البراهين القاطعة - ج ١

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ١

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-371-377-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

وسألته عن معنى قولهم : إنّ الصادق في الأحكام الذهنيّة هو باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر ، والمعقول من نفس الأمر إمّا الثبوت الذهني أو الخارجي ، وقد منع كلّ منهما هاهنا.

فقال رحمه‌الله : المراد بنفس الأمر هو العقل الفعّال ، فكلّ صورة أو حكم ثابت في الذهن مطابق للصور المنتقشة في العقل الفعّال ، فهو صادق ، وإلاّ فهو كاذب.

فأوردت عليه أنّ الحكماء يلزمهم القول بانتقاش الصور الكاذبة في العقل الفعّال ؛ لأنّهم قالوا بالفرق بين السهو والنسيان ، فإنّ السهو هو زوال الصورة المعقولة عن الجوهر العاقل وارتسامها في الحافظ لها ، والنسيان هو زوالها عنهما معا ، وهذا يتأتّى في الصورة المحسوسة ، أمّا المعقولة فإنّ سبب النسيان هو زوال الاستعداد بزوال المفيد للعلم في باب التصوّرات والتصديقات ، وهاتان الحالتان قد تعرضان في الأحكام الكاذبة. فلم يأت فيه بمقنع.

وهذا البحث ليس من هذا المقام وإنّما انجرّ إليه الكلام ، وهو بحث شريف لا يوجد في الكتب » (١).

أقول : الأولى أن يقال : إنّ « الأمر » عبارة عن المحكوم عليه ، فمعنى قولنا : « ذلك في نفس الأمر كذا » أنّه باعتبار نفسه وذاته مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر كذا ، أو عبارة عن علّته بناء على أنّ كلّ معلول له وجود إجماليّ في مقام اعتبار علّته ، فالمراد أنّ كلّ حكم طابقت فيه النسبة الحكميّة النسبة الخارجيّة كان صحيحا ، وغيره باطل.

المسألة الثالثة والثلاثون : في كيفيّة حمل الوجود والعدم على الماهيّات.

قال : ( ثمّ الوجود والعدم قد يحملان وقد تربط بهما المحمولات ).

أقول : الوجود والعدم ـ كما مرّ ـ على قسمين : وجود أصليّ ووجود رابطيّ ،

__________________

(١) « كشف المراد » : ٧٠ ، وصحّحنا النقل على المصدر.

١٦١

فإنّهما قد يحملان على الماهيّات ، كما تقول : « الإنسان موجود » و « الإنسان معدوم » وقد يجعلان رابطة ، كقولنا : « الإنسان يوجد كاتبا » و « الإنسان تعدم عنه الكتابة » فجعلنا المحمول هو الكتابة. والوجود والعدم رابطتان ، إحداهما : رابطة الثبوت والوصل ، والأخرى : رابطة السلب والفصل.

قال : ( والحمل (١) يستدعي اتّحاد الطرفين من وجه وتغايرهما من آخر ، وجهة الاتّحاد قد تكون أحدهما وقد تكون ثالثا ).

أقول : لمّا ذكر أنّ الوجود والعدم قد يحملان وقد يكونان رابطة بين الموضوع والمحمول ، شرع في تحقيق معنى الحمل.

وتقريره : أنّا إذا حملنا وصفا على موصوف ، فلسنا نعني به أنّ ذات الموضوع هي ذات المحمول نفسها ، وإلاّ يلزم تحقّق حمل ووضع في الألفاظ المترادفة ، وهو باطل ؛ لأنّ قولنا : « الإنسان حيوان » حمل صادق ، وليس الإنسان والحيوان مترادفين ، ولا نعني به أنّ ذات الموضوع مباينة لذات المحمول ؛ فإنّ الشيئين

__________________

(١) قوله : « والحمل ... » إلى آخره. اعلم أنّ الحمل على أقسام :

منها : حمل الشيء على نفسه ، وهو ما إذا اتّحد الموضوع والمحمول لفظا ومفهوما ومصداقا وأحوالا ، كما إذا قيل : الإنسان إنسان.

ومنها : الحمل الحقيقي ، وهو ما إذا تغايرا لفظا واتّحدا مفهوما ، وكان المحمول ذاتي للموضوع ، بل تمام حقيقته ، كما إذا قيل : الإنسان حيوان ناطق ، وهو قسم من حمل هو هو وحمل ذاتي.

ومنها : الحمل المتعارفي ، وهو ما إذا تغايرا لفظا ومفهوما واتّحدا مصداقا ، بحمل الكلّي على الجزئي ، كما يقال : زيد إنسان. وهو أيضا قسم من حمل هو هو.

ومنها : الحمل الاشتقاقي ، وهو ما إذا تغايرا لفظا ومفهوما ومصداقا ، ولكن كان مدلول المحمول حالا من أحوال حدّيته لمدلول الموضوع ك‍ « زيد عدل » بمعنى عادل.

ومنها : حمل تصوّر ك‍ « زيد كيف » أي ذو كيف.

ومنها : حمل المباين على المباين ؛ للتشبيه والحكم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الطواف بالبيت صلاة ».

ومنها : حمل المباين للمبالغة ك‍ « زيد حمار ».

ومنها : حمل المباين لا كما ذكر.

وما عدا الأوّل والأخير مقبول ... ( منه رحمه‌الله ).

١٦٢

المتباينين ـ كالإنسان والفرس ـ يمتنع حمل أحدهما على الآخر ، بل نعني به أنّ المحمول والموضوع بينهما اتّحاد من وجه وتغاير من وجه بالتغاير مفهوما والاتّحاد مصداقا ؛ فإنّا إذا قلنا : « الضاحك كاتب » عنينا به أنّ الشيء الذي يقال له : الضاحك هو الشيء الذي يقال له : الكاتب ، فجهة الاتّحاد هي الشيء ، وجهة التغاير هي الضحك والكتابة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ جهة الاتّحاد قد تكون أمرا مغايرا للمحمول والموضوع ، كما في هذا المثال ؛ فإنّ الشيء الذي يقال له : ضاحك وكاتب هو الإنسان ، وهو غير الموضوع والمحمول. وقد تكون أحدهما بكون مفهوم أحدهما تمام حقيقة مصداق الآخر وكون العنوان عين الذات ، كقولنا : « الإنسان ضاحك » و « الضاحك إنسان » لاتّحاد ذات الإنسان مع مفهوم الضاحك.

قال : ( والتغاير لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر ولا اعتبار عدم القائم في القيام لو استدعاه ).

أقول : لمّا ذكر أنّ المحمول مغاير للموضوع من وجه ، صدق عليه مطلق التغاير ، فيتوجّه شكّ ، وهو أنّ أحد الطرفين حينئذ يجب أن يكون قائما بالآخر ، وإلاّ لم تكن بينهما مناسبة ، وإذا كان قائما فالطرف الآخر في نفسه ليس متّصفا بالطرف القائم به ، وإلاّ اجتمع المثلان عند قيامه ، وحينئذ يلزم قيام الشيء بما ليس متّصفا به ، وذلك جمع للنقيضين.

فأجاب بأنّ صدق التغاير لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر قيام العرض بمحلّه ؛ فإنّا نقول : « الإنسان حيوان » وليست الحيوانيّة قائمة بالإنسانيّة ؛ لعدم تصوّر قيام بين الكلّ والجزء ، وكفاية الاتّحاد في الصدق في الحمل.

ثمّ لو فرضنا أنّ التغاير مع الحمل يقتضي قيام أحدهما بالآخر لكن لا يلزم من كون المحمول قائما بالموضوع كون الموضوع في نفسه مأخوذا باعتبار عدم القائم من باب اعتبار الشيء بشرط لا واعتبار العدم ، بل اللازم عدم اعتبار القيام ، وبين

١٦٣

عدم الاعتبار واعتبار العدم فرق ظاهر ؛ فلا يلزم اجتماع النقيضين.

قال : ( وإثبات الوجود للماهيّة لا يستدعي وجودها قبل وجودها ).

أقول : إنّ الحكماء أطبقوا على أنّ الموصوف بالصفة الثبوتيّة يجب أن يكون ثابتا. (١)

وقد أورد على هذا : أنّ الوجود ثابت للماهيّة ، فيجب أن تكون الماهيّة ثابتة أوّلا حتّى يتحقّق لها ثبوت آخر ويتسلسل ، مضافا إلى أنّه يلزم أن تكون الماهيّة موجودة بوجودين أو بوجود واحد مرّتين ، وذلك محال بالضرورة.

والجواب : ما تقدّم فيما حقّقناه أوّلا من أنّ الوجود ليس عروضه للماهيّات عروض السواد للمحلّ ، بل زيادته إنّما هي في التصوّر والتعقّل لا في الوجود الخارجي ، بمعنى أنّ الوجود ثابت للماهيّة من حيث هي ، لا للماهيّة المعدومة و [ لا ] للماهيّة الموجودة.

مضافا إلى كون الماهيّة ثابتة بالوجود الثابت بنفسه ، المحمول عليها ، كما في المنوّر بالنور ، كما مرّ.

قال : ( وسلبه عنها لا يقتضي تميّزها وثبوتها بل نفيها لا إثبات نفيها. وثبوتها في الذهن وإن كان لازما لكنّه ليس شرطا ).

أقول : هذا جواب شكّ يورد على سلب الوجود عن الماهيّة.

وتقريره : أنّ سلب الوجود عن الماهيّة لا يقتضي أن تكون الماهيّة متميّزة عن غيرها وثابتة في نفسها وفي الخارج ، بل يكفي ثبوتها وتميّزها في الذهن ، فسلبه عنها لا يقتضي إلاّ نفيها في الخارج ، لا إثبات نفيها بأن يكون هناك أمر متحقّق هو الماهيّة وقد ثبت لها الانتفاء.

وثبوتها في الذهن ليس شرطا لسلب الوجود بأن يسلب الوجود عن الماهيّة

__________________

(١) لقاعدة أنّ ثبوت الشيء للشيء فرع لثبوت المثبت له. ( منه رحمه‌الله ).

١٦٤

الموجودة في الذهن بشرط كونها موجودة فيه حتّى يلزم اجتماع النقيضين ، بل يلزم من كون الماهيّة من حيث هي محكوما عليها بالسلب وجودها في الذهن ، ولا محذور فيه ؛ فإنّ سلب الوجود عن الماهيّة في الجملة لا يناقض وجودها في زمان كونها محكوما عليها ، فلا يلزم اجتماع النقيضين.

قال : ( والحمل والوضع من المعقولات الثانية ، يقالان بالتشكيك ، وليست الموصوفيّة ثبوتيّه ، وإلاّ تسلسل ).

أقول : الحمل والوضع من الأمور المعقولة ، وليس في الخارج حمل ولا وضع ، بل الثابت في الخارج هو الإنسان والكتابة.

وأمّا صدق الكاتب على الإنسان فهو أمر عقليّ ، ولهذا حكمنا بأنّ الحمل والوضع من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى من حيث هي في العقل ، ويقالان على أفرادهما بالتشكيك ؛ فإنّ استحقاق بعض المعاني للحمل أولى من البعض الآخر ، وكذا الوضع. وإذا قلنا : « الجسم أسود » فقد حكمنا على الجسم بأنّه موصوف بالسواد ، والموصوفيّة أمر اعتباريّ ذهنيّ لا خارجيّ حقيقيّ ؛ لأنّ الموصوفيّة لو كانت وجوديّة لزم التسلسل.

وبيان الملازمة : أنّها لو كانت خارجيّة لكانت عرضا قائما بالمحلّ ، فاتّصاف محلّها بها يستدعي موصوفيّة أخرى ، فنقل الكلام إليها ويتسلسل.

المسألة الرابعة والثلاثون : في انقسام الموجود إلى ما بالذات وإلى ما بالعرض.

قال : ( ثمّ الموجود قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض ).

أقول : الموجود إمّا أن يكون له حصول مستقلّ في الأعيان أو لا يكون.

والأوّل هو الموجود بالذات ، سواء كان جوهرا أو عرضا ؛ فإنّ العرض وإن كان لا يوجد إلاّ بمحلّه لكنّه موجود حقيقة ، فإنّ وجود العرض ليس هو بعينه وجود

١٦٥

المحلّ ؛ إذ قد يوجد المحلّ بدون العرض ثمّ يوجد بعد ذلك العرض فيه ، كالجسم إذا دخل فيه السواد بعد أن لم يكن.

والثاني هو الموجود بالعرض كأعدام الملكات ، فإنّ الأعمى موجود بالعرض ، بمعنى أنّ ما صدق عليه موجود. وكذا الأمور الاعتباريّة الذهنيّة التي لا تحقّق لها في الأعيان ويقال : إنّها موجودة في الأعيان بالعرض.

قال : ( وأمّا الوجود في الكتابة والعبارة فمجازيّ ).

أقول : للشيء وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ، وقد سبق البحث فيهما ، ووجود في العبارة ووجود في الكتابة.

والذهني يدلّ على ما في العين ، والعبارة تدلّ على الأمر الذهني ، والكتابة تدلّ على العبارة لكنّ الوجودين الأوّلين حقيقيّان ، والباقيين مجازيّان ؛ إذ لا يحكم العاقل بأنّ زيدا ـ مثلا ـ موجود في اللفظ والكتابة ؛ لأنّ العبارة صوت موضوع بإزائه ، والكتابة نقش موضوع بإزاء اللفظ الدالّ عليه ، ولكن لمّا دلاّ عليه ، حكم على سبيل المجاز أنّه موجود فيهما.

والسرّ في تسمية هذا الوجود مجازا ، وما تقدّم وجودا بالعرض ، أنّ جعل ذات الشيء موجودا باعتبار أنّ الدالّ عليها موجود في العبارة أو الكتابة أبعد من جعل المحمول على الموجود موجودا باعتبار كونه محمولا عليه ، فسمّي أحدهما موجودا بالعرض والآخر موجودا بالمجاز ؛ تنبيها على التفاوت بينهما.

المسألة الخامسة والثلاثون : في عدم جواز إعادة المعدوم.

قال : ( والمعدوم لا يعاد ؛ لامتناع الإشارة إليه ، فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود ).

أقول : ذهب جماعة من الحكماء والمتكلّمين إلى أنّ المعدوم بعينه وبجميع عوارضه المشخّصة لا يعاد.

١٦٦

وذهب آخرون منهم إلى أنّه يمكن أن يعاد (١).

والحقّ : الأوّل من غير منافاة للقول بالمعاد الجسماني ؛ لبقاء موادّ الأجسام وإن تفرّق أجزاؤها واضمحلّ صورها ، ففيه إعطاء الصور للموادّ وعود الأرواح إلى الأجساد من غير أنّ المعدوم الصرف يعاد.

والظاهر أنّ ذلك ضروريّ ، ولهذا قال الإمام الرازي ـ على ما حكي عنه ـ : « إنّ كلّ من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والعصبيّة ، شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنعة » (٢).

ومثّل له بنقش حرف في لوح ومحوه ونقش ذلك الحرف بعينه في ذلك الموضع بعد ذلك ؛ فإنّ المنقوش ثانيا مثل الأوّل لا عينه (٣).

واستدلّ المصنّف عليه بوجوه (٤) :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ المعدوم لا تبقى له هويّة ولا يتميّز عن غيره ، فلا يصحّ أن يحكم عليه بحكم ما من الأحكام ، فلا يمكن الحكم عليه بصحّة العود.

وهذا مستلزم لامتناع الحكم عليه بامتناع العود ؛ فإنّه أيضا حكم ما. والإرجاع إلى الحكم السلبي الذي يصحّ على المعدوم مشترك.

والتحقيق هنا أنّ الحكم يستدعي الحضور الذهني لا الوجود الخارجي ، ولهذا يحكم على شريك البارئ بأنّه ممتنع.

قال : ( ولو أعيد تخلّل العدم بين الشيء ونفسه ).

__________________

(١) « تلخيص المحصّل » : ٣٩٠ ؛ « شرح المقاصد » ٥ : ٨٢.

(٢) هذا الكلام ليس للفخر الرازي ، بل الرازي نقله عنه الشيخ نقلا بالمعنى ، والمحقّق اللاهيجي نقل نقل الرازي في المباحث عن الشيخ. راجع آخر الفصل الخامس من المقالة الأولى من « إلهيّات الشفاء » : ٤١ ؛ و « المباحث المشرقية » ١ : ١٣٨ ؛ و « شوارق الإلهام » ، المسألة الثالثة والثلاثين من الفصل الأوّل.

(٣) « شوارق الإلهام » : ١١٨.

(٤) لمزيد الاطّلاع عن هذه الأدلّة راجع « مناهج اليقين » : ٣٣٣ وما بعدها ؛ « كشف المراد » : ٧٣ ـ ٧٤ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٢٩٢.

١٦٧

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالّة على امتناع إعادة المعدوم.

وتقريره : أنّ الشيء بعد عدمه نفي محض وعدم صرف ، وإعادته إنّما تكون بوجود عينه الذي هو المبتدأ بعينه في الحقيقة ، فيلزم تخلّل العدم بين الشيء ونفسه ، وتخلّل النفي بين الشيء الواحد غير معقول.

وأجيب : بأنّ التخلّل لزمان العدم بين زماني وجود الشيء بعينه.

وفيه : أنّ بديهة العقل حاكمة بأنّ الثاني مثل الأوّل لا عينه.

قال : ( ولم يبق فرق بينه وبين المبتدأ ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث.

وتقريره : أنّ المعدوم لو أعيد لم يبق فرق بينه وبين المبتدأ ؛ فإنّا إذا فرضنا سوادين ـ أحدهما معاد والآخر مبتدأ ـ وجدا معا ، لم يقع بينهما افتراق في الماهيّة ولا المحلّ ولا غير ذلك من المميّزات إلاّ كون أحدهما كان موجودا ثمّ عدم ، والآخر لم يسبق عدمه وجوده ، لكن هذا الفرق باطل ؛ لامتناع تحقّق الماهيّة في العدم ، فلا يمكن الحكم عليها بأنّها هي هي حالة العدم ، وإذا لم يبق فرق بينهما ، لم يكن أحدهما أولى من الآخر بالإعادة أو الابتداء.

قال : ( وصدق المتقابلان عليه دفعة ).

أقول : هذا وجه رابع ، وهو أنّه لو أعيد المعدوم لصدق المتقابلان على الشيء الواحد دفعة واحدة ؛ والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّه لو أعيد لأعيد مع جميع مشخّصاته ، ومن جملة المشخّصات الزمان ، فيلزم جواز الإعادة على الزمان ، فيكون مبتدأ معادا ، وهو محال ؛ لأنّهما متقابلان لا يمكن صدقهما على ذات واحدة.

قال : ( ويلزم التسلسل في الزمان ).

أقول : هذا دليل امتناع إعادة الزمان.

وتقريره : أنّه لو أعيد الزمان ، لكان وجوده ثانيا مغايرا لوجوده أوّلا ، والمغايرة

١٦٨

ليست بالماهيّة ولا بالوجود وصفات الوجود ، بل بالقبليّة والبعديّة لا غير ، فيكون للزمان زمان آخر يوجد فيه تارة ويعدم أخرى ، وذلك يستلزم التسلسل.

قال : ( والحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة ).

أقول : هذا جواب عن استدلال من ذهب إلى إمكان إعادة المعدوم.

وتقرير الدليل : أنّ الشيء بعد العدم إن استحال وجوده لماهيّة أو لشيء من لوازمها ، وجب امتناع مثله الذي هو الوجود المبتدأ ، وإن كان لأمر غير لازم بل لعارض ، فعند زوال ذلك العارض يزول الامتناع.

وتقرير الجواب : أنّ الشيء بعد العدم ممتنع الوجود المقيّد ببعديّة العدم ، وذلك الامتناع من جهة ما هو لازم للماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود ، وهو كونها قد طرأ عليها العدم ، وامتناع العود بسبب هذا اللازم لا يقتضي امتناع وجوده ابتداء ؛ لعدم تحقّق سبب الامتناع ـ أعني هذا اللازم ـ هناك.

نعم ، إيجاد مثل الموجود أوّلا ممكن ، وهو غير إعادة المعدوم ، كما هو معلوم.

المسألة السادسة والثلاثون : في قسمة الموجود إلى الواجب والممكن ، وأنّ الممكن محتاج إلى المؤثّر ضرورة.

قال : ( وقسمة الموجود إلى الواجب والممكن ضروريّة وردت على الموجود من حيث هو قابل للتقييد وعدمه ).

أقول : العقل يحكم ـ حكما ضروريّا ـ أنّ الموجود إمّا أن يكون مستغنيا عن غيره أو محتاجا ، والأوّل واجب ، والثاني ممكن.

وهذه قسمة ضروريّة لا يفتقر فيها إلى برهان.

وليست القسمة واردة على مطلق الموجود من حيث هو موجود مطلق ؛ فإنّ الشيء من حيث هو ذلك الشيء يستحيل أن ينقسم إلى متنافيين هما غير ذلك الشيء ، وإذا اعتبرت قسمته فلا تؤخذ مع هذه الحيثيّة ، بل يؤخذ الشيء من غير

١٦٩

تقييد بشرط مع تجويز التقييد بالقيود المتقابلة ، ويقسم ، فينضاف إلى مفهومه مفهومات أخر ، ويصير مفهومه مع كلّ واحد من تلك المفهومات قسما.

قال : ( والحكم على الممكن بإمكان الوجود حكم على الماهيّة لا باعتبار العدم والوجود ).

أقول : هذا جواب شكّ يتوجّه في المقام ، وهو أنّ القسمة إلى الواجب والممكن فرع الحكم على الممكن بإمكان الوجود ، وهو غير ممكن ؛ لأنّ كلّ ماهيّة إمّا موجودة فلا تقبل العدم ، وإمّا معدومة فلا تقبل الوجود ؛ وإلاّ اجتمع النقيضان.

وتقرير الجواب : أنّ المحكوم عليه هو الماهيّة من حيث هي ، لا باعتبار الوجود أو العدم حتّى يلزم اجتماع النقيضين ، كما مرّ مثله.

قال : ( ثمّ الإمكان قد يكون آلة في التعقّل ، وقد يكون معقولا باعتبار ذاته ).

أقول : هذا جواب شكّ آخر ، وهو أنّه لو اتّصف شيء بالإمكان لوجب اتّصافه به ، وإلاّ لأمكن زوال الإمكان عن ماهيّة الممكن ، وهو محال ؛ لأنّ الإمكان من لوازم ماهيّة الممكن ، ووجب اتّصافه بذلك الوجوب أيضا ، وكذا بوجوب الوجوب (١) وهكذا حتّى تتسلسل الوجوبات ؛ حذرا عن المحذور المذكور.

وتقرير الجواب : أنّ هذا التسلسل ـ كالتسلسل في كثير من المفهومات كاللزوم والحدوث والوحدة ـ تسلسل في الأمور الاعتباريّة ، وربّما تنقطع السلسلة بحسب انقطاع الاعتبار.

بيانه : أنّ كون الشيء معقولا ، ينظر فيه العقل ويعتبر فيه وجوده ولا وجوده ، غير كونه آلة للتعقّل ، ولا ينظر فيه من حيث ينظر فيما هو آلة لتعقّله ، بل إنّما ينظر إليه من حيث هو هو ، مثلا : العاقل يعقل السماء بصورة في عقله ويكون معقوله السماء ، ولا ينظر حينئذ في الصورة التي بها يعقل السماء ولا يحكم عليها بحكم ، بل يعقل أنّ المعقول بتلك الصورة هو السماء وهو جوهر ، ثمّ إذا نظر في تلك الصورة وجعلها

__________________

(١) في « ج » : « الوجود » بدل « الوجوب ».

١٧٠

معقولة منظورا إليها لا آلة في النظر إلى غيرها ، وجدها عرضا موجودا في محلّ هو عقله.

إذا ثبت هذا ، فنقول : الإمكان كآلة للعاقل ، بها يعرف حال الممكن في أنّ وجوده على أيّ أنحاء العروض يعرض للماهيّة ، ولا ينظر في كون الإمكان موجودا أو معدوما أو جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا ، فليس حينئذ إلاّ أمر واحد ، فلا يلزم تسلسل ، ثمّ إذا نظر في وجوده أو إمكانه أو وجوبه أو جوهريّته أو عرضيّته ، لم يكن بذلك الاعتبار إمكانا لشيء ، بل كان عرضا في محلّه ، وهو العقل ، وممكنا في ذاته.

والإمكان من حيث هو إمكان لا يوصف بكونه موجودا أو غير موجود ، وممكنا أو غير ممكن ، وإذا وصف بشيء من ذلك ، لا يكون حينئذ إمكانا ، بل يكون له إمكان آخر يعتبره العقل.

والإمكان أمر عقليّ ، فمهما اعتبر العقل للإمكان ماهيّة ووجودا حصل فيه إمكان إمكان ، ولا يتسلسل ، بل ينقطع عند انقطاع الاعتبار ، وهكذا حكم جميع الاعتبارات العقليّة من الوجوب والسببيّة والحدوث وغيرها من ثواني المعقولات.

قال : ( وحكم الذهن على الممكن بالإمكان اعتبار عقليّ ، فيجب أن يعتبر مطابقته لما في العقل ).

أقول : هذا جواب عن استدلال من يقول بأنّ الإمكان موجود في الخارج.

[ و ] تقريره : أنّ حكم الذهن على الممكن بالإمكان إن لم يكن مطابقا للخارج كان جهلا ، وكان الذهن قد حكم بالإمكان على ما ليس بممكن ، وإن كان مطابقا للخارج كان الإمكان موجودا فيه.

وتقرير الجواب : أنّ الإمكان أمر عقليّ ، فإذا اعتبر فيه المطابقة فيجب أن يكون مطابقا لما في العقل ؛ لأنّه اعتبار عقليّ ، على ما تقدّم.

قال : ( والحكم بحاجة الممكن ضروريّ ، وخفاء التصديق لخفاء التصوّر غير قادح ).

١٧١

أقول : أنكر جماعة كذيمقراطيس وأتباعه ـ على ما حكي (١) ـ وجود الواجب واحتياج الممكن إلى المؤثّر ، قائلين بأنّ وجود السماوات بطريق البخت والاتّفاق.

واختار المحقّقون احتياجه إليه (٢) ، وذهب إليه المصنّف رحمه‌الله كما ذكرنا.

ومراده أنّ كلّ عاقل إذا تصوّر الممكن والاحتياج إلى المؤثّر ، حكم بنسبة أحدهما إلى الآخر حكما ضروريّا لا يحتاج معه إلى برهان.

وخفاء هذا التصديق عند بعض العقلاء لا يقدح في ضروريّته ؛ لأنّ الخفاء في الحكم يستند إلى خفاء التصوّر لا لخفائه في نفسه ، ولهذا إذا مثّل للمتشكّك في هذه القضيّة حال الوجود والعدم بالنسبة إلى الماهيّة بحال كفّتي الميزان وأنّهما كما يستحيل ترجّح إحدى الكفّتين على الأخرى بغير مرجّح كذلك الممكن المتساوي الطرفين ، حكم بالحاجة إلى المؤثّر.

قال : ( والمؤثّريّة اعتبار عقليّ ).

أقول : هذا جواب عن استدلال أورده بعض المغالطين على احتياج الممكن إلى المؤثّر (٣).

وتقرير السؤال : أنّ الممكن لو افتقر إلى المؤثّر لكانت مؤثّريّة المؤثّر في ذلك الأثر وصفا ممكنا محتاجا إلى المؤثّر ، فتتحقّق هناك مؤثّريّة أخرى ، وننقل الكلام إليها حتّى يتسلسل.

وتقرير الجواب : أنّ المؤثّريّة ليست موجودة في الخارج حتّى يلزم كونها وصفا ممكنا محتاجا إلى المؤثّر ، بل هو اعتبار عقليّ ينقطع بانقطاع الاعتبار.

نعم ، التأثير أمر موجود بنفسه ، كما أنّ الأثر موجود بالتأثير ، نظير الماهيّة والوجود.

__________________

(١) حكاه الشيخ في « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ٦١.

(٢) انظر : « المباحث المشرقية » ١ : ٢١٨ ؛ « تلخيص المحصّل » : ١١١ وما بعدها ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ١٢٩ وما بعدها ؛ « مناهج اليقين » : ٥ ؛ « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة الخامسة والثلاثون.

(٣) الاستدلال المذكور أورده الفخر الرازي في « المحصّل » : ١٩٤ وما بعدها.

١٧٢

قال : ( والمؤثّر يؤثّر في الأثر لا من حيث هو موجود ولا من حيث هو معدوم ).

أقول : هذا جواب عن سؤال آخر لهم (١).

وتقرير السؤال : أنّ المؤثّر إمّا أن يؤثّر في الأثر حال وجوده أو حال عدمه ، والقسمان باطلان فالتأثير باطل.

أمّا بطلان الأوّل : فلاستلزامه تحصيل الحاصل.

وأمّا بطلان الثاني : فلأنّ حال العدم لا أثر فلا تأثير ؛ لأنّ التأثير إن كان غير حصول الأثر عن المؤثّر فحيث لا أثر فلا تأثير ، وإن كان مغايرا فالكلام فيه كالكلام في الأوّل ، مضافا إلى لزوم الجمع بين النقيضين.

وتقرير الجواب أن نقول : إن أردت بحال وجود الأثر زمان وجوده ، فليس بمستحيل أن يؤثّر في الأثر في زمان وجود الأثر ؛ لأنّ العلّة مع المعلول تكون بهذه الصفة ؛ لأنّ ذلك تحصيل للحاصل بهذا التحصيل ، لا لما كان حاصلا قبل هذا التحصيل. وإن أردت به مقارنة المؤثّر للأثر ، الذاتيّة ، فذلك مستحيل.

والحاصل : أنّ المؤثّر إنّما يؤثّر فيه لا من حيث هو موجود حتّى يلزم تحصيل الحاصل ، ولا من حيث هو معدوم حتّى يلزم جمع النقيضين ، بل يؤثّر من حيث هو غير مقيّد بشيء من الوجود والعدم ، فلا يلزم محال.

قال : ( وتأثيره في الماهيّة ويلحقه وجوب لاحق ).

أقول : هذا جواب عن سؤال ثالث لهم (٢).

وتقريره : أنّ المؤثّر إمّا أن يؤثّر في الماهيّة أو في الوجود أو في اتّصاف الماهيّة بالوجود ، والأقسام كلّها باطلة فالتأثير باطل.

أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ ما بالغير يرتفع بارتفاعه ، لكن ذلك محال ؛ لأنّ صيرورة الماهيّة غير الماهيّة محال ؛ لاستحالة سلب الشيء عن نفسه في غير المعدوم.

__________________

(١) راجع « المحصّل » : ١٩٨.

(٢) راجع « المحصّل » : ١٩٨ ـ ٢٠١.

١٧٣

وأمّا الثاني : فلأنّه يلزم ارتفاع الوجود عند ارتفاع المؤثّر ، ويلزم ما تقدّم من المحال.

وأمّا الثالث : فلأنّ الموصوفيّة ليست بثبوتية (١) ، وإلاّ لزم التسلسل ، فلا تكون أثرا.

سلّمنا ، لكنّ المؤثّر يؤثّر في ماهيّتها أو في وجودها أو في اتّصاف ماهيّتها بوجودها ، ويعود المحال.

وتقرير الجواب : أنّ المؤثّر يؤثّر في الماهيّة بجعلها موجودة لا جعلها إيّاها ؛ لعدم تصوّر توسّط الجعل بين الشيء ونفسه كما حكي (٢) عن أبي عليّ أنّه سئل عن هذه المسألة ـ وقد كان يأكل المشمش ـ فقال : الجاعل لم يجعل المشمش مشمشا بل جعل المشمش موجودا ، أو بالجعلين معا ، وبعد تعلّق الجعل بالماهيّة يجب تحقّقها وجوبا لاحقا مترتّبا عليه.

قال : ( وعدم الممكن يستدعي عدم علّته ، على ما مرّ ).

أقول : هذا جواب عن سؤال أخر (٣).

وتقريره : أنّ الممكن لو افتقر في طرف الوجود إلى المؤثّر لافتقر في طرف العدم أيضا إليه ؛ لتساويهما بالنسبة إليه ، والتالي باطل ؛ لأنّ المؤثّر لا بدّ له من أثر ، والعدم نفي محض ، فيستحيل استناده إلى المؤثّر.

وتقرير الجواب : أنّ عدم الممكن المتساوي ليس نفيا محضا بل هو عدم ملكة. وتساوي طرفي وجوده وعدمه إنّما يكون في العقل. والمرجّح لطرف الوجود لا بدّ أن يكون موجودا في الخارج ، كما مرّ ، وأمّا في العدم فلا يكون إلاّ عقليّا ، وهو عدم العلّة ، وعدم العلّة ليس بنفي محض ، وهو يكفي في الترجيح العقلي ، ولامتيازه عن

__________________

(١) في نسخة الأصل : « ثبوتيّة ».

(٢) حكاه القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : ٦٩ واللاهيجي في « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة الخامسة والثلاثون.

(٣) راجع « المحصّل » : ٢٠١.

١٧٤

عدم المعلول في العقل يجوز أن يعلّل هذا العدم بذلك العدم.

المسألة السابعة والثلاثون : في أنّ الممكن الباقي محتاج إلى المؤثّر.

قال : ( والممكن الباقي مفتقر إلى المؤثّر لوجود علّته ).

أقول : اختلفوا في أنّ الممكن الباقي هل يفتقر إلى المؤثّر حال بقائه أم لا؟

فذهب جماعة ـ [ حيث ] قالوا : إنّ علّة الافتقار إلى المؤثّر هو الحدوث وحده أو مع الإمكان ، أو الإمكان بشرط الحدوث ـ إلى أنّ الممكن حال بقائه مستغن عن المؤثّر ؛ إذ لا حدوث حال البقاء كما في بقاء البناء بعد فناء البنّاء ؛ ولهذا قالوا : لو جاز على الصانع العدم لما ضرّ العالم (١).

وقال بعضهم : إنّ الجواهر محتاجة إلى الصانع من جهة الأعراض المتجدّدة أو الأكوان المتجدّدة المحتاجة إلى الصانع (٢).

وذهب جمهور الحكماء والمتأخّرين من المتكلّمين إلى أنّ الممكن الباقي محتاج إلى المؤثّر (٣).

وبالجملة : كلّ من قال بأنّ الإمكان علّة تامّة في احتياج الأثر إلى المؤثّر حكم بأنّ الممكن الباقي مفتقر إلى المؤثّر.

والدليل عليه : أنّ علّة الحاجة إنّما هي الإمكان ، وهو لازم للماهيّة ضروريّ اللزوم ، فهي أبدا محتاجة إلى المؤثّر ؛ لأنّ وجود العلّة يستلزم وجود المعلول ، فهي محتاجة إلى المؤثّر في الوجود بعد الوجود ، كما أنّها محتاجة إليه في أصل الوجود.

وأمّا البنّاء فهو علّة معدّة لفيضان صورة البناء من واهب الصور ، وانعدام العلّة المعدّة لا يوجب انعدام المعلول ، كما في الأقدام.

__________________

(١) راجع « الشفاء » الإلهيّات ، الفصل ١ و ٢ من المقالة السادسة ؛ « التحصيل » : ٥٢٤ وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٦٧ وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٦٩ ـ ٧٠.

(٢) راجع « الشفاء » الإلهيّات ، الفصل ١ و ٢ من المقالة السادسة ؛ « التحصيل » : ٥٢٤ وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٦٧ وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٦٩ ـ ٧٠.

(٣) « تلخيص المحصّل » : ١٢١.

١٧٥

قال : ( والمؤثّر يفيد البقاء بعد الإحداث ).

أقول : لمّا حكم باحتياج الممكن الباقي إلى المؤثّر ، شرع في تحقيق الحال فيه ، وأنّ الصادر عن المؤثّر ما هو حال البقاء؟ وذلك لأنّ الشبهة دخلت على القائلين باستغناء الباقي عن المؤثّر بسبب أنّ المؤثّر لا تأثير له حال البقاء ؛ لأنّه إمّا أن يؤثّر في الوجود الذي كان حاصلا ، وهو محال ؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال ، أو في أمر جديد ، فيكون المؤثّر مؤثّرا في الجديد لا في الباقي.

والتحقيق : أنّ قولهم : إنّ المؤثّر لا تأثير له حال البقاء غلط ؛ فإنّ المؤثّر يفيد البقاء بعد الإحداث ، وتأثيره بعد الإحداث في أمر جديد هو البقاء ؛ فإنّه غير الإحداث ؛ لأنّه عبارة عن الوجود بعد الوجود ، فهو مؤثّر في أمر جديد صار به باقيا لا في الذي كان باقيا. وأمّا البنّاء فهو علّة معدّة لا فاعليّة تامّة.

قال : ( ولهذا جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثّر الموجب لو أمكن ، ولا يمكن استناده إلى المختار ).

أقول : المراد أنّ الممكن الباقي لمّا كان لإمكانه مفتقرا إلى المؤثّر في بقائه ، جاز أن يستند الممكن القديم إلى المؤثّر الموجب بالذات لو أمكن وجود ذلك المؤثّر ، كما يدّعيه الفلاسفة (١) ؛ لأنّ الإمكان علّة الافتقار كما مرّ.

نعم ، هذا الممكن لا يحتاج إليه إلاّ في البقاء ؛ لعدم الحدوث ، بخلاف الممكن الحادث ، فإنّه يحتاج إليه في الحدوث والبقاء.

وأمّا استناد الممكن القديم إلى المؤثّر المختار فغير ممكن ؛ لأنّ المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد والاختيار ، والقصد إنّما يتوجّه في التحصيل إلى شيء معدوم ؛ لأنّ القصد إلى تحصيل الحاصل محال ، وكلّ معدوم تجدّد فهو حادث غير قديم ، والكلام في الممكن القديم.

وردّ : بأنّ تقدّم القصد على الإيجاد والوجود تقدّم بالذات لا بالزمان ، فلا يلزم

__________________

(١) انظر : « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ٦٠ وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٢٧ وما بعدها.

١٧٦

الحدوث المخلّ.

نعم ، الحدوث الذاتي واقع ، ولكنّه غير قادح.

ويمكن أيضا أن يقال : إنّ المختار الموجب ـ بكسر الجيم ـ كالموجب ـ بفتح الجيم ـ في جواز الاستناد إليه.

ومنع الإمام الرازي استناده إلى الموجب أيضا استنادا إلى أنّ التأثير في حال البقاء تحصيل للحاصل ، وفي حال العدم أو الحدوث يستلزم الحدوث وعدم القدم (١) مردود : بأنّ إفادة البقاء للباقي بهذا البقاء ليس تحصيلا لما كان حاصلا قبل ، بل هو تحصيل للحاصل بذلك التحصيل ، وهو غير محال.

المسألة الثامنة والثلاثون : في نفي قديم ثان.

قال : ( ولا قديم سوى الله ؛ لما يأتي ).

أقول : القديم بالذات لا يوصف به سوى ذات الله تعالى بلا خلاف. وأمّا القديم الزماني ففيه خلاف ؛ إذ قد خالف في هذا جماعة كثيرة :

أمّا الفلاسفة فظاهر ؛ لقولهم بقدم أصل العالم من العقول والنفوس السماويّة والأجسام الفلكية والعنصرية (٢).

وأمّا المسلمون فالأشاعرة أثبتوا ذاته تعالى وصفاته في الأزل كالقدرة والعلم والحياة والوجود والبقاء وغير ذلك من الصفات على ما يأتي.

وأبو هاشم ـ على ما حكي ـ أثبت أحوالا خمسة ؛ فإنّه علّل القادريّة والعالميّة والحيّيّة والموجوديّة بحالة خامسة مميّزة للذات ، وهي الإلهيّة.

وأمّا الحرنانيّون (٣) فقد أثبتوا ـ على ما حكي ـ خمسة من القدماء : اثنان حيّان

__________________

(١) لم نعثر عليه فيما لدينا من مصنّفات الفخر الرازي ، نقله عنه القوشجي أيضا في « شرح تجريد العقائد » : ٧١.

(٢) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٧٢ ـ ١٨٦ ؛ « شرح حكمة الإشراق » : ٣٩١ ، طبعة حجرية.

(٣) الحرنان : رجل من المجوس ادّعى النبوّة. ( منه رحمه‌الله ).

١٧٧

فاعلان هما البارئ تعالى والنفس ، وواحد منفعل غير حيّ هو الهيولى ، واثنان لا حيّان ولا فاعلان ولا منفعلان هما الدهر والخلاء (١).

فأمّا قدمه تعالى : فهو ظاهر.

وأمّا النفس والهيولى : فلاستحالة تركّبهما عن المادّة ، وكلّ حادث مركّب.

وأمّا الزمان : فلاستحالة التسلسل اللازم على تقدير عدمه.

وأمّا الخلاء فرفعه غير معقول.

واختار ابن زكريّا الرازي الطبيب هذا المذهب (٢). واختار المصنّف المحقّق ما هو الحقّ الحقيق وبالقبول يليق ، من أنّه ليس في الوجود قديم لا بالذات ولا بالزمان سوى ذات الله تعالى ، وأنّ صفاته تعالى ليست بزائدة على ذاته ، كما ذهب إليه الحكماء والإماميّة والمعتزلة.

وبالجملة ، فما عدا هذا المذهب باطل ، بل قالوا : إثبات القدماء كفر ، والنصارى إنّما كفروا لمّا أثبتوا مع ذاته تعالى صفات ثلاثا قديمة سمّوها أقانيم هي : العلم والوجود والحياة ، فكيف لا يكون كذلك من أثبت مع ذاته صفات سبعا أو أكثر!؟

ودليل المختار أنّ كلّ ما سوى الله تعالى ممكن متغيّر ، وكلّ ممكن متغيّر حادث. وسيأتي تقريرها.

المسألة التاسعة والثلاثون : في عدم وجوب المادّة والمدّة للحادث.

قال : ( ولا يفتقر الحادث إلى المدّة والمادّة ، وإلاّ لزم التسلسل ).

أقول : ذهب الفلاسفة إلى أنّ كلّ حادث مسبوق بمادّة ومدّة (٣).

__________________

(١) « نقد المحصّل » : ١٢٥ ـ ١٢٧ ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » ١ : ٢٣٨ ـ ٢٤٠.

(٢) اختاره في كتابه الموسوم بـ « القول في القدماء الخمسة » وهو ليس بأيدينا ، راجع في ذلك « نهاية المرام » ١ : ٢٤٠.

(٣) « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٩٧ وما بعدها ؛ « المباحث المشرقية » ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ ؛ « نقد المحصّل » : ١٢٧ ـ ١٢٨.

١٧٨

والمراد بالمدّة الزمان ، وبالمادّة موضوع الحادث إن كان عرضا ، وهيولاه إن كان صورة ، ومتعلّقه إن كان نفسا. وقد تفسّر المادّة بالهيولى وحدها.

والبرهان على هذه الدعوى أنّ كلّ حادث ممكن ، فإمكانه سابق عليه ، وهو عرض لا بدّ له من محلّ ، وليس المعدوم ؛ لانتفائه ، فهو ثبوتي هو المادّة ؛ ولأنّ كلّ حادث يسبقه عدمه سبقا لا يجامعه المتأخّر ، فالسبق بالزمان ، وهو يستدعي ثبوته.

وهذان الدليلان باطلان ؛ لأنّهما يلزم منهما التسلسل ؛ لأنّ المادّة ممكنة حادثة ؛ إذ لا قديم سوى الله تعالى ، كما تقدّم ، فمحلّ إمكانها مغاير لها ، فتكون لها مادّة أخرى ، وننقل الكلام إليها حتّى يتسلسل.

على أنّا قد بيّنّا أنّ الإمكان عدميّ ؛ لأنّه لو كان ثبوتيّا لكان ممكنا ، فيكون له إمكان ، ويلزم التسلسل. والزمان تتقدّم أجزاؤه بعضها على بعض هذا النوع من التقدّم ، فيكون للزمان زمان فيتسلسل ، هذا خلف.

وأجابوا أيضا عن الأوّل : بأنّ الإمكان لفظ مشترك بين ما يقابل الامتناع ـ وهو صفة عقليّة يوصف بها كلّ ما عدا الواجب والممتنع من المتصوّرات ، ولا يلزم من اتّصاف الماهيّة بها كونها مادّيّة ـ وبين الاستعداد ، وهو موجود معدود في نوع من جنس الكيف ، وإذا كان موجودا وعرضا وغير باق بعد الخروج إلى الفعل ، فيحتاج لا محالة قبل الخروج إلى محلّ ، وهو المادّة.

وعن الثاني : أنّ القبليّة والبعديّة تلحقان الزمان لذاته ، فلا يفتقر إلى زمان آخر (١).

وردّ الأوّل : بأنّ ذلك العرض حادث ، فيتوقّف على استعداد له ، ويعود البحث في التسلسل.

والثاني : بأنّ الأجزاء لو كانت متقدّمة بعضها على بعض لذاتها وتتأخّر كذلك ، كانت أجزاء الزمان مختلفة بالحقيقة ، فكان الزمان مركّبا من الآنات ، وهو عندكم

__________________

(١) راجع « نقد المحصّل » : ١٢٧ ـ ١٢٨.

١٧٩

باطل (١) فتأمّل.

والتحقيق أنّ المستفاد من العقل والنقل أنّ أفعال الله تعالى على أقسام :

منها : ما لا يكون مسبوقا بمادّة ولا مدّة ، وهو الإنشاء والاختراع ، كإيجاد العقل الأوّل عند الحكماء ، وإيجاد النور الأحمدي عند أهل الشرع (٢).

ومنها : ما يكون مسبوقا بمادّة دون المدّة وهو الإبداع ، كإيجاد الماء والأرض والسماء والعرش الكرسيّ عند المحقّقين من العلماء ؛ فإنّه مسبوق بمادّة ـ أعني الجوهر المخلوق من النور الأحمدي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وغير مسبوق بمدّة ؛ فإنّها عبارة عن الزمان ، والزمان منتزع عن حركة الفلك الأعظم عند الحكماء ، وهو المسمّى بالعرش عند أهل الشرع (٣).

ومنها : ما يكون مسبوقا بالمدة دون المادّة ، وهو المسمّى بالصنع ، كإيجاد النار والهواء.

ومنها : ما يكون مسبوقا بالمادّة والمدّة كلتيهما ، وهو المسمّى بالتكوين كإيجاد المواليد الثلاثة ، أعني الجمادات والنباتات والحيوانات.

ومنها : ما يكون مسبوقا بكمال المادّة ، وهو المسمّى بالتكليف المسبوق بكمال أمثال الإنسان بالعقل.

المسألة الأربعون : في أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، وأنّ القديم لا يجوز عليه العدم.

قال : ( والقديم لا يجوز عليه العدم ؛ لوجوبه بالذات أو لاستناده إليه ).

أقول : المراد أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ؛ لأنّه إمّا واجب لذاته ، فامتناع عدمه

__________________

(١) راجع « كشف المراد » : ٨٣.

(٢) « حكمة الإشراق » : ١٢٦ ؛ « مصباح الأنس » : ٦٩ ـ ٧٠ ؛ « شرح فصوص الحكم » للقيصري ٢ : ٤٥٥.

(٣) « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » ٢ : ١١٧١.

١٨٠