واحد ، كقولنا : « الكاتب هو الضاحك » فإنّ جهة الوحدة ما هو موضوع لهما ، أعني الإنسان.

الثالث : أن يكون موضوعات لمحمول واحد ، كقولنا : « القطن هو الثلج » فإنّ جهة الوحدة ـ وهو الأبيض ـ صفة لهما.

فأمّا إن كانت جهة الوحدة مقوّمة لجهة الكثرة بكونها ذاتيّة لها ، فهي جنسيّة إن كانت مقولة على أمور كثيرة مختلفة بالحقائق في جواب ما هو في جوهره كوحدة الإنسان والفرس من حيث إنّهما حيوان ، أو نوعيّة إن كانت جهة الوحدة نوعا لجهة الكثرة كوحدة زيد وعمرو من حيث إنّهما إنسان ، أو فصليّة إن كانت فصلا لها كوحدة زيد وعمرو من حيث إنّهما ناطق.

وإن كان موضوعهما كثيرا ـ أعني يكون موضوع الوحدة غير معروض للكثرة وإن لم يتصوّر عدم كون معروض الكثرة معروض الوحدة ، لأنّ كلّ كثير فهو واحد من جهة ما ـ فإمّا أن يكون ذلك الموضوع هو موضوع مجرّد عدم الانقسام لا غير ،

٢١٠

أعني أنّ ذلك الشخص شيء غير منقسم ، وليس مفهوم وراء ذلك ، وهو الوحدة نفسها ؛ فإنّ مفهوم الوحدة واحد من حيث الذات ، كثير من حيث الأفراد ، فهي وحدة مطلقة غير مقيّدة بكونها وحدة النقطة مثلا.

وفي بعض النسخ « وحدة شخصيّة » بمعنى أنّها هي شخص من أشخاص مفهوم الوحدة ، فقوله : « موضوع مجرّد عدم الانقسام » معناه موضوع هو مجرّد عدم الانقسام على سبيل الإضافة البيانيّة.

وأورد عليه : بأنّ مفهوم عدم الانقسام لا يكون هو الوحدة الشخصيّة بحال (١) ، فتأمّل.

أو يكون له مفهوم آخر ، فإن كان ذا وضع ، فهو النقطة ، وإلاّ فهو العقل والنفس المفارقان عن المادّة.

هذا إن لم يقبل القسمة ، وإن كان الموضوع للوحدة قابلا للقسمة ، فإمّا أن تكون أجزاؤه مساوية لكلّه أو لا ، والأوّل : هو المقدار ـ أعني العرض والطول والعمق ـ إن كان قبوله للانقسام لذاته ، وإلاّ فهو الجسم البسيط كالنار. والثاني : الأجسام المركّبة المنقسمة إلى أجسام مختلفة الحقائق ، كأشخاص الإنسان ونحوها من المواليد الثلاثة الحاصلة من الأمّهات الأربعة بتأثير الآباء السبعة على وجه.

وأورد عليه : بأنّ الكلام في معروض الوحدة الذي لا يكون معروضا للكثرة ، والجسم المركّب واحد من حيث الذات ، كثير من حيث الأجزاء (٢) ، فتأمّل.

قال : ( وبعض هذه أولى من بعض بالوحدة ).

أقول : الوحدة من المعاني المقولة على ما تحتها بالتشكيك ؛ فإنّ بعض أفرادها أولى باسمها من بعض ؛ فإنّ الوحدة الحقيقيّة أولى بالوحدة من العرضية ، والواحد بالشخص أولى به من الواحد بالنوع ، وهي أولى به من الواحد من الجنس والواحدة

__________________

(١) أورده الفاضل القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١٠٢.

(٢) أورده الفاضل القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١٠٢.

٢١١

من أقسام الواحد أولى به من غيرها ، وهذا ظاهر.

قال : ( والهو هو على هذا النحو ).

أقول : الهو هو عبارة عن الحمل الإيجابي بالمواطأة.

والظاهر أنّ المراد أنّ الحمل الإيجابي بالمواطأة كالوحدة في كونها مقولة بالتشكيك ، فبعض أفراد الحمل أولى من البعض في الحمليّة ، أو في الانقسام إلى المقوّم (١) والعارض وغيرهما ممّا مرّ.

وكيف كان فلا فائدة مهمّة في بيان هذا النحو.

قال : ( والوحدة في الوصف العرضي والذاتي تتغاير أسماؤها بتغاير المضاف إليه ).

أقول : الوحدة في الوصف العرضي الكيفي تسمّى مشابهة ، والكمّيّ مساواة ، والوضعيّ موازاة ، والإضافي مناسبة ، وفي الأطراف مطابقة ، وفي الخاصّة مشاكلة ، وكذا سائر الأعراض.

والوحدة في الأمر الذاتي لها اسم آخر ؛ فإنّ الوحدة في النوع تسمّى مماثلة ، وفي الجنس تسمّى مجانسة ، وفي الصنف مشاركة ، وفي الوصف مشابهة ، فلأقسامها أسماء متغايرة بتغاير ما تنسب إليه.

وقد تنقسم الوحدة إلى الجنسية والنوعية والصنفية والوصفية والشخصية ، وكذا الكثرة على وجه. ومثل ذلك الانقسام إلى وحدة الموضوع والمحمول والمكان ونحوها.

قال : ( والاتّحاد محال ، فالهوهو يستدعي جهتي تغاير واتّحاد على ما سلف ).

أقول : اتّحاد الاثنين غير معقول ؛ لأنّهما بعد الاتّحاد إن بقيا فهما اثنان ، وإن عدما فلا اتّحاد ، وإن عدم أحدهما دون الآخر فلا اتّحاد ؛ لاستحالة اتّحاد المعدوم بالموجود.

__________________

(١) في « ج » : « المفهوم ».

٢١٢

وليس قولنا : « هو هو » اتّحادا مطلقا ، بل معناه أنّ الشيئين يتّحدان من وجه ويتغايران من وجه ، بمعنى أنّ الشيء الذي يقال له أحدهما يقال له الآخر ، بمعنى أنّ هذا المصداق الذي يصدق عليه أحد المفهومين يصدق عليه المفهوم الآخر أيضا ، فالتغاير في المفهوم والاتّحاد في المصداق.

قال : ( والوحدة ليست بعدد ، بل هي مبدأ العدد المتقوّم بها لا غير ).

أقول : هاهنا بحثان :

الأوّل : أنّ الوحدة مبدأ العدد ؛ فإنّ العدد إنّما يحصل منها ومن فرض غيرها من نوعها ، فإنّك إذا عقلت وحدة مع وحدة عقلت اثنينيّة.

ونبّه بهذا أيضا على أنّها ليست عددا ؛ بناء على أنّ العدد نصف مجموع حاشيتيه ، فحيث لا حاشية للواحد في جانب النقيصة ، لم يصدق على وحدته تعريف العدد ، بخلاف الاثنين ؛ فإنّه نصف حاصل الجمع من واحد ـ وهو أحد حاشيتيه ـ ومن الثلاثة ، وهي الحاشية الأخرى وهكذا غيره من الأعداد.

الثاني : أنّ العدد إنّما يتقوّم بالوحدات لا غير ، فليس العشر متقوّما بخمسة وخمسة ، ولا ستّة وأربعة ، ولا سبعة وثلاثة ، ولا ثمانية واثنين ، بل بالواحد عشر مرّات ، وكذلك كلّ عدد ، فإنّ قوامه من الوحدات التي تبلغ جملتها ذلك النوع ، ويكون كلّ واحدة من تلك الوحدات جزءا من ماهيّته ، فإنّه ليس تركّب العشرة من الخمسين أولى من تركّبها من الستّة والأربعة وغيرها من أنواع الأعداد التي تحتها ، ولا يمكن أن يكون الكلّ مقوّما بحصول الاكتفاء بنوع واحد من التركيب.

قال : ( وإذا أضيف إليها مثلها حصلت الاثنينيّة ، وهي نوع من العدد ، ثمّ تحصل أنواع لا تتناهى بتزايد واحد واحد مختلفة (١) الحقائق هي أنواع العدد ).

أقول : إذا أضيفت إلى الوحدة وحدة أخرى حصلت الاثنينيّة ، وهي نوع من العدد.

وقد ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ الاثنين ليس من العدد ؛ لأنّه الزوج الأوّل ،

__________________

(١) صفة « أنواع ».

٢١٣

فلا يكون نوعا من العدد كالواحد الذي هو الفرد الأوّل (١).

وهو خطأ ؛ لأنّ خواصّ العدد موجودة فيه كما ذكرنا ، وتمثيله بالواحد لا يفيد اليقين ولا الظنّ ، فإذا انضمّ إليهما واحد آخر ، حصلت الثلاثة ، وهي نوع آخر من العدد ، فإذا انضمّ إليها واحد آخر ، حصلت الأربعة ، وهي نوع آخر مخالف للأوّل ، وعلى هذا كلّما زاد واحد حصل نوع آخر من العدد.

وهذه الأعداد أنواع مختلفة في الحقيقة ؛ لاختلافها في لوازمها ، كالصمم والمنطقيّة وأشباههما ، فلمّا كان الزائد غير متناه بل كلّ من له العقل يمكنه أن يزيد عليها واحدا ، فيحصل عدد آخر مخالف لما تقدّمه بالنوع ، كانت أنواع العدد غير متناهية.

قال : ( وكلّ واحد منها أمر اعتباريّ يحكم به العقل على الحقائق إذا انضمّ بعضها إلى بعض في العقل انضماما بحسبه ).

أقول : كلّ واحد من أنواع العدد أمر اعتباريّ ليس بثابت في الأعيان ، بل في الأذهان يحكم به العقل على الحقائق ، كأفراد الإنسان أو الفرس أو الحجر أو غيرها إذا انضمّ بعض تلك الأفراد إلى البعض ، سواء اتّحدت في الماهيّة أو اختلفت ، بل يوجد مجرّد الانضمام في العقل انضماما بحسب ذلك النوع من العدد ، فإنّه إذا انضمّ واحد إلى واحد حصل اثنان ، ولو انضمّت حقيقة مع حقيقة مع ثالثة حصلت الثلاثة ، وهكذا.

وإنّما لم يكن العدد ثابتا في الخارج ؛ لأنّه لو كان كذلك لكان عرضا قائما بالمحلّ ؛ لاستحالة جوهريّته واستقلاله في القيام بنفسه ؛ لأنّه لا يعقل إلاّ عارضا لغيره ، فذلك الغير إمّا أن تكون له وحدة باعتبارها يحلّ فيه [ العرض ] (٢) الواحد أو لا تكون.

__________________

(١) نسبه الشيخ الرئيس إلى البعض ، انظر : الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهيّات « الشفاء » : ١٢٢.

(٢) ساقطة من الأصل ، أضفناها من « كشف المراد » : ١٠٥.

٢١٤

فإن كان الأوّل ، فتلك الوحدة إن وجدت في الآحاد لزم قيام العرض بالمحال المتعدّدة ، وإن قام بكلّ واحد وحدة على حدته لم يكن لذلك المجموع وحدة باعتبارها يكون محلاّ للعدد ، وقد فرض خلافه.

وإن كان الثاني ، فالعدد إمّا أن يكون موجودا في كلّ واحد من الأجزاء ، أو في أحدها.

وعلى التقديرين يكون الواحد عددا ، هذا خلف.

قال : ( والوحدة قد تعرض لذاتها ومقابلها وتنقطع بانقطاع الاعتبار ).

أقول : قد بيّنّا أنّ الوحدة والكثرة من ثواني المعقولات ، فالوحدة تعرض لكلّ شيء يفرض العقل فيه عدم الانقسام حتّى أنّها تعرض لنفس الوحدة ، فيقال : وحدة واحدة.

وتعرض الوحدة أيضا لمقابلتها ، فيقال : عشرة واحدة ، ولكن تنقطع بانقطاع الاعتبار.

قال : ( وقد تعرض لها شركة فتتخصّص بالمشهوري ، وكذا المقابل ).

أقول : الذي يفهم من هذا أنّ الوحدة قد تعرض لها الشركة مع غيرها من الوحدات في مفهوم عدم الانقسام ، أعني مفهوم مطلق الوحدة ؛ وذلك إذا أخذت الوحدات متخصّصة بموضوعاتها ؛ فإنّ وحدة زيد تشارك وحدة عمرو في مفهوم كونها وحدة ، وحينئذ تتخصّص كلّ وحدة عن الأخرى بما تضاف إليه ؛ فإنّ وحدة زيد تتخصّص عن وحدة عمرو بإضافتها إلى زيد. وزيد الذي هو معروض الإضافة هو المضاف المشهوري ؛ لأنّه واحد بالوحدة ، والوحدة مضاف حقيقي ؛ فإنّ الوحدة وحدة للواحد ، والواحد واحد بالوحدة ، وذات الواحد مضاف مشهوري ، أعني ذات زيد وعمرو وغيرهما.

فإذا أخذت الوحدة مضافة إلى زيد تخصّصت وامتازت عن وحدة عمرو ممّا أضيفت إليه الذي يسمّى بالمشهوري ؛ لكونه معروض الإضافة ، وكذلك مقابل

٢١٥

الوحدة ـ أعني الكثرة ـ فإنّ عشريّة الأناسي مساوية لعشرية الأفراس في مفهوم العشريّة والكثرة ، وإنّما تتمايزان بالمضاف إليه ، أعني الأناسي والأفراس ، وهما المضافان المشهوريّان.

وقد يمكن أن يفهم من هذا الكلام أنّ مجرّد الوحدة ـ أعني نفس عدم الانقسام ـ أمر مشترك بين كلّ ما يطلق عليه الواحد ، فليس واحدا حقيقيّا ، أمّا الذات ـ التي يصدق عليها أنّها واحدة ، أعني المشهوري ـ فإنّها ممتازة عن غيرها ، فهي أحقّ باسم الواحد ، فيتخصّص المشهوري بالواحد الحقيقي ، وكذا البحث في الكثرة.

والأوّل أنسب.

قال : ( وتضاف إلى موضوعها باعتبارين ، وإلى مقابلها بثالث ، وكذا المقابل ).

أقول : المراد أنّ الوحدة تعرض لها إضافات ثلاثة :

الأولى باعتبار أنّها وحدة لمعروضها.

الثانية باعتبار حلولها فيه.

الثالثة بالقياس إلى الكثرة ، وهي أنّها مقابلة للكثرة.

وكذا المقابل وهو الكثرة ؛ فإنّ مثل هذه النسب الثلاث تعرض لمقابل الوحدة ، أعني الكثرة.

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن التقابل.

قال : ( ويعرض له ما يستحيل عروضه لها من التقابل ).

أقول : يعني به أنّ المقابل للوحدة ـ أعني الكثرة ـ يعرض له ما يستحيل عروضه للوحدة ، وهو التقابل ؛ فإنّ التقابل لا يمكن أن يعرض للواحد ، وإنّما يعرض للكثير من حيث هو كثير ؛ فإنّ مفهوم التقابل هو عدم الاجتماع في شيء واحد في زمان واحد من جهة واحدة.

قال : ( المتنوّع إلى الأنواع الأربعة ، أعني تقابل السلب والإيجاب وهو راجع إلى

٢١٦

القول والعقد ؛ والعدم والملكة وهو الأوّل مأخوذا باعتبار خصوصيّة ما ؛ وتقابل الضدّين وهما وجوديّان ، ويتعاكس هو وما قبله في التحقيق (١) والمشهوريّة ؛ وتقابل التضايف ).

أقول : ذكر الحكماء (٢) أنّ أصناف التقابل أربعة :

الأوّل : تقابل العدم والملكة.

الثاني : تقابل الإيجاب والسلب.

الثالث : تقابل التضادّ.

الرابع : تقابل التضايف.

بيان ذلك : أنّ الاثنين إن اندرجا تحت نوع واحد وكانا متشاركين في تمام الماهيّة ، فهما متماثلان ، وإلاّ فهما متخالفان ، سواء اندرجا تحت جنس حتّى يكونا متجانسين أم لا ، كما في المتشابهين وغيرهما.

والمتخالفان إمّا متقابلان أو غير متقابلين.

والمتقابلان هما المتخالفان اللّذان يمتنع اجتماعهما حلولا في محلّ واحد في زمان واحد من جهة واحدة ، فخرج بقيد التخالف المثلان وإن امتنع اجتماعهما ، وبقيد امتناع الاجتماع مثل السواد والحلاوة ممّا يمكن اجتماعهما. وسائر القيود لبيان أجزاء الماهيّة وإدخال أفراد المحدود.

وقد يعتبر الموضوع بدل المحلّ ، فينحصر التضادّ مثلا في الأعراض.

والأوّل أولى ؛ لثبوت التضادّ بين الجواهر أيضا ، كالصور النوعيّة للعناصر ، كما في الماء والنار.

فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ المتقابلين إمّا أن يكون أحدهما وجوديّا والآخر

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلّ الصحيح : « التحقّق » وهو المرافق لما في « تجريد الاعتقاد » : ١٢٩.

(٢) انظر : الفصل الأوّل من المقالة السابعة من الفن الثاني من منطق « الشفاء » ١ : ٢٤١ وما بعدها ، و « البصائر النصيريّة » : ٣٦ ، و « المباحث المشرقيّة » ١ : ١٨٩.

٢١٧

عدميّا ، أو يكونا وجوديّين ، ولا يمكن أن يكونا عدميّين ؛ لعدم التقابل بين الأمور العدميّة ؛ إذ لا تمايز في الأعدام إلاّ بتمايز المضاف إليه وله حكم نفسه.

وعلى الأوّل فإمّا أن يعتبر في العدمي محلّ قابل للوجودي أم لا ، والثاني هو الأوّل ، والأوّل هو الثاني.

وعلى الثاني إمّا أن يتوقّف تعقّل كلّ منهما على تعقّل الآخر أم لا ، والأوّل هو الرابع ، والثاني هو الثالث.

وقد يشترط في الضدّين أن يكون بينهما غاية الخلاف والبعد ، كالسواد والبياض.

وبعبارة أخرى : المتقابلان إمّا أن يوجدا باعتبار القول والعقد ، أو بحسب الحقائق أنفسها.

فعلى الأوّل كان تقابل السلب والإيجاب ، كقولنا : « زيد كاتب » « زيد ليس بكاتب » لأنّ الإيجاب والسلب أمران عقليّان واردان على النسبة التي هي عقليّة ، فإذا حصلا في العقل كان كلّ منهما عقدا ، أي اعتقادا قلبيّا ، وإذا عبّر عنهما بعبارة كان كلّ من العبارتين قولا.

وعن الشفاء أنّ معنى الإيجاب وجود أيّ معنى كان ، سواء كان باعتبار وجوده لنفسه أو وجوده لغيره. ومعنى السلب لا وجود أيّ معنى كان ، سواء كان لا وجوده في نفسه أو لا وجوده لغيره (١).

وعلى هذا لا يرد أنّ مثل مفهومي البياض واللابياض إذا لم تعتبر معهما نسبة لا يتصوّر فيهما سلب ولا إيجاب ، فلم يكن فيهما تقابل الإيجاب والسلب مع ظهور عدم ما عداه من الأقسام ، فيلزم وجود قسم خامس ، فافهم.

وعلى الثاني إمّا أن يكون أحدهما عدميّا أو يكونا وجوديّين ، والأوّل هو تقابل العدم والملكة ، و [ والثاني ] هو تقابل السلب والإيجاب.

__________________

(١) ورد نحوه في « الشفاء » المنطق ١ : ٣٤ من قسم العبارة.

٢١٨

لكنّ الفرق بينهما أنّ السلب والإيجاب في الأوّل مأخوذ باعتبار مطلق ، والثاني مأخوذ باعتبار شيء زائد ، وهو النسبة إلى المحلّ القابل.

فإن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتّصافه بالأمر العدمي ، فهما العدم والملكة المشهوران ، كالكوسجيّة ؛ فإنّها عدم اللحية عمّن من شأنه أن يكون ملتحيا في ذلك الوقت ، فلا تصحّ في الصبيّ.

وإن كان أعمّ من أن يكون قبوله في ذلك الوقت أو مطلقا أو بحسب شخصه أو نوعه كالأعمى للأكمه ، أو جنسه القريب كالأعمى للعقرب ، أو البعيد كعدم الحركة الإرادية للجبل فإنّه للجسميّة ، فهما العدم والملكة الحقيقيّان ، فالعدم والملكة الحقيقيّان أعمّ من المشهوريّين.

وتقابل التضادّ على عكس ذلك ؛ فإنّ التضادّ المشهوري أعمّ ، والحقيقيّ أخصّ ، وهذا معنى قوله : « ويتعاكس هو وما قبله في التحقيق والمشهوريّة ».

قال : ( ويندرج تحته الجنس باعتبار عارض ).

أقول : لمّا بيّن انقسام التقابل إلى الأنواع الأربعة حتّى صار كالجنس لها ، وكان هنا مظنّة أن يقال : إنّ التضايف يصدق على التقابل وعلى غيره من المفهومات كالتجاور والتماسّ وغيرهما ، فكيف يكون قسما منه!؟ أشار إلى جوابه بأنّ التضايف قد يعرض له مفهوم التقابل ، فهو من حيث إنّه معروض لحصّة من التقابل أخصّ ، فيكون التقابل أعمّ وكالجنس باعتبار أنّه عارض ، ولكن مفهوم التضايف من حيث هو هو أعمّ من مفهوم التقابل ، فالتقابل ـ الذي هو كالجنس ـ باعتبار عارض يندرج تحت أحد أنواعه ، أعني التضايف المذكور أخيرا قبل هذا الكلام ؛ ولهذا يرجع الضمير إليه.

بيان ذلك أنّ المقابل لا يعقل إلاّ مقيسا إلى غيره ، ولكن باعتبار عروض التقابل ؛ فإنّ المقابل لا من هذه الحيثيّة قد لا يكون مضايفا ؛ فإنّ ذات السواد وذات البياض لا باعتبار التقابل ليسا من المتضايفين ، فإذا أخذ السواد مقابلا للبياض ، كان نوعا

٢١٩

من المضاف المشهوري.

فقد ظهر أنّ الجنس ـ أعني المقابل من حيث هو مقابل ـ يندرج تحت المضايف باعتبار عروض التقابل ، ولا استبعاد في أن يكون الشيء أخصّ أو مساويا من نوعه باعتبار عارض يعرض له.

قال : ( ومقوليّته عليها بالتشكيك وأشدّها فيه الثالث ).

أقول : التقابل لا يقال على أصنافه الأربعة بالسويّة بل بالتشكيك ؛ فإنّ تقابل الضدّين أشدّ في التقابل من تقابل السلب والإيجاب ؛ وذلك لأنّ ثبوت الضدّ يستلزم سلب الآخر ، وهو أخصّ منه ، دون العكس ، فهو أشدّ في العناد للآخر من سلبه.

وفي بعض النسخ : « السلب » مكان « الثالث » ولهذا قيل : إنّ تقابل السلب والإيجاب أشدّ من تقابل التضادّ ؛ لأنّ الخير له عقدان : الأوّل أنّه خير ، والثاني أنّه ليس بشرّ ، وعقد أنّه خير ذاتيّ وأنّه ليس بشرّ عرضيّ ، واعتقاد ضدّه بأنّه شرّ يرفع العرضيّ ، وسلبه بأنّه ليس بخير يرفع الذاتيّ ، فتكون منافاة السلب أشدّ (١).

وفيه : ما فيه.

وقيل : معنى كلام المصنّف أنّ أشدّ الأنواع في التشكيك هو التضادّ ؛ لظهور قبول القوّة والضعف فيه (٢).

المسألة الثانية عشرة : في أحكام التناقض ونحوه.

قال : ( ويقال للأوّل : التناقض ، ويتحقّق في القضايا بشرائط ثمانية ).

أقول : تقابل السلب والإيجاب إن أخذ في المفردات ، كقولنا : « زيد » « لا زيد » فهو تقابل العدم والملكة.

وإن أخذ في القضايا ، سمّي تناقضا ، كقولنا : « زيد كاتب » « زيد ليس بكاتب ».

__________________

(١) انظر : « شرح عقائد التجريد » : ١٠٩.

(٢) نسبه القوشجي في « شرح عقائد التجريد » : ١٠٩ إلى القيل أيضا.

٢٢٠