البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

الانقسام لا غير ، وهو باطل ؛ لما تقدّم في إبطال مذهب ذيمقراطيس ، أو لما لا يتناهى ، وهو المطلوب.

المسألة السابعة : في نفي الهيولى.

قال : ( ولا يقتضي ذلك ثبوت مادّة سوى الجسم ؛ لاستحالة التسلسل ووجود ما لا يتناهى ).

أقول : اختلف العلماء في ثبوت الهيولى وعدمه على قولين :

الأوّل : ثبوتها كما عن أرسطو (١) ومن تابعه (٢) ، قالوا : إنّ الجوهر المتّصل في ذاته الذي كان بلا مفصل إذا طرأ عليه الانفصال انعدم وحدث هناك جوهران متّصلان في ذاتهما ، فلا بدّ هناك من شيء آخر مشترك بين المتّصل الأوّل وبين هذين المتّصلين ، ولا بدّ أن يكون ذلك الشيء باقيا بعينه في الحالتين ، وإلاّ لكان تفريق الجسم إلى قسمين إعداما للجسم بالكلّيّة وإيجادا لجسمين آخرين من كتم العدم.

والضرورة تقتضي بطلانه ، ويشهد على ذلك أنّ العذرة ـ مثلا ـ إذا صارت دودا ثمّ صار الدود ترابا ، تتعاقب الصور النوعيّة ، فلا بدّ من محلّ تتوارد عليه تلك الصور ، وإلاّ لزم إعدام شيء وإيجاد شيء آخر من كتم العدم ، وهو باطل بالضرورة.

الثاني : عدم ثبوت الهيولى كما عن أفلاطون (٣) ومن تابعه (٤) ، قالوا : الجوهر المتّصل قائم بذاته غير حالّ في شيء آخر ، وهو الجسم المطلق ، فهو عندهم جوهر بسيط لا تركيب فيه بحسب الخارج ، وقابل لطريان الاتّصال والانفصال مع بقائه في

__________________

(١) انظر : « ميتافيزك أرسطو » : ٣٩٠.

(٢) منهم ابن سينا في « الشفاء » الإلهيّات : ٦١ ـ ٧١ و « النجاة » : ٢١ ، وتلميذه بهمنيار في « التحصيل » : ٣١٢ وما بعدها.

(٣) نقل عنه ذلك في « شرح المواقف » ٧ : ٦ و « شرح المقاصد » ٣ : ٦١ و « المحاكمات » كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٦.

(٤) منهم السهروردي في « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ٣٦.

٢٨١

الحالين بذاته ، فهو من حيث جوهره وذاته يسمّى جسما ، ومن حيث قبوله للصّور النوعيّة التي لأنواع الأجسام يسمّى هيولى.

واختار المصنّف هذا المذهب. وقد ذهب إلى ذلك المذهب جماعة من المتكلّمين (١) وأبو البركات البغدادي (٢) كما حكي.

وقال أبو عليّ ـ على ما حكي ـ : « إنّ الجسم مركّب من الهيولى والصورة » (٣).

واحتجّ عليه بأنّ الجسم متّصل في نفسه ، وقابل للانفصال ، ويستحيل أن يكون القابل هو الاتّصال نفسه ؛ لأنّ الشيء لا يقبل عدمه ، فلا بدّ للاتّصال من محلّ يقبل الانفصال والاتّصال ، وذلك هو الهيولى ، والاتّصال هو الصورة (٤). فاستدرك المصنّف رحمه‌الله ذلك وقال : « إنّ ذلك ـ أي قبول الانقسام ـ لا يقتضي ثبوت مادّة » كما قرّرناه في كلام أبي عليّ ؛ لأنّ الجسم المتّصل له مادّة واحدة إذا قسمناه استحال أن تبقى تلك المادّة على وحدتها اتّفاقا ، بل يحصل لكلّ جزء مادّة.

فإن كانت مادّة كلّ جزء حادثة بعد القسمة لزم التسلسل ؛ لأنّ كلّ حادث عندهم لا بدّ له من مادّة ، وتكون تلك المادّة أيضا حادثة على هذا التقدير ، فيحتاج إلى مادّة ثالثة ، وهكذا ، فيلزم التسلسل.

وإن كانت موجودة قبل القسمة لزم وجود موادّ لا نهاية لها بحسب ما في الجسم من قبول الانقسامات التي لا تتناهى ؛ لاستحالة أن تكون مادّة هذا نفس مادّة ذاك بعينها ؛ حذرا عن كون الواحد بالشخص في آن واحد في مكان متعدّد.

وفيه : أنّ المادّة واحدة عند وحدة الاتّصال ، ومتعدّدة عند تعدّده ، كالجسم المطلق عندهم ، فلا يلزم وجود موادّ متعدّدة بالفعل ، بل المادّة شيء يعرضه الوحدة والتعدّد ؛

__________________

(١) منهم الفخر الرازي في « المحصّل » : ٢٧٤ ؛ و « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٤٦ ـ ٥٣ ؛ والعلاّمة الحلّي في « إيضاح المقاصد » : ١٢٧ ؛ ونهاية المرام في علم الكلام » ٢ : ٥٠٧ ـ ٥٢٧.

(٢) « المعتبر في الحكمة » ٢ : ١٠ ـ ١٥.

(٣) « الشفاء » الإلهيّات : ٧١.

(٤) « الشفاء » الإلهيّات : ٦٦ ـ ٦٧ ؛ « النجاة » : ٢٠١ ـ ٢٠٢.

٢٨٢

إذ هي مع المتّصل الواحد واحدة ، ومع المتعدّد متعدّدة ، وهي جوهر يسمّى بـ « الهيولى الأولى » ويحلّ فيه متّصل واحد حال الاتّصال ، ومتّصلان حال الانفصال ، ويسمّى ذلك الجوهر المتّصل بـ « الصورة الجسميّة » والجسم المطلق مركّب منهما ، وذلك يسمّى « جسما طبيعيّا » لكونه موجودا في الطبيعة والخارج ، والقابل للأبعاد الثلاثة ـ وهي الطول والعرض والعمق ، أعني الكمّيّة السارية في الجهات الثلاث ـ وهو « الجسم التعليمي » لتعلّق التعليم به أوّلا.

المسألة الثامنة : في إثبات المكان (١).

قال : ( ولكلّ جسم مكان طبيعيّ يطلبه عند الخروج على أقرب الطرق ).

أقول : كلّ جسم على الإطلاق ـ بسيطا كان أو مركّبا ـ فإنّه يفتقر إلى مكان يحلّ فيه ؛ لاستحالة وجود الجسم مجرّدا عن كلّ الأمكنة.

ولا بدّ وأن يكون ذلك المكان طبيعيّا له ؛ لأنّا إذا جرّدنا الجسم عن كلّ العوارض الخارجة فإمّا أن لا يحلّ في شيء من الأمكنة ، وهو محال بالضرورة ، أو يحلّ في الجميع ، وهو أيضا باطل بالضرورة ، أو يحلّ في البعض وليس مستندا إلى أمر خارج ؛ إذ المفروض خلوّه عنه ، ولا إلى الجسميّة المشتركة ؛ لأنّ نسبتها إلى الأمكنة كلّها على السويّة ، بل إلى أمر آخر داخل فيه مختصّ به ، وهو المراد بالطبيعة ، فيكون ذلك البعض طبيعيّا ؛ ولهذا إذا خرج من مكانه عاد إليه ، وإنّما يرجع إليه على أقرب الطرق ، وهو الاستقامة.

قال : ( فلو تعدّد انتفى ).

__________________

(١) المكان : الموضع ، وهو المحلّ المحدّد الذي يشغله الجسم. وذهب المشّاءون ومتأخّر والحكماء ـ كابن سينا والفارابي ـ إلى أنّ المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر من الجسم المحوي. وأمّا الإشراقيّون فقد ذهبوا إلى أنّ المكان هو البعد المجرّد الموجود ، وهو ألطف من الجسمانيّات وأكثف من المجرّدات. وذهب المتكلّمون إلى أنّه بعد موهوم مفروض يشغله الجسم ، ويملأه على سبيل التوهّم ، وهو الخلاء.

انظر : « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » ٢ : ١٦٣٤ ـ ١٦٣٥.

٢٨٣

أقول : يريد أن يبيّن أنّ المكان الطبيعي واحد ؛ لأنّه لو كان لجسم واحد مكانان طبيعيّان لكان إذا حصل في أحدهما تاركا للثاني بالطبع ، وكذا بالعكس ، فلا يكون واحد منهما طبيعيّا له ؛ فلهذا قال : « فلو تعدّد » يعني الطبيعي « انتفى » ولم يكن له مكان طبيعي.

قال : ( ومكان المركّب مكان الغالب أو ما اتّفق وجوده فيه ).

أقول : المركّب إن تركّب من جوهرين ، فإن تساويا وتمانعا وقف في الوسط بينهما ، وإن غلب أحدهما كان مكانه مكان الغالب ، فإن تركّب من ثلاثة وغلب أحدهما كان مكانه مكان الغالب ، وإلاّ كان في الوسط ، وإن تركّب من أربعة متساوية حصل في الوسط أو ما اتّفق وجوده فيه ، وإن غلب أحدهما كان في مكانه.

قال : ( وكذا الشكل (١) والطبيعي منه الكرة ).

أقول : قيل في تعريف الشكل : إنّه ما أحاط به حدّ واحد أو حدود (٢).

وفي التحقيق أنّه من الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات ، وهي هيئة إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود بالجسم (٣).

وهو طبيعيّ وقسريّ ؛ لأنّ كلّ جسم متناه على ما يأتي ، وكلّ متناه له شكل بالضرورة ، فإذا فرض عاريا عن جميع العوارض ، لم يكن له بدّ من شكل أيضا ، فعلّته طبيعة الجسم لا غيره ، فيكون طبيعيّا له.

ولمّا كانت الطبيعة واحدة والقابل واحدا ـ وما عدا شكل الكرة من الأشكال مشتملا على تعدّد الأفعال من الخطّ والنقطة وغيرهما ، وأثر الواحد واحد ـ كان الشكل الطبيعي هو المستدير ، والأشكال الباقية قسريّة.

__________________

(١) الشكل هو الهيئة الحاصلة من إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود بالمقدار ، أي الجسم التعليمي أو السطح ، فالأوّل كشكل الكرة ، والثاني كشكل المثلّث.

(٢) انظر : « كتاب التعريفات » : ١٦٩ ، الرقم ٨٣٧.

(٣) انظر : « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » ١ : ١٠٣٩.

٢٨٤

المسألة التاسعة : في تحقيق ماهيّة المكان.

قال : ( والمعقول من الأوّل البعد ؛ فإنّ الأمارات تساعد عليه ).

أقول : « المكان » لغة الموضع كما في « الصحاح » (١) و « القاموس » (٢) ، وله إطلاقان :

الأوّل بحسب الاشتقاق ، وهو موضع كون الشيء وحدوثه.

والثاني الإطلاق الاسمي ، وهو ما يعتمد عليه المتمكّن عند القيام أو نحوه ممّا يحصل به الاستقرار. والظاهر عدم مدخليّة للهواء فيه.

وأرباب المعقول قد اختلفوا في حقيقة المكان.

فعند المشّائين ـ كما حكي عن أرسطو (٣) وابن سينا (٤) أيضا ـ أنّه عبارة عن السطح الباطن للجسم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر من الجسم المحويّ.

وعند الإشراقيّين ـ كما حكي عن أفلاطون (٥) أيضا ـ أنّه عبارة عن البعد الموجود المجرّد عن المادّة ، المنقسم في جميع الجهات ، المساوي للبعد الذي في الجسم بحيث ينطبق أحدهما على الآخر الساري فيه بكلّيّته.

وعند المتكلّمين عبارة عن البعد الموهوم الذي يشغله الجسم على سبيل التوهّم على وجه الانطباق المذكور (٦).

ومثله الحيّز ؛ فإنّه الفراغ الموهوم المشغول بالمتحيّز الذي لو لم يشغله ، لكان

__________________

(١) « الصحاح في اللغة » ٤ : ٢١٩١ ، « كون ».

(٢) « القاموس المحيط » ٤ : ٢٦٦ ، « كون ».

(٣) نقل عنه في « جامع المقاصد » ٢ : ١٩٩ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ١٥٧ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٣٠٠.

(٤) « الشفاء » الطبيعيات ١ : ١٣٧ ؛ « النجاة » : ١٢٤ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ١٨٥ ؛ « رسالة الحدود » : ٣٣.

(٥) انظر : « جامع المقاصد » ٢ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٠١ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٣٠٠ ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » ٢ : ١٦٣٥ ؛ « جامع العلوم في اصطلاحات الفنون » ٣ : ٣٠٧.

(٦) « نهاية المرام » ١ : ٣٨٤ ؛ « التعريفات » : ٢٩٢ ، الرقم ١٤٦٦ ؛ « جامع العلوم في اصطلاحات الفنون » ٣ : ٣١٧ ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » ٢ : ١٦٣٥.

٢٨٥

خلاء ، كداخل الكوز للماء (١).

وعند بعض هو ما يوجب الامتياز في الإشارة الحسّيّة (٢) فهو أعمّ من المكان ، لتناوله الوضع الذي يمتاز به المحدّد عن غيره في الإشارة الحسّيّة ؛ إذ ليس وراءه جسم آخر.

نعم ، له وضع ومحاذاة بالنسبة إلى ما في جوفه.

والمصنّف اختار مذهب من قال بالبعد ؛ فإنّ « الأوّل » يعني به المكان ؛ لأنّه قد بيّن أنّ الجسم يقتضي بطبعه شيئين : المكان والشكل ، ولمّا كان الشكل ظاهرا وكان طبيعيّا ذكره بعد المكان ، ثمّ عاد إلى تحقيق ماهيّة المكان ، فالمراد أنّ المعقول من المكان البعد وإن كان فيه بعد.

والدليل على ما اختاره المصنّف أنّ المعقول من المكان إنّما هو البعد فإذا فرضنا الكوز خاليا من الماء ، تصوّرنا الأبعاد التي يحيط بها جرم الكوز بحيث إذا ملئ ماء شغلها الماء بجملتها والأمارات المشهورة في المكان ـ من قولهم : إنّه ما يتمكّن المتمكّن فيه ويستقرّ عليه ويساويه ، وما يوصف بالخلوّ والامتلاء ـ تساعد على أنّ المكان هو البعد المنقسم في جميع الجهات ، المساوي للبعد الذي في الجسم بحيث ينطبق أحدهما على الآخر الساري فيه بكلّيّته. وذلك البعد إمّا أن يكون أمرا موهوما يشغله الجسم ويملؤه على سبيل التوهّم كما عن المتكلّم (٣) ، أو يكون بعدا موجودا مجرّدا ؛ لئلاّ يلزم تداخل الأجسام ، ويكون جوهرا ؛ لقيامه بذاته وتوارد الممكنات عليه مع بقاء تشخّصه ، فكأنّه جوهر متوسّط بين العالمين ، أعني الجواهر المجرّدة

__________________

(١) « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » ١ : ٧٢٥.

(٢) نسبه الجرجاني في « شرح المواقف » ٥ : ١٣١ إلى القيل. وفي « كشّاف اصطلاحات الفنون » ١ : ٧٢٥ نسبه إلى التفتازاني.

(٣) انظر : « جامع المقاصد » ٢ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٠١ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٣٠٠ ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » ٢ : ١٦٣٥.

٢٨٦

والأجسام المادّية ، كما عن أفلاطون ومن تابعه من الحكماء الإشراقيّين (١).

والإنصاف أنّ المعقول من المكان ما يعتمد عليه المتمكّن عند القيام ونحوه ، من غير مدخليّة تمام السطح سيّما الفوقاني ، ومن غير تصوّر البعد ، ولهذا يقال : إنّ الجسم هنا أو هناك من غير توقّف على أنّه هل يحيط به جسم أم لا؟ وكذا ملاحظة البعد إن لم نقل بفهم خلافه.

نعم ، يشكل الأمر في الفلك الأعظم المحيط بالعالم ؛ فإنّه جسم غير معتمد على شيء.

اللهمّ إلاّ أن يلتزم وجود جسم بلا مكان ، كما يقال : إنّ القائلين بالسطح التزموه ، وهو ظاهر ما يقال : إنّه تعالى خلق السماوات بغير عماد.

قال : ( واعلم أنّ البعد ، منه ملاق للمادّة وهو الحالّ في الجسم ويمانع مساويه ، ومنه مفارق تحلّ فيه الأجسام ويلاقيها بجملتها ويداخلها بحيث ينطبق على بعد المتمكّن ويتّحد به ، ولا امتناع ؛ لخلوّه عن المادّة ).

أقول : لمّا فرغ من بيان ماهيّة المكان شرع في الجواب عن شبهة مقدّرة تورد على كون المكان بعدا ، وهي أنّ المكان لو كان هو البعد لزم اجتماع البعدين ، والتالي محال ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّ المتمكّن له بعد ، فإن كان المكان هو البعد وبقيا معا لزم الاجتماع والاتّحاد ؛ إذ لا يزيد البعد الحاوي عند حلول المحويّ. وإن عدم أحدهما كان المعدوم حالاّ في الموجود أو بالعكس ، وهما محالان.

وأمّا بيان استحالة التالي فضروريّ ؛ لما تقدّم من امتناع الاتّحاد ، ولأنّ المعقول من البعد الشخصي إنّما هو البعد الذي بين طرفي الحاوي ، فلو تشكّك العقل في تعدّده بأن يحتمله لزم السفسطة.

وأيضا تجويز نفوذ البعد المكاني في البعد القائم بالمتمكّن يؤدّي إلى تجويز

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٨٦ ، التعليقة ٣.

٢٨٧

دخول أجسام العالم في حيّز خردلة ؛ فإنّه إذا أخذ خردلتان وفرض تداخل بعديهما القائمين بهما ، يلزم كونهما في حيّز خردل واحد ، وكذا إذا انضمّ واحد بعد واحد.

وتقرير الجواب ـ مضافا إلى منع تحقّق التداخل الممنوع في الجوهر والعرض ، أعني البعد المكاني والبعد الجسماني ـ أنّ البعد ينقسم إلى قسمين :

أحدهما بعد مقارن للمادّة وحالّ فيها ، وهو البعد المقارن للجسم القائم به.

والثاني مجرّد مفارق للمادّة ، وهو الحالّ بين الأجسام المباعدة للجسم.

والأوّل يمانع مساويه ، يعني البعد الآخر المقارن للمادّة أيضا فلا تجامعه ؛ لاستحالة التداخل بين بعدين مقارنين.

والثاني ـ وهو البعد المجرّد الذي لا يقوم بالمادّة ـ لا يستحيل عليه أن يداخله بعد مادّي ، بل يداخله ويطابقه ويتّحد به بحسب الإشارة الحسّيّة ، وهو محلّ الجسم المتداخل بعده. ولا امتناع في هذه المداخلة والاتّحاد ؛ لأنّ هذا البعد خال عن المادّة ، فيجوز التداخل فيه من غير أن يفضي إلى الاستحالة المذكورة.

قال : ( ولو كان المكان سطحا لتضادّت الأحكام ).

أقول : لمّا بيّن حقيقة المكان ، شرع في إبطال مذهب المخالفين القائلين بأنّ المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي.

وتقرير البطلان : أنّ المكان لو كان هو السطح لتضادّت الأحكام العارضة للجسم الواحد ؛ فإنّ الحجر الواقف في الماء ، والطير الواقف في الهواء يفارقان سطحا بعد سطح مع كونهما ساكنين ، ولو كان المكان هو السطح لكانا متحرّكين ؛ لأنّ الحركة هي مفارقة الجسم لمكان إلى مكان آخر ، ولكانت الشمس المتحرّكة الملازمة لسطحها ساكنة ، فيلزم سكون المتحرّك وحركة الساكن ، وذلك تضادّ في الأحكام محال ، فتأمّل. (١)

__________________

(١) إشارة إلى أنّ الحركة عبارة عن كون الشيء في الآن الثاني في المكان الثاني كونا مستندا إلى المكين ولو كان تبعا ، كحركة الراكب ، لا ما كان مستندا إلى المكان ، وكذا السكون ، فلا يلزم تضادّ المحالّ. ( منه رحمه‌الله ).

٢٨٨

قال : ( ولم يعمّ المكان ).

أقول : هذا وجه ثان دالّ على بطلان القول بالسطح.

وتقريره : أنّ الحكماء حكموا باحتياج كلّ جسم إلى مكان (١) ، ولو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي لزم إمّا عدم تناهي الأجسام حتى يكون كلّ جسم في مكان ، أو وجود جسم ليس له مكان بأن يكون محيطا بجميع الأجسام ؛ إذ لا يحويه جسم ليكون سطحه الباطن مكانا له ، فلا يعمّ المكان الأجسام مع أنّا نقطع بأنّ كل جسم له مكان ـ وقد تقدّم بطلان عدم تناهي الأجسام ـ والقسمان باطلان فالمقدّم مثله ، فتأمّل.

المسألة العاشرة : في امتناع الخلاء. (٢)

قال : ( وهذا المكان لا يصحّ عليه الخلوّ من شاغل ، وإلاّ لساوت حركة ذي المعاوق حركة عديمه عند فرض معاوق أقلّ بنسبة زمانيهما ).

أقول : اختلف الناس في هذا المكان ، فذهب قوم إلى جواز الخلاء ، وهم بعض القائلين بالبعد المجرّد أو الموهوم ، المسمّون بأصحاب الخلاء (٣) ، حيث جوّزوا أن يخلو المكان عمّا يشغله.

وذهب آخرون ـ وهم القائلون بالسطح مع بعض القائلين بالبعد على ما حكي ـ إلى امتناعه (٤) ، وهو اختيار المصنّف رحمه‌الله.

__________________

(١) « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ٣٠٨ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٦٦.

(٢) الخلاء ـ عند المتكلّمين ـ امتداد موهوم مفروض في الجسم ، أو في نفسه صالح لأن يشغله الجسم وينطبق عليه بعده الموهوم ، ويسمّى أيضا بالمكان والبعد الموهوم والفراغ الموهوم. وقد جوّزه المتكلّمون ومنعه الحكماء القائلون بأنّ المكان هو السطح ، وأمّا القائلون بأنّه البعد المجرّد الموجود فهم أيضا يمنعون الخلاء بمعنى البعد المفروض فيما بين الأجسام. انظر « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » ١ : ٧٥٦.

(٣) « شرح تجريد العقائد » : ١٦٠ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٣١٠ ، ولمزيد المعرفة راجع « الشفاء » الطبيعيات ١ : ١١٤ ـ ١٣٦.

(٤) حكاه القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١٦٠ ، ولمزيد المعرفة راجع « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ١١٦ ـ ١٣٦ و « شوارق الإلهام » ٢ : ٣١٠.

٢٨٩

واستدلّ عليه بأنّ الخلاء لو كان ثابتا لكانت الحركة مع العائق كالحركة مع عدم العائق ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّا نفرض متحرّكا يقطع مسافة ما خالية عمّا يشغلها في ساعة ، ثمّ نفرض تلك المسافة ممتلئة وحركة ذلك المتحرّك بتلك القوّة فيها ، فلا محالة تكون في زمان أطول ؛ لأنّ الملاء الموجود في المسافة معاوق للمتحرّك عن الحركة فلنفرضه يقطعها في ساعتين ، ثمّ نفرض ملاء آخر أرقّ من الأوّل على نسبة زمان الحركة في الخلاء إلى زمانها في الملاء وهو النصف ، فتكون معاوقته نصف المعاوقة الأولى فيتحرّكها المتحرّك في ساعة ، لكنّ الملاء الرقيق معاوق أيضا فتكون الحركة مع المعاوق كالحركة بدونه ، وهو باطل.

وفيه نظر ؛ لأنّ نفس الحركة تقتضي زمانا ، والمعاوق الغليظ يقتضي زمانا غير الزمان الأوّل ، والمعاوق الرقيق إذا كان بقدر نصف المعاوق الغليظ يقتضي نصف ذلك الزمان الزائد ، لا نصف مجموع الزمانين حتّى يلزم تساوي زمان حركة ذي المعاوق ـ وهي التي في الملاء الرقيق ـ زمان حركة عديم المعاوق ، وهي التي في الخلاء ، بل تكون الحركات الثلاث على أنحاء ثلاثة.

وقد يمنع إمكان قوام يكون على نسبة زمان الخلاء إلى زمان الملاء ؛ لجواز انتهاء القوام في مراتب الرقّة إلى ما لا قوام أرقّ منه ، فتأمّل.

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن الجهة. (١)

قال : ( والجهة طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة ).

__________________

(١) الجهة ـ بالكسر ـ عند الحكماء تطلق على معنيين : أحدهما : أطراف الامتدادات ، وبهذا المعنى يقال : ذو الجهات الثلاث أو السبع ؛ إذ لا تنحصر الجهة بهذا المعنى في الستّ ، بل تكون أقلّ أو أكثر ، وتسمّى « مطلق الجهة ».

وثانيهما : تلك الأطراف من حيث إنّها منتهى الإشارات الحسّيّة ومقصد الحركات الأينيّة ومنتهاها بالحصول فيه ، ويخرج الحيّز والمكان ؛ لأنّ كلاّ منهما مقصد الحركات ومنتهاها.

انظر : « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » ١ : ٥٩٨.

٢٩٠

أقول : لمّا بحث عن المكان وكانت الجهة ملائمة له ؛ لكون كلّ واحد منهما مقصدا للمتحرّك الأيني حتّى ظنّ أنّهما واحد ، عقّبه بالبحث عنها ، وهي ـ على ما حكي (١) عن جماعة من الأوائل (٢) ـ عبارة عن طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة ؛ وذلك لأنّا نتوهّم امتدادا آخذا من المشير ومنتهيا إلى المشار إليه ، فذلك المنتهى هو طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة ، وذلك الطرف بالنسبة إلى الحركة والإشارة يسمّى جهة ، وهو مقصد للمتحرّك بنحو الوصول إليه ، وأمّا المكان فهو مقصد للمتحرّك بالحصول فيه.

قال : ( وليست منقسمة ).

أقول : لمّا كانت الجهة عبارة عن الطرف لم تكن منقسمة ؛ لأنّ الطرف لو كان منقسما لم يكن الطرف كلّه طرفا ، بل نهايته تكون طرفا ، وهذا خلف ؛ ولأنّ المتحرّك إذا وصل إلى المقصد لم يخل إمّا أن لا يكون متحرّكا عن الجهة فلا يكون ما خلّف من الجهة ، أو يكون متحرّكا إليها فلا يكون المتروك من الجهة.

قال : ( وهي من ذوات الأوضاع المقصودة بالحركة للحصول فيها وبالإشارة ).

أقول : الجهة ليست أمرا مجرّدا عن الموادّ وعلائقها ، بل هي من ذوات الأوضاع التي تتناولها الإشارة الحسّيّة وتقصد بالحركة وبالإشارة ، فتكون موجودة ؛ لأنّ المعدوم لا يكون منتهى الإشارة الحسّيّة ومقصد المتحرّك للحصول فيه ، مع أنّ الجهة يقصد بالحركة الحصول فيها بمعنى الوصول إليها والقرب منها ؛ لأنّه المتعارف في التعبير ، فلا يرد أنّ الصواب أن يقال : « للوصول إليها » أو « القرب منها » كما في شرح القوشجي (٣).

__________________

(١) حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : ١٥٤.

(٢) منهم ابن سينا في « الإشارات والتنبيهات » ، راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ١٦٧ ، وفي « شرح المواقف » ٧ : ٨٢ نسبه إلى الحكماء.

(٣) « شرح تجريد الاعتقاد » : ١٦٤.

٢٩١

وقوله : « للحصول فيها » إشارة إلى دفع دخل مقدّر ، وهو أنّ ما يقصد بالحركة قد يكون معدوما ، كالبياض الذي يتحرّك الجسم إليه من السواد ؛ فإنّه معدوم.

ووجه الدفع : أنّه مقصود لتحصيله ، لا للحصول فيه.

قال : ( والطبيعي منها فوق وسفل وما عداهما غير متناه ).

أقول : المراد أنّ الجهة على قسمين : طبيعي وغير طبيعي.

والطبيعي ما يكون بالطبع ويستحيل تغيّره وانتقاله عن هيئته وتبدّله.

وغير الطبيعي ما يمكن تغيّره ، فإنّ القدّام ـ مثلا ـ قد يصير خلفا ، وكذا اليمين واليسار يتبدّلان.

وأمّا الفوق والسفل فلا تغيّر فيهما بالفرض ؛ لأنّ القائم إذا صار منكوسا لم يصر ما يلي رأسه فوقا وما يلي رجله تحتا ، بل صار رأسه من تحت ورجله من فوق.

وهذه الجهات التي ليست طبيعيّة وتكون متبدّلة غير متناهية ؛ لأنّها أطراف الخطوط المفروضة وتلك الخطوط غير متناهية ؛ إذ يمكن أن يفرض في كلّ جسم امتدادات غير متناهية ويكون كلّ طرف منها جهة.

والحكم بأنّ الجهات ستّ مشهور لا أصل له ، وسبب الشهرة أنّ الإنسان يحيط به جنبان عليهما اليدان وظهر وبطن ورأس وقدم ، والجانب الأقوى يسمّى يمينا ، وما يقابله يسارا ، وما يحاذي وجهه قدّاما ، وخلافه خلفا ، وما يلي رأسه طبعا فوقا ، وما يقابله تحتا.

مضافا إلى أنّ كلّ جسم يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة متقاطعة على زوايا قوائم ، ولكلّ بعد طرفان ، فلكلّ جسم جهات ستّ. والتعيين بملاحظة ما ذكر.

ولا شكّ أنّ قيام بعض الامتدادات على بعض ممّا لا يجب في اعتبار الجهات ، فيمكن أن يفرض من في جسم واحد امتدادات غير متناهية ، فتكون الجهات التي ليست لطبيعة غير متناهية.

٢٩٢

[ الفصل الثاني : في الأجسام ]

قال : ( الفصل الثاني : في الأجسام وهي قسمان : فلكيّة وعنصريّة ، أمّا الفلكيّة فالكلّيّة منها تسعة : واحد غير مكوكب محيط بالجميع وتحته فلك الثوابت ، ثمّ أفلاك الكواكب السبعة السيّارة ، وتشتمل على أفلاك التداوير وخارجة المراكز ، والمجموع أربعة وعشرون ، وتشتمل على سبعة متحيّرة (١) وألف ونيّف وعشرين كوكبا ثوابت. والكلّ بسائط خالية من الكيفيّات الفعليّة والانفعاليّة ولوازمها ، شفّافة ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن مطلق الجوهر شرع في البحث عن جزئيّاته ؛ ليتحقّق النظر في ملكوت السماوات والأرض ، وبدأ بالجسم ؛ لأنّه أقرب من الجنس.

وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى : في البحث عن الأجسام الفلكيّة.

اعلم أنّ الأجسام تنقسم إلى قسمين :

الأوّل : البسيطة ، وهي ما لم يكن مركّبا من أجسام مختلفة الطبائع بحسب الحقيقة من الأفلاك والعناصر.

الثاني : المركّبة ، وهي ما كان مركّبا من أجسام مختلفة الطبائع ، وهي المواليد

__________________

(١) في نسخة أخرى : « سيّارة » كما أشار المصنّف لذلك في نسخة الأصل.

٢٩٣

الثلاثة ، أعني المعادن والنباتات والحيوانات.

والبسيطة على قسمين : فلكيّة وعنصريّة. والمراد من الفلكيّة الفلك وما فيه من الأجرام الأثيريّة والعوالم العلويّة.

والفلك جسم بسيط كرويّ مستدير محيط بالأجسام السفليّة قابل للحركة المستديرة الدائمة ، وبها يكون حافظا للزمان.

والحركة الفلكيّة تنقسم : تارة إلى البسيطة التي تسمّى متشابهة أيضا ، وإلى المختلفة.

والبسيطة حركة تحدث بها حول المركز في الأزمنة المتساوية زوايا متساوية باعتبار الخطوط الخارجة إلى المحيط بالنسبة إلى كلّ نقطة من نقاط الحركة.

وبعبارة أخرى : يحدث في المحيط بسببها قسيّ متساوية.

والمختلفة ما ليست كذلك.

وأخرى إلى المفردة والمركّبة. والمفردة ما يصدر من فلك واحد. والمركّبة ما يصدر من متعدّد. وكلّ مفردة بسيطة من غير عكس. وكلّ مختلفة مركّبة من غير عكس.

والفلك على قسمين : كلّيّ وجزئيّ. والكلّيّ ما كان مستقلاّ ولا يكون جزءا لفلك آخر ، والجزئيّ ما كان جزءا لفلك آخر.

والفلك الكلّيّ تسعة :

الأوّل : الفلك الأعظم ، وهو محيط بالجميع ؛ ولهذا يسمّى بـ « فلك الأفلاك » وهو غير مكوكب ليس فيه كوكب ؛ ولهذا يسمّى بـ « الفلك الأطلس » ؛ تشبيها له بالأطلس الخالي عن النقوش.

الثاني : فلك البروج ، ويسمّى « فلك الثوابت » لكون الكواكب الثوابت مركوزة فيه ، وهو تحت فلك الأفلاك.

الثالث : فلك الزحل.

٢٩٤

الرابع : فلك المشتري.

الخامس : فلك المرّيخ.

السادس : فلك الشمس.

السابع : فلك الزهرة.

الثامن : فلك عطارد.

التاسع : فلك القمر.

والتعداد المشهور على العكس بالابتداء من فلك القمر ؛ لكونه أقرب ، ففلك الأفلاك على هذا يصير تاسعا. وهذه الأفلاك التسعة متوافقة المركز.

ووجه إثباتها ـ كما أفيد (١) ـ أنّهم وجدوا في بادئ الرأي جميع الكواكب متحرّكة بالحركة اليوميّة السريعة من المشرق إلى المغرب فأثبتوا لها فلكا ، ثمّ وجدوا بنظر أدقّ أنّ جميع الكواكب الثوابت متحرّكة بحركة واحدة بطيئة من المغرب إلى المشرق فأثبتوا لها فلكا آخر. وكذا وجدوا الكواكب السبعة السيّارة ذات حركات غريبة مختلفة غير متشابهة بقياس بعضها إلى بعض بحسب البطء والسرعة والرجوع والاستقامة ، فأثبتوا لكلّ منها فلكا آخر ، فصارت الأفلاك تسعة.

مضافا إلى إخبار الصانع بأنّ السماوات سبعة (٢) ، وأنّه وسع كرسيّه السماوات والأرض (٣) ، وأنّ الرحمن على العرش استوى (٤) ، ولهذا لم يجوّز المشهور أن تكون أقلّ ، فتجويز كون الأقلّ ثمانية أو سبعة ـ كما عن المصنّف وغيره (٥) ـ محلّ المناقشة.

__________________

(١) أفاد ذلك القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١٦٥.

(٢) كما في سور : البقرة (٢) : ١٤٠ ؛ الإسراء (١٧) : ٤٤ ؛ المؤمنون (٢٣) : ٨٦ ؛ فصّلت (٤١) : ١٢ ؛ الملك (٦٧) : ٣ ؛ نوح (٧١) : ١٥.

(٣) كما في سورة البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٤) كما في سورة طه (٢٠) : ٥.

(٥) انظر : « شرح المقاصد » ٣ : ١٣٩ ـ ١٤٠ ؛ « شرح المواقف » ٧ : ٨٠ ـ ٨١ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٣١٨.

٢٩٥

نعم ، في جانب الكثرة يمكن الزيادة ؛ لجواز أن يكون كلّ من الثوابت في فلك ، وأن تكون الأفلاك غير المكوكبة كثيرة.

وبالجملة ، فتلك الأفلاك الكلّيّة مشتملة على أفلاك أخرى جزئيّة تنفصل إليها تلك الأفلاك الكلّيّة ؛ بشهادة أحوال الكواكب من البطء والسرعة والرجعة والاستقامة والخسوف والكسوف والتشكّلات البدريّة والهلاليّة واختلاف أوضاعها المخصوصة ، كما أفاد بعض (١) علماء الهيئة حيث قال :

« إنّ الشمس لها فلكان متوازيا السطحين : أحدهما : الممثّل بفلك البروج ، مركزه مركز العالم ومنطقته على سطح منطقة البروج وهو فلكها الكلّيّ. وثانيهما : خارج المركز وهو في ثخن الممثّل مركزه غير مركز العالم ، ولكن منطقته أيضا على سطح منطقة البروج ، ويماسّ محدّباهما ومقعّراهما على نقطتين تسمّى النقطة المشتركة في المحدّب الأبعد عن الأرض أوجا ، والنقطة المشتركة في المقعّر الأقرب منها حضيضا. وإنّ هيئات أفلاك الكواكب العلويّة ـ أعني زحل والمشتري والمرّيخ وكذا فلك الزهرة من السفليّة مثل هيئة فلك الشمس من غير تفاوت إلاّ في أمرين :

أحدهما : أنّ لكلّ منها فلكا في ثخن خارج المركز ، كما أنّ الشمس في ثخن خارج المركز ، ويسمّى بفلك التدوير ، ويماسّ سطح الخارج المركز على نقطتين يسمّى الأبعد من الأرض ذروة والأقرب إليها حضيضا ، وكلّ من تلك الكواكب الأربعة مركوز في تدويره بحيث يماسّ على نقطة في سطحه.

وثانيهما : أنّ منطقة خارج مركز تلك الكواكب ليست على سطح منطقة البروج ، بل تقاطعها على نقطتين متقاطرتين بكونهما على طرفي قطر من أقطار فلك البروج ، ويسمّى خارج المركز في غير الشمس بالفلك الحامل وأنّ هيئة فلك عطارد تتفاوت عن هيئات أفلاك الكواكب الأربعة في أمرين :

__________________

(١) لعلّه بطلميوس. راجع « شرح الإشارات » ٣ : ٢١٣ وما بعدها ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » ٢ : ١٢٩٠ ـ ١٢٩١.

٢٩٦

أحدهما : أنّه يسمّى الفلك الذي يكون الحامل في ثخنه مديرا ، ومركزه غير مركز العالم ، ومنطقته في غير سطح منطقة البروج ، وهو مع الحامل في سطح واحد.

وثانيهما : أنّ لعطارد فلكا آخر يكون المدير في ثخنه مثل كون الحامل في ثخن المدير في تماسّ المحدّبين على نقطة مشتركة ، وكذا المقعّران. ومركزه مركز العالم ، ومنطقته على سطح منطقة البروج ، ويسمّى هذا الفلك ممثّلا لعطارد. وأنّ هيئة فلك القمر كهيئة أفلاك الكواكب الأربعة من غير تفاوت إلاّ في أمرين أيضا :

أحدهما : أنّ للقمر فلكا يكون الحامل في ثخنه ، ليس منطقته على سطح منطقة البروج ، بل مائلة عنه ، ويكون مع الحامل في سطح واحد ؛ ولهذا يسمّى ذلك الفلك بالفلك المائل.

وثانيهما : أنّ للقمر فلكا آخر متوازي السطحين محيطا بفلك يكون الحامل في ثخنه ، ومركزه مركز العالم ، ومنطقته على سطح منطقة البروج ، ويسمّى جوزهرّا ».

والحاصل : أنّ الشمس لها فلكان : الممثّل ، وخارج المركز. والقمر له أربعة أفلاك : الجوزهرّ والمائل والحامل والتدوير. وزحل والمشتري والمرّيخ والزهرة لكلّ واحد منها ثلاثة أفلاك : الممثّل والحامل والتدوير. وعطارد له أربعة أفلاك : الممثّل والمدير والحامل والتدوير ، فالمجموع مع الفلكين العظيمين أربعة وعشرون فلكا.

فظهر أنّ الأفلاك الكلّيّة غير الفلكين العظيمين منفصلة إلى أفلاك جزئيّة بعضها التداوير ، وبعضها خارجة المراكز ، وبعضها غيرهما ، والمجموع أربعة وعشرون على ما ذكره المصنّف.

وأورد عليه الشارح القوشجي (١) : أوّلا : بأنّ كلامه صريح في أنّ الأفلاك الجزئيّة إنّما تكون تداوير وخارجة المركز ، وهذا خطأ ؛ فإنّ من الأفلاك الجزئيّة للقمر جوزهرّا ومائلا وهما فلكان موافقا المركز.

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ١٦٧.

٢٩٧

وثانيا : أنّ عدد الأفلاك ـ على ما هو المشهور ـ ترتقي إلى خمسة وعشرين ؛ لأنّ لكلّ من المتحيّرة مع القمر تدويرا واحدا فالتداوير ستّة ، ولكلّ من السيّارة فلكا خارج المركز سوى عطارد فإنّ له فلكين خارجي المركز فالأفلاك الخارجة المركز ثمانية ، وللقمر فلكان آخران موافقا المركز على ما مرّ ، فعدد الأفلاك الجزئيّة تصير ستّة عشر ، وهي مع الأفلاك الكلّيّة التسعة ترتقي إلى خمسة وعشرين.

نعم ، لو لم يجعلوا الكرة المحيطة بالمائل فلكا برأسه بل جعلوها مع المائل فلكا واحدا تعلّق به نفس تحرّكه بحركة الجوزهرّين ، كانت تلك الكرة جزءا من الفلك ، كالمتمّمات غير معدودة في عداد الأفلاك ، وكان عداد الأفلاك على ما ذكره أربعة وعشرين ، إلاّ أنّ أصحاب هذا الفنّ قاطبة صرّحوا بأنّ الفلك الأوّل من أفلاك القمر هو الفلك الممثّل ويسمّى بالجوزهرّ أيضا ، محدّبه مماسّ لمقعّر فلك عطارد ، ومقعّره لمحدّب الفلك الثاني من أفلاكه ، ويسمّى بالفلك المائل ، فتلك الكرة يجب أن تعدّ من أفلاك القمر وليست فلكا كلّيّا ، وإلاّ لكان المائل أيضا فلكا كلّيّا فيصير عدد الأفلاك الكلّيّة عشرة ، وهو خلاف ما ذهبوا إليه ، فهو من الأفلاك الجزئيّة ويلزم ما ذكرنا.

ومايقال : من أنّ إثبات الأفلاك على الوجه المخصوص مبنيّ على نفي القادر المختار وعدم تجويز الخرق والالتئام على الأفلاك ، وأنّها لا تشتدّ في حركاتها ولا تضعف ، ولا يكون لها رجوع ولا انعطاف ولا وقوف ولا اختلاف حال غيرها ، بل تكون أبدا متحرّكة حركة بسيطة في الجهة التي تتحرّك إليها إلى غير ذلك من المسائل الطبيعيّة التي بعضها مخالف للشرع ؛ إذ لولاها لأمكن أن يقال : إنّ القادر المختار بحسب إرادته يحرّك تلك الأفلاك على النظام المشاهد (١).

فمدفوع : أوّلا : بأنّ أكثر مسائل هذا الفنّ ودلائله مقدّمات حدسيّة يجزم العقل

__________________

(١) انظر : « شرح المقاصد » ٣ : ١٦٩ ـ ١٧٠.

٢٩٨

بثبوتها ، مثلا : مشاهدة التشكّلات البدريّة والهلاليّة على الوجه المرصود توجب اليقين بأنّ نور القمر مستفاد من نور الشمس ، وأنّ الخسوف إنّما هو بسبب حيلولة الأرض بين الشمس والقمر ، وأنّ الكسوف إنّما هو بسبب حيلولة القمر بين الشمس والإبصار مع القول بثبوت القادر المختار ، بمعنى أنّ ما ذكر تحقّق بجعل الواجب تعالى وصنعه على وجه الاختيار.

وثانيا : أنّ المراد أنّه يمكن أن يكون الأمر على الوجه المذكور ، وما تنضبط به أحوال الكواكب على ما سطر في علم الهيئة وإن أمكن أن يكون على الوجه الآخر أيضا ، ولكن مقتضى الحدس أن يكون على الوجه المذكور.

ثمّ اعلم أنّ الأفلاك لها أحوال :

منها : أنّها تشتمل على كواكب غير محصورة ، ولكن أهل الرصد توهّموا ثماني وأربعين صورة لكواكب رصدوها وعيّنوا مواضعها طولا وعرضا ، وهي سبعة سيّارة ، منها خمسة متحيّرة ، أعني ما عدا الشمس والقمر من الكواكب السبعة السيّارة ؛ لكون حركتها تارة على الاستقامة وأخرى على الرجعة فكأنّها متحيّرة ، بخلاف الشمس والقمر فإنّ حركتهما دائما على التوالي وطريقة واحدة. وتلك الكواكب في أفلاك سبعة أو خمسة ـ على اختلاف النسخة ـ على وجه سبق إليه الإشارة ، وما عداها ثوابت عيّنوها في فلك البروج ، وهي ألف واثنان وعشرون ـ أو خمسة وعشرون ـ كوكبا كما ذكر وإن كان النيّف أعمّ ؛ لكونه عبارة عمّا بين الواحد والعشرة إجمالا.

ومنها : أنّ الأفلاك كلّها بسائط غير مركّبة من أجسام مختلفة الطبائع بحسب الحقيقة ، وإلاّ لكان أجزاؤها المختلفة الطبائع قابلة للانتقال إلى أحيازها الطبيعيّة بالحركة المستقيمة ، وما يقبل الحركة المستقيمة فإنّه متّجه الى جهة وتارك للأخرى ، وتقدّم الجزء على الكلّ يستلزم تقدّم الجهات على الفلك ، فيلزم أن تكون الجهات متحدّدة قبل الفلك مع أنّها متحدّدة بالفلك الأعظم.

٢٩٩

و أورد عليه أوّلا : بجواز كون المواضع الطبيعيّة للبسائط متجاورة بحيث يكون الكلّ في أحيازها الطبيعيّة.

ولو سلّم أنّها خرجت حال التأليف عن أحيازها الطبيعيّة ، فلم لا يجوز أن تكون أحيازها الطبيعيّة مع أحيازها التي هي فيها حال التأليف متساوية البعد عن مركز العالم ، وينتقل إليها بالحركة المستديرة لا بالحركة المستقيمة حتّى يلزم تحدّد الجهات قبلها؟ (١)

وثانيا : بأنّه لو تمّ لدلّ على بساطة الفلك الأعظم المحدّد للجهات دون سائر الأفلاك ، كما هو المدّعى (٢).

وقد يستدلّ بأنّ كلّ مركّب يتطرّق إليه الانحلال ، والفلك لا يتطرّق إليه الانحلال في هذه المدّة المتطاولة ، فيكون بسيطا (٣).

وفيه نظر ظاهر.

ومنها : أنّ الأفلاك خالية من الكيفيّات الفعليّة وهي الحرارة والبرودة ، والانفعاليّة وهي الرطوبة واليبوسة ، ولوازمها كالخفّة والثقل والتخلخل والتكاثف ، وإلاّ لزم قبولها للحركة المستقيمة ؛ لأنّها من مقتضيات تلك الكيفيّات مع أنّها متحرّكة بالاستدارة بدلالة الأرصاد ، فيلزم وجود الميلين المتنافيين.

مضافا إلى أنّه يلزم تحدّد الجهات قبل الفلك ، وأنّ الأفلاك لو كانت حارّة لكانت في غاية الحرارة ؛ لبساطة المادّة وعدم العائق ، فيجب كون الهواء العالي في غاية السخونة مع أنّه أبرد من الهواء الملاصق لوجه الأرض بالضرورة ، وكذا لو اقتضت البرودة لبلغت الغاية وجمدت العناصر فما يتكوّن شيء من الحيوان.

وفي الكلّ نظر ظاهر ، وغفلة عن قدرة الجبّار القهّار القادر.

__________________

(١) أورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ١٦٧.

(٢) نسب القوشجي هذا الإيراد إلى القيل ، كما في « شرح تجريد العقائد » : ١٦٨.

(٣) انظر : « شرح المواقف » ٧ : ٨٧.

٣٠٠