دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

وليس هذا كلّه إلّا من جهة أنّ الفعل لا دلالة فيه على الوجه الذي يقع عليه ، فلا بدّ في الاتفاق العملي ، من العلم بالجهة والحيثيّة التي اتفق المجمعون على إيقاع الفعل من هذه الجهة والحيثيّة ، ومرجع هذا إلى وجوب إحراز الموضوع في الحكم الشرعي ، المستفاد من الفعل.

ففيما نحن فيه : إذا علم بأنّ بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر أو بالقرينة ، وبعضهم من حيث كونه ظانّا بصدوره قاطعا بحجّية هذا الظنّ ، فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ولا العلم بحجّية الظنّ الحاصل منه ، أو علمنا بخطإ من يعمل به لأجل مطلق الظنّ ، أو احتملنا خطأه ، فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا للمجمعين.

____________________________________

ولو علم اتّفاقهم على العمل بالخبر فإنّ اتّفاقهم هذا على الحجّية لم ينفع الغير وذلك لاحتمال انتفاء جهة العمل في غيرهم ، مثل جواز نظر جماعة إلى امرأة لكونها امّا للبعض واختا للآخر وبنتا للثالث وزوجة للرابع ، وهكذا ، ولا يجوز لغيرهم ممّن لا محرميّة بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة اتفاق الجماعة كما لا يخفى.

وهذا الاحتمال موجود في المقام لأن المجمعين مختلفون في وجه العمل ، فبعضهم يعمل بهذه الأخبار لكونها معلومة بالتواتر أو بالقرائن ، وبعضهم الآخر يعمل بها لأجل الظن بصدورها ، وهو ممّن يقول بحجّية الظن ، وهكذا ، فإذا علمنا بخطإ بعضهم أو احتملناه لا يجوز لنا العمل بذلك الخبر الذي عملوا به تبعا لهم.

هذا تمام الكلام في بحث الظن من كتابنا «دروس في الرسائل» وسيتلوه البحث عن البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى.

وقد فرغت من تسويد هذه الأوراق في ليلة السابع من شهر رمضان المبارك سنة ١٤٠٩ هجرية في جوار السيدة زينب سلام الله عليها.

ومن باب من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق أرفع راية الشكر والثناء إلى حضرة حجّة الإسلام والمسلمين السيد محسن الخاتمي ، أدام الله بقاءه الشريف ، حيث شجعني على إكمال الكتاب.

ونسأل الله أن يوفقني بتنظيم وترتيب بقية أبحاثي في الرسائل.

غلام علي بن محمد حسين ، المدعو بمحمدي البامياني

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا

١٨١
١٨٢

المقصد الثالث

الشك

١٨٣
١٨٤

مقدّمة

المقصد الثالث من مقاصد الكتاب في الشك.

قد قسّمنا في صدر هذا الكتاب المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي العملي في الواقعة على ثلاثة أقسام ، لأنّه إمّا أن يحصل له القطع بحكمه الشرعي ، وإمّا أن يحصل له الظن ، وإمّا أن يحصل له الشك.

____________________________________

بحث الشّك

(المقصد الثالث من مقاصد الكتاب في الشك).

بعد الفراغ عن المقصد الأول وهو بحث القطع ، والمقصد الثاني وهو البحث عن الظن ، يبدأ المصنّف قدس‌سره في البحث عن المقصد الثالث وهو البحث عن حكم الشك ، حيث يقول : (قد قسّمنا في صدر هذا الكتاب المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي العملي في الواقعة على ثلاثة أقسام)

أي : القاطع ، والظان ، الشاك.

وقد تقدم توضيح المراد لكل من المكلّف ، والالتفات ، والحكم الشرعي في أول الكتاب بما لا حاجة فيه إلى البيان ثانيا.

نعم ، بقي شيء لم يتقدّم في أوّل الكتاب ، وهو تقييده الحكم الشرعي بالعملي ، أي : الحكم الفرعي مقابل الاعتقادي ، فيخرج به ما يتعلّق بالامور الاعتقادية كوجوب تحصيل الاعتقاد بوجود الواجب تعالى ورسله ، وكتبه ، وملائكته ، وجنته ، وناره. وبذلك يختصّ المراد من الحكم الشرعي العملي بما يتوقّف امتثاله على أعمال الجوارح المسمّى بالحكم الفرعي الشامل للتكليفي والوضعي.

لا يقال : إن ذكر الالتفات بعد المكلّف لغو ، إذ كلّ مكلف لا بدّ أن يكون ملتفتا ومتوجّها

١٨٥

وقد عرفت أنّ القطع حجّة في نفسه لا بجعل جاعل ، والظن يمكن أن يعتبر في متعلّقه ، لكونه كشفا ظنيا ومرآة لمتعلّقه. لكنّ العمل به والاعتماد عليه في الشرعيّات موقوف على وقوع التعبّد به ، وهو غير واقع إلّا في الجملة ، وقد ذكرنا موارد وقوعه في الأحكام الشرعية في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

____________________________________

إلى التكليف الشرعي ، وإلّا لم يكن مكلّفا أصلا.

فإنّه يقال : إن الالتفات على قسمين :

الأول : هو الالتفات إلى أصل التكليف مقابل الغفلة عنه أصلا.

والثاني : هو الالتفات إلى ثبوت الحكم لكلّ موضوع من الموضوعات بعد علمه بأصل التكليف إجمالا.

والمراد منه في المقام هو القسم الثاني لا الأول ، وبذلك يخرج ذكر قيد الالتفات عن اللغوية ، فتأمّل تعرف.

(وقد عرفت أن القطع حجّة في نفسه لا بجعل جاعل).

قد تقدم في بحث القطع أنه حجّة بذاته ، وأنه لا يقبل الجعل نفيا وإثباتا بخلاف الظن ، إذ أنّه ممّا يمكن أن يجعله الشارع حجّة ، وذلك لمكان كشفه الواقع كشفا ظنّيا ناقصا ، الذي يقترن باحتمال مخالفة الواقع ، فيجعله الشارع حجّة بتنزيله منزلة القطع وذلك بإلغاء احتمال مخالفته للواقع ، وبذلك يكون اعتباره بجعل من الشارع لا بالذات ، وقد تقدم أنّه قد وقع التعبّد به من قبل الشارع في الجملة ، وقد تقدم تفصيل موارد التعبّد به في بحث الظن.

وأمّا الشك فلا يعقل اعتباره حتى بالجعل ، وذلك لعدم وجود جهة كاشفة فيه عن الواقع أصلا ، فكيف يعقل للشارع أن يجعله حجّة ، بأن يأمر المكلّف بالجري على العمل به مع كونه في حالة من التحيّر والترديد ، إذ لا يرى شيئا من الواقع حتى يأتي به؟!

فمثل الحجّية للقطع والظن والشك مثل الوجود للواجب والممكن والممتنع حيث تكون حجّية القطع بالذات ، كوجود الواجب بذاته لذاته.

بينما تكون حجّية الظن بالجعل ، كوجود الممكن حيث يكون بالعلّة ، وأمّا حجّية الشك فممتنعة كامتناع وجود المحال بالذات ، فتأمّل جيدا.

١٨٦

وأمّا الشك ، فلمّا لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل فيه أن يعتبر.

فلو ورد في مورده حكم شرعي ، كأن يقول : الواقعة المشكوكة حكمها كذا ، كان حكما ظاهريّا لكونه مقابلا للحكم الواقعي المشكوك بالفرض ، ويطلق عليه الواقعي الثانوي

____________________________________

ثمّ إن ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله من قوله : (وأمّا الشك ، فلمّا لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل فيه أن يعتبر) هو أن المراد من الشك ما يتساوى طرفاه في مقابل القطع والظن ، ولكن في الحقيقة ـ كما سيأتي ـ أن المراد من الشك هو مطلق عدم الحجّة والدليل على ثبوت حكم أو نفيه لا الشك بمعنى ما يتساوى طرفاه ، إذ الوظائف المجعولة للشاك ليست مخصوصة بالشاك بمعنى ما يتساوى طرفاه ، بل تكون مجعولة لكل من لم يقم عنده دليل وحجّة على الحكم ، فيشمل الشك الظن غير المعتبر ، كما سيأتي في كلام المصنّف رحمه‌الله حيث يقول : ثمّ إنّ الظن غير المعتبر حكمه حكم الشك.

(فلو ورد في مورده حكم شرعي ، كأن يقول : الواقعة المشكوكة حكمها كذا ، كان حكما ظاهريا)

وكلام المصنّف رحمه‌الله هذا وإن كان في بيان حكم الشك إلّا إنه يظهر منه تقسيم الحكم إلى الظاهري ، والواقعي ، والفرق بينهما ، فنقول : إن الفرق بينهما على ما يظهر من المصنّف رحمه‌الله من جهتين :

الاولى : من حيث الموضوع.

والثانية : من حيث الدليل تسمية.

وأمّا الفرق من حيث الموضوع فهو أن الموضوع في الحكم الواقعي ، هو الشيء بعنوانه الأوّلي من دون اعتبار علم المكلّف ، أو جهله فيه ، فالخمر مثلا بعنوان أنّه خمر حكمه الواقعي هو الحرمة. سواء كان المكلّف عالما ، أو جاهلا غافلا ، أو ملتفتا.

وأمّا الموضوع في الحكم الظاهري فهو الشيء بعنوان المشكوك حكمه الواقعي ، كما أشار إليه بقوله :

(كأن يقول : الواقعة المشكوكة حكمها كذا).

أي : البراءة ، أو الاحتياط مثلا ، فيكون كلّ واحد من البراءة ، أو الاحتياط حكما ظاهريا ، أو يقول : إن الواقعة التي قام على حكمها أمارة كخبر الثقة مثلا يكون حكمها مؤدّى

١٨٧

أيضا ، لأنّه حكم واقعي للواقعة المشكوك في حكمها ، وثانوي بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه ، لأنّ موضوع هذا الحكم الظاهري ـ وهي الواقعة المشكوك في حكمها ـ لا يتحقّق إلّا بعد تصوّر حكم نفس الواقعة والشك فيه.

مثلا : شرب التتن في نفسه له حكم ، فرضنا فيما نحن فيه شك المكلف فيه. فإذا فرضنا ورود حكم شرعي لهذا الفعل المشكوك الحكم كان هذا الحكم الوارد متأخرا طبعا عن ذلك المشكوك. فذلك الحكم حكم واقعي بقول مطلق ، وهذا الوارد ظاهري ، لكونه المعمول به في الظاهر ، وواقعي ثانوي ، لأنّه متأخر عن ذلك الحكم لتأخر موضوعه عنه ، ويسمّى الدليل الدالّ على هذا الحكم الظاهري أصلا.

وأمّا ما دلّ على الحكم الأول علما أو ظنا معتبرا ، فيختصّ باسم الدليل ، وقد يقيّد بالاجتهادي ، كما أنّ الأول قد يسمّى بالدليل مقيّدا بالفقاهتي. وهذان القيدان

____________________________________

الأمارة ، فيكون مؤدّاها حكما ظاهريا ، وبهذا ظهر أن الحكم الظاهري أعمّ من موارد الاصول ، ومؤدّيات الأمارات المعتبرة.

(ويطلق عليه الواقعي الثانوي أيضا).

يطلق على الحكم الظاهري الحكم الواقعي المقيّد بالثانوي أيضا ، أي : كما يطلق عليه الظاهري ، وهذا الفرق مبنيّ على ما ذكر من الفرق بين هذا الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي بحسب الموضوع ، وإلّا فكلاهما حكم واقعي.

غاية الأمر : إن الحكم الواقعي الأوّلي مجعول للشيء بعنوانه الأوّلي ، والواقعي الثانوي مجعول له بعنوان أنه مشكوك فيه ، فتكون مرتبة موضوعه متأخرة عن مرتبة الحكم الواقعي الأوّلي ، إذ لا بدّ من وجود حكم واقعي مجعول من قبل الشارع ولكن حصل الشك فيه لكي يتحقق موضوع الحكم الظاهري ، وبذلك يكون موضوع الحكم الظاهري متأخرا عن الحكم الواقعي ، وتبعا لذلك يتأخر نفس الحكم الظاهري عنه أيضا ، بتأخر كل حكم عن موضوعه ، بل يكون الحكم الظاهري متأخرا عن الواقعي بمرتبتين ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، لمّا كان الحكم الظاهري متأخرا عن الحكم الواقعي سمّي بالثانوي ، ليتميز عن الحكم الواقعي الأوّلي. هذا تمام الكلام في الفرق بينهما من جهة الموضوع.

١٨٨

اصطلاحان من الوحيد البهبهاني ، لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد.

ثمّ إنّ الظن غير المعتبر حكمه حكم الشك ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا من تأخر مرتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي لأجل تقيّد موضوعة بالشك في الحكم الواقعي ، يظهر لك وجه تقديم الأدلّة على الاصول.

____________________________________

وأمّا الفرق بينهما من جهة الدليل تسمية ، فهو أن الدليل الدال على الحكم الواقعي يسمّى بالدليل الاجتهادي ، والدليل الدال على الحكم الظاهري يسمّى بالدليل الفقاهتي ، ومن المعلوم أن التسمية تحتاج إلى مناسبة ما ، ولهذا قال المصنّف رحمه‌الله :

(لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد).

وبيان ذلك : إن الفقهاء قد عرّفوا الفقه بأنّه : العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيلية.

وعرّفوا الاجتهاد بأنه : استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي فأخذوا العلم في تعريف الفقه ، والظن في تعريف الاجتهاد.

ومن المعلوم أنّ الحكم الظاهري لما كان معلوما عند الفقيه دائما ، ناسب أن يسمّى ما دلّ عليه بالدليل الفقاهتي ، ولمّا كان ما دلّ على ثبوت الحكم الواقعي من الأمارات لا يفيد إلّا الظن به ، فناسب أن يسمّى بالدليل الاجتهادي ، ولذلك تكون الأمارات القائمة على الأحكام الواقعية أدلة اجتهادية. هذا خلاصة وجه المناسبة في التسمية.

(وممّا ذكرنا من تأخر مرتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي لأجل تقيّد موضوعه بالشك في الحكم الواقعي ، يظهر لك وجه تقديم الأدلة على الاصول).

ومن هنا يبين المصنّف قدس‌سره وجه تقديم الأدلة على الاصول العملية ، ويظهر من كلامه قدس‌سره أنّ أصل تقديم الأدلّة على الاصول أمر متّفق عليه بين الاصوليين ، وإنّما الكلام في وجه تقديمها عليها ، هل هو الورود ، أو الحكومة ، أو غيرهما؟

ويظهر من كلامه أن وجه التقديم هو الورود ، أي : ورود الأدلة على الاصول العملية ، ويتضح ذلك بعد بيان مقدمة و :

إن انها مفاهيم أربعة قد صارت مصطلحة بين الاصوليين ، وهي :

الأول : الحكومة ، والثاني : الورود ، والثالث : التخصيص ، والرابع : التخصّص.

١٨٩

____________________________________

واعلم أنّ هذه الامور الأربعة لم ترد في لسان آية أو رواية أو معقد إجماع وإنّما هي مجرد اصطلاحات دائرة في ألسنة الاصوليين ، ولذلك لا بدّ من بيان معانيها فنقول :

إن الحكومة : عبارة عن كون دليل ناظرا إلى دليل آخر ، ومفسّرا لمضمونه سواء كان ناظرا إلى عقد وضعه ـ أي : موضوعه ـ أو إلى عقد حمله ـ أي : محموله ـ وسواء كان مضيّقا لدائرة دليل المحكوم ، أو موسّعا لها ، ويسمّى الدليل الناظر حاكما ، والمنظور إليه محكوما.

فصور الحكومة باعتبار عقد الوضع والحمل والتضييق والتوسيع أربعة ، ولا بدّ من ذكر مثال لكل قسم :

الأول : مثال ما إذا كان الدليل الحاكم مضيّقا لدائرة الدليل المحكوم هو : ما ورد في بيان أحكام الشك في الصلاة من قوله عليه‌السلام : (إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأربع ، ثمّ يأتي بصلاة الاحتياط) (١) ثم ورد : (لا شك للمأموم مع حفظ الإمام) (٢) فحينئذ إذا شك المأموم بين الثلاث والأربع ، وكان الإمام حافظا للثلاث كان هذا الدليل الثاني حاكما على الدليل الأول حيث يكون الدليل الحاكم ـ وهو الدليل الثاني ـ نافيا لموضوع الدليل المحكوم تعبّدا لا وجدانا ، وذلك لأنّه ينفي حكم الشك عن شك المأموم بلسان نفي الموضوع ، ويبين أنّه ليس له البناء على الأكثر وهو الأربع ، ثمّ الإتيان بصلاة الاحتياط ، فيكون الدليل الحاكم في هذا المثال مضيّقا لدائرة الدليل المحكوم ـ كما لا يخفى ـ حيث ينحصر موضوع الدليل الأول المحكوم بما إذا لم يكن الشك مع حفظ الإمام.

والثاني : مثال ما إذا كان الدليل الحاكم موسّعا لدائرة الدليل المحكوم ، كقوله عليه‌السلام : (لا صلاة إلّا بطهور) (٣) الظاهر في الطهارة الواقعية ، ثمّ ورد ما يدل على كفاية الطهارة الظاهرية فيها ، فكان الدليل الثاني حاكما على الأول بنحو التوسعة ، كما لا يخفى.

والثالث : مثال ما إذا كان الدليل الحاكم ناظرا إلى محمول الدليل المحكوم بنحو التضييق ، فهو كقول المولى لعبده أولا : إكرام العلماء واجب ، ثمّ قال ثانيا : كل ما ينفعهم

__________________

(١) انظر الوسائل ٨ : ٢١٦ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٠ ، ح ١.

(٢) انظر الوسائل ٨ : ٢٤٢ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٢٤ ، ح ٨.

(٣) التهذيب ١ : ٥٠ / ١٤٤. الاستبصار ١ : ٥٥ / ١٦٠. الوسائل ١ : ٣٦٥ ، أبواب الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

١٩٠

____________________________________

إكرام ، وقال ثالثا : إعطاء الدراهم ليس بإكرام ، ففي هذا المثال يكون الدليل الثالث حاكما على الثاني ، ومضيّقا لمحموله حيث أخرج إعطاء الدراهم عن الإكرام المحمول في الدليل الثاني.

والرابع : مثال ما إذا كان الدليل الحاكم ناظرا إلى محمول الدليل المحكوم بنحو التوسعة هو قول المولى لعبده : اكرم أولادي ، ثمّ قال : إعطاء الطعام إكرام ، ثمّ قال : التأديب إكرام ، حيث يكون الدليل الثالث حاكما وموسّعا لمحمول الدليل الثاني. هذا تمام الكلام في الحكومة.

وأمّا الورود : فهو عبارة عن خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر تكوينا بواسطة التعبّد ـ أي : تعبّد الشارع بالدليل الوارد ـ ، وبعبارة اخرى : هو أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر رفعا حقيقيا ، ولكن بواسطة التعبّد فيما إذا كان قابلا للتعبّد ، وذلك مثل الأمارات الشرعية بالقياس إلى الاصول العقلية ، وهي : البراءة والاحتياط والتخيير ، حيث تكون الأمارات واردة عليها.

وذلك لكون موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان حيث يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فيكون خبر الثقة بعد حجّيته بيانا فيرتفع ، وينتفي به عدم البيان وجدانا.

وموضوع الاحتياط هو احتمال العقاب ، وعدم المؤمّن عنه ، فيكون خبر الثقة مؤمّنا فيرتفع به موضوع الاحتياط.

وموضوع التخيير هو الحيرة وعدم المرجّح فيرتفع بخبر الثقة ، لكونه مرجّحا.

وهكذا يكون الدليل القطعي واردا على الاصول الشرعية حيث يكون موضوعها هو الشك ؛ إمّا في أصل التكليف كالبراءة الشرعية ، وإمّا في بقاء التكليف كالاستصحاب ، وعلى كل تقدير يكون الدليل القطعي ـ كالخبر المتواتر ـ رافعا لموضوع الاصول الشرعية ، فيكون واردا عليها.

ثمّ إن الورود يشترك مع التخصّص من جهة خروج الموضوع فيهما تكوينا ، ويفترق عنه من جهة احتياج الورود إلى التعبّد دون التخصّص.

والفرق بين الورود والحكومة هو أن انتفاء موضوع الدليل المورود بعد التعبّد بالدليل

١٩١

لأنّ موضوع الاصول يرتفع بوجود الدليل فلا معارضة بينهما ، لا لعدم اتّحاد الموضوع ، بل لارتفاع موضوع الأصل ـ وهو الشك ـ بوجود الدليل ، ألا ترى أنّه لا معارضة ولا تنافي

____________________________________

الوارد تكويني وواقعي ، بخلاف تضييق الدليل الحاكم لموضوع الدليل المحكوم حيث يكون تعبّديا وفي عالم التشريع.

وأمّا التخصيص فهو عبارة عن الخروج حكما مع وحدة الموضوع حقيقة من دون التصرف في الموضوع في جانب العام أصلا.

فالفرق بينه وبين الحكومة ـ بعد اشتراكهما في عدم رفع موضوع المحكوم والعام ـ هو أن التخصيص لا تصرّف له في العام أصلا ، وهذا بخلاف الحكومة حيث توجب التصرف في الدليل المحكوم تعبّدا بالتضييق أو التوسعة.

وأمّا التخصّص فهو عبارة عن خروج مورد أحد الدليلين عن الآخر موضوعا حقيقة ، وذلك كخروج زيد الجاهل في قولك : لا تكرم زيدا ، عن موضوع الدليل في قولك : اكرم العلماء ، فيقال : إن زيدا خارج عن العلماء تخصّصا خروجا حقيقيا من دون تعبّد في البين أصلا ، وحينئذ فلا تلاحظ النسبة بين الدليلين المذكورين ، إذ لا معنى لملاحظتها بينهما أصلا.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك وجه تقديم الأدلة على الاصول ، إذ أنّ الأدلة العلمية رافعة لموضوع الاصول ، فيكون تقديمها عليها بالورود إن لم يكن بالتخصّص ، وأمّا الأدلة الظنية ، فيكون تقديمها عليها ؛ إمّا بالورود مطلقا ، كما يظهر من أول كلام المصنّف قدس‌سره ، أو بالتخصيص بالنسبة إلى الاصول الشرعية ، وبالورود بالقياس إلى الاصول العقلية ، كما يظهر من وسط كلامه قدس‌سره ، أو بالحكومة كذلك ، كما يظهر من آخر كلامه قدس‌سره ، ولم يظهر من كلامه خروج مورد الأدلة الظنية عن الاصول تخصّصا.

ومهما كان ، فإنّ هذا إجمال الكلام في ما هو المستفاد من كلامه قدس‌سره ، فلا بدّ من الكلام تفصيلا في كل واحد من الموارد الثلاثة ، فنقول :

وأمّا المورد الأول فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(لأنّ موضوع الاصول يرتفع بوجود الدليل).

وحاصله : إنّه لمّا كان موضوع الاصول هو الشك في الحكم الواقعي لشيء ـ كما تقدم ـ

١٩٢

بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هي الإباحة وبين كون حكم شرب التتن في نفسه مع قطع النظر عن الشك فيه هي الحرمة؟!

فإذا علمنا بالثاني لكونه علميّا ونفرض سلامته عن معارضة الأوّل ، خرج شرب التتن عن موضوع دليل الأوّل ، وهو كونه مشكوك الحكم ، لا عن حكمه حتى يلتزم فيه تخصيص وطرح لظاهره.

____________________________________

كان الدليل الظني المخالف لها واردا عليها ، لارتفاع موضوعها به ، وحينئذ إذا دلّ خبر الثقة على حرمة شرب التتن ، وكان مقتضى الأصل هو الحليّة كان تقديمه عليه من باب الورود ، لأنّ موضوع الأصل وهو كون شرب التتن مشكوك الحكم قد ارتفع بقيام الدليل على الحرمة.

إذ ليس شرب التتن بعد قيام الدليل على الحرمة مشكوك الحكم ـ كما لا يخفى ـ فحينئذ لا يبقى تعارض بين الدليل والأصل.

إذ التعارض بين الدليلين فرع لتحقّقهما وثبوتهما ، وقد انعدم الأصل في المقام ، بارتفاع موضوعه بالدليل ، فلا يبقى أصل حتى يكون معارضا له ، وقد أشار إلى هذا بقوله : (فلا معارضة بينهما).

ثمّ إن عدم المعارضة بين الدليلين يمكن أن يكون لأجل انتفاء أحدهما ، ويمكن أن يكون لأجل تعدّد موضوعهما ، إذ المعارضة مشروطة بأمرين :

أحدهما : ثبوت الدليلين.

وثانيهما : وحدتهما موضوعا ، فتنتفي بانتفاء أحدهما ، كما تنتفي بانتفاء كليهما.

وعدم المعارضة في المقام هو لانتفاء كلا الأمرين ، وقد تقدم انتفاء الأصل بالدليل ، فلم يكن الدليلان ثابتين ، وهكذا لم يكن موضوعهما متّحدا ، لأن موضوع الدليل في المثال المتقدم هو نفس شرب التتن مجردا عن أيّ قيد ولحاظ فيه.

وموضوع الأصل هو شرب التتن المشكوك حكمه الواقعي ، فيتعدّد موضوعهما ، ثمّ تنتفي المعارضة بتعدّد الموضوع ، ومنه يظهر أن المراد من قوله : (فلا معارضة بينهما) أي : بين الأصل والدليل ، ليس لعدم اتحاد الموضوع فقط ، بل للوجهين معا كما تقدم.

وهذا التوجيه والشرح كما في شرح الاعتمادي يكون مبنيا على أن يكون موضوع

١٩٣

ومن هنا كان إطلاق التقديم والترجيح في المقام تسامحا ، لأنّ الترجيح فرع المعارضة ، وكذلك إطلاق الخاصّ على الدليل والعامّ على الأصل فيقال : يخصّص الأصل بالدليل ، أو يخرج عن الأصل بالدليل.

ويمكن أن يكون هذا الإطلاق على الحقيقة بالنسبة إلى الأدلّة غير العلميّة.

بأن يقال : إنّ مؤدّى أصل البراءة ـ مثلا ـ أنّه إذا لم يعلم حرمة شرب التتن فهو غير محرّم ، وهذا عامّ ، ومفاد الدليل الدالّ على اعتبار تلك الأمارة غير العلميّة المقابلة للأصل أنّه إذا قامت تلك الأمارة غير العلميّة على حرمة الشيء الفلاني فهو حرام ، وهذا أخصّ من

____________________________________

الدليل هو نفس التتن على نحو الماهية بشرط لا ، فيباين موضوع الأصل ، وهو الماهية بشرط شيء ـ كما لا يخفى ـ فيتعدّد موضوعهما.

وأمّا على فرض كون الموضوع في جانب الدليل هو التتن ، أو شربه على نحو الماهية لا بشرط ، كان عدم المعارضة بينهما من جهة واحدة وهي انتفاء الأصل بالدليل ، وإلّا فالموضوع متّحد ، لعدم التنافي بين الشيء لا بشرط ، وبينه بشرط شيء ، لأنّ اللّابشرط يجتمع مع الشرط.

فمعنى عبارة المصنّف قدس‌سره حينئذ (فلا معارضة بينهما لا لعدم اتّحاد الموضوع) لأنّ الموضوع متّحد(بل لارتفاع موضوع الأصل) كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره.

(ومن هنا كان إطلاق التقديم والترجيح في المقام تسامحا).

أي : إن التعبير بتقديم دليل على آخر يصح على نحو الحقيقة فيما إذا كان التعارض بينهما ثابتا ، فيقال : إنّ تقديم أحدهما على الآخر يكون بالترجيح ، وأمّا إذا لم يكن التعارض متحققا ، كما إذا كان أحدهما واردا على الآخر ، فكان إطلاق التقديم للوارد على المورود من باب التسامح والمجاز لا من باب الحقيقة ، والمقام من هذا القبيل.

وكذلك يكون إطلاق الخاص على الدليل ، والعام على الأصل من باب التسامح أيضا.

وأمّا المورد الثاني فقد أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(ويمكن أن يكون هذا الإطلاق على الحقيقة بالنسبة إلى الأدلة غير العلميّة).

وكان عليه أن يزيد كلمة بالقياس إلى الاصول غير العقلية حتى يرجع المعنى إلى أنّ الأدلة الظنية تبقى على كونها واردة على الاصول العقلية ، كما سيأتي في كلامه قدس‌سره ، كما أنّ

١٩٤

دليل أصل البراءة مثلا ، فيخرج عنه به. وكون دليل تلك الأمارة أعمّ من وجه ـ باعتبار شموله لغير مورد أصل البراءة ـ لا ينفع بعد قيام الإجماع على عدم الفرق في اعتبار تلك الأمارة بين مواردها.

____________________________________

الأدلة العلمية تكون واردة على الاصول مطلقا ، شرعية كانت ، أو عقلية.

والحاصل أنّه يمكن إطلاق الخاص على الدليل الظني ، وإطلاق العام على الأصل الشرعي حقيقة ، وذلك لأنّ موضوع الأصل الشرعي هو عدم العلم الشامل للشك والظن معا ، فيكون الدليل الظني أخصّ من الأصل الشرعي ، وحينئذ إذا قام الدليل الظني على حرمة شيء ، وكان مقتضى الأصل ، كقوله عليه‌السلام : (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) (١) هو الحليّة ، والإباحة ، كان الدليل مخصّصا له حيث يكون نتيجة الجمع بينهما هي أنه كلّ شيء حلال إلّا ما دلّ خبر الثقة على حرمته.

وقوله : (وكون دليل تلك الأمارة أعمّ من وجه ـ باعتبار شموله لغير مورد أصل البراءة ـ لا ينفع بعد قيام الإجماع على عدم الفرق في اعتبار تلك الأمارة) حينئذ(بين مواردها).

دفع لما يتوهّم من أنّ النسبة بين الأدلة الدالة على حجّية الخبر ، وبين أدلة اعتبار الاصول ليست هي عموم مطلق حتى يقال بتقديم أدلة الخبر على أدلة الاصول بالتخصيص ، بل هي عموم من وجه ، فحينئذ نأخذ بمقتضى القاعدة في مادة الاجتماع ، ومقتضاها هو ترجيح إحداهما على الاخرى إن كان هناك مرجّح لأحدهما ، وإلّا فهو التخيير ، وعلى التقديرين ليس الحكم التخصيص ، فالحكم بالتخصيص غير صحيح ، وأمّا كون النسبة عموما من وجه ، فلاجتماعهما في مثال شرب التتن إذا دلّ خبر الثقة على الحرمة مع أنّ الأصل يقتضي الحلّية ، ولافتراق ما دلّ على حجّية الخبر في مورد العلم الإجمالي ، كما إذا دلّ خبر الثقة على وجوب الظهر معيّنا مع أن للمكلّف علما إجماليا بوجوب الظهر أو الجمعة ، كان الدليل الظني فقط حيث لا يجري الأصل في أطراف العلم الإجمالي ، ولافتراق الأصل فيما إذا لم يكن الخبر على خلافه.

وحاصل الدفع لهذا التوهّم هو أنّ كون الدليل الدال على اعتبار الأمارة أعمّ من وجه ،

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٨ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ١.

١٩٥

وتوضيح ذلك : إنّ كون الدليل رافعا لموضوع الأصل ـ وهو الشك ـ إنّما يصحّ في الدليل العلمي ، حيث إنّ وجوده يخرج حكم الواقعة عن كونه مشكوكا فيه. وأمّا الدليل غير العلمي فهو بنفسه غير رافع لموضوع الأصل ، وهو عدم العلم. وأمّا الدليل الدالّ على اعتباره ، فهو وإن كان علميّا إلّا إنّه لا يفيد إلّا حكما ظاهريّا نظير مفاد الأصل. إذ المراد بالحكم الظاهري ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي الثابت له من دون مدخليّة العلم والجهل.

____________________________________

وكون النسبة بينهما هي العموم من وجه ، لا ينفع في ردّ تقديم دليل اعتبار الأمارة على دليل اعتبار الأصل بالتخصيص ، بل دليل الأمارة مخصّص لدليل الأصل ، وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، وذلك لقيام الإجماع على حجّية الأمارة في جميع الموارد ، بمعنى أنّها حجّة في مادة الاجتماع مع الأصل ، كما أنّها كذلك في مادة الافتراق ، فحينئذ تخرج مادة الاجتماع بما دلّ على اعتبارها عن الأصل ، فيكون دليلها مخصّصا لدليله ، وهذا هو معنى تخصيص الأصل العملي بالدليل الاجتهادي.

ثمّ إن المصنّف قدس‌سره يشير إلى التفصيل بين الأصل العقلي والشرعي ، فيقول قدس‌سره : إنّ الدليل غير العلمي وارد بالنسبة إلى الاحتياط والتخيير العقليين لكونه رافعا لموضوعهما ، وأمّا بالنسبة إلى ما عداهما من الاصول الشرعية فهو بنفسه ـ أي : مع قطع النظر عن دليل اعتباره ـ غير رافع لموضوع الأصل وهو عدم العلم.

والحاصل أن تقدّم الدليل الظني على الأصل العقلي يكون بالورود ، وعلى الأصل الشرعي بالتخصيص ، كما لا يخفى.

وقوله : (وأمّا الدليل الدال على اعتباره ، فهو وإن كان علميا).

دفع لما يتوهم من أنّ نفس الدليل غير العلمي وإن لم يكن رافعا لموضوع الأصل الشرعي إلّا أنّ الدليل الدال على اعتباره كان علميا كالأدلة الأربعة فيرتفع به موضوع الأصل ، فيكون تقديم الدليل على الأصل من باب الورود لا من باب التخصيص.

وحاصل الدفع هو أن الدليل الدال على الاعتبار وإن كان علميا ، إلّا أنّه لا يفيد إلّا حكما ظاهريا ؛ وذلك لأنّ خبر الثقة الدال على حرمة شرب التتن في مورد أصالة الإباحة شرعا لا يوجب العلم بالحكم الواقعي حتى يرتفع به موضوع الأصل فيكون واردا عليه ،

١٩٦

فكما أنّ مفاد قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) (١) يفيد الرخصة في الفعل غير المعلوم ورود النهي فيه ، فكذلك ما دلّ على حجّية الشهرة الدالّة مثلا على وجوب شيء ، يفيد وجوب ذلك الشيء من حيث إنّه مظنون مطلقا أو بهذه الأمارة.

ولذا اشتهر أنّ علم المجتهد بالحكم مستفاد من صغرى وجدانيّة ، وهي «هذا ما أدّى إليه ظنّي» ، وكبرى برهانيّة ، وهي : «كلّ ما أدّى إليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي». فإنّ الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهري ، فإذا كان مفاد الأصل ثبوت الإباحة للفعل غير المعلوم الحرمة ، ومفاد دليل تلك الأمارة ثبوت الحرمة للفعل المظنون الحرمة ، كانا متعارضين لا محالة. فإذا بني على العمل بتلك الأمارة ، كان فيه خروج عن عموم الأصل وتخصيص له لا محالة.

هذا ، ولكنّ التحقيق أنّ دليل تلك الأمارة وإن لم يكن كالدليل العلمي رافعا لموضوع الأصل ، إلّا أنّه نزّل شرعا منزلة الرافع ، فهو حاكم على الأصل لا مخصّص له ، كما سيتّضح

____________________________________

والدليل الدال على الحجّية ـ أيضا ـ لا يوجب العلم بالحرمة واقعا ، بل يوجب العلم بالحجّية المستلزمة للعلم بحرمة شرب التتن ظاهرا.

وبالجملة ، إنّ الأمارة لم تكن واردة على الأصل الشرعي ، بل هي مخصّصة له ، كما أشار إليه بقوله :

(فإذا بني على العمل بتلك الأمارة ، كان فيه خروج عن عموم الأصل وتخصيص له ...).

هذا تمام الكلام في المورد الثاني حيث يظهر من كلامه التفصيل المذكور.

وأمّا المورد الثالث ، فقد أشار إليه بقوله :

(ولكن التحقيق أنّ دليل تلك الأمارة ، وإن لم يكن كالدليل العلمي رافعا لموضوع الأصل ، إلّا أنّه نزّل شرعا منزلة الرافع ، فهو حاكم على الأصل).

وحاصل هذا الكلام منه قدس‌سره هو ـ أيضا ـ التفصيل بين الاصول العقلية والشرعية ، حيث تكون الأدلة الظنّية واردة على الاولى وهي الاصول العقلية ، وحاكمة على الثانية وهي

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٢٨٩ ، أبواب القنوت ، ب ١٩ ، ح ٣.

١٩٧

إن شاء الله ، على أنّ ذلك إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأدلّة الشرعيّة.

وأمّا الأدلّة العقليّة القائمة على البراءة والاشتغال ، فارتفاع موضوعها بعد ورود الأدلّة الظنيّة واضح ، لجواز الاقتناع بها في مقام البيان وانتهاضها رافعا لاحتمال العقاب ، كما هو ظاهر. وأمّا التخيير فهو أصل عقلي لا غير.

واعلم أنّ المقصود بالكلام في هذه الرسالة الاصول المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعي الكلّي وإن تضمّنت حكم الشبهة في الموضوع أيضا.

____________________________________

الاصول الشرعية ، وذلك بعد تنزيل الأمارات منزلة العلم بما دلّ على اعتبارها ، فتخرج عن موضوع الأصل وهو عدم العلم ، إذ الأمارة بعد التنزيل علم تعبّدا وإن لم يكن علما وجدانا ، فتكون الأدلة الدالة على اعتبارها حاكمة على أدلة الاصول بنحو التضييق حيث توجب خروج الأمارات عن موضوع أدلة الاصول ، فينحصر موضوعها في غير مورد الأمارات.

وبالجملة ، إنّ تقديم الأمارات على الاصول الشرعية يكون بالحكومة لا بالتخصيص.

(على أنّ ذلك) أي : كون أدلة الأمارات مخصّصة لأدلة الاصول (إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأدلة الشرعية) أي : أدلة الاصول الشرعية.

(وأمّا الأدلة العقلية القائمة على البراءة والاشتغال ...).

وأمّا أدلة اعتبار الأمارات بالنسبة إلى أدلة الاصول العقلية ، كالبراءة العقلية والاشتغال العقلي ، فإنّ تقديمها عليها بنحو الورود ، كما تقدّم في المقدمة حيث قلنا فيها : إن موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان فيرتفع بقيام الأمارة على خلافها ، فيكون تقديمها على البراءة بالورود ، وهكذا موضوع الاشتغال ، والاحتياط العقلي هو عدم المؤمّن من العقاب فيرتفع بقيام خبر الثقة على الحكم ، لأنّه مؤمّن عن العقاب بعد حجّيته ، وكذا موضوع التخيير هو عدم المرجّح ، فيرتفع بخبر الثقة لكونه مرجّحا.

(واعلم أن المقصود بالكلام في هذه الرسالة الاصول المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعي الكلّي وإن تضمّنت حكم الشبهة في الموضوع أيضا).

وحاصل ما هو المستفاد من كلام المصنّف رحمه‌الله ، أن المقصود بالكلام والبحث هو البحث في الاصول الأربعة من جهة جريانها في الشبهات الحكمية وإن كانت تجري في

١٩٨

وهي منحصرة في أربعة : أصل البراءة ، وأصل الاحتياط ، والتخيير ، والاستصحاب ، بناء على كونه حكما ظاهريّا ثبت التعبّد به من الأخبار ، إذ بناء على كونه مفيدا للظن يدخل في الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعي.

وأمّا الاصول المشخّصة لحكم الشبهة في الموضوع ، كأصالة الصحة ، وأصالة الوقوع فيما شك فيه بعد تجاوز المحلّ ، فلا يقع الكلام فيها إلّا لمناسبة يقتضيها المقام.

ثمّ إنّ انحصار موارد الاشتباه في الاصول الأربعة عقلي ، لأنّ حكم الشك ؛ إمّا أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ.

____________________________________

الشبهات الموضوعية أيضا.

(وهي منحصرة في أربعة).

أي : الاصول منحصرة في الأربعة حصرا عقليا من حيث مجاريها ، واستقرائيا من جهة أنفسها ، وهي :

١ ـ أصل البراءة ٢ ـ وأصل الاحتياط ٣ ـ والتخيير ٤ ـ والاستصحاب بناء على كونه حكما ظاهريا ثبت اعتباره بالأخبار ، وأمّا بناء على ثبوت اعتباره ببناء من العقلاء ، فإنّه يكون من الأمارات المفيدة للظن ، وبذلك يخرج عن كونه أصلا رابعا للاصول العملية كما ذكر في محلّه.

وأمّا حصرها في الأربعة من حيث المجاري فهو عقلي ، حيث تكون قسمتها عليها دائرة بين النفي والإثبات ، وكل تقسيم كذلك يكون حصر المقسم في الأقسام عقليا.

وأمّا كون انحصار نفس الاصول في الأربعة استقرائيا فلما ثبت بالاستقراء من أنّ الاصول الجارية في جميع أبواب الفقه منحصرة في الأربعة المذكورة.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى حصرها في الأربعة عقلا من حيث مجاريها بقوله :

(لأنّ حكم الشك ؛ إمّا أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ)

ومراده من لحاظ اليقين السابق على الشك هو ما إذا كان شك المكلّف في بقاء ما تيقّن به من جهة وجود الرافع ، كالشك في بقاء الطهارة بعد اليقين بها ، لا من جهة المقتضي

١٩٩

والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا ، والثاني مورد التخيير. والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإمّا أن لا يدلّ.

والأول مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة.

____________________________________

كالشك ببقاء نجاسة الماء المتنجّس بالتغيّر بعد زوال تغيّره.

(والأول) هو (مورد الاستصحاب).

وهو ما إذا كان الشك ملحوظا فيه اليقين السابق على الشك سواء كان الشك في التكليف أو في المكلّف به ، وسواء كان الاحتياط ممكنا أم لا.

(والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا).

وهو ما إذا لم يكن هناك لحاظ اليقين السابق على الشك ، سواء لم يكن هناك يقين أصلا كالشك في حرمة شرب التتن ابتداء ، أو كان ولم يلحظ ، كالشك من جهة المقتضي ينقسم على قسمين :

الأول : ما يمكن الاحتياط فيه.

والثاني : ما لا يمكن الاحتياط فيه (والثاني مورد التخيير).

(والأول) وهو ما يمكن الاحتياط فيه (إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول) كما في مورد الشك في المكلّف به ، حيث يكون أصل التكليف ثابتا ، فيحكم العقل بالعقاب على مخالفة التكليف المجهول من حيث المتعلّق.

(وإمّا أن لا يدل) كما في مورد الشك في أصل التكليف حيث لا يحكم العقل بالعقاب ، لعدم ثبوت التكليف حتى يحكم بالعقاب على مخالفته.

(والأول مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة)

أي : الأول وهو ما يدل الدليل على ثبوت العقاب بالمخالفة ـ كما في الشك في المكلّف به ـ مورد للاحتياط ، والثاني وهو ما لا يدل الدليل على العقاب بالمخالفة ، لعدم التكليف ـ كما في صورة الشك في أصل التكليف ـ مورد للبراءة.

ثمّ إن ما ذكره المصنّف قدس‌سره من حصر مجاري الاصول هنا أولى ممّا ذكره في أول الكتاب ، إذ ليس فيه تخصيص البراءة في الشك في التكليف ، ولا تخصيص الاحتياط في

٢٠٠