دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

ولو عمّم التبيّن للتبيّن الإجماليّ ـ وهو تحصيل الظنّ بصدق مخبره ـ دخل خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ، فيدخل الموثّق وشبهه ، بل الحسن أيضا.

وعلى ما ذكر فيثبت من آية النبأ ـ منطوقا ومفهوما ـ حجّيّة الأقسام الأربعة للخبر : الصحيح والحسن والموثّق والضعيف المحفوف بقرينة ظنّيّة.

ولكن فيه من الإشكال ما لا يخفى ؛ لأنّ التبيّن ظاهر في العلمي. كيف ولو كان المراد مجرّد الظنّ لكان الأمر به في خبر الفاسق لغوا ، إذ العاقل لا يعمل بخبر إلّا بعد رجحان صدقه

____________________________________

(ولو عمّم التبيّن للتبيّن الإجمالي ـ وهو تحصيل الظنّ بصدق مخبره ـ دخل خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ، فيدخل الموثق وشبهه ، بل الحسن أيضا) ، أي : لو كان المراد بالتبيّن مطلق تحصيل الظنّ بالصدق تفصيلا ، بأن يحصل الظنّ بصدق خبر الفاسق من الشهرة ، أو إجمالا بأن يحصل الظنّ بالصدق من جهة كون المخبر ثقة ، أو شبهه لدخل في منطوق الآية الخبر الموثّق وشبهه.

والأوّل : ما يكون راويه غير الإمامي المتحرّز عن الكذب.

والثاني : ما يكون الراوي فيه غير الإمامي المتحرّز عن الكذب ، الفاسق بجوارحه ، غير العادل في مذهبه ، أو الإمامي المتحرّز عن الكذب ، الفاسق بجوارحه ، أو خبر المرسل الذي لم يعلم وثاقة من سقط عن سلسلة السند.

(فيثبت من آية النبأ ـ منطوقا ومفهوما ـ حجّية الأقسام الأربعة).

ويستفاد اعتبار الخبر الصحيح من المفهوم ، ويستفاد اعتبار الثلاثة الباقية من المنطوق :

الأول : وهو الموثّق ، وهو خبر غير الإمامي المتحرّز عن الكذب.

والثاني : الحسن ، وهو خبر الإمامي الممدوح من دون تصريح بفسقه أو عدله.

والثالث : الضعيف ، وهو خبر الفاسق إذا كان محفوفا بقرينة ظنّية.

(ولكن فيه من الإشكال ما لا يخفى ؛ لأن التبيّن ظاهر في العلمي) ، أي : إنّ ما ذكر من الاستدلال على حجّية خبر الفاسق غير صحيح ؛ لأنه مبني على أن يكون المراد بالتبيّن ما يعم تحصيل الظنّ ، وهو خلاف ظاهر التبيّن ، إذ التبيّن ظاهر في التبيّن العلمي مع أنّ الأمر بالتبيّن بمعنى تحصيل الظنّ يكون لغوا ، إذ العاقل لا يعلم بخبر إلّا بعد تحصيل الظنّ بصدقه.

٦١

على كذبه ، إلّا أن يدفع اللغوية بما ذكرنا سابقا ، من أنّ المقصود التنبيه والارشاد على أنّ الفاسق لا ينبغي أن يعتمد عليه ، وأنّه لا يؤمن من كذبه وإن كان المظنون صدقه.

وكيف كان ، فمادّة التبيّن ولفظ الجهالة وظاهر التعليل كلّها آبية من إرادة مجرّد الظنّ.

نعم ، يمكن دعوى صدقه على الاطمئنان الخارج عن التحيّر والتزلزل بحيث لا يعدّ في العرف العمل به تعريضا للوقوع في الندم ، فحينئذ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به.

لكن لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالّا على حجّية الظنّ الاطمئنانيّ المذكور وإن لم يكن معه خبر فاسق ، نظرا إلى أنّ الظاهر من الآية أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه ، وأنّه لا بدّ من تبيّن الأمر من الخارج والعمل على ما يقتضيه التبيّن الخارجيّ.

نعم ، ربّما يكون نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها التبيّن ، فالمقصود

____________________________________

(وكيف كان) سواء كان جعل التبيّن بمعنى تحصيل الظنّ لغوا ، أو لم يكن (فمادة التبيّن ولفظ الجهالة وظاهر التعليل كلّها آبية من ارادة مجرّد الظنّ) لأن الأول ظاهر في تحصيل العلم ، والثاني ظاهر في عدم العلم ، والثالث ظاهر في وجوب تحصيل العلم في خبر الفاسق حتى يؤمن من الوقوع في الندم.

فلا يمكن حمل التبيّن على مجرّد الظنّ ؛ لأنه يكون من حمل اللفظ على خلاف ظاهره من دون قرينة.

(نعم ، يمكن دعوى صدقه على الاطمئنان الخارج عن التحيّر والتزلزل).

أي : يمكن أن يقال : إنّ المراد بالتبيّن ما يعمّ تحصيل الاطمئنان الموجب لزوال التحيّر والتزلزل بحيث لا يكون العمل به عرفا تعريضا للوقوع في الندم ، فيصدق التبيّن على الاطمئنان كما يصدق على العلم.

(فحينئذ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به) بمعنى أنّه لو حصل الاطمئنان من الخارج على صدق خبره لكان حجّة ، إلّا أنّه ليس حجّة من جهة كونه خبر الفاسق ، بل الحجّة هو الاطمئنان من أي طريق حصل وإن لم يكن معه خبر فاسق.

فيكون خبر الفاسق كالعدم ، لا يستفاد اعتباره من منطوق الآية ، بل المستفاد هو حجّية مرتبة خاصة من الظنّ وهو الاطمئنان ، فلا يدل منطوق الآية على حجّية خبر الفاسق.

(نعم ، ربّما يكون نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها التبيّن) ، وربّما

٦٢

الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع ، فكلّما حصل الأمن منه جاز العمل ، فلا فرق ـ حينئذ ـ بين خبر الفاسق المعتضد بالشهرة إذا حصل الاطمئنان بصدقه وبين الشهرة المجرّدة إذا حصل الاطمئنان بصدق مضمونها.

والحاصل أنّ الآية تدلّ على أنّ العمل يعتبر فيه التبيّن من دون مدخليّة لوجود خبر الفاسق وعدمه ، سواء قلنا بأنّ المراد منه العلم أو الاطمئنان أو مطلق الظنّ ، حتى أنّ من قال بأنّ خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ بمضمونه بحسن أو توثيق أو غيرهما من صفات الراوي فلازمه القول بدلالة الآية على حجّية مطلق الظنّ بالحكم الشرعي وإن لم يكن معه خبر أصلا ، فافهم واغتنم واستقم.

هذا ، ولكن لا يخفى أنّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ أو الاطمئنان يوجب خروج مورد المنطوق وهو الإخبار بالارتداد.

ومن جملة الآيات : قوله تعالى في سورة البراءة : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١) دلّت على وجوب الحذر

____________________________________

يحصل الاطمئنان من خبر الفاسق بعد ضم خبر الفاسق الآخر إليه ، فيحصل الاطمئنان الذي هو مناط الحكم بالحجّية من المجموع.

(ولكن لا يخفى أنّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ أو الاطمئنان يوجب خروج مورد المنطوق وهو الإخبار بالارتداد) فلو حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ أو الاطمئنان منه لخرج مورد المنطوق عنه ، وقد تقدّم أنّ خروج المورد عن الدليل قبيح.

وبيان ذلك : إنّ المورد يكون هو الإخبار بالارتداد ، ولا يكفى فيه الظنّ مطلقا أي : ولو كان اطمئنانيّا ، بل لا بدّ فيه من العلم أو البيّنة العادلة. هذا مضافا إلى أنّ تحصيل الظنّ يكون خلاف ظاهر التبيّن ، بل هو ظاهر في تحصيل العلم كما تقدّم مرارا.

(ومن جملة الآيات : قوله تعالى في سورة البراءة : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) والاستدلال بهذه الآية الشريفة يتوقف على امور :

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

٦٣

عند إنذار المنذرين من دون اعتبار إفادة خبرهم العلم لتواتر أو قرينة ، فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد.

أمّا وجوب الحذر ، فمن وجهين :

____________________________________

منها : أن يكون المراد من النّفر النّفر إلى طلب العلم وتعلّم الأحكام الشرعية لا النّفر إلى الجهاد.

ومنها : أن يكون المراد من الإنذار إنذار كل واحد من النافرين قومه ، لا إنذار مجموعهم ـ مجموع القوم ـ حتى يقال : إنّ إخبار المجموع للمجموع يفيد العلم فيخرج عن محلّ الكلام.

ومنها : أن يكون المراد من الحذر الحذر العملي لا مجرّد الخوف النفساني ، بمعنى : وجوب التحذّر والعمل على كل شخص عقيب إنذار كل منذر ، سواء حصل من قوله العلم أم لا ، فيثبت حجّية قول المنذر.

ومنها : أن يكون الحذر بالمعنى المذكور واجبا عند إنذار المنذر.

وتحقّق هذه الامور غير الأمر الأخير واضح.

أمّا الأمر الأول فقد صرّح به بعض المفسرين حيث قال : إنّ المراد بالنّفر : هو النّفر إلى طلب العلم لا النّفر إلى الجهاد ، مضافا إلى كون باقي الآية قرينة على كون النّفر هو النّفر إلى طلب تعلّم الأحكام الشرعية.

وأمّا الثاني : فلأن تقابل الجمع بالجمع ظاهر في التوزيع ، أي : تقسيم الأفراد على الأفراد ، فمثلا : إذا جاء أمر لألف رجل مسلم بقتل ألف رجل كافر كان معناه أنّ كل رجل مسلم يقتل كافرا واحدا ، فيكون معنى قوله تعالى : (لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ، أي : لينذر كل واحد من النافرين قومه كما هو مقتضى العادة ؛ لأنّ النّافرين للتّفقّه بعد تعلّم الأحكام لا يجتمعون عادة في محلّ واحد ليرشدوا الناس مجتمعين ، بل يذهب كل واحد منهم إلى ما يخصّه من المحل والوطن ثمّ يرشد من حوله من الناس.

وأمّا الأمر الثالث : فلأن ظاهر الحذر هو أخذ المأمن من الهلكة والعقوبة ، وهو العمل لا مجرّد الخوف النفساني ، فيكون المراد من الحذر العمل.

ولكن يبقى الكلام في الأمر الرابع : وهو إثبات وجوب الحذر ، وقد أشار إليه بقوله :

٦٤

أحدهما : إنّ لفظة «لعلّ» بعد انسلاخها عن معنى الترجّي ظاهرة في كون مدخولها محبوبا للمتكلّم ، وإذا تحقّق حسن الحذر ثبت وجوبه إمّا لما ذكره في «المعالم» من أنّه لا معنى لندب الحذر ، إذ مع قيام المقتضي يجب ، ومع عدمه لا يحسن ، وإمّا لأن رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالإجماع المركّب ، لأن كلّ من أجازه فقد أوجبه.

____________________________________

(أمّا وجوب الحذر ، فمن وجهين : أحدهما : إنّ لفظة «لعلّ» بعد انسلاخها عن معنى الترجّي ظاهرة في كون مدخولها محبوبا للمتكلم ... إلى آخره) ، أي : إن إثبات وجوب الحذر يتم بأحد وجهين :

الوجه الأول : من جهة كلمة «لعلّ».

والثاني : من جهة كونه غاية للواجب ، وغاية الواجب واجبة كما سيجيء في كلام المصنف رحمه‌الله.

وتقريب الوجه الأول : هو أنّ لفظة «لعلّ» قد انسلخت عن معنى الترجّي ، إذ لا يعقل ذلك في حقه تعالى ، واستعملت في الطلب ، فتكون ظاهرة في كون مدخول «لعلّ» محبوبا ومطلوبا للمتكلم ، ومن هنا يمكن الاستدلال لإثبات وجوب الحذر بالقياس الاستثنائي ، والقياس الاستثنائي في المقام ينتج وضع المقدّم وثبوته ثبوت التالي.

وبيان ذلك : إنّه إذا ثبت حسن الحذر لكان واجبا. وبتعبير آخر : لثبت وجوبه ، والعمدة في القياس الاستثنائي هو إثبات الملازمة بين المقدّم والتالي فيمكن إثباتها بوجوه :

الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : (إمّا لما ذكره في «المعالم» من أنّه لا معنى لندب الحذر) بعد كونه مطلوبا ومحبوبا للمتكلم (إذ مع قيام المقتضي يجب ، ومع عدمه لا يحسن) وحينئذ إذا كان الحذر حسنا كان واجبا.

الوجه الثاني : إنّه قد تقدّم أنّ المراد بالحذر هو العمل بخبر الواحد فإذا صار العمل بخبر الواحد راجحا بمقتضى كونه مدخول «لعلّ» صار واجبا بالإجماع المركّب ، إذ كلّ من يقول بعدم حجّية خبر الواحد يقول بعدم جواز العمل به ، أمّا إذا جاز العمل به لكان واجبا وقد ثبت جواز العمل به فيثبت أنّه واجب ، والعمل هو نفس الحذر فيكون واجبا.

والوجه الثالث : إنّه إذا ثبت حسن الحذر بمقتضى كونه مدخولا ل «لعلّ» الذي انسلخ عن معنى الترجي لكان مطلوبا ، ثمّ الطلب ينصرف إلى الوجوب ، فيكون الحذر واجبا من جهة

٦٥

الثاني : إنّ ظاهر الآية وجوب الإنذار لوقوعه غاية للنّفر الواجب بمقتضى كلمة «لو لا» ، فإذا وجب الإنذار أفاد وجوب الحذر لوجهين :

أحدهما : وقوعه غاية للواجب ، فإنّ الغاية المترتّبة على فعل الواجب ممّا لا يرضى الآمر بانتفائه ، سواء كان من الأفعال المتعلّقة للتكليف أم لا ، كما في قولك : «تب لعلّك تفلح وأسلم لعلّك تدخل الجنّة» ، وقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(١).

الثاني : إنّه إذا وجب الانذار ثبت وجوب القبول وإلّا لغى الانذار.

____________________________________

انصراف الطلب إلى الوجوب ، وحينئذ إذا كان الحذر حسنا ومطلوبا لكان واجبا ، فقد ثبتت الملازمة بهذه الوجوه ، فينتج ثبوت المقدّم وهو حسن الحذر ثبوت التالي وهو وجوبه.

(الثاني : إنّ ظاهر الآية وجوب الإنذار لوقوعه غاية للنّفر الواجب بمقتضى كلمة «لو لا»).

والوجه الثاني على وجوب الحذر : إنّه يجب لو كان الإنذار واجبا فلا بدّ :

أولا : من إثبات وجوب الإنذار.

وثانيا : من بيان كيفية ترتّب وجوب الحذر عليه.

وأمّا وجوب الإنذار فلوقوعه غاية للنّفر الواجب بمقتضى كلمة «لو لا» التحضيضية الظاهرة في الإلزام والوجوب وغاية الواجب واجبة ، هذا أولا.

وثانيا : إنّ الأمر المتعلّق بالإنذار في قوله تعالى : (لِيُنْذِرُوا) ظاهر في الوجوب ، هذا وقد ثبت وجوب الإنذار بأحد الوجهين.

وأمّا كيفية ترتّب وجوب الحذر على وجوب الإنذار فلأحد وجهين ، كما أشار إليه بقوله : (لوجهين :).

الأول : إنّ الحذر قد جعل غاية للإنذار الواجب ، وغاية الواجب واجبة ، فيكون الحذر واجبا ، أمّا كونه غاية للواجب ، فمستفاد من كلمة «لعلّ» لأنها ظاهرة دائما في أنّ ما بعدها علّة غائية لما قبلها.

والثاني : إنّه إذا وجب الإنذار وجب الحذر بمعنى القبول والعمل بخبر المنذر ، وإلّا لزم

__________________

(١) طه : ٤٤.

٦٦

ونظير ذلك ما تمسّك به في «المسالك» على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها في العدّة ، من قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(١) فاستدلّ بتحريم الكتمان ووجوب الإظهار عليهنّ على قبول قولهنّ بالنسبة إلى ما في الأرحام.

فإن قلت : المراد بالنّفر النّفر إلى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية ، وهو قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)(٢) ومن المعلوم أنّ النفر إلى الجهاد ليس للتفقّه والإنذار.

نعم ، ربّما يترتّبان عليه ، بناء على ما قيل : من أنّ المراد حصول البصيرة في الدين من مشاهدة آيات الله وظهور أوليائه على أعداءه ، وسائر ما يتفق في حرب المسلمين مع الكفار من آيات عظمة الله وحكمته ، فيخبروا بذلك عند رجوعهم إلى الفرقة المتخلّفة الباقية في المدينة ، فالتفقّه والإنذار من قبيل الفائدة لا الغاية حتى تجب بوجوب ذيها.

____________________________________

أن يكون وجوب الإنذار لغوا كما لا يخفى.

(ونظير ذلك ما تمسّك به في «المسالك» على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها في العدّة من قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)) حيث يجب على النساء إظهار ما في الأرحام من الحمل بمقتضى الآية الدّالة على حرمة الكتمان ، وحينئذ يجب قبول قولهن وتصديقهن ، وإلّا لزم أن يكون الإظهار لغوا.

نعم ، غاية الواجب ليست واجبة إذا لم تكن من الأفعال المتعلّقة للتكليف ، كما في قول القائل : تب لعلك تفلح ، وأسلم لعلّك تدخل الجنة ، فإنّ الفلاحة ودخول الجنة في المثال المذكور ، والتذكر والخشية في الآية المذكورة لم تكن متعلّقة للتكليف ، بل هي من الآثار العقلية المرتّبة على التوبة والإسلام وغيرهما.

(فإن قلت : المراد بالنّفر النّفر إلى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية ، وهو قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)).

وحاصل الإشكال : إنّ المراد بالنّفر النّفر إلى الجهاد بقرينة صدر الآية ، حيث يكون المراد من النّفر فيه هو النّفر إلى الجهاد ، وحينئذ لا يكون الإنذار والتّفقّه غاية للنّفر حتى يجب من باب غاية الواجب واجبة ، ثمّ يجب القبول حتى لا يكون وجوب الإنذار لغوا ، بل

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) التوبة : ١٢٢.

٦٧

قلت : أوّلا : إنّه ليس في صدر الآية دلالة على أنّ المراد النفر إلى الجهاد ، وذكر الآية في آيات الجهاد لا يدلّ على ذلك.

وثانيا : لو سلّم أنّ المراد النّفر إلى الجهاد ، لكن لا يتعيّن أن يكون النّفر من كلّ قوم طائفة لأجل مجرّد الجهاد ، بل لو كان لمحض الجهاد لم يتعيّن أن ينفر من كلّ قوم طائفة ، فيمكن أن

____________________________________

الغاية هي الجهاد ، فلا ترتبط الآية بالمقام أصلا.

نعم ، قد يترتّب التّفقّه والإنذار على النفر ، فهما ـ حينئذ ـ من قبيل الفوائد غير المقصودة بالذات ، وليسا من قبيل الغاية حتى يجبا بوجوب ذي الغاية ، فلا يكون الإنذار واجبا ليكون القبول والعمل واجبا ، وحينئذ لا ربط للآية بحجّية خبر الواحد أصلا.

(قلت : أوّلا : إنّه ليس في صدر الآية دلالة على أنّ المراد النفر إلى الجهاد). وقد اجاب المصنّف رحمه‌الله عن الإشكال المذكور بوجوه ، حيث قال :

أولا : ليس في صدر الآية دلالة على أنّ المراد بالنفر هو النفر إلى الجهاد ، بل يمكن أن يكون الأمر بالعكس ، أي : إنّ النفر الثاني وهو (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا)(١) الآية ، يكون قرينة على أنّ المراد بالنفر في صدر الآية هو النفر إلى التفقه ، لا إلى الجهاد ، إذ المراد من النفر الثاني هو النفر إلى التفقه جزما.

قوله : (وذكر الآية في آيات الجهاد لا يدل على ذلك) دفع لما يتوهّم من أنّ ذكر الآية في ضمن آيات الجهاد يدلّ على أنّ المراد بالنفر هو النفر إلى الجهاد ، ودفع هذا التوهّم بما ذكر في المتن من أنّ ذكر الآية في ضمن آيات الجهاد لا يدلّ على كون المراد من النفر هو النفر إلى الجهاد فقط ، إذ نظيره كثير في الكتاب العزيز ، ومنه آية التطهير الواردة في شأن أهل البيت عليهم‌السلام ، مع إنّها وقعت في سياق الآيات الواردة في شأن أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(وثانيا : لو سلّم أنّ المراد النّفر إلى الجهاد ، لكن لا يتعيّن أن يكون النّفر من كل قوم طائفة لأجل مجرّد الجهاد).

ولو سلّم أنّ أصل النفر كان لأجل الجهاد ، ولكن النفر بخصوصية أن يكون من كل فرقة وقوم طائفة كان لأجل التفقّه ، وتعلّم الأحكام الشرعية ؛ وذلك لأن الغرض من الجهاد هو

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

٦٨

يكون التّفقّه غاية لإيجاب النّفر على كلّ طائفة من كلّ قوم ، لا لإيجاب أصل النّفر.

وثالثا : إنّه قد فسّر الآية بأنّ المراد نهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد ، كما يظهر من قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)(١) وأمر بعضهم بأن يتخلّفوا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يخلّوه وحده ، فيتعلّموا مسائل حلالهم وحرامهم حتى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم.

____________________________________

الدفع وقمع الأعداء وهذا الغرض لا يتوقف على نفر طائفة من كل فرقة وقبيلة ، بل يحصل بنفر عدة من المسلمين ممّن تمكّنوا من قمع الأعداء ، سواء كانوا من فرقة واحدة أو من فرق مختلفة ، أو من كل فرقة طائفة. بخلاف النفر لأجل التفقّه ، وتعلّم الأحكام الشرعية ، حيث يكون الغرض منه إنذار كل واحد من النافرين قومه ، فيتناسب فيه أن ينفر من كل فرقة طائفة لينذروا قومهم بعد رجوعهم إليهم.

ثمّ إنّ الآية مشتملة على النفرين ، أي : النفر إلى الجهاد وهو أصل النفر ، والنفر إلى تعلّم الأحكام وهو النفر من كل فرقة طائفة ، إذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يذهب غالبا مع المجاهدين إلى الجهاد ، فكان أصل النفر معه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل الجهاد ، وكان نفر طائفة من كل قوم وفرقة لأجل التفقّه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فى الجهاد ، فحينئذ يكون الإنذار غاية للنفر كالجهاد ، فيكون الإنذار واجبا ، وتقدّم أنّ الحذر وهو العمل بقول المنذر ـ ايضا ـ واجب سواء حصل منه العلم أم لا ، وهو المطلوب.

(وثالثا : إنّه قد فسّر الآية بأنّ المراد نهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد ، كما يظهر من قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) وأمر بعضهم بأن يتخلّفوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وحاصل هذا الجواب يرجع إلى عكس الجواب الثاني ، إذ الواجب على المتعلّم في هذا الجواب هو البقاء عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لا يجب على المؤمنين أن يذهبوا إلى الجهاد جميعا ، بل أمر بعضهم بأن ينفر إلى الجهاد ، وبعضهم بأن يتخلّف عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتفقّه المتخلفون ويتعلّموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسائل الحلال والحرام ، لينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم.

وهذا يكون مبنيا على أن تكون الآية الشريفة في مقام بيان حال النافرين والمتخلفين

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

٦٩

والحاصل إنّ ظهور الآية في وجوب التّفقّه والإنذار ممّا لا ينكر ، فلا محيص عن حمل الآية عليه ، وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية أو بعض ألفاظها.

وممّا يدلّ على ظهور الآية في وجوب التّفقّه والإنذار استشهاد الإمام بها على وجوبه في أخبار كثيرة.

____________________________________

جميعا ، وأن يكون المراد من ضمير الجمع في قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا) و (لِيُنْذِرُوا) الفرقة المتخلّفة ، وأن يكون المراد بالقوم : النافرين ، وأن يكون المراد من ضمير الجمع في (لَعَلَّهُمْ) و (يَحْذَرُونَ) النافرين ، وأن يكون الغرض من هذه الآية بيان وجوب امور :

الأول : الجهاد على النافرين.

والثاني : التعلّم على المتخلفين.

والثالث : تعليمهم النافرين.

(والحاصل : إنّ ظهور الآية في وجوب التّفقّه والإنذار ممّا لا ينكر ، فلا محيص عن حمل الآية عليه ، وإن لزم مخالفة في سياق الآية أو بعض ألفاظها) إنّ ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار يكون واضحا ، وغير قابل للإنكار خصوصا على الاحتمال الأول ، وإن كان يلزم مخالفة الظاهر في سياق الآية على هذا الاحتمال ، إذ مقتضى السياق هو كون النفر لأجل الجهاد ؛ لوقوع هذه الآية بين آيات الجهاد ، أي : صدر الآية ظاهرا في النفر إلى الجهاد ، فيكون ظهور (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) في وجوب التفقّه والإنذار مخالفا للسياق. أو يلزم مخالفة الظاهر في بعض ألفاظ الآية كما في الاحتمال الثالث ؛ إذ ظاهر النفر الثاني هو النفر إلى التفقّه فقط ، كما يظهر من قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا) فحمله على النفر لأجل الجهاد والتفقّه معا على خلاف الظاهر.

وفي الاحتمال الرابع يكون ظاهر قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا) و (لِيُنْذِرُوا) في النافرين ، وحملهما على المتخلّفين على خلاف الظاهر ؛ لأن هذا الحمل يحتاج إلى تقدير جملة ؛ وهي : لتبقى طائفة عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتفقهوا ، ومن المعلوم أنّ التقدير يكون على خلاف الظاهر.

(وممّا يدل على ظهور الآية في وجوب التّفقّه والإنذار استشهاد الإمام بها ... إلى آخره) إذ قد استشهد الإمام عليه‌السلام بآية النفر على وجوب التفقّه في أخبار كثيرة ، يذكر المصنّف قدس‌سره

٧٠

منها : ما عن الفضل بن شاذان في علله (١) عن الرضا عليه‌السلام ، في حديث ، قال : (إنّما امروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله وطلب الزيادة والخروج عن كلّ ما اقترف العبد ـ إلى أن قال ـ ولأجل ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، إلى كلّ صفح وناحية كما قال الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)(٢) الآية.

ومنها : ما ذكره في ديباجة «المعالم» (٣) ، من رواية عليّ بن حمزة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : (تفقّهوا في الدّين ، فإنّ من لم يتفقّه منكم في الدّين فهو أعرابي ، إنّ الله عزوجل يقول : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٤)).

ومنها : ما رواه في الكافي في باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام عليه‌السلام ، عن صحيحة

____________________________________

بعض هذه الأخبار ، والمستفاد من استشهاد الإمام عليه‌السلام بها على وجوب التفقه هو أنّ المراد بالنفر هو النفر إلى طلب العلم ، والتفقّه لا إلى الجهاد.

(منها : ما عن الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه‌السلام ، في حديث قال : إنّما امروا بالحجّ لعلّة الوفادة) أي : الورود إلى الله (والخروج عن كلّ ما اقترف العبد) أي : عن كل ما ارتكب العبد من المعاصي والذنوب.

(إلى أن قال : ولأجل ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الائمة عليهم‌السلام ، إلى كل صفح وناحية) أي : كل منطقة ومكان ، فإنّ الحجّاج في ذلك الزمان كانوا يسألون الأئمة عن مختلف المسائل ، ثمّ استشهد الإمام عليه‌السلام على وجوب التفقه الذي يكون غاية من غايات الحجّ بآية النفر ، حيث قال عليه‌السلام : كما قال الله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) الآية.

(ومنها : ما ذكره في ديباجة «المعالم» من رواية علي بن حمزة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : (تفقّهوا في الدّين ، فإنّ من لم يتفقّه منكم في الدّين ، فهو أعرابي) ، أي : جاهل ، ثمّ استشهد بالآية ، حيث قال : (إنّ الله عزوجل يقول : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٣١٧ / ٩. عيون أخبار الرّضا عليه‌السلام ٢ : ١١٩ / ١ ، باختلاف يسير فيهما. الوسائل ٢٧ : ٩٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٨ ، ح ٦٥.

(٢) التوبة : ١٢٢.

(٣) معالم الدين ٣٢ ، والكافي ١ : ٣١ / ٦ ، باختلاف يسير فيهما.

(٤) التوبة : ١٢٢.

٧١

يعقوب بن شعيب ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال : (أين قول الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ ...)(١)) ، ثمّ قال : هم في عذر ما داموا في الطلب ، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم) (٢).

ومنها : صحيحة عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن قول العامّة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : (من مات وليس له إمام ، مات ميتة جاهليّة) ، قال : (حقّ والله) ، قلت : فإن إماما هلك ، ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه ، لم يسعه ذلك؟ قال : (لا يسعه ، إنّ الإمام إذا مات وقعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد ، وحقّ النّفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم ، أنّ الله عزوجل يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)(٣) الآية) (٤).

____________________________________

رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)).

(ومنها : ما رواه في الكافي في باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام عليه‌السلام).

والملخّص : إنّه قد سأل الإمام عليه‌السلام عن وظيفة الناس عند موت الإمام عليه‌السلام ، فأجاب الإمام عليه‌السلام بقوله : (أين قول الله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ)) الآية. ثمّ قال : (هم في عذر ما داموا في الطلب) ، أي : هم معذورون في عدم معرفة إمامهم ما داموا في الطلب ، ومن ينتظرهم ـ أيضا ـ يكون معذورا ، حتى يرجع إليهم أصحابهم ، وهم النافرون.

(ومنها : صحيحة عبد الأعلى قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن قول العامة) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال : ((من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية)) ، قال : (حقّ والله) قلت : فإن إماما هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك؟ قال : (لا يسعه)) يعني : لا يسعه إهمال معرفة الإمام عليه‌السلام ، فلم يكن معذورا إلّا بقدر مسيره إلى من يعرف وصي الإمام عليه‌السلام.

إلى أن قال : (وحقّ النّفر) أي : ثبت النّفر على من ليس بحضرته ، ثمّ استشهد بقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) الآية ، فهذا الاستشهاد يدل على وجوب النفر

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) الكافي ١ : ٣٧٨ / ١.

(٣) التوبة : ١٢٢.

(٤) الكافي ١ : ٣٧٨ / ٢ ، وفيه : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول العامّة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (من مات ... إلى آخره) ، وكذلك : (إذا هلك) مكان (إذا مات).

٧٢

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وفيها : قلت : افيسع الناس إذا مات العالم ألّا يعرفوا الذي بعده؟ فقال : (أمّا أهل هذه البلدة فلا ـ يعني أهل المدينة ـ وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم ، إنّ الله عزوجل يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)(١)) (٢).

ومنها : صحيحة البزنطيّ (٣) المرويّة في قرب الاسناد (٤) عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام.

ومنها : رواية عبد المؤمن الأنصاريّ الواردة في جواب من سأل عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (اختلاف أمتي رحمة) ، قال : إذا كان اختلافهم رحمة فاتفاقهم عذاب!

(ليس هذا يراد ، إنّما يراد الاختلاف في طلب العلم ، على ما قال الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)(٥)) (٦).

الحديث منقول بالمعنى ، ولا يحضرني ألفاظه ، وجميع هذا هو السرّ في استدلال أصحابنا بالآية الشريفة على وجوب تحصيل العلم وكونه كفائيا ، هذا غاية ما قيل أو يقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة ، لكنّ الانصاف عدم جواز الاستدلال بها من وجوه :

____________________________________

للتّفقّه والإنذار.

(ومنها : صحيحة البزنطيّ) ولم ينقل المصنّف رحمه‌الله مضمون هذه الصحيحة ؛ لأنه مطابق لما ذكره بعدها ، وهو رواية عبد المؤمن الأنصاري الواردة في جواب من سأل عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (اختلاف امّتي رحمة) ، قال : إذا كان اختلافهم رحمة فاتفاقهم عذاب ، فقال الإمام عليه‌السلام في الجواب : (ليس هذا) ، أي : الذي تصورته يراد ، وإنّما يراد اختلافهم في البلدان لطلب العلم ، لا الاختلاف في الدين ؛ لأنه واحد ، ثمّ استشهد بقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ).

(لكنّ الانصاف عدم جواز الاستدلال بها من وجوه : الأول : إنّه لا يستفاد من الكلام

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) الكافي ١ : ٣٨٠ / ٣ ، وفيه : (يعني المدينة) مكان (يعني أهل المدينة) ، وعلل الشرائع ٢ : ٣١٥ / ٤٠.

(٣) هو محمّد بن أبي نصر.

(٤) قرب الإسناد : ٣٥٠ / ١٢٦٠.

(٥) التوبة : ١٢٢.

(٦) معاني الأخبار : ١٥٧ / ١. الوسائل ٢٧ : ١٤١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ١٠ ، وقد نقله بالمعنى.

٧٣

الأوّل : أنّه لا يستفاد من الكلام إلّا مطلوبيّة الحذر عقيب الإنذار بما يتفقّهون في الجملة ، لكن ليس فيها إطلاق وجوب الحذر ، بل يمكن أن يتوقف وجوبه على حصول العلم ، فالمعنى : لعلّه يحصل لهم العلم فيحذروا. فالآية مسوقة لبيان مطلوبيّة الإنذار بما يتفقّهون ، ومطلوبيّة العمل من المنذرين بما انذروا ، وهذا لا ينافي اعتبار العلم في العمل ، ولهذا صحّ ذلك فيما يطلب من العلم ، فليس في هذه الآية تخصيص للأدلة الناهية عن العمل بما لم يعلم ؛ ولذا استشهد الإمام ـ فيما سمعت من الأخبار المتقدّمة ـ على وجوب النفر في معرفة الإمام عليه‌السلام ، وإنذار النافرين للمتخلّفين ، مع أنّ الإمامة لا تثبت إلّا بالعلم.

____________________________________

إلّا مطلوبيّة الحذر عقيب الإنذار بما يتفقّهون في الجملة ... إلى آخره).

وقد بيّن المصنّف رحمه‌الله عدم جواز الاستدلال بالآية من وجوه ، ولم يتعرّض للجواب عنها ، وكان الاولى له أن يذكر الجواب عنها ؛ لأن دلالة هذه الآية على حجّية الخبر تكون أظهر وأتمّ من دلالة آية النبأ عليها. وحينئذ نذكر الجواب عن كل واحد منها بعد تقريبه.

أمّا تقريب الوجه الأول ، فحاصله أنّ الاستدلال بالآية يتوقف على أن يكون المستفاد منها وجوب الحذر عقيب الإنذار مطلقا ، سواء كان الإنذار مفيدا للعلم أم لا ، ولا يستفاد منها وجوب الحذر مطلقا ، بل تدل على مطلوبية الحذر في الجملة ، فيمكن أن تكون مختصة بصورة حصول العلم فقط ، وبذلك تكون الآية أجنبية عن المقام ، إذ أنّها مسوقة لبيان مطلوبية الإنذار بما يتفقّهون ، وكذا مطلوبية عمل المنذرين بما أنذروا.

(وهذا لا ينافي اعتبار العلم في العمل) ، أي : كون الآية لبيان مطلوبية الإنذار والحذر في الجملة لا ينافي اشتراط العلم في العمل بقول المنذرين ، ولهذا صحّ التمسّك بالآية فيما يعسر فيه العلم ، كمعرفة الإمام عليه‌السلام في الأخبار المتقدمة ، ثمّ إنّ الآية ليست مخصّصة للآيات الناهية ، إذ لم تكن مخالفة لها ، إذ مفادها هو العمل بالعلم ، والآيات الناهية تمنع عن العمل بغير العلم ، فلا تنافي بينهما أصلا ، حتى تحمل الآيات الناهية عليها من باب حمل العام على الخاص ، وجعل الخاص مخصّصا للعام.

(ولذا استشهد الإمام ـ فيما سمعت من الأخبار المتقدّمة ـ على وجوب النّفر في معرفة الإمام عليه‌السلام) لكون مفاد آية النّفر هو العمل بالعلم ، استشهد الإمام عليه‌السلام بها على وجوب النّفر لمعرفة الإمام عليه‌السلام ، ووجوب قبول المتخلّفين قول النافرين في مسألة الإمامة ، مع أنّ الإمامة

٧٤

الثاني : إنّ التّفقّه الواجب ليس إلّا معرفة الامور الواقعيّة من الدين ، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الامور المتفقّه فيها ، فالحذر لا يجب إلّا عقيب الإنذار بها ، فإذا لم يعرف المنذر ـ بالفتح ـ أنّ الإنذار هل وقع بالامور الدينيّة الواقعيّة أو بغيرها خطأ أو تعمّدا من المنذر ـ بالكسر ـ لم يجب الحذر حينئذ ، فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة. فهو نظير قول القائل : أخبر فلانا بأوامري لعلّه يمتثلها.

____________________________________

لا تثبت إلّا بالعلم. فالمتحصّل هو أنّ الآية لا ترتبط بما نحن فيه.

والجواب عن هذا الإشكال يظهر ممّا ذكرنا فى تقريب الآية على حجّية خبر الواحد ، من أنّ تقابل الجمع بالجمع ظاهر في الاستغراق ، وتقسيم الأفراد على الأفراد ، فيفيد وجوب الحذر عقيب إنذار كلّ منذر مطلقا ، سواء كان مفيدا للعلم أم لا ، كما هو مقتضى إطلاق الآية ، فلا فرق بين هذا المطلق وسائر المطلقات فى جواز التمسّك بالإطلاق ما لم يوجد هناك مقيّد.

وأمّا استشهاد الإمام عليه‌السلام بها على وجوب النّفر لمعرفة الإمام عليه‌السلام فلا يضر بإطلاقها ، إذ مقتضى الاطلاق هو حجّية مطلق الخبر ، ولكن دل الدليل من الخارج على اعتبار العلم في العقائد واصول الدين ، وهو لا يمنع من التمسّك بإطلاقها على حجّية الخبر ، وإن لم يكن مفيدا للعلم فيما لم يثبت فيه اعتبار العلم من الخارج كالفروع مثلا.

(الثاني : إنّ التّفقّه الواجب ليس إلّا معرفة الامور الواقعية من الدين).

وملخّص تقريب هذا الوجه من الإشكال : أنّ المراد من التّفقّه إنّما هو التفقّه في الأحكام الواقعية التابعة للمصالح والمفاسد الواقعيين ، كما أنّه ليس المراد من الإنذار إلّا الإنذار في الامور الواقعية ، وبمقتضى جعل الحذر غاية لهما لا بدّ أن يكون المراد منه العمل بما تفقّه في الدين من الأحكام الواقعية.

فيجب على المنذر ـ بالفتح ـ أن يعلم بأنّ المنذر ـ بالكسر ـ قد أنذره بالأحكام الواقعية ، فيختص وجوب الحذر بما أحرز وعلم أنّه مطابق للواقع ، فلا ترتبط الآية بالمقام أصلا ، ولا يجوز التمسّك بها على حجّية الخبر غير المفيد للعلم بالواقع.

(فهو نظير قول القائل : أخبر فلانا بأوامري لعلّه يمتثلها) فلو عمل بإنذار المنذر ، ولم يعلم أنّه إنذار بالأحكام الواقعية ، لم يصدق على هذا العمل بأنّه عمل وامتثال للأحكام

٧٥

فهذه الآية نظير ما ورد من الأمر بنقل الروايات ، فإنّ المقصود من هذا الكلام ليس إلّا وجوب العمل بالامور الواقعيّة ، لا وجوب تصديقه فيما يحكي ، ولو لم يعلم مطابقته للواقع. ولا يعدّ هذا ضابطا لوجوب العمل بالخبر الظنّي الصادر من المخاطب في الأمر الكذائيّ.

ونظيره جميع ما ورد من بيان الحقّ للناس ووجوب تبليغه إليهم ، فإنّ المقصود منه اهتداء الناس إلى الحقّ الواقعي ، لا إنشاء حكم ظاهريّ لهم بقبول كل ما يخبرون به وإن لم يعلم مطابقته للواقع.

____________________________________

الواقعية ، كما لا يصدق امتثال أوامر القائل في المثال المذكور ما لم يحرز ويعلم أنّ ما امتثل يكون من أوامره.

فلا بدّ لمن يتوجه إليه الأمر من إحراز الأوامر أولا ثمّ الإتيان بها ، حتى يصدق أنّه امتثل أوامره.

(فهذه الآية نظير ما ورد من الأمر بنقل الروايات ، فإنّ المقصود من هذا الكلام ... إلى آخره) ، أي : أمر الأئمة عليهم‌السلام بنقل الأخبار ليس إلّا بيان الواقعيات ، وإيصالها إلى المسلمين ، ثمّ عملهم بالأحكام الواقعية (لا وجوب تصديقه فيما يحكي) ، إذ ليس المقصود تصديق المخبر بما ينقل وإن لم يكن مفيدا للعلم ، ليكون المراد جعل الحجّية وإيجاب العمل بخبر الواحد تعبّدا ، حتى يكون دليلا على محلّ الكلام.

(ولا يعدّ هذا ضابطا لوجوب العمل بالخبر الظنّي الصادر من المخاطب في الأمر الكذائيّ).

هذا الكلام من المصنّف رحمه‌الله يرجع إلى قول القائل : أخبر فلانا بأوامري ، فيكون المعنى ولا يعدّ هذا ـ أي : تصديق المخبر المخاطب المأمور للقائل حينما يخبر عن أوامر القائل ـ ضابطا لوجوب العمل في الخبر الظنّي ، إذ المناط في وجوب العمل هو العمل به تعبّدا. ولا يحكم العقل ولا العرف بهذا المناط في قبول خبر المخاطب ، بل المناط فيه هو العمل بأوامر القائل ، فلا بدّ أولا من إحرازها ثمّ امتثالها.

(ونظيره جميع ما ورد من بيان الحقّ للناس ووجوب تبليغه إليهم ، فإنّ المقصود منه اهتداء الناس إلى الحقّ الواقعي ، لا إنشاء حكم ظاهري لهم).

ونظير بيان المخاطب أوامر القائل ما ورد في بيان الحق بما هو الحق على الناس ، إذ

٧٦

ثمّ الفرق بين هذا الإيراد وسابقه : إنّ هذا الإيراد مبنيّ على أنّ الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلم بالحذر ـ عن الامور الواقعية ـ المستلزم لعدم وجوبه ، إلّا بعد إحراز كون الإنذار متعلقا بالحكم الواقعي. وأمّا الإيراد السابق فهو مبنيّ على سكوت الآية عن التعرّض لكون الحذر واجبا على الإطلاق ، أو بشرط حصول العلم.

الثالث : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا عند إنذار المنذر ولو لم يفد العلم ، لكن لا تدلّ على وجوب العمل بالخبر من حيث إنّه خبر ، لأنّ الإنذار هو الإبلاغ مع

____________________________________

المقصود منه اهتداؤهم إلى الواقع وما هو الحق فيه ، لا إنشاء حجّية خبر المخبر لهم ليكون المقصود ممّا ورد إنشاء حكم ظاهري لهم ، لا بيان الحق الواقعي.

(ثمّ الفرق بين هذا الإيراد وسابقه).

وحاصل الفرق بين الإيرادين : هو أنّ الإيراد السابق كان مبنيا على إجمال الآية ، وسكوتها عن التعرض لوجوب الحذر مطلقا بحيث لا ينافي حملها على وجوبه في صورة حصول العلم.

فلهذا يمكن حملها على وجوب الحذر عند حصول العلم من باب الأخذ بالقدر المتيقّن ، بخلاف الإيراد الثاني حيث يكون مبنيا على كون الآية ناطقة وظاهرة باختصاص مدلولها في وجوب الحذر عند حصول العلم بالصدق ؛ لأن الحذر عن الامور الواقعية يتوقف على العلم بها ، فلا يجب إلّا بعد إحرازها والعلم بها.

وبالجملة ، إنّ الآية مهملة في الأول ، وناطقة باختصاص وجوب الحذر عند العلم بالصدق في الثاني.

والجواب عن هذا الإيراد : إنّ الواجب ليس التفقّه بالأحكام الواقعية ، إذ لا يعلمها إلّا الله سبحانه والراسخون في العلم ، وهم الأئمة عليهم‌السلام ، ولهذا قد وقع الاختلاف بين الفقهاء في الفتاوى ، فالواجب هو التفقّه بالأحكام وتحصيلها بالطرق المتعارفة التي تشمل أخبار الآحاد.

ثمّ يجب الإنذار بها كذلك ، ويجب الحذر والعمل بها عند إنذار المنذرين مطلقا ، إذ لا يجب تحصيل العلم بكون الأحكام واقعية ، فالنتيجة هي حجّية قول المنذر مطلقا ، وهو المطلوب في المقام.

(الثالث : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا عند إنذار المنذر ولو لم يفد

٧٧

التخويف ، فإنشاء التخويف مأخوذ فيه ، والحذر هو التخوّف الحاصل عقيب هذا التخويف ، الداعي إلى العمل بمقتضاه فعلا.

ومن المعلوم أنّ التخويف لا يجب إلّا على الوعّاظ في مقام الإيعاد على الامور التي يعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب والحرمة ، كما يوعد على شرب الخمر وفعل الزنا وترك الصلاة ، أو على المرشدين في مقام إرشاد الجهّال. فالتخوّف لا يجب إلّا على المتّعظ والمسترشد ، ومن المعلوم أنّ تصديق الحاكي فيما يحكيه من لفظ الخبر الذي هو محلّ الكلام خارج عن الأمرين.

توضيح ذلك : أنّ المنذر إمّا أن ينذر ويخوّف على وجه الإفتاء ونقل ما هو مدلول الخبر باجتهاده ، وإمّا أن ينذر ويخوّف بلفظ الخبر حاكيا له عن الحجّة.

فالأوّل : كأن يقول : يا أيّها الناس! اتّقوا الله في شرب العصير ، فإنّ شربه يوجب المؤاخذة.

والثاني : كأن يقول في مقام التخويف : قال الإمام عليه‌السلام : من شرب العصير فكأنما شرب الخمر.

أمّا الإنذار على الوجه الأوّل ، فلا يجب الحذر عقيبه إلّا على المقلّدين لهذا المفتي ، وأمّا الثاني فله جهتان : إحداهما جهة تخويف وإيعاد ، والثانية جهة حكاية قول الإمام عليه‌السلام.

ومن المعلوم أنّ الجهة الاولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى الحكاية ، فهي ليست حجّة إلّا على من هو مقلّد له ، إذ هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه.

____________________________________

العلم ، لكن لا تدلّ على وجوب العمل بالخبر من حيث إنه خبر ... إلى آخره) ومعنى الإيراد الثالث أنّ الآية لا تدل على حجّية الخبر بما هو خبر اصطلاحي ، وذلك ؛ لأنّ الله تعالى قال : (لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، ولم يقل : ليخبروا قومهم لعلّهم يصدقون فيعملون ، ومحلّ الكلام هو الثاني ، أي : وجوب تصديق المخبر عند الإخبار ، لا الأول أي : وجوب الحذر عند الإنذار ، والآية إنّما تدل على وجوب الإنذار والحذر فقط.

ويتضح هذا الإيراد بعد بيان الفرق بين الإنذار والإخبار ، وهو أنّ معنى الإنذار : هو الإبلاغ مع التخويف ببيان العقوبة على المخالفة ، فالتخويف قد اخذ في مفهوم الإنذار.

ثمّ المراد من الحذر هو العمل بقول المنذر عقيب الإنذار متخوفا من الإنذار ، وهذا

٧٨

وأمّا الجهة الثانية فهي التي تنفع المجتهد الآخر الذي يسمع منه هذه الحكاية لكن وظيفته مجرّد تصديقه في صدور هذا الكلام عن الإمام عليه‌السلام ، وأمّا أنّ مدلوله متضمّن لما يوجب التحريم الموجب للخوف أو الكراهة ، فهو ممّا ليس فهم المنذر حجّة فيه بالنسبة إلى هذا المجتهد.

فالآية الدالّة على وجوب التخوّف عند تخويف المنذرين مختصّة بمن يجب عليه اتّباع المنذر في مضمون الحكاية وهو المقلّد له ، للإجماع على أنّه لا يجب على المجتهد التخوّف عند إنذار غيره. إنّما الكلام في أنّه هل يجب عليه تصديق غيره في الألفاظ والأصوات التي يحكيها عن المعصوم عليه‌السلام أم لا؟ والآية لا تدلّ على وجوب ذلك على من لا يجب عليه التخوّف عند التخويف.

____________________________________

بخلاف الإخبار وهو نقل الراوي ما سمعه من الإمام عليه‌السلام من دون إنذار ، بل ربّما ينقل مجرّد الألفاظ ولا يفهم المعنى لينذر به.

إذا عرفت هذا الفرق يتضح لك أنّ الإنذار بالمعنى المذكور إنّما هو وظيفة الواعظ والمفتي.

أمّا الواعظ فينذر الناس بامور مسلّمة في الدين ، ويخوّفهم من تركها ، ويقول : من ترك الصلاة فعليه كذا ، ومن شرب الخمر فعليه كذا.

وأمّا المفتي فيفتي لمقلّديه بما استنبطه من الواجبات والمحرّمات ، ويكون إفتاؤه بالأحكام إنذارا وتخويفا بالدلالة الالتزامية من العقاب على ترك الواجبات وفعل المحرّمات ، فيجب الحذر على مقلّديه لكون فتواه حجّة عليهم.

فالحاصل أنّ الآية أجنبية عن المقام ، ولا تدل على وجوب تصديق المخبر بالخبر المصطلح ، فلا ربط لها بباب نقل الروايات أصلا.

فإذا كان الراوي مجتهدا لكان لنقله جهتان : جهة إنذار وتخويف ، وجهة حكاية قول الإمام عليه‌السلام ، فلا يكون نقله من الجهة الاولى حجّة إلّا لمقلّديه ، ونقله من الجهة الثانية لم يكن مشمولا للآية كما تقدّم تفصيله.

فالآية تدل على وجوب الاجتهاد ووجوب التقليد على العوام ، ولا تدل على وجوب العمل بالخبر أصلا ، كما أشار إليه ، بقوله :

٧٩

فالحق أنّ الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية ووجوب التقليد على العوامّ أولى من الاستدلال بها على وجوب العمل بالخبر.

وذكر شيخنا البهائىّ قدس‌سره ، في أوّل أربعينه (١) : «إنّ الاستدلال بالنبويّ المشهور : (من حفظ على امّتي أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما) ، على حجّية الخبر لا يقصر عن الاستدلال عليها بهذه الآية».

وكأنّ فيه إشارة إلى ضعف الاستدلال بها ، لأن الاستدلال بالحديث المذكور ضعيف جدّا ، كما سيجيء إن شاء الله عند ذكر الأخبار ، ولكن ظاهر الرواية المتقدّمة عن علل

____________________________________

(فالحق أنّ الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية ووجوب التقليد على العوامّ اولى من الاستدلال بها على وجوب العمل بالخبر).

والجواب عن هذا الإشكال هو أنّ الآية كما تدل على حجّية قول الوعّاظ والفقهاء ، كذلك تدل على حجّية نقل الأخبار بنفس الملاك المذكور فيهما ؛ وهو شمولها للإبلاغ مع التخويف ، لأن نقل الأخبار ـ أيضا ـ إبلاغ مع التخويف الضّمني ، كفتوى الفقيه وإن لم يكن التخويف فيه بالصراحة كإنذار الواعظ.

فلا فرق بين نقل الرواية الدالة على وجوب شيء أو حرمته ، وبين فتوى الفقيه بوجوب شيء أو حرمته. فكما أنّ إفتاء المفتي بوجوب شيء إنذار ضمني بالعقاب على الترك ، وبحرمته إنذار ضمني على العقاب بالفعل ، كذلك نقل الرواية إنذار ضمني على الفعل أو الترك.

(وذكر شيخنا البهائي قدس‌سره في أول أربعينه : «إنّ الاستدلال بالنّبويّ المشهور : (من حفظ على امّتي أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما) ، على حجّية الخبر لا يقصر عن الاستدلال عليها بهذه الآية» وكأنّ فيه إشارة إلى ضعف الاستدلال بها) فلا بدّ أولا من بيان الاستدلال ثمّ بيان الضعف.

وأمّا تقريب الاستدلال بالنبوي ، فلأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مدح حافظ الحديث ، وهذا المدح يكشف عن حجّيّة نقل الحديث ، إذ لا أثر لحفظه فقط إذا لم يكن نقله حجّة ولم يقبل أحد

__________________

(١) الأربعون حديث (الشيخ البهائي) : ٦٢ ، نقلا عن الخصال ٢ : ٥٤١ / ١٥ ، وثواب الأعمال : ١٦٢ / ١ ، وفيهما :

(من امتي) مكان (على امتي).

٨٠