دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

من الخاصّة والعامّة في دليل اشتراط التكليف بالعلم ، وإلّا فنفس الفعل لا يصير ممّا لا يطاق بمجرد عدم العلم بالتكليف به.

واحتمال : «كون الغرض من التكليف مطلق صدور الفعل ولو مع عدم قصد الإطاعة ، أو يكون الغرض من التكليف مع الشكّ فيه إتيان الفعل لداعي حصول الانقياد بقصد الإتيان بمجرّد احتمال كونه مطلوبا للأمر. وهذا ممكن من الشاكّ وإن لم يمكن من الغافل» ،

____________________________________

الاحتياط والاجتناب تكليف بما لا يطاق حتى لا يجوز عقلا ؛ وذلك لأنّ الفعل بمجرد عدم العلم بالتكليف به لا يصير ممّا لا يطاق ، فحينئذ يكون الدليل العقلي الثاني على البراءة غير تام ، فصار المصنف قدس‌سره في مقام توجيه كلام السيّد دفعا لهذا الإشكال حيث قال : إنّ المراد بما لا يطاق ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد الطاعة.

ومن المعلوم أن الجاهل لا يكون قادرا على ترك شرب التتن بقصد الطاعة والامتثال ، فيكون التكليف بالاجتناب عنه تكليفا بما لا يطاق ؛ وذلك لأنّ قصد الامتثال موقوف على العلم بالتكليف ، فالفعل المشتبه سواء كان من التعبّديات أو التوصّليات ممّا لا يمكن امتثاله في حال عدم العلم بالتكليف به.

وأمّا كونه ممّا لا يطاق فيما إذا كان تعبّديّا فواضح ؛ وذلك لأنّ الامتثال والإطاعة يتوقّف على قصد امتثال الأمر به ، وقصد التقرب ، ومن المعلوم أنّ قصد امتثال الأمر يتوقف على العلم بالأمر والتكليف ، سواء كان متعلّقه هو الفعل كما في الواجب ، أو الترك كما في الحرام ، فيكون امتثال الأمر وإتيان الفعل بقصد الطاعة ممّا لا يطاق.

وأمّا فيما إذا كان الفعل المشتبه من التوصّليّات ، واريد إتيانه بقصد الطاعة ليترتّب عليه الثواب ، لكان إتيانه ـ أيضا ـ كالتعبّدي ممّا لا يطاق ؛ لأنّ قصد الطاعة يتوقّف على العلم بالتكليف ، وهذا لا يمكن حال الجهل به ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة ، وإنّما الفرق بينهما هو في سقوط أصل الأمر ، لأنّ الأمر في التعبّدي لا يسقط ، إلّا إذا أتى بالفعل بقصد التقرب والامتثال ، وفي التوصّلي يسقط بدونه.

وقوله : (واحتمال : «كون الغرض من التكليف مطلق صدور الفعل ولو مع عدم قصد الإطاعة ، أو يكون الغرض من التكليف مع الشكّ فيه إتيان الفعل لداعي حصول الانقياد بقصد الإتيان بمجرد احتمال كونه مطلوبا للأمر).

٣٠١

مدفوع بأنّه إن قام دليل على وجوب إتيان الشاكّ في التكليف بالفعل لاحتمال المطلوبيّة ، أغنى ذلك عن التكليف بنفس الفعل ، وإلّا لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور.

____________________________________

دفع لما يتوهّم من بطلان التوجيه المذكور للمصنّف قدس‌سره لكلام السيد أبي المكارم.

وملخّص تقريب التوهّم : هو أنّ ما ذكر من التوجيه صحيح فيما إذا كان الغرض من التكليف امتثال الأمر وقصد الإطاعة.

وأمّا فيما إذا كان الغرض منه مطلق صدور الفعل من المكلّف ، كما هو في التوصّليّات مثل دفن الميت ، وأداء الدين ، أو كان الغرض منه منع المكلّف الشاكّ صدور الفعل منه لأجل رجاء الواقع وحصول الانقياد لم يكن التوجيه صحيحيا ، إذ يمكن ـ حينئذ ـ إيجاد الفعل وإتيانه في الخارج مطلقا كما في الفرض الأول ، أو بعنوان الاحتياط ورجاء الواقع كما في الفرض الثاني ؛ وذلك لأنّ المفروض هو إمكان الاحتياط فلا يلزم التكليف بما لا يطاق في كلتا الصورتين.

وقد أشار إلى دفع هذا التوهّم بقوله : (مدفوع).

وحاصل كلامه في دفع هذا التوهّم هو أنّه إن قام دليل خارجي كقوله عليه‌السلام : (احتط لدينك) (١) على أنّ الغرض من التكليف هو الإتيان بالفعل احتياطا لاحتمال المطلوبيّة أغنى ذلك الدليل من التكليف بنفس الفعل واقعا ، إذ لم يكن ـ حينئذ ـ التكليف الواقعي محرّكا للشاكّ نحو الامتثال به فيكون لغوا ، إذ يكفي ـ حينئذ ـ في تحريك الشاكّ إلى ترك شرب التتن وفعل الدعاء الدليل الدال على وجوب الاحتياط من دون حاجة إلى توجّه التكليف الواقعي إليه وتنجّزه عليه ؛ لأنّ إتيان الفعل باحتمال المطلوبيّة لا يكون من آثار التكليف في الواقع حتى يقتضي وجود التكليف في الواقع إتيان الفعل كذلك ، فلا يكون لغوا.

هذا إن قام الدليل على وجوب الاحتياط(وإلّا لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ١١٠ / ١٦٨. الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٦.

٣٠٢

والحاصل أنّ التكليف المجهول لا يصحّ لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقا ، وصدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي التكليف لا يمكن أن يكون غرضا للتكليف.

واعلم أنّ هذا الدليل العقلي ـ كبعض ما تقدّم من الأدلّة النقليّة ـ معلّق على عدم تماميّة أدلّة الاحتياط فلا يثبت به إلّا الأصل في مسألة البراءة ولا يعدّ من أدلّتها بحيث يعارض أخبار الاحتياط.

____________________________________

أي : وإن لم يقم دليل خارجي على وجوب الاحتياط فنفس التكليف المشكوك لم ينفع ؛ لأنّه لا يوجب تحريك المكلّف إلى التزام الاحتياط.

والحاصل أن التكليف المجهول لا يصلح ، ولا يعقل أن يكون محرّكا للمكلّف الشاكّ نحو الفعل مطلقا : لا تعبّدا ، ولا توصّلا ، ولا احتياطا.

(وصدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي التكليف لا يمكن أن يكون غرضا للتكليف).

أي : وصدور الفعل من المكلّف اتفاقا ومن باب الصدفة من دون أن يكون التكليف المجهول محرّكا كما في المباحات لا يكون غرضا للتكليف ، بل جعل ذلك غرضا عبث لا يصدر عن العاقل فضلا عن الشارع الحكيم ، لأنّ الدعاء تحصّل في الخارج اتفاقا ، والشرب يترك كذلك سواء كان في الواقع تكليف أم لا. هذا تمام الكلام في تقريب الدليل العقلي على البراءة بكلا قسميه.

(واعلم أنّ هذا الدليل العقلي ـ كبعض ما تقدّم من الأدلة النقليّة ـ معلّق على عدم تماميّة أدلّة الاحتياط).

أي : إن قاعدة قبح العقاب بلا بيان كبعض الأدلة النقليّة معلّقة على عدم تماميّة أدلة الاحتياط ، إذ لو تمّت تلك الأدلة لكانت بيانا يرتفع بها موضوع القاعدة فكانت واردة على هذا الدليل العقلي ، فلا يكون حينئذ معارضا لأخبار الاحتياط.

* * *

٣٠٣

أدلة أخرى على البراءة

وقد يستدلّ على البراءة بوجوه غير ناهضة :

منها : استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر والجنون.

وفيه : إن الاستدلال به مبنيّ على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، فيدخل أصل البراءة بذلك في الأمارات الدالّة على الحكم الواقعي دون الاصول المثبتة للأحكام الظاهريّة. وسيجيء عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ إن شاء الله.

وأمّا لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، فلا ينفع في المقام ،

____________________________________

(منها : استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر والجنون).

والظاهر من هذه العبارة هو أنّ المراد باستصحاب البراءة : هو استصحاب براءة الذمّة عن التكليف الشرعي.

ويمكن أن يكون المراد به البراءة العقليّة : وهي عبارة عن حكم العقل بعدم استحقاق العقاب على فعل ما شكّ في تحريمه ، أو ترك ما شكّ في وجوبه.

وكيف كان ، يرد فيه :

أوّلا : بأنّ الحكم بحليّة مشكوك الحرمة في الشبهة التحريميّة لا يحتاج إلى الاستصحاب ، بل يكفي فيه مجرد الشكّ في الحرمة ، لأنّ الحكم يترتّب على الشكّ لا على عدم الحرمة ، حتى يحتاج إحرازه إلى استصحاب عدم الحرمة ، أو براءة ذمّة المكلّف عنها.

وثانيا : كما أشار إليه بقوله : (وفيه : إنّ الاستدلال به مبنيّ على اعتبار الاستصحاب من باب الظن).

وحاصل هذا الإيراد الثاني : هو أنّ التمسّك بالاستصحاب المذكور مبنيّ على اعتباره من باب الظنّ ، لأنّ الغرض منه هو إثبات عدم حدوث المشكوك ، فلا بدّ أن يحصل منه الظنّ بعدم الحدوث ، ويكون الاستصحاب ـ حينئذ ـ ناظرا إلى الواقع ، فيكون من الأدلة الاجتهاديّة لا من الاصوليّة العمليّة ، وسيأتي أنّ اعتباره من باب الظن على خلاف التحقيق.

(وأمّا لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ فلا ينفع في

٣٠٤

لأنّ الثابت بها ترتّب اللّوازم المجعولة الشرعيّة على المستصحب ، والمستصحب هنا ليس إلّا براءة الذمّة من التكليف وعدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه ، والمطلوب في الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل أو ما يستلزم ذلك ، إذ لو لم يقطع بالعدم واحتمل العقاب احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه ، حتى يأمن العقل عن العقاب ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة.

ومن المعلوم أنّ المطلوب المذكور لا يترتّب على المستصحبات المذكورة ، لأنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللّوازم المجعولة حتى يحكم به الشارع في الظاهر.

وأمّا الإذن والترخيص في الفعل فهو وإن كان أمرا قابلا للجعل ويستلزم انتفاء العقاب واقعا إلّا إنّ الإذن الشرعي ليس لازما شرعيّا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات ، حيث إنّ عدم المنع عن الفعل بعد العلم إجمالا بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد

____________________________________

المقام).

إذ اعتبار الاستصحاب ـ حينئذ ـ مشروط على أن يكون المستصحب حكما شرعيا ، أو موضوعا يترتّب عليه ما هو مجعول شرعا ، والاستصحاب في المقام لم يكن واجدا للشرط المذكور ، لأنّ المستصحب في المقام سواء كان براءة ذمّة المكلّف عن التكليف أو عدم المنع عن الفعل أو عدم استحقاق العقاب عليه ؛ لم يكن حكما شرعيا ولا ممّا يترتّب عليه أثر شرعي ، لأنّ ما يترتّب عليه هو عدم ترتّب العقاب في الآخرة ، وهو ليس من اللوازم المجعولة شرعا حتى يحكم به الشارع.

وبالجملة إنّ اعتبار الاستصحاب مشروط بأن يكون المستصحب بنفسه أو بأثره مجعولا شرعيا ، ويكون وضعه ورفعه بيد الشارع ، والمستصحب في المقام ـ وهو عدم التكليف ـ أزلي غير قابل للجعل وليس له أثر شرعي ، لأنّ عدم العقاب يكون من لوازمه العقليّة فلا يجري فيه الاستصحاب.

(وأمّا الإذن والترخيص في الفعل فهو وإن كان أمرا قابلا للجعل ، ويستلزم انتفاء العقاب واقعا إلّا إنّ الإذن الشرعي ليس لازما شرعيّا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات) فلا يمكن إثباته بالاستصحاب ، وذلك لعدم حجيّة الأصل المثبت كما يأتي في محلّه.

٣٠٥

الأحكام الخمسة لا ينفكّ عن كونه مرخّصا فيه ، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر بأصالة العدم.

ومن هنا تبيّن أنّ استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا ـ من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، وعدم إثباته إلّا اللّوازم الشرعيّة في هذا المقام باستصحاب البراءة ـ منظور فيه.

نعم ، من قال باعتباره من باب الظنّ ، أو أنّه يثبت بالاستصحاب من باب التعبّد كلّ ما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ولو لم يكن من اللّوازم الشرعيّة ، فلا بأس بتمسّكه به ، مع أنّه يمكن النظر فيه بناء على ما سيجيء من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب.

وموضوع البراءة في السابق ومناطها هو الصغير غير القابل للتكليف ، فانسحابها في القابل أشبه بالقياس من الاستصحاب ، فتأمّل.

____________________________________

(ومن هنا تبيّن أن استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا ـ من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، وعدم إثباته إلّا اللّوازم الشرعيّة في هذا المقام).

أي : استدلال هذا البعض في المقام (باستصحاب البراءة ـ منظور فيه).

أي : مورد للنظر والإشكال ، وهو لا يحتاج إلى البيان.

(نعم ، من قال باعتباره من باب الظنّ).

أي : من يقول باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، أو يقول بحجيّة الاستصحاب المثبت ، فلا بأس بتمسّكه به.

(مع أنّه يمكن النظر فيه ، بناء على ما سيجيء من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب).

وهذا الكلام إشكال آخر على استصحاب البراءة من جهة عدم بقاء الموضوع فيه ، وذلك لأنّ الموضوع في السابق هو الصغير غير القابل للتكليف والآن هو الكبير البالغ ، فلا يكون الاستصحاب حجّة فيه وذلك لعدم بقاء الموضوع.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى الجواب عن هذا الإشكال.

وحاصل الجواب أنّ الموضوع في زمان الشكّ باق ، لأنّ الملاك في بقاء الموضوع هو

٣٠٦

وبالجملة ، فأصل البراءة أظهر عند القائلين بها والمنكرين لها من أن يحتاج إلى الاستصحاب.

ومنها : إنّ الاحتياط عسر منفيّ وجوبه.

وفيه : إنّ تعسّره ليس إلّا من حيث كثرة موارده ، فهي ممنوعة.

____________________________________

نظر العرف لا الدقة العقليّة ، فهو باق في محلّ الفرض بالمسامحة العرفيّة ، لكون بلوغ الصبي وإفاقة المجنون عند أهل العرف يكون من قبيل تغيير حالات الموضوع لا من قبيل تغيير نفس الموضوع ، فحينئذ يكون الموضوع باق في نظر أهل العرف ، وإن كان مرتفعا بالدقة العقليّة.

(ومنها : إن الاحتياط عسر منفيّ وجوبه).

ومن الوجوه غير الناهضة التي استدلّ بها على البراءة ، هو أنّ الاحتياط عسر فيكون وجوبه منفيا بما دلّ على نفي العسر والحرج في الإسلام.

(وفيه : إنّ تعسّره ليس إلّا من حيث كثرة موارده ، فهي ممنوعة).

ويرد على هذا الاستدلال هو أنّ الاحتياط ليس فيه عسر حتى ينفى وجوبه بما دلّ على نفي العسر والحرج ، وذلك لأنّ سبب العسر هو كثرة موارد الاحتياط ، وكثرة موارده ممنوعة ، ومن الواضح أنه إذا انتفى السبب ينتفي المسبّب أيضا.

وأمّا انتفاء السبب فلأجل أنّ محل النزاع إنّما هو ما لا نصّ فيه ، وهو وإن كان يختلف حكما بين الأخباريين والمجتهدين ، إلّا إنّ موارده ليست كثيرة عند كلتا الطائفتين حتى يكون الاحتياط فيها حرجيّا.

وأمّا عند الأخباريين فموارده ما ليس فيه خبر أصلا ، لأنّهم يعملون بكل خبر وإن كان ضعيفا ، فمورد الاحتياط في الشبهة التحريميّة ينحصر عندهم فيما لم يوجد نصّ فيه أصلا ، أو وجد وكان مجملا ، أو معارضا ولم يكن هناك ترجيح لأحدهما على الآخر.

ومن المعلوم أنّ هذه الموارد قليلة ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها إلى الحرج حتى ينفى بدليل نفي الحرج.

وأمّا عند المجتهدين فلا يلزم من الاحتياط عسر ولا حرج ، وذلك لأنّهم وإن كانوا على أصناف :

٣٠٧

لأنّ مجراها عند الأخباريين موارد فقد النصّ على الحرمة وتعارض النصوص من غير مرجّح منصوص ، وهي ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها إلى الحرج ، وعند المجتهدين موارد فقد الظنون الخاصّة. وهي عند الأكثر ليست بحيث يؤدّي الاقتصار عليها والعمل فيما عداها على الاحتياط إلى الحرج ، ولو فرض لبعضهم قلّة الظنون الخاصّة فلا بدّ له من العلم بالظنّ الغير المنصوص على حجّيّته حذرا عن لزوم محذور الحرج. ويتّضح ذلك بما ذكروه في دليل الانسداد الذي أقاموه على وجوب التعدّي عن الظنون المخصوصة المنصوصة ، فراجع.

ومنها : إنّ الاحتياط قد يتعذّر ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة.

____________________________________

منهم : انفتاحي كالسيد وأتباعه حيث يقولون بانفتاح باب العلم في الأحكام ، فمعظم الفقه عندهم معلوم بالضرورة والإجماع والسنّة المتواترة والمحفوفة ، فموارد الشكّ في الحرمة عندهم نادرة لا يلزم من الاحتياط فيها عسر ولا حرج.

ومنهم : انسدادي وهؤلاء على أصناف أيضا :

منهم : يقولون بكثرة الظنون الخاصة الحاصلة من ظاهر الكتاب ، أو خبر الثقة ، أو الإجماع المنقول ، أو الشهرة ، أو غيرها ، فموارد فقدان الظنون الخاصة قليلة عندهم ، ولا يلزم من العمل بالاحتياط فيها عسر ولا حرج ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (وهي) أي : الظنون الخاصة (عند الأكثر ليست بحيث يؤدّي ... إلى آخره).

ومنهم : يقولون بقلّة الظنون الخاصة ، لانحصارها في خبر العادل دون الإجماع المنقول وغيره ، فحينئذ يلزم من الاحتياط في الموارد الخالية عن الظنون الخاصة ، العسر والحرج لكثرة موارده ، إلّا إنّه يجب على مذهب هذا البعض العمل بالظن المطلق غير المنصوص على حجيّته حذرا من لزوم محذور الحرج ، وإذا انضم الظنّ المطلق مع الظنّ الخاص لكانت الموارد الخالية عن الظنّ قليلة فلا يلزم من العمل بالاحتياط فيها عسر ولا حرج.

ومنهم : كصاحب القوانين وأتباعه يقولون بانسداد باب العلم وانتفاء الظنون الخاصة أيضا ، وهم يعملون بالظنون المطلقة ، والموارد الخالية عنها قليلة لا يلزم من الاحتياط فيها عسر ولا حرج.

(ومنها : إنّ الاحتياط قد يتعذّر ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة ، وفيه ما لا

٣٠٨

وفيه ما لا يخفى ، ولم أر ذكره إلّا في كلام شاذّ لا يعبأ به.

____________________________________

يخفى).

وهذا الوجه مردود من أصله ، لأنّه خارج عن محل النزاع رأسا ؛ لأنّ محل النزاع ما يمكن الاحتياط فيه ، ويكون الاشتباه فيه اشتباه الحرمة بغير الوجوب ، والمورد المذكور في الاستدلال لا يمكن الاحتياط فيه ، ويكون الاشتباه فيه من قبيل اشتباه الوجوب والحرمة ، فلا يرتبط بما هو محل الكلام.

* * *

٣٠٩

الاحتياط

احتجّ للقول الثاني ـ وهو وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة ـ بالأدلّة الثلاثة :

فمن الكتاب طائفتان :

أدلة الاحتياط من الكتاب

إحداهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم ، فإنّ الحكم بترخيص الشارع

____________________________________

(احتجّ للقول الثاني ـ وهو وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة ـ بالأدلة الثلاثة ، فمن الكتاب طائفتان).

استدلّ لقول الأخباريين ـ وهو وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة ـ بالأدلة الثلاثة ، وهي : الكتاب والسنّة والعقل.

وجعل المصنّف قدس‌سره ما دلّ على وجوب الاحتياط من الآيات طائفتين ، ونحن نجعلها أكثر من الطائفتين ، وذلك ليكون تقريب الاستدلال على وجوب الاحتياط والجواب عنها أسهل وأكثر وضوحا.

فنقول : إنّ الآيات التي يمكن الاستدلال بها على وجوب الاحتياط على طوائف :

منها : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، وقوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) ، وقوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٣).

وهذه الطائفة تدلّ على حرمة القول بغير علم ؛ لأنّ القول بغير علم افتراء على الشارع ، فيكون تشريعا محرّما ، فبناء على هذا يكون القول بالإباحة في محتمل الحرمة قولا بغير علم ، ويكون محرّما بهذه الآيات ، فتأمّل تعرف.

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) البقرة : ٨٠.

(٣) يونس : ٥٩.

٣١٠

لمحتمل الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء ، حيث إنّه لم يؤذن فيه. ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ، لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنّما يتركون لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ، فإنّه لا يكون إلّا بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة.

والاخرى : ما دلّ بظاهره على لزوم الاحتياط والاتقاء والتورّع ، مثل ما ذكره الشهيد رحمه‌الله في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت للدلالة على مشروعيّة الاحتياط في قضاء ما فعلت من الصلوات المحتملة للفساد. وهي قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(١)(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ)(٢).

____________________________________

قوله : (لا يرد ذلك على أهل الاحتياط).

دفع لما قد يقال من أنّ الاحتياط ـ أيضا ـ قول بغير علم وافتراء على الشارع ، فيكون محرّما ، وبذلك لا تكون هذه الآيات دليلا على الاحتياط ، بل تكون ردّا على القول بالاحتياط أيضا.

فدفع المصنّف قدس‌سره هذا الإشكال بقوله : (ولا يرد ذلك) ، أي : القول بغير علم على القائلين بالاحتياط ، لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ولا يقولون بها حتى يلزم ذلك ، وإنّما يتركون المشتبه لاحتمال بالحرمة ، والترك لا يتوقّف على الحكم بالحرمة حتى يلزم التشريع المحرّم كما في المباحات ، وهذا بخلاف جانب ارتكاب محتمل الحرمة ، فإنّه لا يجوز إلّا بعد الحكم بالإباحة حتى يكون الارتكاب بعنوان العمل على طبق الإباحة ، فيلزم القول بغير علم في جانب الارتكاب على قول المجتهدين ، ولا يلزم القول بغير علم في جانب الترك على قول الأخباريين ، والفرق بين القولين واضح ، وذلك لأنّ الارتكاب على القول الأوّل يتوقّف على القول بالإباحة لعدم جواز ارتكاب الحرام ، والترك على القول الثاني لا يتوقّف على الحكم بالحرمة لجواز ترك المباحات.

نعم ، يرد هذا الإشكال على الأخباريين نظرا إلى حكمهم بوجوب الاحتياط في محتمل الحرمة ، فيكون القول بوجوب الاحتياط كالقول بالبراءة والإباحة قولا بغير علم.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الطائفة الاولى من الآيات في نفي البراءة.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٢.

(٢) الحجّ : ٧٨.

٣١١

أقول : ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(١) ، وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) ، وقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(٣).

والجواب : أمّا عن الآيات الناهية عن القول بغير علم ـ مضافا إلى النقض بشبهة

____________________________________

ومنها : ما يدلّ بظاهره على لزوم الاتقاء والتورّع والاحتياط كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) ، (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) ومثلهما قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

وملخّص تقريب دلالة هذه الطائفة على ما نحن فيه هو أنّ حقّ التقوى والمجاهدة المأمور بهما في هذه الآيات هو الاجتناب عن فعل محتمل الحرمة ، وذلك لمنافاة ارتكاب الشبهة التحريميّة للتقوى.

ومنها : ما نهى عن إلقاء النفس في التهلكة كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

بتقريب : إنّ ارتكاب الشبهة التحريميّة يكون من إلقاء النفس في التهلكة فيكون محرّما.

ومنها : ما أمر بردّ ما لم يعلم من الحكم إلى الله ورسوله كقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ).

بتقريب : أن يكون التنازع كناية عن عدم العلم بالشيء ، وأن يكون المراد بالشيء هو الحكم ، فيكون مفاد الآية ـ حينئذ ـ إن تنازعتم في حكم من جهة عدم العلم به فردّوه إلى الله والرسول.

والمراد من الردّ هو التوقّف ، ولازمه هو الاحتياط ، وبذلك تدلّ هذه الآية على وجوب التوقّف والاحتياط في مورد الشبهة وعدم العلم بالحكم. هذا تمام الكلام في تقريب جملة من الآيات على لزوم الاحتياط.

وأمّا الجواب عن الطائفة الاولى فبأحد وجهين :

الوجه الأوّل : هو النقض بالشبهة الوجوبيّة والشبهة في الموضوع.

__________________

(١) التغابن : ١٦.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) النساء : ٥٩.

٣١٢

الوجوب والشبهة في الموضوع ـ فبأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه اتّكالا على قبح العقاب من غير بيان ـ المتّفق عليه بين المجتهدين والأخباريين ـ ليس من ذلك.

وأمّا عمّا عدا آية التهلكة ، فبمنع منافاة الارتكاب للتقوى والمجاهدة ، مع أنّ غايتها الدلالة على الرجحان على ما استشهد به الشهيد رحمه‌الله.

____________________________________

وتقريب النقض : إن الأخباري كالاصولي يقول بالبراءة في الشبهة الوجوبيّة والموضوعيّة ، فلو كان القول بالبراءة في الشبهة التحريميّة تشريعا محرّما من جهة كونه قولا بغير علم ، لكان قول الأخباري بالبراءة في الشبهة الوجوبيّة والشبهة الموضوعيّة قولا بغير علم أيضا ، فكل ما أجاب الأخباري عن الإشكال المذكور على البراءة في الشبهة الوجوبيّة نجعله جوابا عن الإشكال في الشبهة التحريميّة.

والوجه الثاني : هو الجواب الحلّي كما أشار إليه بقوله :

(فبأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه اتّكالا على قبح العقاب من غير بيان ـ المتفق عليه بين المجتهدين والأخباريين ـ ليس من ذلك).

أي : ليس من القول بغير علم حتى يكون تشريعا محرّما ، لأنّ الحكم بالترخيص والقول بالإباحة ـ لأجل ما تقدّم من الأدلة العقليّة والنقليّة ـ ليس قولا بغير علم أصلا.

وأمّا الجواب عن الطائفة الثانية : فبعدم منافاة ارتكاب محتمل الحرمة للتقوى والمجاهدة ، لأنّ التقوى والمجاهدة عبارة عن ترك ما نهى الشارع عنه ، وفعل ما أمر به.

وأمّا محتمل الحرمة الذي لا يوجد دليل على حرمته ، ورخّص الشارع على ارتكابه ، فارتكابه لا ينافي التقوى والمجاهدة ، هذا أوّلا.

وثانيا : (مع أنّ غايتها الدلالة على الرجحان).

أي : إنّ آية التقوى والمجاهدة تدل على استحباب الاتقاء والمجاهدة فتكون خارجة عن المقام ، وذلك لأنّ النزاع في وجوب الاحتياط والاتقاء والاستحباب اتفاقي لا نزاع فيه أصلا ، والشاهد على ذلك هو استشهاد الشهيد قدس‌سره بهما على مشروعيّة القضاء برجحان الاتّقاء والمجاهدة الكاملين.

وأمّا الجواب عن الطائفة الثالثة وهي آية التهلكة : فبأنّ الهلاك بمعنى العقاب الاخروي مقطوع العدم ، إذ ليس في ارتكاب المشتبه عقاب اخروي بعد ما ورد الترخيص الثابت

٣١٣

وأمّا عن آية التهلكة ، فبأنّ الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم ، وبمعنى غيره تكون الشبهة موضوعيّة لا يجب فيها الاجتناب بالاتّفاق.

____________________________________

بأدلّة البراءة من قبل الشرع والعقل ، وكان النهي عن إلقاء النفس في التهلكة إرشاديا محضا ، إذ لا يترتّب على ايقاع النفس في العقاب الاخروي عقاب آخر ليكون النهي عنه مولويا.

(وبمعنى غيره) أي : بمعنى غير العقاب الاخروي ، فاحتماله وإن كان موجودا في مورد الشبهة ، ولم يكن مقطوع العدم ، إلّا إنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة كما تقدّم في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولا يجب فيها الاحتياط بالاتفاق.

وأمّا الجواب عن الطائفة الرابعة وهي آية التنازع : فبأنّ المراد من الردّ إلى الله والرسول هو الرجوع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إلى خلفائه عليهم‌السلام ، وذلك لإزالة الشبهة ولو بالرجوع إلى ما ورد عنهم عليهم‌السلام من الأخبار ، ومن المعلوم أنّ الردّ بمعنى الرجوع لإزالة الشبهة يكون واجبا فيما يمكن إزالة الشبهة عنه بالرجوع إليهم عليهم‌السلام.

وأمّا فيما لا يمكن إزالة الشبهة بعد الفحص واليأس عن إزالة الشبهة وورود الترخيص من الشارع في ارتكاب الشبهة كما هو في المقام ، فلا يجب الردّ بالمعنى المذكور ، فالآية لا تشمل المقام أصلا.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالآيات على وجوب الاحتياط والجواب عنها.

* * *

٣١٤

أدلة الاحتياط من السنّة

ومن السنّة طوائف :

إحداها : ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير العلم وقد ظهر جوابها ممّا ذكر في الآيات.

والثانية : ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة وعدم العلم ، وهي لا تحصى كثرة.

وظاهر التوقّف المطلق السكون وعدم المضي ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصّل قوله عليه‌السلام في بعض الأخبار : (الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) (١).

____________________________________

(ومن السنّة طوائف :

إحداها : ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير العلم).

وقد جعل المصنّف قدس‌سره السنّة أربع طوائف.

الطائفة الاولى : ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير علم ، كقوله عليه‌السلام في خبر زرارة : ما حقّ الله على العباد؟ قال : (أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون) (٢) وقوله عليه‌السلام في عداد قضاة النار : (رجل قضى بالحق وهو لا يعلم) (٣).

وتقريب دلالة هذه الطائفة على وجوب الاحتياط دون الإباحة ، هو أنّ الحاكم بالإباحة من دون علم يكون في النار ، وإن كانت ثابتة في الواقع.

(وقد ظهر جوابها ممّا ذكر في الآيات) من أن القول بالإباحة والترخيص ، بعد ما ورد الترخيص من الشرع والعقل بأدلة البراءة ، ليس قولا بغير علم.

(الثانية : ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة وعدم العلم وهي لا تحصى كثرة).

أي : إن الطائفة الثانية من الأخبار الدالة على وجوب التوقّف عند الشبهة كثيرة ، كما

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠. الفقيه ٣ : ٦ / ١٨. التهذيب ٦ : ٣٠٣ / ٨٤٥. الوسائل ٢٧ : ١٥٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٩.

(٢) الكافي ١ : ٤٣ / ٧. الوسائل ٢٧ : ٢٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٤ ، ح ٩.

(٣) الكافي ٧ : ٤٠٧ / ١. الفقيه ٣ : ٣ / ٦. التهذيب ٦ : ٢١٨ / ٥١٣. الوسائل ٢٧ : ٢٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٤ ، ح ٦.

٣١٥

فلا يرد على الاستدلال أنّ التوقّف في الحكم الواقعي مسلّم عند كلا الفريقين ، والإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك ، والتوقّف في العمل لا معنى له.

فنذكر بعض تلك الأخبار تيمّنا.

____________________________________

أشار إليها المصنّف قدس‌سره بقوله : لا تحصى كثرة ، ثمّ يذكر عدّة منها واحدة واحدة.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة مبنيّ على أمرين :

أحدهما : أن لا يكون المراد بلفظ الخير المذكور في كثير من هذه الأخبار التفضيل ، وهو كذلك ، إذ لا خير في مقابله ، وهو الاقتحام في التهلكة.

وثانيهما : أن يكون المراد بالتوقّف التوقّف العملي ، أي : مطلق السكون وعدم المضي في ارتكاب الفعل دون التوقّف في مقام القول ، وذلك لأنّه مسلّم عند الفريقين بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، فبعد ثبوت الأمرين يكون مفاد هذه الأخبار هو وجوب الاحتياط ، لأنّه المراد من التوقّف عند الشبهة التحريميّة ، فإنّ التوقّف المطلق ظاهر في السكون وعدم المضي ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل.

والحاصل أنّ المراد بالتوقّف هو التوقّف العملي لا القولي ، ويتفرّع عليه قوله : (فلا يرد على الاستدلال أنّ التوقّف في الحكم الواقعي مسلّم عند كلا الفريقين ، والافتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك ، والتوقّف في العمل لا معنى له).

هذا الإشكال نسب إلى صاحب القوانين قدس‌سره ، حيث أجاب به عن الاستدلال بأخبار التوقّف على وجوب التوقّف والاحتياط.

وملخّص الإشكال : إنّ المراد بالتوقّف لا يخلو عن أحد معان :

منها : أن يكون المراد به التوقّف عن الحكم الواقعي ، بمعنى عدم الإفتاء بالإباحة الواقعيّة ، ولا بالحرمة الواقعيّة ، والتوقّف بهذا المعنى مشترك بين الاصولي والأخباري ، إذ كلاهما متوقّفان عن الإفتاء بالحكم الواقعي ، فلا يصحّ الاستدلال بهذه الأخبار على إثبات التوقّف عند الأخباري فقط.

ومنها : أن يكون المراد هو التوقّف عن الإفتاء بالحكم الظاهري ، والتوقّف بهذا المعنى لم يتحقّق في المقام عند كلا الفريقين ، إذ لم يتوقّفا في الإفتاء بالحكم الظاهري ، بل أفتى الاصولي بالترخيص ، والأخباري بالمنع ، فلا يصح الاستدلال بهذه الأخبار على وجوب

٣١٦

منها : مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها بعد ذكر المرجّحات : (إذا كان كذلك فارجه حتى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكة) (١).

ونحوها صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام وزاد فيها : (إنّ لكلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه) (٢).

وفي روايات الزهري (٣) والسكوني (٤) وعبد الأعلى (٥) : (الوقوف عند الشبهة خير

____________________________________

التوقّف عند الأخباري وذلك لعدم التوقّف.

ومنها : أن يكون المراد به التوقّف من حيث العمل ، أي : عدم اختيار الفعل ولا الترك ، والتوقّف بهذا المعنى محال ، لأنّه مستلزم لارتفاع النقيضين ، وهو محال.

فيكون الحاصل هو أنّ الاستدلال بهذه الأخبار على وجوب التوقّف عند الأخباري فقط باطل ؛ لأنّه يشمل الاصولي أيضا.

وأجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الإشكال بقوله : (فلا يرد ... إلى آخره) لأنّ المراد بالتوقّف هو التوقّف العملي بمعنى ترك الفعل وعدم الحركة إلى ارتكابه ، ولا يلزم فيه ـ حينئذ ـ محذور ارتفاع النقيضين ، لأنّ المراد من التوقّف هو عدم الفعل فقط ، لا عدم الفعل وعدم الترك حتى يلزم المحذور المذكور.

ثمّ إن عدّة هذه الروايات الدّالة على التوقّف عند الشبهة مذكورة في المتن ، ولا حاجة إلى ذكرها ، فنكتفي بذكر ما يحتاج إلى توضيح في الجملة ، فنقول :

إنّ قوله عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في علاج المتعارضين : (إذا كان كذلك) أي : لم يوجد المرجّح لأحد المتعارضين (فارجه حتى تلقى إمامك) أي : فأخّر تعيين الحقّ والباطل حتى تلقى الإمام عليه‌السلام ويتبيّن لك ما هو الحقّ ، فهذه الرواية مختصّة بحال حضور

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠. الفقيه ٣ : ٦ / ١٨. التهذيب ٦ : ٣٠٣ / ٨٤٥. الوسائل ٢٧ : ١٥٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٩ ، ولم يرد فيه صدر الحديث.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٩ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٣٥.

(٣) الكافي ١ : ٥٠ / ٩. المحاسن ١ : ٣٤٠ / ٦٩٩. الوسائل ٢٧ : ١٥٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٢.

(٤) العياشي ١ : ١٩ / ٢. الوسائل ٢٧ : ١٧١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٥٧.

(٥) الوسائل ٢٧ : ١٧١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٥٧.

٣١٧

من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه).

ورواية أبي شيبة (١) عن أحدهما عليهما‌السلام ، وموثّقة سعد بن زياد (٢) عن جعفر ، عن أبيه عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : (لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة ـ إلى أن قال ـ فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة).

وتوهّم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب مدفوع بملاحظة أنّ الاقتحام في

____________________________________

الأئمة عليهم‌السلام.

وقوله عليه‌السلام : (في روايات الزهري ، والسكوني ، وعبد الأعلى) حيث قال : ((وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه)).

والصحيح عندي كما في الأوثق أن يكون لفظ (تروه) بضم التاء من الرويّة بمعنى التفكّر والتأمّل ، فيكون المعنى ـ حينئذ ـ تركك حديثا لم تتأمّل في سنده وغيره حتى يثبت كونه معتبرا عندك خير من روايتك أحاديث لم تحط بها كثرة ، فيكون المستفاد من هذا الكلام هو كثرة الاهتمام بترك ما لم يعلم كونه من الشرع.

وقوله في رواية مسعدة بن زياد : ((لا تجامعوا في النكاح على الشبهة)) كنكاح امرأة تحتمل أن تكون مرضعة للناكح.

قوله : (وتوهّم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب مدفوع).

دفع لما يتوهّم من الإيراد على الاستدلال بالروايات المذكورة على وجوب التوقّف ، فيكون هذا الإيراد إيرادا ثانيا ، والإيراد الأوّل ما أجاب عنه بقوله : فلا يرد على الاستدلال ... إلى آخره ، وقد تقدّم الكلام فيه.

وملخّص تقريب هذا الإيراد الثاني هو أنّ الأخبار المذكورة المشتملة على كلمة(خير) ظاهرة في استحباب التوقّف لا في وجوبه ؛ لأنّ مفادها كون التوقّف عند الشبهة أفضل من الاقتحام في الهلكة كما هو مقتضى صيغة أفعل التفضيل ، فأجاب المصنّف عن هذا التوهّم بوجهين :

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٥٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ١٣.

(٢) التهذيب ٧ : ٤٧٤ / ١٩٠٤. الوسائل ٢٧ : ١٥٩ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ١٥. وفيهما : عن مسعدة بن زياد.

٣١٨

الهلكة لا خير فيه أصلا ، مع أنّ جعله تعليلا لوجوب الإرجاء في المقبولة وتمهيدا لوجوب طرح ما خالف الكتاب في الصحيحة قرينة على المطلوب.

فمساقه مساق قول القائل : اترك الأكل يوما خير من أن امنع منه سنة.

وقوله عليه‌السلام في مقام وجوب الصبر حتى تيقّن الوقت : (لأن اصلّي بعد الوقت أحبّ إليّ من

____________________________________

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : (بملاحظة أن الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلا).

أي : إنّ التوهّم المذكور مدفوع :

أوّلا : بأن لفظ الخير لم يكن بمعنى التفضيل ، إذ لا خير في مقابله وهو الاقتحام في الهلكة ، كما تقدّم في تقريب الاستدلال بهذه الأخبار على وجوب التوقّف ، فيكون ـ حينئذ ـ تمام الخير في الوقوف عند الشبهة ، إذ الخير يكون ـ حينئذ ـ مقابلا للشر ، فلا يكون في مقابله إلّا الشر.

وثانيهما : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(مع أنّ جعله تعليلا لوجوب الإرجاء في المقبولة وتمهيدا لوجوب طرح ما خالف الكتاب في الصحيحة قرينة على المطلوب).

والوجه الثاني في الجواب عن الإيراد الثاني ما أشار إليه بقوله : مع أنّ جعله أي : الخير ، علّة لوجوب الإرجاء المستفاد من الأمر الظاهر في الوجوب في قوله عليه‌السلام : (فارجه حتى تلقى إمامك) في المقبولة ، وجعل الخير تمهيدا ومقدمة لوجوب طرح ما خالف الكتاب المستفاد من الأمر في قوله عليه‌السلام : (فدعوه) في صحيحة ابن درّاج ، قرينة على المطلوب.

والحاصل أن جعل الخير علّة الوجوب في المقبولة ، ومقدّمة له في الصحيحة قرينة على المطلوب ، وهو الوجوب ؛ لأنّ وجوب المعلول مستلزم لوجوب علّته عقلا ، كما أن وجوب ذي المقدمة مستلزم لوجوب مقدّمته كذلك ، فيكون تمام الخير ـ حينئذ ـ في الوقوف فقط ، إذ لا خير في مقابله أصلا.

(فمساقه) أي : هذا الكلام المشتمل على لفظ الخير(مساق قول القائل : أترك الأكل يوما خير من أن امنع منه سنة) حيث لا خير في المنع عن الأكل في السنة ، فيكون تمام الخير في ترك الأكل يوما.

(وقوله عليه‌السلام في مقام وجوب الصبر حتى تيقّن الوقت : (لأن اصلّي بعد الوقت أحبّ إليّ من

٣١٩

أن اصلّي قبل الوقت) (١).

وقوله عليه‌السلام في مقام التقيّة : (لأن أفطر يوما من شهر رمضان فأقضيه أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي) (٢).

ونظيره في أخبار الشبهة قول علي عليه‌السلام في وصيّته لابنه : (أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإنّ الكفّ عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال) (٣).

ومنها : موثّقة حمزة بن طيّار : إنّه عرض على أبي عبد الله بعض خطب أبيه ، حتى إذا بلغ موضعا منها قال له : (كف واسكت) ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : (إنّه لا يسعكم فيما نزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتّثبّت والرّدّ إلى أئمة الهدى عليهم‌السلام حتى يحملوكم فيه إلى القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) (٤)) (٥).

____________________________________

أن اصلّي قبل الوقت)) حيث لا محبوبية في الصلاة قبل الوقت أصلا ، فيكون تمام المحبوبيّة في الصلاة بعد الوقت ، فصيغة أفعل فيما ذكر لا تفيد التفضيل ، وهكذا في (قوله عليه‌السلام في مقام التقية : (لأنّ أفطر يوما من شهر رمضان فاقضيه أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي)) إذ لا خير في ضرب العنق أصلا.

(ونظيره في أخبار الشبهة قول علي عليه‌السلام في وصيته لابنه : (أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإنّ الكفّ عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال)).

والخير منحصر في الكفّ ، أي : الوقوف عند احتمال الضلال ، إذ لا خير في الضلال ، ولا في ارتكاب الأهوال والمخاوف.

(ومنها : موثقة حمزة بن طيار : إنّه عرض على أبي عبد الله) أي : الإمام الصادق عليه‌السلام (بعض خطب أبيه) أي : الإمام الباقر عليه‌السلام (حتى إذا بلغ موضعا منها قال له : (كف واسكت) ثمّ قال أبو

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٤٤ / ٦٧٠. الوسائل ٤ : ١٦٩ ، أبواب المواقيت ، ب ١٣ ، ح ١١. بتفاوت فيهما.

(٢) الكافي ٤ : ٨٣ / ٩. الوسائل ١٠ : ١٣٢ ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ، ب ٥٧ ، ح ٤.

(٣) نهج البلاغة : الوصية ٣١. الوسائل ٢٧ : ١٦٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٢١.

(٤) الأنبياء : ٧.

(٥) الكافي ١ : ٥٠ / ١٠.

٣٢٠