دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

وأمّا الوسوسة في التفكّر في الخلق ، كما في النبوي الثاني (١) ، أو التفكّر في الوسوسة فيه ، كما في الأوّل (٢) ، فهما واحد والأوّل أنسب ، ولعلّ الثاني اشتباه من الراوي ، والمراد به ـ كما قيل ـ وسوسة الشيطان للإنسان عند تفكّره في أمر الخلقة. وقد استفاضت الأخبار بالعفو عنه.

ففي صحيحة جميل بن درّاج : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّه يقع في قلبي أمر عظيم ، فقال عليه‌السلام : (قل : لا إله إلّا الله) قال جميل : فكلّما وقع في قلبي شيء قلت : لا إله إلّا الله ، فذهب عني (٣).

وفي رواية حمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن الوسوسة وإن كثرت. قال عليه‌السلام : (لا شيء فيها ، تقول : لا إله إلّا الله) (٤).

وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : (جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله إني هلكت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله له : أتاك الخبيث فقال لك : من خلقك؟ فقلت : الله تعالى ، فقال : الله من خلقه؟ فقال : إي والّذي بعثك بالحق قال كذا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذلك والله محض الإيمان).

____________________________________

المتطيّر يعتقد بأنّ ما يتطيّر به مؤثر في الشر ، وإنّما يذهب الشرك التوكل ، ويمكن أن يكون المرفوع أثر نفس الطيرة ، لأن أثرها كان هو صدّ الناس عن الحركة إلى مقاصدهم ، فنفاه الشرع بالحكم بتحريم الطيرة ، ولكن الأوّل أنسب بالمقام كما هو واضح.

(وأمّا الوسوسة في التفكّر في الخلق كما في النبوي الثاني ، أو التفكّر في الوسوسة فيه ، كما في الأوّل ، فهما واحد والأوّل أنسب).

والوجه في كون الأول أنسب هو أن الوسوسة تكون عارضة على التفكّر دائما ، كما هو مقتضى الأوّل ، ولا معنى لعروض التفكّر على الوسوسة ، كما هو مقتضى الثاني ، فيكون الثاني حينئذ اشتباها من الراوي.

(والمراد به ـ كما قيل ـ وسوسة الشيطان للإنسان عند تفكّره في أمر الخلقة).

والمقصود بالوسوسة هو وسوسة الشيطان للإنسان عند تفكره في أمر الخلقة ، فإنّ

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٦٣ / ٢. الوسائل ١٥ : ٣٧٠ ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ب ٥٦ ، ح ٣.

(٢) الخصال : ٤١٧ / ٩. التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ب ٥٦ ، ح ١.

(٣) الكافي ٢ : ٤٢٤ / ٢.

(٤) الكافي ٢ : ٤٢٤ / ١.

٢٦١

قال ابن أبي عمير : حدّثت ذلك عبد الرحمن بن حجّاج ، فقال : حدّثني أبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : (إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّما عنى بقوله : (هذا محض الإيمان) خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض في قلبه ذلك) (١).

وفي رواية اخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (والذي بعثني بالحق إنّ هذا لصريح الإيمان. فإذا وجدتموه فقولوا : آمنّا بالله ورسوله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله) (٢).

وفي رواية اخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم ، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلّكم ، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله تعالى وحده) (٣).

ويحتمل أن يراد بالوسوسة في الخلق الوسوسة في امور الناس وسوء الظن بهم. وهذا أنسب بقوله : (ما لم ينطق بشفتيه) (٤).

ثمّ هذا الذي ذكرنا هو الظاهر المعروف في معنى الثلاثة الأخيرة المذكورة في الصحيحة.

____________________________________

الانسان يعلم بالفطرة بأنّ له صانع وخالق خلقه ، فيأتيه الشيطان ـ حينئذ ـ ويوسوسه بأنه من خلق الخالق وأين هو؟ كما هو المستفاد من الروايات المذكورة في المتن ، وقد دلت الأخبار الكثيرة على العفو عن هذه الوسوسة الشيطانية ، فالوسوسة بهذا المعنى كانت محرمة على الأمم السابقة ، فارتفعت حرمتها أو المؤاخذة عليها عن هذه الامّة.

(ويحتمل أن يراد بالوسوسة في الخلق الوسوسة في امور الناس وسوء الظن بهم).

والخلق في الحديث بمعنى المخلوق ، ويؤيّد هذا المعنى للوسوسة ما تقدم من أنه ثلاثة لا يسلم منها أحد : الطيرة ، والحسد ، والظن. والمحرم هو الظن السوء ، (وهذا) المعنى الثاني (أنسب بقوله : (ما لم ينطق بشفتيه)) لأنّ الوسوسة في أمر المخلوق ربّما يجري على اللسان دون الوسوسة في أمر الخلقة.

(ثم هذا الذي ذكرنا هو الظاهر المعروف في معنى الثلاثة الأخيرة المذكورة في الصحيحة).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٢٥ / ٣ ، بتفاوت يسير.

(٢) الكافي ٢ : ٤٢٥ / ٤.

(٣) الكافي ٢ : ٤٢٦ / ٥.

(٤) الوسائل ١٥ : ٣١٥ ، ب ٥٦ ، ح ١.

٢٦٢

وفي الخصال ، بسند فيه رفع ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : (ثلاث لم يعر منها نبيّ فمن دونه ، الطّيرة والحسد والتفكّر في الوسوسة في الخلق) (١).

وذكر الصدوق رحمه‌الله ، في تفسيرها : «إنّ المراد بالطّيرة التطيّر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ المؤمن لا يطيّره. كما حكى الله عزوجل عن الكفّار : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ)(٢). والمراد بالحسد أن يحسد ، لا أن يحسد ، كما قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ)(٣). والمراد بالتفكّر ابتلاء الأنبياء عليهم‌السلام بأهل الوسوسة ، لا غير ذلك ، كما حكى الله عن الوليد بن مغيرة : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)(٤)» (٥). فافهم.

وقد خرجنا في الكلام في النبوي الشريف عمّا يقتضيه وضع الرسالة.

____________________________________

يقول المصنّف قدس‌سره : إنّ ما ذكرنا في تفسير هذه الثلاثة هو مقتضى ظاهرها والمعروف عندهم ، ولكن ذكر الصدوق قدس‌سره في تفسيرها معنى آخر غير ما ذكره المصنّف قدس‌سره ، حيث قال : «إنّ المراد بالطيرة التطيّر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو المؤمن ، لا بالطير ، والمراد بالحسد أن يحسد ـ مبنيا للمفعول ـ لا أن يحسد ، مبنيا للفاعل. والمراد بالوسوسة ابتلاء الانبياء بأهل الوسوسة».

(فافهم) لعلّه إشارة إلى أن تفسير الصدوق رحمه‌الله وإن كان حسنا من جهة انه مستلزم لتنزيه الأنبياء عن الامور المذكورة ، إلّا إنّه خلاف الظاهر ، وما ذكرناه وإن كان مطابقا للظاهر ، إلّا إنّه ينافي عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، فحينئذ يجب طرح هذه الرواية ، أو تأويلها على وجه لا ينافي العصمة بأن يقال :

إنّ هذه الأوصاف تعرض الأنبياء كالبرق الخاطف ، وهذا المقدار من الاتصاف لا يضر بالعصمة لعدم تحريمه ، والمحرم هو اتصاف شخص بها ، واستقرارها به ، ولذلك كانت محرمة على الامم السابقة ، وقد ارتفعت عن هذه الامّة.

__________________

(١) الخصال : ٨٩ / ٢٧.

(٢) النمل : ٤٧.

(٣) النساء : ٥٤.

(٤) المدّثر : ١٨ ـ ١٩.

(٥) الخصال : ٨٩ ، بتفاوت.

٢٦٣

____________________________________

وبالجملة ، إنّ ما ذكره الصدوق قدس‌سره من التوجيه في الرواية في غاية البعد ، والقرينة على خلافه قد تقدمت في الرواية ، وهي قوله عليه‌السلام : (ثلاثة لا يسلم منها أحد ـ إلى أن قال ـ : إذا حسدت فلا تبغ) (١) ولا يمكن حمل الفعل على المجهول بأن يكون المعنى : إذا صرت محسودا فلا تتفحّص ، لأنّ حمله على المجهول يوجب التفكيك بين الأفعال المذكورة في هذه الرواية ، إذ الفعل في الفقرة السابقة واللاحقة معلوم ، فالأولى في تفسير هذه الامور ما ذكره المصنّف قدس‌سره ، وثبوت هذه الأوصاف في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآلهلا ينافي العصمة ، بل وجودها مع عدم استعمالها في الخارج كاشف عن علوّ مرتبته ، فتأمّل جيدا.

* * *

٢٦٤

تتمة أدلة البراءة من السنّة

ومنها : قوله عليه‌السلام : (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (١).

فإنّ المحجوب حرمة شرب التتن ، فهي موضوعة عن العباد.

وفيه : إنّ الظاهر من (ما حجب الله تعالى علمه) ما لم يبيّنه للعباد ، لا ما بيّنه واختفى عليهم من معصية من عصى الله في كتمان الحق أو ستره ، فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام :

(إنّ الله تعالى حدّ حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تعصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا لها ، فلا تتكلّفوها ، رحمة من الله لكم) (٢).

____________________________________

(ومنها : قوله عليه‌السلام : (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)).

وتقريب الاستدلال به على البراءة هو أنّ التكليف المجهول يكون ممّا حجب الله علمه عن العباد ، فهو مرفوع عنهم ، كما أشار إليه بقوله :

(فإنّ المحجوب حرمة شرب التتن ، فهي موضوعة عن العباد).

أي : مرفوعة عنهم ، وهذا الخبر معارض لأدلة وجوب الاحتياط ، لأنّ مفاد تلك الأدلة هو عدم رفع التكليف المجهول عن العباد.

(وفيه : إن الظاهر من (ما حجب الله علمه) ما لم يبيّنه للعباد لا ما بيّنه واختفى عليهم من معصية من عصى الله في كتمان الحق أو ستره).

وتوضيح ما يرد على الاستدلال بالرواية على البراءة يتوقف على ذكر مقدمة ، وهي : إنّ (ما حجب الله علمه عن العباد) لا يخلو عن أحد احتمالين :

الأول : هو أن يكون المراد منه ما لم يبيّنه للعباد من الأول وسكت عنه ، ولم يأمر رسوله بتبليغه.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ / ٣. التوحيد : ٤١٣ / ٩. الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٣٣.

(٢) نهج البلاغة : حكمة ١٠٥ ، بتفاوت.

٢٦٥

ومنها : قوله عليه‌السلام : (الناس في سعة ما لم يعلموا) (١).

فإنّ كلمة «ما» إمّا موصولة اضيف إليه السعة وإمّا مصدريّة ظرفيّة ، وعلى التقديرين يثبت المطلوب.

وفيه ما تقدّم في الآيات من أنّ الأخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم

____________________________________

والثاني : أن يكون المراد منه ما بيّنه ، وأمر رسوله بتبليغه ، فبلّغه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للعباد ، ولكن اختفى عليهم لأجل الحوادث الخارجية كإخفاء الظالمين والعاصين إيّاه عنهم.

إذا عرفت هذه المقدمة ، نقول : إنّ محل النزاع بين الأخباريين والاصوليين ـ حيث يقول الأول بوجوب الاحتياط والثاني بالبراءة ـ هو الاحتمال الثاني ، أي : ما بيّنه وحجب علمه عن العباد بواسطة إخفاء الظالمين ، وأمّا ما لم يبيّنه من الأول فهو مرفوع عنهم بالاتّفاق ، والظاهر من الرواية هو هذا الاحتمال الأول بقرينة نسبة الحجب إلى الله تعالى ، فتكون هذه (الرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : (إنّ الله حدّ حدودا ، فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تعصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا لها ، فلا تتكلّفوها رحمة من الله لكم)).

(ومنها : قوله عليه‌السلام : (الناس في سعة ما لم يعلموا) ، فإن كلمة «ما» إمّا موصولة اضيف إليه السعة ، وإمّا مصدرية ظرفيّة ، وعلى التقديرين يثبت المطلوب).

أي : البراءة ، لأنّ لازم السعة بحسب الفعل والترك عن التكليف غير المعلوم هو البراءة ، فالرواية تدل على البراءة على التقديرين ، أي : سواء كان أل «ما» موصولة أو مصدرية وظرفا للسعة.

فيكون مفادها على الأول : الناس في سعة التكليف الذي لا يعلمونه ، وعلى الثاني : أنهم في سعة ما داموا لا يعلمون ، ووجوب الاحتياط ينافي كونهم في السعة فينفى بالرواية ، إلّا إن السعة في صورة كون أل «ما» مصدرية يكون مقطوعا عن الإضافة ، فيكون منوّنا.

(وفيه ما تقدّم في الآيات من أنّ الأخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من

__________________

(١) غوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ / ١٠٩.

٢٦٦

يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبّع.

ومنها : رواية عبد الأعلى عن الصادق عليه‌السلام : قال : سألته عمّن لم يعرف شيئا ، هل عليه شيء؟ قال : (لا) (١).

بناء على أنّ المراد بالشيء الأوّل فرد معيّن مفروض في الخارج حتى لا يفيد العموم في النفي ، فيكون المراد : هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول؟ وأمّا بناء على إرادة العموم ، فظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا.

____________________________________

لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبّع).

وملخّص الإشكال على هذا الاستدلال هو أن الأخباري يدّعي العلم بوجوب الاحتياط بما دلّ عليه من العقل والنقل ، فيكون ما دلّ على وجوب الاحتياط واردا على هذا الخبر الدال على البراءة في مورد عدم العلم بالحكم.

(ومنها : رواية عبد الأعلى عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عمّن لم يعرف شيئا ، هل عليه شيء؟ قال : (لا) ، بناء على أن المراد بالشيء الأول فرد معيّن مفروض في الخارج حتى لا يفيد العموم في النفي ... إلى آخره).

والاستدلال بهذه الرواية على البراءة مبنيّ على أن يكون المراد بالشيء الأول فردا معيّنا في الخارج ، فيسأل السائل عمّن لم يعرف حكم هذا الشيء بأنّه يعاقب عليه أم لا؟

فجواب الإمام : لا يعاقب ، يدلّ على البراءة ، أي : من لا يعرف حرمة التتن لا يعاقب بشربه ، إذ على فرض وجوب الاحتياط يعاقب على الشرب.

وأمّا بناء على إرادة العموم من الشيء الأول ـ كما هو مقتضى وقوع النكرة بعد النفي ـ فلا تدل على البراءة ، لأنّ من لا يعرف شيئا من الأحكام كمن يعيش في مكان بعيد عن علماء الدين يكون جاهلا قاصرا ، فيكون خارجا عن محل الكلام ، والرواية ظاهرة في العموم ، فلا ترتبط بالمقام.

إلّا أن يقال : إنّ من لم يعرف شيئا أصلا ، أو لم يعرف شيئا من الأحكام لم يكن موجودا ، وعلى فرض وجوده يكون في غاية الندرة ، فحينئذ لا يجوز حمل كلام الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ / ٢.

٢٦٧

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أيّما امرئ ارتكب أمرا بجهالة فلا شيء عليه) (١).

وفيه : إنّ الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك : فلان عمل هكذا بجهالة ، هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع ، فلا يعمّ صورة التردّد في كون فعله صوابا أو خطأ.

ويؤيّده : إنّ تعميم الجهالة بصورة التردّد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك غير المقصّر ، وسياقه يأبى عن التخصيص ، فتأمّل.

____________________________________

عليه ، فيتعيّن حمله على عدم العموم ، وبذلك يتمّ الاستدلال.

(ومنها : قوله عليه‌السلام : (أيّما امرئ ارتكب أمرا بجهالة فلا شيء عليه)).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو أنّ الإمام عليه‌السلام قد نفى المؤاخذة والعقاب على ارتكاب ما لم يعلم تحريمه ، فيدل على البراءة وعدم وجوب الاحتياط.

(وفيه : إنّ الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك : فلان عمل هكذا بجهالة ، هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع ، فلا يعمّ صورة التردّد في كون فعله صوابا أو خطأ).

وملخّص ما يرد على هذا الاستدلال يتضح بعد ذكر مقدمة ، وهي :

إنّ الجاهل على قسمين : أحدهما : الجاهل المركب ، وثانيهما : الجاهل البسيط ، ومحل النزاع في جريان البراءة وعدمه هو الثاني دون الأول ، لأنّ الجاهل المركّب قاطع يعمل بقطعه ، فلا يعاقب لأنّ القطع حجّة.

ومن هذه المقدمة يتضح لك أنّ الظاهر من الرواية هو الأول بقرينة كون الجهالة سببا للارتكاب ، فتكون أجنبية عن المقام ، لاختصاصها بالجهل المركب الخارج عن محل الكلام ، لا الجهل البسيط.

(ويؤيّده : إنّ تعميم الجهالة بصورة التردّد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك غير المقصّر ، وسياقه يأبى عن التخصيص).

أي : وما يؤيّد ظهور الرواية في الجهل المركب هو عدم إمكان شمول الجهل لصورة الجهل البسيط وتردّد المكلف في الحكم ، إذ التعميم يوجب التخصيص في الكلام مع أنّ سياق الخبر آب عنه ، وذلك لأنّ الحكم بالمعذوريّة وعدم المؤاخذة مختصّ بالجاهل

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٧٣ / ٢٣٩. الوسائل ٨ : ٢٤٨ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٣٠ ، ح ١ ، بتفاوت فيهما.

٢٦٨

ومنها قوله عليه‌السلام : (إنّ الله تعالى يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم) (١).

وفيه : إنّ مدلوله كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار ممّا لا ينكره الأخباريون.

____________________________________

القاصر الذي تفحّص عن الحكم ، والجاهل المقصّر الذي لم يتفحّص لم يكن معذورا ، فلا بدّ من إخراجه عن الحكم بالمعذوريّة على فرض العموم.

والسياق لا يقبل التخصيص ؛ لأنّ الظاهر من الرواية هو كون الجهالة علّة للمعذوريّة ، وهذه العلّة موجودة في المقصّر ، فلا يعقل انفكاك المعلول عن العلّة بالتخصيص.

والحاصل أن الرواية مختصّة بالغافل ولا تشمل الشاك ، وبهذا تكون أجنبية عن المقام.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى أنّ ردّ التعميم في الرواية بلزوم التخصيص المنافي للسياق غير صحيح ، لأنّ لزوم التخصيص لا يختصّ بصورة التعميم بل يلزم وإن كان المراد من الجهل هو المركّب فقط ، لأنّ المعذور فيه ـ أيضا ـ هو القاصر فقط ، فلا بدّ من إخراج المقصّر عن الحكم بالمعذوريّة ، وبذلك يلزم التخصيص.

(ومنها : قوله عليه‌السلام : (إنّ الله تعالى يحتج على العباد بما آتاهم وعرّفهم)).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية مبنيّ على أن يكون المراد بالموصول هو الحكم والتكليف ، والمراد بالإيتاء هو الاعلام وإيصال الحكم إلى العباد ، فيكون مفادها ـ حينئذ ـ أنّ الله تعالى لا يحتجّ ـ أي : لا يؤاخذ العباد ولا يكلّفهم ـ إلّا بالنسبة إلى التكاليف التي أوصلها إليهم ، ولا يحتجّ عليهم بما لم يوصله إليهم ، فالرواية تدل على البراءة وعدم وجوب الاحتياط بالنسبة إلى التكاليف المجهولة التي لم تصل إليهم ولو من جهة إخفاء الظالمين إيّاها عنهم.

(وفيه : إنّ مدلوله كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار ممّا لا ينكره الأخباريون).

وخلاصة الإشكال : هو أنّ الظاهر من هذه الرواية عدم الاحتجاج والمؤاخذة بما لم يعلم ولم يصل إلى المكلّفين ، والأخباريون لا ينكرون ذلك ، إلّا أنهم يدّعون العلم بالحكم الظاهري ، وهو وجوب الاحتياط.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ / ٤.

٢٦٩

ومنها : قوله عليه‌السلام في مرسلة الفقيه : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) (١).

استدلّ به الصدوق على جواز القنوت بالفارسيّة ، واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الإماميّة.

ودلالته على المطلب أوضح من الكلّ ، وظاهره عدم وجوب الاحتياط ، لأنّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم.

فإن تمّ ما سيأتي من أدلّة الاحتياط دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها ممّا يدلّ على عدم وجوب الاحتياط ، ثمّ الرجوع إلى ما تقتضيه قاعدة التعارض.

وقد يحتجّ بصحيحة عبد الرحمن بن حجّاج : فيمن تزوّج امرأة في عدّتها ، قال : (أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك)

____________________________________

(ومنها : قوله عليه‌السلام في مرسلة الفقيه : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي)).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية مبنيّ على أن يكون المراد من الورود في قوله : (يرد) هو الإيصال ، أي : إيصال التكليف إلى المكلّف ، ومن النهي : النهي الواقعي المتعلّق بالشيء بعنوانه الأوّلي لا بعنوانه الثانوي ، أي : كونه مجهول الحكم ، فيكون مفادها ـ حينئذ ـ كل شيء مطلق ومباح ما لم يصل فيه النهي من الشارع ، فيكون شرب التتن مباحا بعنوان كونه شرب التتن ما لم يصل فيه النهي من الشارع بعنوان كونه شرب التتن لا بعنوان كونه مجهول الحكم ، فتكون دلالة هذه الرواية على ـ المطلوب وهو البراءة وعدم وجوب الاحتياط ـ أوضح من الكل ، فحينئذ لو تمّت دلالة ما سيأتي من أدلة وجوب الاحتياط وقع التعارض بينها وبين هذه الرواية ، فلا بدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه قاعدة التعارض من التخيير أو غيره ، ممّا يأتي في باب التعارض إن شاء الله تعالى.

(وقد يحتجّ بصحيحة عبد الرحمن بن حجّاج : فيمن تزوّج امرأة في عدّتها؟ قال : (أمّا إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدّتها ، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك)

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧. الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٧.

٢٧٠

قلت : بأيّ الجهالتين أعذر ، أبجهالته أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنّها في عدّة؟ قال : (إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأنّ الله تعالى حرّم عليه ذلك ، وذلك لأنّه لا يقدر معها على الاحتياط) قلت : فهو في الاخرى معذور ، قال عليه‌السلام : (نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها) (١).

____________________________________

قلت : بأيّ الجهالتين أعذر ، أبجهالته أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنّها في عدّة؟ قال : (إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأنّ الله تعالى حرّم عليه ذلك ، وذلك لأنّه لا يقدر معها على الاحتياط) قلت : فهو في الاخرى معذور؟ قال عليه‌السلام : (نعم إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوجها)).

وما يحتاج إلى البيان في هذه الرواية هو أمران :

الأمر الأول : هو تقريب دلالتها على البراءة.

الأمر الثاني : هو وجه كون الجهل بالحرمة أهون وأسهل من الجهل بالعدّة.

فنقول : إنّ تقريب دلالة هذه الرواية على البراءة وعدم وجوب الاحتياط يمكن بموردين منها :

المورد الأوّل : هو قوله عليه‌السلام : (فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك) ، أي : من الجهالة بحرمة النكاح في العدّة ، كقتل المؤمن خطأ ، والزنا بذات البعل عن خطأ وجهل ، فالمستفاد من هذه الفقرة هو عدم العقوبة على ارتكاب مجهول الحرمة ، فحينئذ تدل الرواية على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة.

والمورد الثاني : هو قول السائل بأيّ الجهالتين أعذر؟ حيث يدل على كون معذوريّة الجاهل مفروغا عنه ، فيسأل السائل عمّا هو أعذر ، والاستدلال بالمورد الثاني يصح بناء على أن يكون قوله : (أعذر) أفعل التفضيل ، لا الفعل الماضي المجهول من باب الأفعال كما هو في شرح الاعتمادي.

وبقي الكلام في الأمر الثاني : وهو وجه كون الجهل بالحرمة أهون وأسهل من الجهل بالعدّة ، فنقول في وجه ذلك ـ كما في شرح الاعتمادي ـ : إنه قد فرض الجهل بالحرمة

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٢٧ / ٣ ، بتفاوت.

٢٧١

وفيه : إنّ الجهل بكونها في العدّة إن كان مع العلم بالعدّة في الجملة والشك في انقضائها ، فإن كان الشكّ في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها فهو شبهة في الموضوع خارج عمّا نحن فيه ، مع أنّ مقتضى الاستصحاب المركوز في الأذهان عدم الجواز.

____________________________________

جهلا مركّبا لا يمكن فيه الاحتياط ، وفرض الجهل بالعدّة جهلا بسيطا يمكن فيه الاحتياط ، ومن الواضح أن ما لا يمكن فيه الاحتياط من الجهل يكون أعذر ممّا يمكن فيه الاحتياط.

(وفيه : إن الجهل بكونها في العدّة إن كان مع العلم بالعدّة في الجملة والشك في انقضائها ، فإن كان الشك في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها فهو شبهة في الموضوع خارج عمّا نحن فيه).

ويرد على الاستدلال بهذه الرواية على البراءة بأنّها أجنبية عن المقام ، وذلك يتضح بعد ذكر مقدمة ، وهي :

إن محل النزاع هو إثبات المعذوريّة للجاهل من حيث الحكم التكليفي ، وهو في مقام المعذوريّة بالنسبة إلى حرمة التزويج واستحقاق العقاب ، حتى يكون عقد النكاح في حال الجهل جائزا.

وأمّا المعذوريّة من حيث الحكم الوضعي ، وهو في المقام عدم تأثير العقد في التحريم المؤبّد ، فلا يكون مرتبطا بالمقام أصلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول :

إنّ المستفاد من هذه الرواية هو المعذوريّة من حيث الحكم الوضعي ، فحينئذ تكون الرواية أجنبية عن المقام ، والشاهد على ذلك أمران :

أحدهما : هو سؤال السائل عن الحرمة الأبديّة حيث قال : أهي لا تحلّ أبدا؟ فأجاب الإمام عليه‌السلام : (أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك) فهذا الجواب بعد لحاظ تطابق الجواب مع السؤال ظاهر ، بل نصّ في المعذوريّة من حيث الحكم الوضعي بعدم تأثير العقد في التحريم الأبدي.

وثانيهما : قوله عليه‌السلام : (فهو معذور في أن يتزوّجها) بعد سؤال السائل ثانيا حيث قال وسأل : فهو في الاخرى ـ أي : الجهالة في العدّة ـ معذور؟ فقال الإمام عليه‌السلام : (نعم ، إذا انقضت عدّتها ، فهو معذور في أن يتزوّجها) حيث يكون هذا الكلام منه عليه‌السلام ظاهرا في المعذوريّة من حيث

٢٧٢

ومنه يعلم أنّه لو كان الشك في مقدار العدّة فهي شبهة حكمية قصّر في السؤال عنها وليس معذورا فيها اتّفاقا لأصالة بقاء العدّة وأحكامها ، بل في رواية اخرى أنّه :

(إذا علمت أنّ عليها العدّة لزمتها الحجّة) (١) فالمراد من المعذوريّة عدم حرمتها عليه

____________________________________

الحكم الوضعي ، فحينئذ تكون الرواية أجنبية عن المقام حيث تدلّ على كون الجاهل معذورا في الحكم الوضعي.

ويمكن تقريب الإشكال على الاستدلال بهذه الرواية على البراءة بوجه آخر كما يظهر من المتن ، والإشكال بهذا الوجه ـ أيضا ـ يحتاج إلى مقدمة ، وهي :

إنّ محلّ النزاع في مسألة البراءة هي الشبهة الحكميّة دون الموضوعيّة ، ثم إنّ مورد الرواية يمكن أن تكون الشبهة فيه موضوعيّة فيكون خارجا عمّا نحن فيه ، ويمكن أن تكون الشبهة فيه حكميّة ، ولكن مع ذلك لم تكن دلالتها على البراءة تامة ، وتفصيل ذلك : إنّ الجهل بالعدّة يتصوّر على أقسام :

منها : أن يعلم تشريع العدّة في الشرع ومدّتها ، ويشك في أصل انقضاء العدّة ، ومن المعلوم أن الشبهة ـ حينئذ ـ تكون موضوعيّة ، فيكون هذا القسم خارجا عن المقام ، وقد أشار إليه بقوله : (فإن كان الشك في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها).

ومنها : أن يعلم تشريع العدّة ، ويعلم كون هذه المرأة في العدّة ، إلّا إنّه لا يعلم مقدار العدّة في الشرع ، هل هي شهران أو ثلاثة أشهر؟ فالشبهة ـ حينئذ ـ وإن كانت حكمية إلّا إنّه ليس معذورا لوجود استصحاب بقاء العدّة وأحكامها ، كما (في رواية اخرى أنه : (إذا علمت أنّ عليها العدّة لزمتها الحجّة)) أي : انقطع عذرها.

والحاصل : إن الرواية لا تدل على البراءة ، وقد أشار إليه بقوله : (ومنه يعلم ... إلى آخره).

ومنها : أن لا يعلم أصل تشريع العدّة في الشرع ، والشبهة ـ حينئذ ـ وإن كانت حكميّة كالقسم الثاني إلّا إنّ الجاهل لا يكون معذورا لوجهين :

أحدهما : وجوب الفحص عليه ، إذ البراءة لا تجري قبل الفحص.

وثانيهما : أصالة عدم تأثير العقد ، فيحكم بفساده.

__________________

(١) الكافي ٧ : ١٩٣ / ٢. الوسائل ٢٨ : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، أبواب حدّ الزنا ، ب ٢٧ ، ح ٣.

٢٧٣

مؤبّدا لا من حيث المؤاخذة.

ويشهد له أيضا ـ قوله عليه‌السلام ـ بعد قوله : (نعم إذا انقضت عدّتها) ـ : (جاز له أن يتزوّجها) (١).

وكذا مع الجهل بأصل العدّة ، لوجوب الفحص وأصالة عدم تأثير العقد ، خصوصا مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل. هذا إن كان الجاهل ملتفتا شاكّا ، وإن كان غافلا أو معتقدا للجواز فهو خارج عن مسألة البراءة ، لعدم قدرته على الاحتياط ، وعليه يحمل تعليل معذوريّة الجاهل بالتحريم بقوله عليه‌السلام : (لأنّه لا يقدر ... إلى آخره).

وإن كان تخصيص الجاهل بالحرمة بهذا التعليل يدلّ على قدرة الجاهل بالعدّة على الاحتياط فلا يجوز حمله على الغافل ، إلّا إنّه إشكال يرد على الرواية على كلّ تقدير.

ومحصّله لزوم التفكيك بين الجهالتين ، فتدبّر فيه وفي دفعه.

____________________________________

هذا تمام الكلام في تقريب الإشكال على الاستدلال بهذه الرواية ، ومنه ينقدح عدم تماميّة الاستدلال على البراءة بها كما تقدم.

(إلّا إنّه إشكال يرد على الرواية على كلّ تقدير).

أي : سواء كان المراد بالجهالتين ـ أي الجهالة بالحرمة ، والجهالة بالعدّة ـ شكّين ، أو جهلين مركّبين ، أو التفكيك بأن يكون المراد من الجهالة بالحرمة هو الشك.

والمراد منها بالعدّة هو الجهل المركّب أو بالعكس ، لأنّ الأوّل مستلزم للكذب ، إذ الشّاك قادر على الاحتياط ، فكيف يقول الإمام عليه‌السلام : إنّه لا يقدر على الاحتياط؟! والثاني مستلزم للتعليل بعلّة مشتركة وهي قبيحة ؛ وذلك لأنّ الإمام علّل معذوريّة الجاهل بالحرمة بأنّه جاهل مركّب لا يقدر على الاحتياط مع أن الجاهل بالعدّة كذلك على الفرض ، والثالث مستلزم للتفكيك ، وكذلك الرابع كما هو واضح.

(فتدبّر فيه وفي دفعه).

وقد تقدّم الكلام في الإشكال فبقي التدبّر في دفعه ، ويمكن أن يقال في دفعه : إنّ المراد بالجهل معناه العام الشامل للمركّب والبسيط ، إلّا إن تعيين المصداق يكون بالقرينة ،

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٢٧ / ٣.

٢٧٤

وقد يستدلّ على المطلب ـ أخذا من الشهيد في الذكرى ـ بقوله عليه‌السلام : (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) (١).

وتقريب الاستدلال كما في شرح الوافية : «إنّ معنى الحديث أنّ كلّ فعل من جملة الأفعال التي تتّصف بالحلّ والحرمة ، وكذا كل عين ممّا يتعلّق به فعل المكلّف ويتصف بالحل والحرمة ، إذا لم يعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ والحرمة فهو حلال.

فخرج ما لا يتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطراريّة والأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف وما علم أنّه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه ، وليس الغرض من ذكر الوصف مجرّد الاحتراز ، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه.

____________________________________

والقرينة قد قامت بأن المراد بالجهل في الحرمة هو المركب ، والمراد به في العدّة هو البسيط.

وذلك لأنّ الغالب في الجهل بالحرمة هو المركّب ، كما أنّ الغالب في الجهل بالعدّة هو البسيط ، فهذه الغلبة قرينة على التعيين ، مضافا إلى أن الجهل بالحرمة يكون سببا للتزويج فيكون مركّبا ، إذ الجهل البسيط ليس سببا للتزويج لوجوب الفحص فيه. ومنه يظهر أنّ الالتزام بالتفكيك بالدليل لا مانع منه.

(وقد يستدلّ على المطلب ـ أخذا من الشهيد في الذكرى ـ بقوله عليه‌السلام : (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه)).

استدل السيد الصدر في شرح الوافية بهذه الرواية على البراءة ، وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على البراءة يتضح بعد ذكر مقدمة وهي :

إن أفعال المكلف تكون على قسمين :

قسم منها : ما يتعلّق به حكم شرعي ، ويتّصف بالحليّة والحرمة ، كشرب التتن مثلا ، فيقال : إنّ شرب التتن قابل بأن يتصف بالحرمة أو الحليّة ، فإذا لم يكن دليل على أحدهما لكان فيه احتمال الحرمة والحليّة.

وقسم منها : لا يتعلّق به الحكم ، فلا يتصف بالحرمة أصلا ، كحركة يد المرتعش مثلا.

__________________

(١) الذكرى : ٥. الوسائل ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ١.

٢٧٥

فصار الحاصل أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو حلال ، سواء علم حكم كليّ فوقه أو تحته ـ بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحقّقه في ضمنه لعلم حكمه ـ أم لا.

____________________________________

وكذلك الأعيان الخارجية تكون على قسمين :

منها : ما يتعلّق به فعل المكلّف ، كالخمر ، والميتة ، والخل ، والمذكّى ، فيتصف بالحرمة والحليّة باعتبار تعلّق فعل المكلّف به ، فيقال : إنّ شرب الخمر حرام ، وشرب الخل حلال ، وإن أكل الميتة حرام ، وأكل المذكّى حلال.

ومنها : ما لا يتعلّق به فعل المكلّف ، ككثير من الأعيان الخارجية.

ثمّ إن القسم الثاني من كلا التقسيمين المذكورين يكون خارجا عن مورد الرواية ، إذ مورد الرواية ما يحتمل فيه الحرمة والحليّة ، فما لم يتصف بهما لم يكن فيه احتمالهما.

وعلى أي حال ، فإذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك تقريب الاستدلال بالرواية على البراءة ، حيث يكون مفادها أن كل فعل من الأفعال يكون فيه احتمال الحرمة والحليّة فهو حلال حتى يحصل العلم بأنّه حرام ، وهكذا كل عين يكون فيها احتمال الحرمة والحليّة باعتبار تعلّق فعل المكلف بها يكون حكمها في الظاهر هو الحليّة حتى يحصل العلم بأنّ حكمها هو الحرمة ، وبذلك تدل الرواية على الحليّة في مورد الاشتباه واحتمال الحرمة والحليّة ، فيكون ما علم حكمه من الحرمة أو الحليّة خارجا عن موردها. فتأمّل جيدا.

(سواء علم حكم كلّي فوقه أو تحته ـ بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحقّقه في ضمنه لعلم حكمه ـ أم لا).

وتوضيح ما ذكره المصنّف قدس‌سره يحتاج إلى أمثلة ؛ منها : ما علم حكم كلّي فوقه ، ومنها : ما علم حكم كلّي تحته أي : مشتبه ، ومنها : ما لم يعلم حكمه أصلا ، كما أشار إليه بقوله : أم لا.

والمثال الأول : هو كلحم الغنم المشترى من السوق من قصّاب لا يعلم أنّه مسلم حتى يكون هذا اللحم مذكّى ، أو أنّه كافر حتى يكون ميتة؟

فيكون حكم ما فوقه ـ وهو المذكّى والميتة ـ معلوما بحيث لو اندرج تحت الأوّل كان حلالا ، ولو اندرج في الثاني كان حراما ، ولكن لم يعلم اندراجه في أحدهما معيّنا ، فتكون

٢٧٦

وبعبارة اخرى : إنّ كلّ شيء فيه الحلال والحرام عندك ، بمعنى أنّك تقسمه إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين ولا تدري المعيّن منهما ، فهو لك حلال.

فيقال حينئذ : إنّ الرواية صادقة على مثل اللحم المشترى من السوق المحتمل للمذكّى والميتة ، وعلى شرب التتن ، وعلى لحم الحمير ، إن لم نقل بوضوحه وشككنا فيه ، لأنّه يصدق على كلّ منها أنّه شىء فيه حلال وحرام عندنا ، بمعنى أنّه يجوز لنا أن نجعله مقسما لحكمين فنقول : هو إمّا حلال وإمّا حرام ، وإنّه يكون من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها أو أصنافها حلالا وبعضها حراما واشتركت في أنّ الحكم الشرعي المتعلّق بها غير معلوم» انتهى.

____________________________________

النسبة بين المشتبه وبين كل من الكليّين عموما من وجه ، ولهذا يحتمل اندارجه في كل واحد منهما باعتبار مادة الاجتماع ، وعدم اندراجه في كل واحد منهما باعتبار مادة الافتراق ، فطبعا يحتمل أن يكون من الميتة ، ويحتمل أن يكون من المذكّى.

والمثال الثاني : هو كمطلق لحم الغنم حيث يكون كليّا تحته نوعان ، أي : الميتة والمذكّى ، والاشتباه باعتبار تحقّقه في ضمن بعض أفراد نوعه حيث لا يعلم تحقّقه في أيّ نوعيه ، فإذا علم تحقّقه في أحدهما لعلم حكمه.

ثم إن النسبة بين مطلق لحم الغنم وبين نوعيه عموم مطلق ، والشبهة في هذين المثالين تكون موضوعية ، حيث يكون منشأ الاشتباه فيها هو الامور الخارجية ، لا عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه مع الآخر ، التي هي منشأ الشبهة الحكمية.

والمثال الثالث : هو كشرب التتن مثلا ، والشبهة فيه تكون حكمية. والرواية شاملة لجميع هذه الأمثلة ، فتشمل الشبهة الحكمية والموضوعية كما أشار قدس‌سره إلى الثاني بقوله :

(الرواية صادقة على مثل اللحم المشترى من السوق) حيث تكون الشبهة فيه موضوعية.

وإلى الأول بقوله : (وعلى شرب التتن ... إلى آخره) حيث تكون الشبهة فيه حكميّة.

(واشتركت في أنّ الحكم الشرعي المتعلّق بها غير معلوم).

أي : اشتركت الأمثلة المذكورة في أنّ الحكم الشرعي المتعلق بالامور المذكورة غير معلوم ، فيتحقّق موضوع البراءة ، فتجري في جميع الأمثلة المتقدمة.(انتهى) كلام السيد

٢٧٧

أقول : الظاهر أنّ المراد بالشيء ليس هو خصوص المشتبه ، كاللحم المشترى ولحم الحمير على ما مثّله بهما ، إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في (منه) إليهما ، لكن لفظة (منه) ليست في بعض النسخ ، وأيضا : الظاهر أن المراد بقوله عليه‌السلام : (فيه حلال وحرام) كونه منقسما إليهما ووجود القسمين فيه بالفعل لا مردّدا بينهما ، إذ لا تقسيم مع الترديد أصلا ، لا ذهنا ولا خارجا ، وكون الشيء مقسما لحكمين ـ كما ذكره المستدل ـ لم يعلم له معنى محصّل ، خصوصا مع قوله قدس‌سره : «إنّه يجوز لنا ذلك» ، لأن التقسيم إلى الحكمين ـ الذي هو في الحقيقة ترديد لا تقسيم ـ أمر لازمي قهري لا جائز لنا.

وعلى ما ذكرنا فالمعنى ـ والله العالم ـ أنّ كلّ كلّي فيه قسم حلال وقسم حرام ، كمطلق لحم

____________________________________

الصدر رحمه‌الله.

(أقول : الظاهر أن المراد بالشيء ليس هو خصوص المشتبه كاللحم المشترى ولحم الحمير على ما مثّله بهما ، إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في (منه) إليهما).

وملخّص ما أورده المصنّف قدس‌سره على تقريب الاستدلال بالرواية على البراءة هو أنّ الرواية مختصّة بالشبهة الموضوعية ، فلا تشمل الشبهة الحكمية ، حتى يستدل بها على البراءة.

وبيان ذلك : إنّ الظاهر منها هو تقسيم الشيء إلى الحلال والحرام فعلا لا احتمالا حتى تشمل الشبهة الحكمية ، فإنّ قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء فيه حلال وحرام) ظاهر في التقسيم الفعلي ، أي : وجود الحلال والحرام فيه فعلا ، إذ لا تقسيم مع الاحتمال والترديد ، وكذلك ظاهر التبعيض المستفاد من كلمة(منه) أن يكون في مرجع ضمير(منه) قسمان فعلا ليصح التبعيض لا احتمالا ، إذ لا يتصوّر التبعيض في شيء واحد فيه احتمالان ، فجعل (شيء) في قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء فيه حلال وحرام) خصوص المشتبه الخارجي المردّد بين كونه حلالا وحراما ـ كما في تقريب الاستدلال ـ يكون مخالفا لظاهر الرواية ، فلا بدّ من أن يكون المراد بالشيء ما ينقسم إلى الحلال والحرام فعلا ، كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكّى المحكوم بالحليّة ، وبين الميتة التي يكون حكمها هو الحرمة ، وأمّا شرب التتن فليس فيه قسمان أحدهما يكون حلالا والآخر حراما ، ولذلك تكون الرواية مختصّة بالشبهة الموضوعية.

٢٧٨

الغنم المشترك بين المذكّى والميتة ، فهذا الكلّي لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معيّنا في الخارج فتدعه.

وعلى الاستخدام يكون المراد أن كلّ جزئي خارجي في نوعه القسمان المذكوران فذلك الجزئي لك حلال حتى تعرف القسم الحرام من ذلك الكلّي في الخارج فتدعه.

وعلى أيّ تقدير فالرواية مختصّة بالشبهة في الموضوع.

____________________________________

ولهذا يقول المصنّف قدس‌سره : (وعلى ما ذكرنا) من ظهور الرواية في التقسيم الفعلي يكون مفادها :

(أنّ كلّ كلّي فيه قسم حلال وقسم حرام ، كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكّى والميتة ، فهذا الكلّي لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معيّنا في الخارج فتدعه).

وهذا المثال كما تقدّم يكون من أمثلة الشبهة الموضوعية.

قوله : (وعلى الاستخدام ... إلى آخره).

يمكن أن يكون هذا دفعا لتوهّم محتمل ، وتقريب التوهّم هو :

إنّ جعل السيد الصدر المراد من (شيء) في قوله : (كلّ شيء فيه حلال وحرام).

خصوص المشتبه الخارجي لا ينافي ظهور الرواية في التقسيم الفعلي ، لأنّ التقسيم صحيح مع الاستخدام وذلك بأن يكون ضمير(فيه ، ومنه) راجعا إلى النوع من باب الاستخدام ، فيكون مفاد الرواية حينئذ : إنّ كلّ المشتبه الخارجي ـ كاللحم المشترى من السوق مثلا ـ في نوعه ـ وهو مطلق لحم ـ الغنم ـ حلال كالمذكّى وحرام كالميتة ، فذلك الجزئي لك حلال حتى تعرف القسم الحرام من ذلك الكلّي في الخارج فتدعه.

وبالجملة ، فما ارتكبه السيد الصدر من جعله المراد من (شيء) خصوص المشتبه صحيح.

وقد دفع المصنّف قدس‌سره هذا التوهّم بقوله : (وعلى أي تقدير) أي : على ما ذكرنا وعلى الاستخدام يكون معنى الرواية صحيحا ، إلّا إنّها لا تشمل الشبهة الحكميّة ، إذ لا نوع لشرب التتن حتى تشمله الرواية على الاستخدام.

فالرواية على كلّ تقدير مختصّة بالشبهة في الموضوع. هذا على أنّ الاستخدام ـ أيضا ـ مخالف لظاهر الرواية ، كما أشار إليه بقوله :

٢٧٩

وأمّا ما ذكره المستدل ـ من أنّ المراد من وجود الحلال والحرام فيه احتماله وصلاحيته لهما ـ فهو مخالف لظاهر القضيّة ولضمير (منه) ولو على الاستخدام.

ثم الظاهر أنّ ذكر هذا القيد مع تمام الكلام بدونه ـ كما في قوله عليه‌السلام في رواية اخرى : (كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام) (١) ـ بيان منشأ الاشتباه الذي يعلم من قوله عليه‌السلام : (حتى تعرف). كما أنّ الاحتراز عن المذكورات في كلام المستدل ـ أيضا ـ يحصل بذلك.

____________________________________

(وأمّا ما ذكره المستدل ـ من أنّ المراد من وجود الحلال والحرام فيه احتماله وصلاحيته لهما ـ فهو مخالف لظاهر القضية ولضمير (منه) ولو على الاستخدام).

قوله : (ثم الظاهر أنّ ذكر هذا القيد مع تمام الكلام بدونه ... إلى آخره).

دفع لما يتوهّم من أنّ ذكر القيد وهو قوله : (فيه حلال وحرام) ليس لبيان منشأ الاشتباه ، لأنّ الرواية لا تختصّ بصورة الاشتباه ، بل أعمّ منها ، إذ يكون معناها : كلّ كلّي فيه قسمان بالفعل فهو حلال ، سواء علمت حليّته كمعلوم التذكية ، أو شك فيها كاللحم المشترى من السوق ، غاية الأمر الحليّة في الأول واقعيّة ، وفي الثاني ظاهريّة ، فلا تختصّ لبيان الحكم الظاهري حتى يكون قوله : (فيه حلال وحرام) بيانا لمنشا الاشتباه.

وحاصل دفع التوهّم المذكور هو أنّ ذكر القيد المذكور مع تمام الكلام بدونه لا يكون إلّا لغرض وفائدة ، والّا يكون لغوا ، فيكون الغرض منه بيان منشأ الاشتباه في الشبهة الموضوعية ، فإن منشأه في الشبهة الحكمية هو فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه ، وفي الموضوعية اشتباه الامور الخارجية كشباهة المذكّى بالميتة مثلا ، فالرواية تختصّ بصورة الاشتباه وتدل على إرادة الحليّة الظاهرية فقط ، بقرينة قوله : (حتى تعرف الحرام منه) لأنّ هذه الغاية لا تتصوّر إلّا في الحليّة الظاهرية ، وبذلك يكون الغرض من قوله : (فيه حلال وحرام) أمران :

أحدهما : الاحتراز عمّا مرّ في كلام المستدل من خروج ما لا يتّصف بالحليّة والحرمة من الأفعال ، أو ما لا يتعلّق به فعل المكلّف من الأعيان الخارجية.

وثانيهما : بيان سبب الاشتباه ، لا بيان ما فيه الاشتباه كما في كلام السيد الصدر رحمه‌الله.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠.

٢٨٠