دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

الثاني : ما أورده في محكيّ العدّة والذريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج وغيرها ، من انّا لو سلّمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم ، لكن نقول : إنّ مقتضى عموم التعليل وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به ، وإن كان المخبر عادلا ، فيعارض المفهوم والترجيح مع ظهور التعليل.

لا يقال : إنّ النسبة بينهما وإن كانت عموما من وجه فيتعارضان في مادّة الاجتماع ـ وهي خبر العادل غير المفيد للعلم ـ لكن يجب تقديم عموم المفهوم وإدخال مادّة الاجتماع فيه ، إذ

____________________________________

وبالجملة ، ما ذكر من الوجهين في تصحيح المفهوم مردود وباطل ، فيبقى الإشكال على حاله ، وليس قابلا للجواب على رأي المصنّف رحمه‌الله.

(الثاني : ما أورده في محكيّ العدّة والذريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج ... إلى آخره) ، إنّ المصنّف رحمه‌الله بعد الفراغ عن الإيراد الأول يشير بقوله : (الثاني) إلى الإيراد الثاني الذي لا يمكن الجواب عنه.

وهذا الإشكال وإن كان كالإشكال الأول ردّا للاستدلال بمفهوم الآية على حجّية خبر العادل إلّا أنّه يفترق عنه بأنّ الأول يكون راجعا إلى منع المفهوم من حيث وجود المقتضي وهذا الإشكال يرجع إلى منعه من جهة وجود المانع كما لا يخفى.

وتقريب الإشكال : إنّ المفهوم على فرض تسليمه وإن كان دالا على حجّية خبر العادل غير الفيد للعلم إلّا أنّ مقتضى عموم التعليل عدم حجّيته ، فيكون المفهوم معارضا بعموم التعليل ، وذلك أنّ الله تعالى قد حكم في صدر الآية الشريفة بوجوب التبيّن في خبر الفاسق ، ثم علّله باحتمال الوقوع في الندم.

وهذا التعليل يجري في خبر العادل فيقتضي وجوب التبيّن فيه كخبر الفاسق ، ثمّ إنّ الحكم يدور مدار علّته سعة وضيقا ، فالحكم بوجوب التبيّن يجري في خبر العادل لوجود علّته فيه ، فلا يكون حجّة ، ويكون المفهوم الدال على الحجّية معارضا مع عموم التعليل.

ويقدم عموم التعليل على المفهوم لترجيحه عنه ، كما أشار إليه بقوله : (والترجيح مع ظهور التعليل) ؛ لأنّ دلالته على عدم الحجّية يكون بالمنطوق ، ومعلوم أنّ المنطوق أقوى من المفهوم فيقدم عليه.

(لا يقال : إنّ النسبة بينهما وان كانت عموما من وجه فيتعارضان في مادّة الاجتماع ـ

٢١

لو خرج عنه وانحصر مورده في خبر العادل المفيد للعلم كان لغوا ؛ لأنّ خبر الفاسق المفيد للعلم ـ أيضا ـ واجب العمل ، بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم معا ، فيكون المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل.

____________________________________

وهي خبر العادل غير المفيد للعلم ـ ... إلى آخره) ، هذا الإشكال يرجع إلى تقديم عموم التعليل على المفهوم ، فيقول المستشكل : هذا التقديم بنفسه وإن كان صحيحا إلّا أنّه في خصوص المقام لا يكون صحيحا لاستلزامه لغوية المفهوم في كلام الحكيم ، فحفظا لكلام الحكيم عن هذا المحذور يجب تقديم المفهوم على التعليل.

وبيان ذلك : إنّ النسبة بين المفهوم والتعليل هي عموم من وجه ؛ لأن التعليل يقتضي عدم حجّية خبر الواحد الظنّي مطلقا ، أي : سواء كان المخبر عادلا أو فاسقا ، والمفهوم يقتضي حجّية خبر العادل مطلقا سواء كان مفيدا للعلم أم لم يكن.

فمادة الافتراق من جانب المفهوم هي خبر العادل المفيد للعلم ، ومن جانب التعليل خبر الفاسق الظنّي ، ومادة الاجتماع هي خبر العادل الظنّي ، فيتعارضان فيه ؛ لأن مقتضى المفهوم هو الحجّية ، ومقتضى التعليل هو عدمها ، فيجب تقديم المفهوم وإدخال مادة الاجتماع فيه ، وحمل التعليل على خصوص خبر الفاسق حتى لا يكون المفهوم لغوا ، إذ لو عكس الأمر لزم أن يكون المفهوم لغوا ؛ لانحصار مورده فى خبر العادل العلمي الذي لم يكن له مفهوم لحجّية خبر الفاسق العلمي أيضا ، فيجب تقديم المفهوم حفظا لكلام الحكيم عن اللغوية ، هذا أولا.

وثانيا : قد أشار إليه بقوله : (بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم معا) ، وحاصل هذا الردّ الثاني لعموم التعليل : إنّ تقديم المفهوم على عموم التعليل يكون على القاعدة ، وهي حمل العامّ على الخاصّ ، وجعله مخصّصا له ؛ لأنّ النسبة بينهما هي عموم مطلق لا من وجه.

لأنّ الخبر العلمي مطلقا ـ سواء كان المخبر فاسقا أو عادلا ـ يكون خارجا عن المنطوق والمفهوم معا ، فتنقلب النسبة ـ حينئذ ـ إلى العموم المطلق ؛ لاجتماعهما في خبر العادل وافتراق التعليل في خبر الفاسق ، فيكون المفهوم خاصّا ومخصّصا لعموم التعليل عملا على القاعدة المتقدمة.

٢٢

لأنّا نقول : ما ذكره أخيرا من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل مسلّم ، إلّا أنّا ندّعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر العادل غير العلمي وظهور الجملة الشرطيّة أو الوصفيّة في ثبوت المفهوم ، فطرح المفهوم والحكم بخلوّ الجملة الشرطيّة عن المفهوم اولى من ارتكاب التخصيص في التعليل ، وإليه أشار في محكيّ العدّة ، بقوله : «لا نمنع ترك دليل الخطاب لدليل ، والتعليل دليل».

____________________________________

هذا غاية ما يمكن أن يقال في الإيراد على التعليل بالوجهين المذكورين : (لأنّا نقول : ما ذكره أخيرا من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل مسلّم).

يقول المصنّف رحمه‌الله : إنّ المسلّم هو كون المفهوم أخصّ من عموم التعليل ، فتكون النسبة بينهما هي عموم مطلق لا من وجه.

وردّ الإشكال الأول على تقديم التعليل يكون بردّ مبناه ، وهو كون النسبة بينهما عموما من وجه ، فيبقى الإشكال الثاني على تقديم التعليل على المفهوم.

وحاصل الجواب : إنّا سلّمنا أنّ النسبة هي عموم مطلق لا من وجه ، وإنّ مقتضى القاعدة هو تقديم الخاصّ على العامّ إلّا أنّ الأمر في المقام هو بالعكس ، أي : تقديم عموم التعليل على المفهوم ، وذلك لأنّ عموم التعليل دليل وقرينة على عدم تحقّق المفهوم أصلا فلا ظهور له ، إذ ظهور المفهوم في الخصوص فرع لتحقّقه وثبوته ، فيكون المقام خارجا عن مورد قاعدة حمل العامّ على الخاصّ ، إذ القاعدة المذكورة تجري فيما إذا كان ظهور الخاصّ ثابتا كما كان الخاصّ بدليل منفصل عن العامّ.

ففي المقام نطرح المفهوم من الأول ، ونحكم بعدم تحقّقه بقرينة التعليل ، فحينئذ لا يعقل التعارض بينهما حتى يقال : إنّ الترجيح مع الخاصّ.

نعم ، يقع التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم حجّية خبر العادل ، وظهور الجملة الشرطية في تحقّق المفهوم ، فيقال : إنّ الترجيح مع ظهور التعليل ولازمه عدم ثبوت المفهوم للجملة الشرطية ، كما قال المصنّف رحمه‌الله : (فطرح المفهوم والحكم بخلوّ الجملة الشرطية عن المفهوم اولى من ارتكاب التخصيص في التعليل) ، أي : إنّ الأخذ بعموم التعليل ، والالتزام بعدم ثبوت المفهوم يكون اولى ، كما سيأتي وجه الأولوية ، فانتظر.

(وإليه أشار في محكيّ العدّة بقوله : لا نمنع ترك دليل الخطاب لدليل ، والتعليل دليل) ،

٢٣

وليس في ذلك منافاة لما هو الحقّ ، وعليه الأكثر ، من جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ، لاختصاص ذلك ـ أوّلا ـ بالمخصّص المنفصل. ولو سلّم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلّة والمعلول ، فإنّ الظاهر عند العرف أنّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص.

فالعلّة تارة تخصّص مورد المعلول وإن كان عامّا بحسب اللفظ ، كما في قول القائل : لا

____________________________________

وإلى كون تقديم التعليل اولى من المفهوم أشار محكي العدّة ، حيث قال : لا نمنع ترك دليل الخطاب ، أي : مفهوم المخالفة لدليل.

ثمّ قال : والتعليل دليل ، فيجوز طرح مفهوم المخالفة بالتعليل ، فهذا يكون مؤيّدا لما ذكره المصنّف رحمه‌الله من تقديم التعليل على المفهوم.

قوله : (وليس في ذلك منافاة لما هو الحق ... إلى آخره) دفع لم يتوهّم من أنّ المعروف هو جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف ، فيجوز تخصيص عموم التعليل بالمفهوم في المقام ، فلما ذا طرح المفهوم وأخذ بعموم التعليل؟

وحاصل الدفع أنّه لا منافاة في طرح المفهوم والأخذ بعموم التعليل لما هو الحقّ من جواز تخصيص العام بالمفهوم ؛ لأن جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة مختصّ بالمخصّص المنفصل ، وفي المقام ليس المفهوم الخاصّ منفصلا.

والحاصل أنّ قاعدة تقديم الخاصّ على العام تكون مختصّة فيما إذا كان الخاص في كلام والعام في كلام آخر ، ولا تجري فيما إذا كانا في كلام واحد كالمقام.

ثمّ لو سلّم جريان تخصيص العام بالمفهوم في الكلام الواحد لمنع في العلّة والمعلول ـ كما نحن فيه ـ كما أشار إليه بقوله : (فإنّ الظاهر عند العرف أنّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص ... إلى آخره) لأن الحكم تابع للعلّة ولا يتعداها.

وحينئذ قد يكون التعليل مخصّصا للحكم المعلول وإن كان بحسب اللفظ عامّا ، كما في المثال المذكور في المتن ، وهو : لا تأكل الرمّان لأنه حامض ، فإنّ النهي قد تعلّق بالرمّان الشامل للحلو والحامض ، فيكون الحكم بالحرمة عامّا شاملا لمطلق الرمّان سواء كان حلوا أو حامضا ، إلّا أنّ التعليل مختصّ بالحامض ، فيخصّص مورد النهي بالأفراد الحامضة ، فنظرا إلى التعليل يختصّ الحكم بالحرمة بالحامض من الرمّان.

٢٤

تأكل الرمّان لأنّه حامض ، فيخصّصه بالأفراد الحامضة ، فيكون عدم التقييد في الرمّان لغلبة الحموضة فيه.

وقد توجب عموم المعلول وإن كان بحسب الدلالة اللفظيّة خاصّا ، كما في قول القائل : لا تشرب الأدوية التي تصفها لك النسوان ، أو إذا وصفت لك امرأة دواء فلا تشربه ؛ لأنّك لا تأمن ضرره.

فيدلّ على أنّ الحكم عامّ في كلّ دواء لا يؤمن ضرره من أي واصف كان ، ويكون

____________________________________

ثمّ التعليل في هذا المثال كما هو مخصّص كذلك يكون معمّما ؛ لأنه يتعدّى من الرمّان الحامض إلى كل حامض بحكم التعليل.

قوله : (فيكون عدم التقييد في الرمّان لغلبة الحموضة فيه ... إلى آخره) دفع للسؤال ، وهو : لما ذا لا يقال في المثال المذكور : لا تأكل الرمّان الحامض ليفيد التقييد بالوصف ما أفاده التعليل من الأول من دون تكلّف التخصيص بعد التعميم بالتعليل؟ فدفع هذا السؤال بقوله : فيكون عدم التقييد ... إلى آخره.

وحاصل الدفع أنّه لمّا كان الغالب في الرمان هو الحموضة بحيث يكون الحلو كالمعدوم ، وكان المتبادر في ذهن المخاطب من لفظ الرمان هو الحامض فقط كان التقييد بالوصف حينئذ لغوا وبلا فائدة إذ كانت فائدته هي الاحتراز عن الحلو ، والمفروض هو عدم وجوده أو قلّة وجوده ، والمتبادر من الإطلاق هو الحامض من دون حاجة إلى التقييد ، فيكون التقييد لغوا ، ولهذا ذكر التعليل ليكون مفيدا لما هو المطلوب بالصراحة من دون لزوم اللغوية كما لا يخفى.

ثمّ قد يكون تعليل الحكم معمما له وان كان الحكم بحسب الدلالة اللفظية خاصّا كما ذكر المصنّف رحمه‌الله مثالين :

أحدهما : للوصف كقول القائل : (لا تشرب الأدوية التي تصفها لك النسوان).

والثاني : للشرط كقول القائل : (إذا وصفت لك امرأة دواء فلا تشربه) ، ثمّ علّل الحكم بعدم جواز شرب الدواء في المثالين بقوله : (لأنّك لا تأمن ضرره) ، فيدل التعليل على العموم ، فيجب الاجتناب عن شرب كل ما لا يأمن ضرره (من أي واصف كان) ، أي : وإن كان الواصف من الرجال ، مع أنّ مقتضى المفهوم هو جواز شرب الأدوية التي يصفها

٢٥

تخصيص النسوان بالذكر من بين الجهّال لنكتة خاصّة أو عامّة لاحظها المتكلّم.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فلعلّ النكتة فيه التنبيه على فسق الوليد كما نبّه عليه في المعارج. وهذا الإيراد مبنيّ على أنّ المراد بالتبيّن هو التبيّن العلمي كما هو مقتضى اشتقاقه.

____________________________________

الرجال ، فيؤخذ بعموم التعليل ويطرح المفهوم.

وقوله : (ويكون تخصيص النسوان بالذكر ... إلى آخره) دفع لما يتوهّم من أنّه كان الاولى أن يقال من الأول : لا تشرب ما يحتمل فيه الضرر من الدواء ، من دون حاجة إلى ذكر النسوان ، فلا وجه حينئذ لذكر النسوان.

وحاصل الدفع كما هو مذكور في المتن : إنّ في تخصيص النسوان بالذكر(لنكتة خاصة) ؛ وهي كونهنّ ناقصات العقول ، أو نكتة عامة وهي : إنّ عدم الأمن من الضرر يكون غالبا في الأدوية التي تصفها النسوان ، واحتمال الضرر فيما يصفه الرجال ضعيف.

(وما نحن فيه من هذا القبيل) ؛ لأنّ الحكم تابعا لعلّته ، فتكون سعة الحكم الشامل لخبر العادل غير العلمي بسعة العلّة ، فإنّ مقتضى المفهوم ـ وهو عدم وجوب التبيّن ـ وإن كان مختصّا بخبر العادل ، إلّا أنّ التعليل يدل على وجوب التبيّن في كل خبر يحتمل فيه الوقوع في الندم ، فيجب الأخذ به لما ذكر من أنّ الحكم تابع لعلّته في العموم والخصوص.

قوله : (فلعلّ النكتة فيه التنبيه على فسق الوليد) دفع لما يتوهّم من أنّه كان ينبغي أن يقول : إن جاءكم خبر يحتمل فيه الندم ، فتبيّنوا ، إذ لا وجه لتخصيص الفاسق بالذكر مع عدم اختصاص الحكم به.

وحاصل الدفع لهذا التوهم : هو أنّ تخصيص الفاسق بالذكر لعلّه يكون لنكتة وهي التنبيه على فسق الوليد.

ويؤيّده ما قيل في شأن نزول هذه الآية الشريفة : من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث الوليد بن عتبة إلى قبيلة بني المصطلق لجمع الصدقات فلما رأوه ، فجمعوا لاستقباله فظن أنّهم أرادوا قتله ، فعاد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبر بأنّهم ارتدّوا عن دينهم وأرادوا قتله ، فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الخروج إلى قتالهم ، فنزلت هذه الآية.

وبالجملة ، يكون ذكر الفاسق لنكتة خاصّة وهي التنبيه على فسق الوليد.

(وهذا الإيراد مبنيّ على أنّ المراد بالتبيّن هو التبيّن العلمي كما هو مقتضى اشتقاقه) ، أي : أنّ

٢٦

ويمكن أن يقال : إنّ المراد منه ما يعمّ الظهور العرفي الحاصل من الاطمئنان الذي هو مقابل الجهالة.

وهذا وإن كان يدفع الإيراد المذكور عن المفهوم من حيث رجوع الفرق بين الفاسق والعادل ـ في وجوب التبيّن ـ إلى أنّ الواقعي يحصل منه غالبا الاطمئنان المذكور بخلاف الفاسق ؛ فلهذا وجب فيه تحصيل الاطمئنان من الخارج ، لكنّك خبير بأنّ الاستدلال

____________________________________

إيراد التعارض بين المفهوم والتعليل يكون مبنيّا على أن يكون المراد من التبيّن هو التبيّن العلمي ـ أعني : تحصيل العلم ـ كما هو مقتضى الاشتقاق لأنّه مشتق من البيان بمعنى الكشف والوضوح ، فيكون المراد من الجهالة خلاف العلم الصادق على الاطمئنان.

وحينئذ يقع التعارض بين المفهوم والتعليل لأنّ مقتضى المفهوم هو عدم وجوب تحصيل العلم في خبر العادل ، ومقتضى التعليل هو وجوب تحصيل العلم في كل خبر غير علمي. فيأتي ما تقدّم من ترجيح جانب التعليل على المفهوم ، فيكون معنى الآية حينئذ : إن جاءكم فاسق بنبإ ، فيجب عليكم تحصيل العلم لئلّا تصيبوا قوما بجهالة ، أي : لئلّا تفعلوا بغير العلم فتندموا.

(ويمكن أن يقال : إنّ المراد منه ما يعمّ الظهور العرفي الحاصل من الاطمئنان ... إلى آخره).

هذا الكلام من المصنّف رحمه‌الله يرجع إلى ردّ التعارض بين المفهوم والتعليل ؛ لأنّ التعارض يكون مبنيا على أن يكون التبيّن بمعنى تحصيل العلم.

فيقول المصنّف رحمه‌الله : يمكن أن يكون المراد من التبيّن ما هو أعمّ من العلم الحقيقي الذي لا يحتمل النقيض ، والعلم العرفي المسمّى بالظهور العرفي الشامل للاطمئنان ، ثمّ إنّ المراد من الجهالة هو عدم الاطمئنان.

وحينئذ يكون مقتضى المفهوم عدم وجوب التبيّن في خبر العادل لكونه مفيدا للاطمئنان بنفسه ، ومقتضى التعليل هو وجوب التبيّن ، أعني : تحصيل الاطمئنان في خبر الفاسق الغير المفيد للاطمئنان بنفسه ، ولا يشمل خبر العادل حتى يعارض المفهوم.

فأوجب الله تعالى التبيّن في خبر الفاسق فقط ؛ لعدم كونه مفيدا للاطمئنان بنفسه ، فوجب فيه تحصيله من الخارج بالتبيّن ، فيكون معنى الآية الشريفة ـ حينئذ ـ : إن جاءكم

٢٧

بالمفهوم على حجّيّة خبر العادل المفيد للاطمئنان غير محتاج إليه ، إذ المنطوق على هذا التقرير يدل على حجّيّة كل ما يفيد الاطمئنان كما لا يخفى ، فيثبت اعتبار مرتبة خاصّة من مطلق الظّن.

ثمّ إنّ المحكيّ عن بعض منع دلالة التعليل على عدم جواز الإقدام على ما هو مخالف للواقع ، بأنّ المراد بالجهالة : السفاهة وفعل ما لا يجوز فعله ، لا مقابل العلم ، بدليل قوله تعالى : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١). ولو كان المراد الغلط في الاعتقاد لما جاز الاعتماد

____________________________________

فاسق بنبإ يجب عليكم تحصيل الاطمئنان ؛ لئلّا تصيبوا قوما بجهالة ، أي : لئلّا تفعلوا فعلا بدون الاطمئنان فتندموا.

وبالجملة ، إذا كان المراد من التبيّن تحصيل الاطمئنان ، وكان المراد من الجهالة عدم الاطمئنان ، لكان خبر العادل خارجا عن التعليل ؛ لأنّ خبر العادل مفيد للاطمئنان ، فالعمل به لم يكن عن جهالة أو فعلا بدون الاطمئنان فلا يشمله حتى يتحقّق التعارض.

(لكنّك خبير بأنّ الاستدلال بالمفهوم على حجّية خبر العادل المفيد للاطمئنان غير محتاج إليه ... إلى آخره) ، وحاصل كلام المصنّف رحمه‌الله في المقام هو : أنّ حمل التبيّن بالمعنى الأعمّ المذكور الشامل للاطمئنان ، وإن كان يدفع الإشكال على المفهوم كما تقدم دفعه مفصلا ، إلّا أنّ حجّية خبر العادل حينئذ تكون بالمنطوق لا بالمفهوم ، وذلك ؛ لأنّ مفاد آية النبأ هو تحصيل الاطمئنان بالتبيّن في خبر الفاسق ، وهو موجود في خبر العادل ، فلا يحتاج العمل به إلى تحصيل الاطمئنان ، بل تحصيل الاطمئنان في خبره تحصيل لما هو حاصل ، وهو محال.

فمنطوق الآية يدل على حجّية كل ما يفيد الاطمئنان كخبر العادل ، فيثبت به اعتبار مرتبه خاصة من مطلق الظن ، فاتّضح من هذا البيان دلالة الآية بالمنطوق على حجّية خبر العادل ، فلا يبقى مجال لما قيل : من أنّ كون المنطوق دالا على اعتبار خبر العادل ـ يكون ـ محلّا للنظر ، فتأمّل.

(ثمّ إنّ المحكيّ عن بعض منع دلالة التعليل على عدم جواز الإقدام على ما هو مخالف

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٢٨

على الشهادة والفتوى.

وفيه ـ مضافا إلى كونه خلاف ظاهر لفظ الجهالة ـ : إنّ الإقدام على مقتضى قول الوليد

____________________________________

للواقع ... إلى آخره) والغرض من هذا الكلام هو دفع الإشكال على المفهوم بعموم التعليل بوجه آخر ، فيكون جوابا ثانيا عن الإشكال المذكور.

وحاصله : إنّ الجهالة المذكورة في الآية وإن كانت ظاهرة بمعنى عدم العلم ؛ لأنّها من الجهل المقابل للعلم إلّا أنّها في الآية لم تكن بمعنى الجهل ، بل تكون بمعنى السفاهة ، وهي فعل ما لا يجوز فعله عند العقلاء.

فيرجع مفاد الآية إلى أنّ العمل بخبر الفاسق من دون تبيّن يكون من أفعال السفهاء ، فيجب التبيّن فيه لئلّا يكون العمل به عن سفاهة ، فيكون المفهوم : إنّ العمل بخبر العادل لا يعدّ عند العقلاء عملا عن السفاهة وإن لم يتبيّن أصلا ، فيكون حجّة من دون التبيّن بمقتضى المفهوم.

والشاهد على كون المراد من الجهالة هو السفاهة ـ أولا ـ هو قوله تعالى : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ؛ لأنّ الوقوع في الندم يكون في العمل عن سفاهة لا في العمل عن جهل ، فإنّ أعمال الناس يوميا تكون أكثرها عن جهل ولا ندامة فيها.

فالتعليل لا يشمل خبر العادل ؛ لأنّ العمل بخبر العادل لا يكون سفاهة فيرتفع التعارض والتنافي بين المفهوم والتعليل.

والشاهد الثاني على أنّ المراد من الجهالة هو السفاهة ، ما أشار إليه بقوله :

(ولو كان المراد الغلط في الاعتقاد لما جاز الاعتماد على الشهادة والفتوى) ، أي : لو كان المراد من الجهالة عدم العلم لكان مقتضى التعليل هو المنع عن العمل بكل ما لا يفيد العلم.

فحينئذ لا يجوز الاعتماد على الشهادة والفتوى ؛ لأنّ الشهادة لا تفيد العلم للحاكم ، كما أنّ الفتوى لا توجب العلم للمقلّد ، فيلزم كونهما غير حجّتين مع إنّهما حجّتان إجماعا ، فنكشف أنّ الجهالة تكون بمعنى السفاهة ، لأنّ العمل بهما لا يكون سفاهة ، فيكون كل واحدة منهما حجّة.

نعم ، يكون المراد من التبيّن ما هو الظاهر فيه من تحصيل العلم.

٢٩

لم يكن سفاهة قطعا ، إذ العاقل ، بل جماعة من العقلاء لا يقدمون على الامور من دون وثوق بخبر المخبر بها ، فالآية تدلّ على المنع عن العمل بغير العلم ، لعلّة هي كونه في معرض المخالفة للواقع.

وأمّا جواز الاعتماد على الفتوى والشهادة فلا يجوز القياس بها ، لما تقدّم في توجيه كلام ابن قبة ، من أنّ الإقدام على ما فيه مخالفة الواقع أحيانا قد يحسن لأجل الاضطرار إليه وعدم وجود الأقرب إلى الواقع منه كما في الفتوى ، وقد يكون لأجل مصلحة تزيد على مصلحة إدراك الواقع ، فراجع.

____________________________________

(وفيه ـ مضافا إلى كونه خلاف ظاهر لفظ الجهالة ـ : إن الإقدام على مقتضى قول الوليد لم يكن سفاهة قطعا ... إلى آخره) وقد أجاب المصنّف رحمه‌الله عن هذا الوجه.

أولا : بأنّ حمل الجهالة على السفاهة يكون من حمل اللفظ على خلاف ظاهره ؛ لأنّ ظاهر لفظ الجهالة هو عدم العلم لا السفاهة ، مضافا إلى أنّ حمل اللفظ على خلاف الظاهر لا يصح إلّا بقرينة ، وهي منتفية.

وأجاب ثانيا بما حاصله : إنّ التعليل لو دل على المنع عن العمل بالخبر بملاك كونه سفهيا ، فلا يدل على المنع عن العمل بخبر الفاسق المفيد للوثوق الذي لم يكن العمل به سفهيا ، فيختصّ وجوب التبيّن بقسم من خبر الفاسق الذي لا يفيد الوثوق فيكون العمل به سفهيا ، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى ، إذ المدّعى هو عدم حجّية خبر الفاسق مطلقا ، ولا يمكن الاستدلال بنفي حجّية الخاص على نفي حجّية العام.

ثمّ إنّ الشاهد على أنّ العمل بخبر الفاسق مطلقا لا يكون سفهيا ، هو إقدام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على مقتضى قول الوليد ، كما ورد في شأن نزول الآية ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله همّ وقصد أن يغزو بني المصطلق فنزلت الآية الشريفة.

فلا يصح ـ حينئذ ـ حمل الجهالة على السفاهة ، فيكون المراد منها عدم العلم ، فيبقى إشكال التعارض بين المفهوم والتعليل على حاله ؛ لأنّ التعليل يدل على منع العمل بغير العلم عادلا كان المخبر أو فاسقا.

قوله : (وأمّا جواز الاعتماد على الفتوى والشهادة ، فلا يجوز القياس ... إلى آخره) دفع لما تقدّم من الإشكال الوارد على الفتوى والشهادة ، على تقدير أن يكون المراد من الجهالة

٣٠

فالأولى لمن يريد التفصّي عن هذا الإيراد التشبّث بما ذكرنا ، من أنّ المراد بالتبيّن تحصيل الاطمئنان ، وبالجهالة الشكّ أو الظنّ الابتدائي الزائل بعد الدقة والتأمّل ، فتأمّل.

ففيها إرشاد إلى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره وإن حصل منه الاطمئنان ؛ لأنّ الاطمئنان الحاصل من الفاسق يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته بالمعصية وإن كان

____________________________________

عدم العلم ؛ إذ التعليل يدل على عدم اعتبارهما ـ أيضا ـ لعدم كونهما مفيدين للعلم مع أنّهما ممّا لا شكّ في اعتبارهما ، فيمكن أن يقال : باعتبار خبر العادل ـ أيضا ـ قياسا عليهما.

وأجاب المصنّف رحمه‌الله بما حاصله : إنّه لا يجوز قياس خبر العادل بهما ؛ لأنّهما قد خرجتا عمّا دلّ على المنع ، ومنه عموم التعليل بما دلّ على اعتبارهما ، فقد خصّص عموم التعليل بما دل على اعتبارهما ، وهذا بخلاف خبر العادل المستفاد اعتباره من المفهوم الذي يكون مع عموم التعليل في كلام واحد ، فلا يجوز تخصيص عموم التعليل به كما تقدم ، بل الأمر بالعكس ، أي : عموم التعليل يكون قرينة على عدم ثبوت المفهوم من الأول.

ثمّ إنّ ما ذكر في شرح هذا الكلام يكون أنسب بالمقام ممّا ذكره الاعتمادي ـ دام عزّه الشريف ـ فراجع.

(فالاولى لمن يريد التفصّي عن هذا الإيراد التشبّث بما ذكرنا ... إلى آخره).

يقول المصنّف رحمه‌الله : من يريد التفصّي عن الإشكال الثاني ، وهو تعارض المفهوم والتعليل ، فله أن يتمسّك بما ذكرنا من أنّ المراد بالتبيّن هو تحصيل الاطمئنان ، وبالجهالة الشكّ أو الظنّ الابتدائي الزائل بعد الدقة ، فالتعليل لا يشمل خبر العادل ؛ لأنّه يوجب الاطمئنان ، فيرتفع التعارض بين المفهوم والتعليل.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى ما تقدّم من أنّه إذا كان المراد بالتبيّن تحصيل الاطمئنان ، لكان اعتبار خبر العادل بالمنطوق من دون حاجة إلى المفهوم.

قوله : (ففيها إرشاد إلى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره ... إلى آخره) دفع لما يمكن أن يرد من الإشكال ، وملخّصه : إنّه إذا كان التبيّن بمعنى الاطمئنان ، والجهالة بمعنى عدم الاطمئنان ؛ لما صحّ الأمر بالتبيّن في مطلق خبر الفاسق ؛ لأنّ خبر الفاسق قد يوجب الاطمئنان ، ومقتضى الآية هو جواز العمل بكل خبر يوجب الاطمئنان ، فاسقا كان المخبر أم عادلا ، فلا وجه بالتبيّن في خبر الفاسق على نحو المطلق.

٣١

متحرّزا عن الكذب ، ومنه يظهر الجواب عمّا ربّما يقال : من أنّ العاقل لا يقبل الخبر من دون اطمئنان بمضمونه ، عادلا كان المخبر أو فاسقا ، فلا وجه للأمر بتحصيل الاطمئنان في الفاسق ، وأمّا ما اورد على الآية ـ بما هو قابل للذّبّ عنه ـ فكثير :

منها : معارضة مفهوم الآية بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، والنسبة عموم من وجه. فالمرجع إلى أصالة عدم الحجّية.

____________________________________

وأجاب المصنّف رحمه‌الله عن هذا الإشكال بقوله : (ففيها) ، أي : الآية (إرشاد ... إلى آخره) ، وحاصل دفع الإشكال :

إنّ في الآية إرشادا إلى الفرق بين العادل والفاسق ، وعدم جواز مقايسة الفاسق بالعادل ، وحاصل الفرق هو عدم الاعتماد بخبر الفاسق من دون التبيّن ، وإن كان قد يوجب الاطمئنان ؛ لأنّ الاطمئنان الحاصل منه يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته ، فيجب تحصيل الاطمئنان المستقر من الخارج.

فالآية إرشاد وإشارة إلى وجوب التبيّن فيه مطلقا ، إمّا لعدم حصول الاطمئنان منه أو زواله بعد الحصول ، وهذا بخلاف خبر العادل حيث يحصل منه الاطمئنان المستقر الثابت خصوصا عند الالتفات إلى عدالته.

(ومنه يظهر الجواب عمّا ربّما يقال : من أنّ العاقل لا يقبل الخبر من دون اطمئنان) ، وممّا ذكرنا ـ من عدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق وإن كان موجبا للاطمئنان ؛ لعدم كونه مستقرا ـ يظهر ويتضح الجواب عمّا يقال : من أنّ الأمر بالتبيّن بمعنى الاطمئنان لغو ؛ لأن العاقل لا يقبل الخبر ولا يعمل به ما لم يحصل منه الاطمئنان ، سواء كان المخبر فاسقا أو عادلا.

فحكم العقل يكون كافيا في تحصيل الاطمئنان فلا حاجة إلى الأمر به ، ولا بدّ أن يكون المراد من التبيّن هو تحصيل العلم ، والمراد من الجهالة عدم العلم ، حفظا لكلام الحكيم عن اللغوية ، وحينئذ يصحّ الأمر بالتبيّن في خبر الفاسق. وقد تقدّم الجواب فلا حاجة إلى ذكره ثانيا.

هذا تمام الكلام في الإشكال على آية النبأ ، الذي لا يمكن الذبّ عنه عند المصنّف رحمه‌الله.

ثم يبدأ ببيان ما اورد على الآية بما يكون قابلا للجواب فيقول : (وأمّا ما اورد على الآية

٣٢

وفيه : أنّ المراد بالنبإ في المنطوق ما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فالمفهوم أخصّ مطلقا من تلك الآيات ، فيتعيّن تخصيصها ، بناء على ما تقرّر من أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم أقوى من ظهور العامّ في العموم. وأمّا منع ذلك فيما تقدّم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم فلما عرفت من منع ظهور الجملة الشرطيّة المعلّلة بالتعليل الجاري ، في صورتي وجود الشرط وانتفائه في إفادة الانتفاء عند الانتفاء ، فراجع.

____________________________________

ـ بما هو قابل للذبّ عنه ـ فكثير ، منها : معارضة مفهوم الآية بالآيات الناهية) وتقريب الإشكال ـ بكون مفهوم الآية معارضا للآيات الناهية ـ ويتضح بعد تقديم مقدمة وهي :

إنّ النسبة بينهما هي عموم من وجه ، حيث يكون مقتضى المفهوم حجّية خبر العادل مطلقا ، أي : سواء كان مفيدا للعلم أو الظن ، ويكون مفاد الآيات الناهية عدم حجّية الظن مطلقا ، سواء حصل من خبر العادل أو من غيره.

فمادة الافتراق ، من جانب المفهوم : هو خبر العادل المفيد للعلم ، ومن جانب الآيات الناهية : هو خبر الفاسق ، ومادة الاجتماع : هو خبر العادل الظنّي ، فيحكم بتساقطهما ، ويرجع إلى أصالة حرمة العمل بغير العلم ، كما أشار إليه بقوله : (فالمرجع إلى أصالة عدم الحجّية ، وفيه : أنّ المراد بالنبإ في المنطوق ما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فالمفهوم أخصّ مطلقا من تلك الآيات ... إلى آخره).

وحاصل جواب المصنّف رحمه‌الله عن هذا الإشكال ، يرجع إلى ردّ كون النسبة عموما من وجه ، بل هي عموم مطلق ، ويكون المفهوم أخصّ من الآيات الناهية ، فحينئذ يتعيّن تخصيص الآيات بالمفهوم بمقتضى الجمع العرفي ، كما قيل : الجمع مهما أمكن اولى من الطرح.

وأمّا بيان كون النسبة عموما مطلقا لا من وجه ، فقد أشار إليه بقوله : إنّ المراد بالنبإ في المنطوق هو ما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، أعني : الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب ، فيكون الخبر العلمي خارجا عن المنطوق والمفهوم ، فتنقلب النسبة بين المفهوم والآيات الناهية إلى العموم المطلق ، فيجري فيه حكم قاعدة حمل العام على الخاص ، وجعله مخصّصا له.

قوله : (وأمّا منع ذلك فيما تقدّم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم فلما

٣٣

وربّما يتوهّم أنّ للآيات الناهية جهة خصوص ، إمّا من جهة اختصاصها بصورة التمكّن من العلم ، وإمّا من جهة اختصاصها بغير البيّنة العادلة وأمثالها ممّا خرج عن تلك الآيات قطعا.

____________________________________

عرفت من منع ظهور الجملة الشرطيّة ... إلى آخره) دفع لما يقال : من أنّ تخصيص عموم الآيات الناهية في المقام بالمفهوم ينافي ما تقدّم من منع تخصيص عموم التعليل بالمفهوم ، بل التعليل قدّم عليه.

ودفع هذا التوهّم يتضح بعد بيان الفرق بين ما تقدم من تقديم عموم التعليل على المفهوم وبين المقام ، وهو أنّ التعليل فيما تقدم كان مانعا عن تحقّق المفهوم ، فعدم تخصيص عموم التعليل بالمفهوم كان لأجل عدم ثبوت المفهوم أصلا ، وهذا بخلاف المقام ، حيث يكون المفهوم ثابتا ؛ لأن الآيات الناهية لا تمنع عن ثبوت المفهوم لكونها منفصلة عنه ، فيكون تخصيص الآيات الناهية بالمفهوم الموجود بمقتضى الجمع العرفي.

(وربّما يتوهّم أنّ للآيات الناهية جهة خصوص ... إلى آخره) بأن تكون النسبة بينهما عموما من وجه ، فيكون هذا التوهّم راجعا إلى أصل الإشكال ، حيث كان مبنيا على كون النسبة بين المفهوم والآيات الناهية ، عموما من وجه.

وملخّص التوهّم : أنّه يمكن أن ترجع النسبة بينهما إلى العموم من وجه بالتزام الخصوصية في الآيات الناهية ، من إحدى جهتين :

الاولى : هي اختصاصها بصورة التمكّن من العلم وكون باب العلم منفتحا ، فيكون مفاد الآيات ـ حينئذ ـ حرمة العمل بالظن في صورة التمكّن من العلم وانفتاح باب العلم ، فترجع النسبة بينهما ـ حينئذ ـ إلى العموم من وجه ؛ لاجتماعهما في خبر العادل الظنّي في صورة التمكّن من العلم ، إذ مقتضى المفهوم هو الحجّية ، ومقتضى الآيات الناهية هو الحرمة وعدم الحجّية ، والافتراق من جانب الآيات خبر الفاسق ، ومن جانب المفهوم خبر العادل الظنّي حال عدم التمكّن من العلم والانسداد.

والجهة الثانية : هي اختصاص الآيات الناهية بغير البيّنة العادلة والفتوى ، فيكون مفادها ـ حينئذ ـ حرمة العمل بغير البيّنة والفتوى من سائر الظنون ، سواء حصلت من خبر العادل أو الفاسق.

٣٤

ويندفع الأوّل ـ بعد منع الاختصاص ـ بأنّه يكفي المستدلّ كون الخبر حجّة بالخصوص عند الانسداد.

والثاني : بأنّ خروج ما خرج من أدلّة حرمة العمل بالظنّ لا يوجب جهة عموم في المفهوم ، لأنّ المفهوم ـ أيضا ـ دليل خاصّ ، مثل الخاصّ الذي خصّص أدلّة حرمة العمل

____________________________________

ومفاد المفهوم هو حجّية خبر العادل ، بيّنة كانت أو رواية ، فترجع النسبة بينهما إلى العموم من وجه ؛ لاجتماعهما في خبر العادل الظنّي في نقل الرواية وافتراق الآيات في خبر الفاسق والمفهوم في البينة مثلا ، فيتعارضان في مادة الاجتماع ويتساقطان ، ويرجع إلى أصالة حرمة العمل وعدم الحجّية.

وبالجملة ، إنّ التوهّم المذكور يكون مبنيا على أحد أمرين على نحو منع الخلوّ ، وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى الجواب عنه من الجهة الاولى بقوله : (ويندفع الأول ـ بعد منع الاختصاص ـ بأنه يكفي المستدلّ كون الخبر حجّة بالخصوص عند الانسداد) ، وحاصل الجواب يرجع إلى وجهين :

الوجه الأول : هو منع اختصاص الآيات الناهية بصورة الانفتاح والتمكّن من العلم ؛ لأنّها غير مقيّدة بصورة التمكّن منه ، بل هي مطلقة تشمل بإطلاقها صورة التمكّن وغيرها ، فالنسبة بينها وبين المفهوم حينئذ هي العموم المطلق ، فيكون المفهوم مخصّصا لها.

والوجه الثاني : هو أنّ غرض المستدل بالمفهوم هو حجّية خبر الواحد في الجملة ، أي : ولو عند الانسداد ، وقد سلّم المتوهّم حجّيته عند الانسداد ، وهذا المقدار يكفي في إثبات ما هو المطلوب.

(والثاني : بأنّ خروج ما خرج من أدلّة حرمة العمل بالظنّ لا يوجب جهة عموم في المفهوم) ويندفع التوهّم من الجهة الثانية بأنّ اختصاص الآيات الناهية بغير البيّنة وأمثالها ، وخروج البينة ونحوها منها لا يوجب جهة خصوص فيها وجهة عموم في المفهوم حتى ترجع النسبة إلى العموم من وجه ، ويتضح ذلك بعد تقديم مقدمة ، وهي :

إنّه إذا كان هناك عامّ وخاصّان لوجبت ملاحظة نسبتهما مع العام عرضا وفي مرتبة واحدة ، مع قطع النظر عن تخصيص العام بأحدهما أولا ، ثمّ تخصيصه بالآخر ، إذ التخصيص كذلك ـ كما يأتي توضيحه في المثال المذكور في المتن ـ وإن كان قد يوجب

٣٥

بالظّن ، فلا يجوز تخصيص العامّ بأحدهما أوّلا ، ثمّ ملاحظة النّسبة بين العامّ بعد ذلك التخصيص وبين الخاصّ الأخير ، فإذا ورد : أكرم العلماء ، ثمّ قام الدليل على عدم وجوب إكرام جماعة من فسّاقهم ، ثمّ ورد دليل ثالث على عدم وجوب إكرام مطلق الفسّاق منهم ؛ فلا مجال لتوهّم تخصيص العامّ بالخاصّ الأوّل أوّلا ، ثمّ جعل النسبة بينه وبين الخاصّ الثاني عموما من وجه ، وهذا أمر واضح نبّهنا عليه في باب التعارض.

ومنها : إنّ مفهوم الآية لو دل على حجّيّة خبر العادل لدلّ على حجّية الإجماع الذي أخبر به السيّد المرتضى وأتباعه قدس‌سره ، من عدم حجّية خبر العادل ؛ لأنّهم عدول أخبروا بحكم

____________________________________

انقلاب النسبة بين العام والخاص الثاني إلى العموم من وجه ، ولكن لا يجوز لحاظ النسبة على نحو ترتيب طولي ، بل يجب لحاظها دفعة وعرضا لكونهما في مرتبة واحدة.

فإذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك أنّ النسبة بين كل واحد من الخاص والعام تبقى على حالها ، ولا تتغيّر أصلا ، وانقلاب النسبة وتغييرها يكون مبنيا على لحاظها طوليا ، ولكننا قلنا في المقدمة بوجوب ملاحظة النسبة دفعة وعرضا.

فما ذكره المتوهّم مبنيّ على ملاحظة النسبة مرتبة وطولا ، إذ ـ حينئذ ـ تلاحظ النسبة ـ أولا ـ بين أدلة حجّية البيّنة والآيات الناهية فتخصّص بها ، ثمّ تلاحظ النسبة ـ ثانيا ـ بين المفهوم والآيات حال كونها غير شاملة للبيّنة ونحوها ، فتكون النسبة ـ حينئذ ـ عموما من وجه ، كما في المثال المذكور في المتن : إذا ورد عام كقول المولى : أكرم العلماء ، ثمّ ورد المنع عن إكرام جماعة منهم ، كالفسّاق من النحويين مثلا ، ثمّ ورد المنع ـ ثانيا ـ عن إكرام مطلق الفساق من العلماء ، وخصّص العامّ بالخاصّ الأول ، وخرج الفساق من النحويين منه ، ثمّ تلاحظ النسبة بين فسّاق مطلق العلماء ، وبين العام غير الشامل لفساق النحويين منهم ، لانقلبت النسبة إلى العموم من وجه ؛ لاجتماعهما في الفساق غير النحويين ، وافتراق العام في العدول من العلماء ، وافتراق الخاص الثاني في الفساق النحويين منهم ، ولكن ملاحظة النسبة طولا تكون باطلة ؛ لكونها مستلزمة للترجيح من دون مرجّح ، فما ذكره المتوهّم من لحاظ النسبة طولا يكون باطلا ، فلا بدّ من ملاحظة النسبة دفعة واحدة ، وتكون النسبة ـ حينئذ ـ عموما مطلقا لا من وجه.

(ومنها : إنّ مفهوم الآية لو دلّ على حجّية خبر العادل لدلّ على حجّية الإجماع الذي

٣٦

الامام عليه‌السلام ، بعدم حجّية الخبر.

وفساد هذا الإيراد أوضح من أن يبيّن ، إذ بعد الغضّ عمّا ذكرنا سابقا في عدم شمول آية النبأ للإجماع المنقول ، وبعد الغضّ عن أنّ إخبار هؤلاء معارض بإخبار الشيخ قدس‌سره ، نقول : إنّه لا يمكن دخول هذا الخبر تحت الآية.

أمّا أوّلا : فلأنّ دخوله يستلزم خروجه ؛ لأنّه خبر العادل فيستحيل دخوله.

ودعوى أنّه لا يعمّ نفسه مدفوعة بأنّه وإن لا يعمّ نفسه لقصور دلالة اللفظ عليه ، إلّا

____________________________________

أخبر عنه السيد المرتضى ... إلى آخره) ويمكن تقريب هذا الإشكال بقياس استثنائي ، وهو أنّه لو دلّ مفهوم الآية على حجّية خبر العادل لدلّ على حجّية إجماع السيّد على عدم حجّية خبر الواحد ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، والملازمة واضحة ؛ لأنّ إخبار السيّد بالإجماع يكون خبر العادل ، فيشمله مفهوم الآية. وبطلان التالي ـ أيضا ـ واضح ؛ لأن حجّية خبر الواحد قد ثبتت بالأدلة الأربعة.

وقد أجاب عنه المصنّف رحمه‌الله بوجوه :

والوجه الأول : يرجع إلى ردّ الملازمة في القياس المذكور ، وانتفاء الملازمة تارة يكون مع ثبوت المقدّم والتالي ، واخرى بانتفاء أحد طرفي الشرطية ، أي : المقدّم أو التالي ، وانتفاؤها في المقام يكون بانتفاء التالي ؛ لأن مفهوم الآية لا يشمل الإجماع المنقول ، كما تقدّم في بحث الإجماع : من أنّ الأدلة تدل على حجّية خبر الواحد الحسّي لا الحدسي ، والإجماع إخبار عن حدس.

والوجه الثاني : إنّ إخبار السيد عن الإجماع معارض بإخبار الشيخ رحمه‌الله عن الإجماع ، والترجيح مع إخبار الشيخ رحمه‌الله ؛ لأنه مؤيّد بالشهرة كما تقدّم.

والوجه الثالث : لا يمكن دخول خبر السيد بالإجماع في مفهوم الآية ؛ لأنّه مستلزم للخروج ، وما يلزم من دخوله خروجه كما يلزم من وجوده عدمه يكون محالا وباطلا ، ووجه الاستلزام : إنّ السيد قد أخبر عن الإمام عليه‌السلام تضمّنا ، أو التزاما بعنوان الإجماع بعدم حجّية خبر العادل الظنّي ، ثمّ خبره هذا خبر العادل الظنّي ، فلا يكون حجّة بنفس هذا الخبر ، فيخرج عن مفهوم الآية بعد دخوله ، فيلزم من حجّية خبر السيد رحمه‌الله عدم حجّيته ، وتقدّم أنّ ما يلزم من وجوده عدمه يكون محالا وباطلا.

٣٧

أنّه يعلم أن الحكم ثابت لهذا الفرد أيضا ، للعلم بعدم خصوصيّة مخرجه له عن الحكم. ولذا لو سألنا السيّد عن أنّه إذا ثبت إجماعك لنا بخبر واحد هل يجوز الاتكال عليه؟ فيقول : لا.

وأمّا ثانيا : فلو سلّمنا جواز دخوله ، لكن نقول : إنّه وقع الإجماع على خروجه من النافين بحجّيّة الخبر ومن المثبتين ، فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلدوران الأمر بين دخوله وخروج ما عداه وبين العكس ، ولا ريب أنّ

____________________________________

(ودعوى أنّه لا يعمّ نفسة مدفوعة ... إلى آخره) ، أي : إنّ المحذور المذكور يلزم على تقدير شمول خبر السيد رحمه‌الله نفسه ، فيمكن أن يقال : إنّه لا يشمل نفسه فلا يلزم المحذور ، ووجه عدم الشمول : إنّ اللفظ له وجود خارجي ، كقولك : زيد قائم ، والمعنى له وجود ذهني ، أي : يتصوره المتكلم قبل التكلم باللفظ ، فكيف يشمل اللفظ نفسه؟!.

وبالجملة ، إنّ المحذور مبنيّ على شمول اللفظ نفسه ، ولا يشمل ، فلا يلزم المحذور ، وحاصل الدفع : إنّ اللفظ وإن كان لا يشمل نفسه إلّا أنّ المناط عام فيشمل نفسه باعتبار المناط ، فالحكم بعدم الحجّية يجري في خبر السيد بتنقيح المناط لا بالدلالة اللفظية.

(وأمّا ثانيا : فلو سلّمنا جواز دخوله ، لكن نقول : إنه وقع الإجماع على خروجه) وهذا راجع إلى ما تقدّم من لزوم المحذور من دخول خبر السيد في المفهوم.

فيقول المصنّف رحمه‌الله : لو سلّمنا عدم لزوم المحذور وجواز دخول إخبار السيد بالإجماع في المفهوم ، لكنّ الإجماع قد قام على خروجه عن المفهوم من النافين والمثبتين.

أمّا من النافين فلفرض نفيهم حجّية أخبار الآحاد مطلقا ، فيشمل خبر السيد ، وأمّا المثبتون فلا بدّ لهم من القول بعدم حجّية إخبار السيد بالإجماع ؛ لأنّهم يقولون بحجّية أخبار الآحاد.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى أنّ دعوى الإجماع على خروج خبر السيد عن مفهوم الآية وعدم حجّيته تكون من دعوى الإجماع في موضوع شخصي ، وهو خروج خبر السيد رحمه‌الله وعدم حجّيته ، فليس هذا الإجماع إجماعا مصطلحا ، إذ الإجماع المصطلح عندهم : هو الاتفاق على حكم من الأحكام.

(وأمّا ثالثا : فلدوران الأمر بين دخوله وخروج ما عداه وبين العكس ... إلى آخره) ويدور الأمر بين دخول خبر السيد في المفهوم والحكم بحجّيته ، وخروج ما عداه من أخبار

٣٨

العكس متعيّن ، لا لمجرّد قبح انتهاء التخصيص إلى الواحد ، بل لأنّ المقصود من الكلام ـ حينئذ ـ ينحصر في بيان عدم حجّيّة خبر العادل.

ولا ريب أنّ التعبير عن هذا المقصود بما يدلّ على عموم حجّيّة خبر العادل قبيح في

____________________________________

العدول ، والحكم بعدم حجّيتها وبين العكس ، أي : دخول أخبار غير السيد من أخبار العدول في المفهوم ، والحكم بحجّيتها دون خبر السيد رحمه‌الله ، ولا يمكن الجمع بينهما للتنافي ، فلا بدّ من إخراج أحدهما من المفهوم دفعا للتناقض ، حيث يقول المصنّف رحمه‌الله : (أنّ العكس متعيّن) أي : دخول سائر أخبار العدول في المفهوم ، وإخراج خبر السيد عنه يكون متعيّنا(لا لمجرّد قبح انتهاء التخصيص إلى الواحد) تعيّن العكس ، أي : إخراج خبر السيد عن المفهوم لم يكن من جهة واحدة وهي لزوم الاستهجان من جهة انتهاء التخصيص إلى الواحد ، بل يلزم الاستهجان من جهتين :

الاولى : ما تقدّم من لزوم الاستهجان من جهة تخصيص العام إلى الواحد بحسب المعنى وإن لم يكن تخصيصا مصطلحا ؛ لأنّه يكون بإلّا أو غيرها من أدوات الإخراج ، وتخصيص العام إلى الواحد قبيح ومستهجن جزما ، كقولك : أكلت كلّ رمّان في البستان ، وقد أكلت مثلا واحدا من الرمّان.

وكذلك في المقام ؛ قال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(١) ، فأخرج بالاستثناء جميع أخبار العدول من المفهوم ، إلّا خبر السيد رحمه‌الله ، وكان المقصود من المفهوم هو خبر السيد فقط ، وهو قبيح ومستهجن.

الجهة الثانية : وهي بيان المقصود بلفظ دال على نقيض المقصود ، وأداء المقصود ـ كذلك ـ يكون قبيحا ومستهجنا ، وبيان ذلك في المقام :

إنّ المقصود ـ حينئذ ـ من مفهوم الآية هو عدم حجّية أخبار العدول ، وقد أفاده بمفهوم الآية الدالّ على حجّية أخبار العدول ، فمفاد المفهوم : إنّ خبر العادل حجّه ، واريد بخبر العادل خبر السيد الدالّ على عدم الحجّية.

فالحاصل من مفهوم الآية هو : بيان عدم الحجّية باللفظ الدالّ على الحجّية ، وهو قبيح

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٣٩

الغاية وفضيح إلى النهاية ، كما يعلم من قول القائل : صدّق زيدا في جميع ما يخبرك ، فأخبرك زيد بألف من الأخبار ، ثم أخبر بكذب جميعها ، فأراد القائل من قوله : صدّق ... إلى آخره ، خصوص هذا الخبر.

وقد أجاب بعض من لا تحصيل له : بأنّ الإجماع المنقول مظنون الاعتبار ، وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار.

____________________________________

ومستهجن ، وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إليه بقوله : (ولا ريب أنّ التعبير عن هذا المقصود) وهو عدم حجّية خبر العادل (بما يدلّ) على عموم حجّية(خبر العادل) وهو نقيض المطلوب ، بل التعبير الصحيح في أداء هذا المقصود منطوق الآية بأن يقول : إن جاءكم عادل بنبإ فتبيّنوا.

وبالجملة ، لا يصحّ أن يكون المراد من المفهوم الدالّ على حجّية خبر العادل منحصرا في خبر السيد الدالّ على عدم حجّية خبر العادل ؛ لأنّه قبيح ، كما يعلم قبحه من قول القائل : صدّق زيدا في جميع ما يخبرك ، فأخبرك زيد بألف خبر ، ثمّ أخبرك بكذب جميعها.

فأراد القائل من قوله : صدّق زيدا خصوص هذا الخبر الأخير من زيد ، فكان مقصوده في الحقيقة هو عدم تصديق زيد في أخباره ، كما هو مقتضى خبره الأخير الذي أراد القائل تصديقه فقط ، فقد عبّر عن مقصوده باللفظ الدالّ على نقيض المطلوب ، وكان الصحيح أن يقول : لا تصدّق زيدا فيما يخبرك ، لا صدّق زيدا في جميع ما يخبرك ؛ فالتعبير الثاني الدالّ على نقيض المطلوب مكان التعبير الأول الدال على المقصود بالصراحة قبيح جدا.

(وقد أجاب بعض من لا تحصيل له : بأنّ الإجماع مظنون الاعتبار ، وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار)

الظاهر من هذا الجواب هو تعارض الإجماع وظاهر الكتاب ، أي : مفهوم الآية ، فأجاب : بأنّ الإجماع المنقول مظنون الاعتبار ، وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار ، فلا يقاوم ما هو مظنون الاعتبار ظاهر الكتاب.

ولا بدّ أولا من تصوير التعارض ، ثمّ بيان فساد هذا الجواب.

أمّا تقريب التعارض فيمكن أن يقال : مفهوم الآية يدل على أنّ خبر الواحد حجّة ، وخبر السيد بالإجماع يدلّ على عدم حجّيته ، فيتعارضان.

٤٠