دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

نقله ، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ؛ لأنّه إذا كان هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك ، كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجبا للعلم ـ كما تقدّمت القرائن ـ جاز العمل به.

والذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعون ، حتّى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه : من أين قلت هذا؟.

فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر وقبلوا قوله.

هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن بعده من الأئمّة صلوات الله عليهم ، إلى زمان جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، الذي انتشر عنه العلم وكثرت الرواية من جهته ، فلو لا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ، لأنّ إجماعهم فيه معصوم ولا يجوز عليه الغلط والسّهو.

____________________________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمة عليهم‌السلام وكان واردا من طريق الإمامية لا غيرهم ، وكان الراوي ممّن لا يطعن في روايته بأن لا يكون متّهما بالكذب ، وكان سديدا بأن لا يكون الراوي كثير السّهو والغلط والنسيان ، فيجوز العمل بهذا القسم من خبر الواحد بالإجماع ، أي : إجماع الفرقة المحقّة ، حيث إنّهم مجمعون على العمل بهذه الأخبار التي دوّنوها في اصولهم المعروفة بالأربعمائة.

ولا يتناكرون العمل بها(ولا يتدافعون) ، أي : لا يردّون استدلال من يستدل بها فاكتفوا بالسؤال عن دليل من يستدل ، فإذا قال في جوابهم : إنّ الدليل هو الخبر المذكور في فلان كتاب معروف ، أو أصل مشهور من الاصول الأربعمائة قبل ذلك منه.

وهذه العادة كانت للأصحاب من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستمرت إلى زمان جعفر بن محمد عليه‌السلام ، فلو لم يكن العمل بهذه الأخبار جائزا لما أجمعوا على ذلك ، ولما كان إجماعهم فيه معصوم ، فلا يمكن احتمال الخطأ والغلط والسهو فيه.

والذي يؤيد هذا الإجماع ، بل يكشف عنه : أنّ العمل بالقياس لمّا كان محظورا عندهم لم يعملوا به أصلا ، فلو كان العمل بخبر الواحد كذلك لما عملوا به أصلا ، وقد عملوا به

١٢١

والذي يكشف عن ذلك أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظورا عندهم في الشريعة لم يعملوا به أصلا ، وإذا شذّ واحد منهم وعمل به في بعض المسائل واستعمله على وجه المحاجّة لخصمه وإن لم يكن اعتقاده ، ردّوا قوله وأنكروا عليه ، وتبرءوا من قوله حتى أنّهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لمّا كان عاملا بالقياس ، فلو كان العمل بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى لوجب فيه ـ أيضا ـ مثل ذلك ، وقد علمنا خلافه.

فإن قيل : كيف تدّعون إجماع الفرقة المحقّة على العمل بخبر الواحد ، والمعلوم من حالها أنّها لا ترى العمل بخبر الواحد ، كما أنّ من المعلوم أنّها لا ترى العمل بالقياس ، فإن جاز ادّعاء أحدهما جاز ادّعاء الآخر؟.

قيل له : المعلوم من حالها الذي لا ينكر أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد ، ويختصّون بطريقه ، فأمّا ما كان رواته منهم وطريقه أصحابهم ، فقد بيّنا أنّ المعلوم خلاف ذلك ، وبيّنا الفرق بين ذلك وبين القياس ، وأنّه لو كان معلوما حظر العمل بالخبر الواحد لجرى مجرى العلم بحظر القياس ، وقد علم خلاف ذلك.

فإن قيل : أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يعمل به ،

____________________________________

فيكون عملهم به كاشفا عن حجّية وتحقّق الإجماع فيه.

(فإن قيل : كيف تدّعون إجماع الفرقة المحقّة على العمل بخبر الواحد ، والمعلوم من حالها أنّها لا ترى العمل بخبر الواحد؟!).

وملخّص ما قيل : إنّ ما يتراءى من الفرقة المحقّة أنّها لا تجيز العمل بخبر الواحد ، كما لا تجيز العمل بالقياس ، فكيف تدّعون إجماعهم على جواز العمل بخبر الواحد؟!.

(قيل له : المعلوم من حالها الذي لا ينكر أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد).

وملخّص الجواب : إنّا ندّعي إجماع الفرقة على جواز العمل بخبر الواحد الذي يرويه أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، وما ذكر في الإشكال هو عدم جواز العمل بخبر الواحد الذي يرويه غير الأصحاب وغير الإمامية ، وما يختصّ المخالفون بطريقه كالخبر الوارد من طريق العامة فقط ، فما ذكر في السؤال لا يضرّ بالإجماع لاختلاف مورد النفي والإثبات ، كما لا يخفى.

١٢٢

ويدفعونهم عن صحّة ذلك ، حتى إنّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلا ، ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك سمعا ، لأنّ الشرع لم يرد به ، وما رأينا أحدا تكلّم في جواز ذلك ، ولا صنّف فيه كتابا ، ولا أملى فيه مسألة ، فكيف أنتم تدّعون خلاف ذلك؟.

قيل له : من أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد ، إنّما كلّموا من خالفهم في الاعتقاد ، ودفعوهم من وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمّنة للأحكام التي يروون خلافها.

وذلك صحيح على ما قدّمناه ، ولم نجدهم اختلفوا في ما بينهم ، وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه ، إلّا في مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحّتها. فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم لمكان الأدلّة الموجبة للعلم والأخبار المتواترة بخلافه.

على أنّ الذين أشير إليهم في السؤال أقوالهم متميّزة بين أقوال الطائفة المحقّة ، وقد علمنا أنّهم لم يكونوا أئمّة معصومين. وكلّ قول قد علم قائله وعرف نسبه وتميّز من أقاويل سائر الفرقة المحقّة لم يعتدّ بذلك القول ؛ لأنّ قول الطّائفة إنّما كان حجّة من حيث كان فيهم معصوم ، فإذا كان القول من غير معصوم علم أنّ قول المعصوم داخل في باقي الأقوال

____________________________________

(فإن قيل : أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يعمل به).

وملخّص الإشكال : إنّ أساتذتكم كانوا يناظرون خصومهم ـ أي : العامّة ـ فيردّون استدلالهم بخبر الواحد بعدم جواز العمل به ، حتى يقول بعضهم بعدم العمل به عقلا ؛ لأنّ العمل به مستلزم لتحريم الحلال ، وتحليل الحرام كما تقدّم من ابن قبة. وبعضهم يقول بعدم الجواز سمعا ، بمعنى أنّه لم يدل دليل شرعي على جواز العمل بخبر الواحد ، ومقتضى الأصل هو حرمة العمل به.

(قيل له) :

أولا : إنّ المنكرين قد أنكروا العمل بخبر الواحد حينما يناظرون مع العامة حيلة عليهم لا حقيقة ؛ لأنّه لمّا لم يتمكّنوا من ردّهم بالتصريح على كذب أخبارهم المعارضة بأخبارنا الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام عن طريق أصحابهم عليهم‌السلام ، فيقولون : إنّ أخبار الآحاد عندنا ليست بحجّة ، فكان مرادهم من المنع عن العمل بخبر الواحد منع العمل بأخبار العامة المعارضة بأخبار الخاصة.

وثانيا : إنّ الذين اشير إليهم ـ أي : المنكرين لحجّية خبر الواحد ـ تكون أقوالهم متميزة ،

١٢٣

ووجب المصير إليه على ما بيّنته في الإجماع» انتهى موضع الحاجّة من كلامه.

ثمّ أورد على نفسه : «بأنّ العقل إذا جوّز التعبّد بخبر الواحد والشرع ورد به ، فما الذي يحملكم على الفرق بين ما يرويه الطائفة المحقّة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامّة؟».

ثمّ أجاب عن ذلك : «بأنّ خبر الواحد إذا كان دليلا شرعيّا فينبغي أن يستعمل بحسب ما قرّرته الشريعة ، والشارع يرى العمل بخبر الطائفة خاصّة ، فليس لنا التعدّي إلى غيرها. على أنّ العدالة شرط ، في الخبر بلا خلاف ، ومن خالف الحقّ لم يثبت عدالته ، بل ثبت فسقه».

____________________________________

أي : محدودة ، قليلة بين أقوال الطائفة ، وقد علمنا أنّهم لم يكونوا أئمة معصومين لكونهم معلومي النسب ، فلا يعتدّ بقولهم ، ولا يضر خلافهم بإجماع الطائفة المحقّة على حجّية خبر الواحد ، كما تقدّم في ردّ خلاف السيد وأتباعه.

فحينئذ وجب المصير إلى إجماع الطائفة والأخذ به ، إذ قول المعصوم عليه‌السلام داخل في قولهم ، فيكون اتفاقهم حجّة.

(انتهى موضع الحاجة من كلامه. ثمّ أورد على نفسه) بما حاصله :

إنّ العقل إذا حكم بجواز التعبّد بخبر الواحد كان حكمه كاشفا عن عدم المفسدة فيه ، فحينئذ يجوز التعبّد بمطلق خبر الواحد ، من دون فرق بين كونه واردا عن طريق الخاصة أو العامة ، إذ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد.

فما ذكر من الفرق بين ما ورد عن طريق الخاصة ، وما ورد عن طريق العامة ، ثمّ القول بحجّية الأوّل دون الثاني غير صحيح.

(ثمّ أجاب عن ذلك) بما حاصله :

من أنّ خبر الواحد دليل شرعيّ ، إذ اعتباره قد ثبت بالإجماع ، وهو دليل شرعيّ ، فحينئذ لا بدّ من الالتزام بمقدار ما قرّرته الشريعة ، والشارع يرى العمل بخبر طائفة خاصة ، وهي الإمامية ، فلا يجوز لنا التعدّي عمّا أجازه الشارع إلى غيره. هذا أوّلا.

وثانيا : إنّ العدالة شرط في حجّية الخبر ، ومن المعلوم أنّ من خالف الحق ليس بعادل فلا يكون خبره حجّة.

١٢٤

ثمّ أورد على نفسه : «بأنّ العمل بخبر الواحد يوجب كون الحقّ في جهتين عند تعارض خبرين».

ثمّ أجاب : «أوّلا : بالنقض بلزوم ذلك عند من منع العمل بخبر الواحد ، إذا كان هناك خبران متعارضان ، فإنّه يقول مع عدم الترجيح بالتخيير ، فإذا اختار كلّا منهما إنسان لزم كون الحقّ في جهتين».

وأيّد ذلك : «بأنّه قد سئل الصادق عليه‌السلام عن اختلاف أصحابه في المواقيت وغيرها ، فقال عليه‌السلام : (أنا خالفت بينهم) (١).

قال بعد ذلك :

____________________________________

(ثمّ أورد على نفسه : بأنّ العمل بخبر الواحد يوجب كون الحقّ في جهتين عند تعارض خبرين).

وحاصل الإيراد : أنّ حجّية خبر الواحد والعمل به يوجب كون الحقّ في جهتين ، عند تعارض خبرين ، وثبوت الحق كذلك مستلزم لاجتماع النقيضين الباطل ، وذلك فيما إذا دل خبر على وجوب السورة في الصلاة ، ودل خبر آخر على عدم وجوبها فيها ، فيلزم من حجّية الخبر كون السورة واجبة وغير واجبة ، وهو اجتماع النقيضين!!

(ثمّ أجاب أولا : بالنقض بلزوم ذلك) الإيراد على من منع العمل بخبر الواحد عند تعارض خبرين مقطوعي الصدور ، فإنّ الخبر إذا كان مقطوع الصدور يكون حجّة عند الكل ، فيلزم كون الحقّ في جهتين ، مع عدم ثبوت ترجيح أحدهما على الآخر دلالة إذا اختار كلّا منهما شخص.

(وأيّد ذلك) ، أي : صدور خبرين متعارضين عن الأئمة عليهم‌السلام ، (بأنّه قد سئل الصادق عليه‌السلام عن اختلاف أصحابه في المواقيت) ، أي : المواقيت اليومية ونوافلها ، فضيلة وإجزاء(فقال عليه‌السلام : (أنا خالفت بينهم) ، بمعنى : ألقيت الخلاف بينهم.

وهذا يدل على صدور الأخبار المتعارضة عنهم عليهم‌السلام ، ثمّ تعبيره بالتأييد حيث قال : أيّد ذلك ، ولم يقل يدل على ذلك ، لعلّه يكون لأجل كون هذا الخبر من أخبار الآحاد ، فلا

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ٥٣.

١٢٥

«فإن قيل : كيف تعملون بهذه الأخبار ونحن نعلم أنّ رواتها ، كما رووها ، رووا أيضا أخبار الجبر والتفويض ، وغير ذلك من الغلوّ والتناسخ ، وغير ذلك من المناكير ، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال هؤلاء؟

قلنا لهم : ليس كلّ الثّقات نقل حديث الجبر والتشبيه ، ولو صحّ أنّه نقل لم يدلّ على أنّه كان معتقدا لما تضمّنه الخبر ، ولا يمتنع أن يكون إنّما رواه ليعلم أنّه لم يشذّ عنه شيء من الروايات ، لا لأنه معتقد ذلك ، ونحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم ، بل اعتمادنا على العمل الصادر

____________________________________

يصلح أن يكون دليلا على من ينكر حجّية خبر الواحد.

وهذا تمام الكلام فيما ذكره من النقض ، ثمّ أجاب ثانيا بالحل ، ولم ينقله المصنّف قدس‌سره.

(فإن قيل : كيف تعملون بهذه الأخبار ونحن نعلم أنّ رواتها كما رووها ، رووا أيضا أخبار الجبر والتفويض).

أي : كيف تقولون بحجّية الأخبار الواردة عن طريق الخاصة ، وهي الإمامية دون الأخبار الواردة عن طريق العامة ، وتعلمون بأخبار الخاصة الواردة في فروع الدين ، مع أنّ رواتها قد رووا الروايات الكاذبة المستفاد منها الجبر والتفويض ، وغيرهما من الاعتقادات الباطلة ، كالغلوّ في شأن الأئمة عليهم‌السلام ، مخصوصا في حقّ عليّ عليه‌السلام ، والتناسخ وهو أنّ الأرواح محدودة في عدد معيّن ، فكل روح إذا خرج من بدن يدخل في بدن آخر.

فلا يجوز الاعتماد على نقل هؤلاء لأنّ نقلهم للأخبار الكاذبة دليل على فساد مذهبهم وعقيدتهم ، وهو موجب لسقوط سائر أخبارهم عن الاعتبار.

(قلنا لهم : ليس كل الثقات نقل حديث الجبر).

وقد أجاب أوّلا بما حاصله : أنّه ليس كل الثقات ناقلا لهذه الأخبار الكاذبة.

وثانيا : بأنّه لو كان بعضهم ناقلا لها لم يكن النقل دليلا على فساد اعتقاد الناقل حتى يكون موجبا للفسق ، بل ربّما كان الغرض من النقل إظهار الإحاطة بجميع أقسام الأخبار بحيث لم يشذ عنه شيء منها.

قوله : (ونحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم) دفع لما يتوهّم من أنّ نقل هؤلاء لهذه الأخبار ، وإن كان لم يدل على فساد مذهبهم وعقيدتهم ، إلّا أنّ المناط في حجّية الخبر هو مجرّد النقل ، فيمكن أن يقال : إنّ النقل يكون حجّة ممّن لم يكن ناقلا لهذه الأخبار ، فنقل هؤلاء

١٢٦

من جهتهم وارتفاع النزاع فيما بينهم. وأمّا مجرّد الرواية فلا حجّيّة فيه على حال.

فإن قيل : كيف تعوّلون على هذه الروايات ، وأكثر رواتها المجبّرة ، والمشبّهة ، والمقلّدة ، والغلاة ، والواقفيّة ، والفطحيّة ، وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ، ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به ، وإن عوّلت على

____________________________________

ليس حجّة.

وحاصل الدفع : أنّه لا يجوز الاعتماد على مجرّد نقلهم بما هو النقل ، إذ ليس هو مناط الحجّية ، بل مناط الحجّية هو إجماع الفرقة المحقّة على العمل بالأخبار الواردة عن طريق الإمامية ، كما أشار إليه بقوله : (بل اعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم) ، أي : الفرقة المحقّة.

(وأمّا مجرّد الرواية) والنقل لو لا الإجماع ، (فلا حجّية فيه على حال) من الأحوال ، سواء كان الراوي ناقلا للمناكير أم لا ، فاسد المذهب أم لا ، عادلا أو فاسقا.

(فإن قيل : كيف تعوّلون على هذه الروايات ، وأكثر رواتها المجبّرة ، والمشبّهة ، والمقلّدة ، والغلاة ، والواقفيّة ، والفطحيّة).

المجبّرة : القائلون بالجبر.

والمشبّهة : يشبهون الخالق بأحد مخلوقاته.

والمقلّدة : هم الأخباريون الذين يقلّدون في اصول الدين ، بأن يعملوا بالأخبار الظنيّة ، مع أنّ اصول الدين يجب أن يعتقد بها من طريق البراهين العقلية ، ولا يكتفي فيها بالأخبار الظنية.

والواقفيّة : هم المتوقّفون في إمامة موسى بن جعفر عليه‌السلام ، فيعتقدون على أنّه عليه‌السلام الإمام القائم ، والإمامة لم تتجاوزه إلى غيره.

والفطحيّة : القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر عليه‌السلام حيث ادّعى بعد أبيه الإمامة ، واحتج بأنّه أكبر اخوته الباقين ، فاتّبعه على قوله جماعة ، وكان عبد الله أفطح أي : عريض الرأس ، ولهذا يقال على من يعتقد بإمامته الفطحيّة.

(وغير هؤلاء) كالاسماعيلية القائلين بإمامة اسماعيل بن الإمام الصادق عليه‌السلام.

والحاصل : إنّ أكثر رواة هذه الروايات هؤلاء المعتقدون بالعقائد الفاسدة.

١٢٧

عملهم دون روايتهم ، فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم ، وذلك يدلّ على جواز العمل بأخبار الكفّار والفسّاق؟

قيل لهم : لسنا نقول : إنّ جميع أخبار الآحاد يجوز العمل بها ، بل لها شرائط نذكرها فيما بعد ، ونشير هاهنا إلى جملة من القول فيه.

فأمّا ما يرويه العلماء المعتقدون للحقّ فلا طعن على ذلك بهم.

وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة ، فالصحيح الذي أعتقده أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا في الأصل معفو عنه ، ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، ولا يلزم على هذا ترك ما نقلوه. على أنّ من

____________________________________

(ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به) فحينئذ لم تكن أخبار هؤلاء حجّة ؛ لأنهم فسقة إن لم يكونوا كفرة.

قوله : (وإن عوّلت على عملهم دون روايتهم) دفع لما يتوهّم من أنّنا نعتمد على عمل الأصحاب دون رواية هؤلاء الفاسقين.

فدفع هذا التوهّم بما حاصله : إنّا قد وجدنا أنّ الأصحاب قد عملوا بالرواية التي يرويها هؤلاء الرواة الذين ذكرناهم ، فأمر أخبار هؤلاء يدور بين النفي والإثبات.

فإذا اعتبرت العدالة في جواز العمل بالخبر فلا يجوز العمل بأخبار هؤلاء لكونهم فاسقين ، مع أنّ الأصحاب عملوا بما طريقه هؤلاء.

وإن اعتبرت عمل الأصحاب ، وكان المناط في جواز العمل بالخبر هو عمل الأصحاب ، فهم قد عملوا بأخبار هؤلاء ، ولازم ذلك هو جواز العمل بأخبار كلّ فاسق وكافر.

(قيل لهم : لسنا نقول : إنّ جميع أخبار الآحاد يجوز العمل بها ، بل لها شرائط).

أي : أنّ المناط في جواز العمل بالخبر وإن كان عمل الأصحاب والفرقة المحقّة كما ذكرنا ، إلّا أنهم لا يعملون بكل خبر ، بل يعملون بما هو جامع للشرائط الآتية ، ومنها : كون الراوي عادلا أو ثقة ، فعلى هذا ما يرويه العلماء المعتقدون للحقّ يكون حجّة ، ولا يرد عليه ما ذكر من الطعن.

(وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة) أي : الأخباريين ، والصحيح أنّهم مقلّدون للحقّ ، أي : للأخبار الصحيحة ، وإن كانوا مخطئين في الأصل ، أي : في الاستدلال ، إذ أنّهم استندوا واستدلّوا على ما لا يجوز الاستناد إليه ، ولا الاستدلال عليه من الأخبار ، وتركوا النظر

١٢٨

أشار إليهم لا نسلّم أنّهم كلّهم مقلّدة ، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة ، كما يقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة.

وليس من يتعذّر عليهم إيراد الحجج ينبغي أن يكونوا غير عالمين ، لأن إيراد الحجج والمناظرة صناعة ، ليس يقف حصول المعرفة على حصولها ، كما قلنا في أصحاب الجملة.

وليس لأحد أن يقول : هؤلاء ليسوا من أصحاب الجملة ؛ لأنّهم إذا سألوا عن التوحيد أو

____________________________________

والاستدلال بالبراهين العقلية ، فعلموا بالحق ، أي : اصول الدين بطريق لا يجوز الاستدلال عليه فيها وهو الأخبار ، فكانوا مخطئين في طريق العلم.

وهذا الخطأ لا يضر بعدالتهم ، لأنّ النظر في اصول الدين واجب نفسي مستقل ، ولا يكون شرطا للإيمان ، فلا يحكم عليهم بحكم الفسّاق ، وحينئذ يقبل منهم ما نقلوه من الأخبار فتكون حجّة.

هذا مضافا إلى أنّه (لا نسلّم أنّهم كلّهم مقلّدة) في اصول الدين (بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة) ، أي : بالدليل الإجمالي ، فيكونوا من أصحاب الجملة ، الذين يعلمون الحق عن طريق دليل إجمالي ، مع عدم قدرتهم على إيراده بحسب الاصطلاحات المقرّرة عند أهلها ، كغالب العوام وأهل الأسواق ، ولا يحكم العلماء بأنّهم مقلّدة ، بل يقولون أنّهم يعلمون اصول دينهم بالدليل الإجمالي.

قوله : (وليس من يتعذّر عليهم إيراد الحجج ينبغي أن يكونوا غير عالمين) دفع لما يتوهّم من أنّ الأخباريين مقلّدون ؛ لأنّهم لو لم يكونوا كذلك لكانوا مستدلّين بالبراهين والحجج ، فدفع هذا التوهّم.

وحاصل الدفع : إنّهم ليسوا من المقلّدة ، وعدم استدلالهم بالبراهين والحجج ، كان لأجل عدم تمكنهم على إقامة البرهان بالطريق الفني الفلسفي ، فلا يكون دليلا على أنّهم غير عالمين.

ولا يجب أن يكون حصول المعرفة باصول الدين عن طريق الفن الخاص ، بل الواجب هو المعرفة باصول الدين ولو بالدليل الإجمالي البسيط ، كقول الأعرابي : «البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير» ، فهم كأصحاب الجملة يكونون عالمين لا مقلّدين.

قوله : (وليس لأحد أن يقول : هؤلاء ليسوا من أصحاب الجملة) دفع لما يمكن أن يقال :

١٢٩

العدل أو صفات الأئمّة أو صحّة النبوّة ، قالوا : روينا كذا ، ويروون في ذلك كلّه الأخبار ، وليس هذا طريق أصحاب الجملة ، وذلك أنّه ليس يمتنع أن يكون هؤلاء أصحاب الجملة وقد حصل لهم المعارف بالله ، غير أنّهم لمّا تعذّر عليهم إيراد الحجج في ذلك أحالوا على ما كان سهلا عليهم ، وليس يلزمهم أن يعلموا أنّ ذلك لا يصحّ أن يكون دليلا إلّا بعد أن يتقدّم منهم المعرفة بالله. وإنّما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين ، وهم عالمون على الجملة كما قرّرنا ، فما يتفرّع عليه من الخطأ لا يوجب التكفير ولا التضليل.

وأمّا الفرق الذين أشار إليهم ، من الواقفيّة والفطحيّة وغير ذلك ، فعن ذلك جوابان».

____________________________________

إنّ هؤلاء ليسوا من أصحاب الجملة ؛ لأنهم إذا سألوا عن اصول الدين أجابوا عن طريق ذكر الروايات والاستدلال بها ، وليس هذا طريق أصحاب الجملة.

وحاصل ما يقال في الجواب : إنّه لا يمتنع أن يكون هؤلاء من أصحاب الجملة ، إلّا أنّهم لمّا لم يتمكّنوا من إقامة البراهين بالطريقة المقرّرة عند أهلها ، أجابوا بما كان سهلا عليهم من الاستدلال بالأخبار.

قوله : (وليس يلزمهم أن يعلموا أنّ ذلك لا يصح أن يكون دليلا إلّا بعد أن يتقدّم منهم المعرفة بالله) دفع لما يتوهّم من أنّه يجب على الأخباريين أن يعلموا بأنّ الاستدلال بالأخبار وإيرادها دليلا على المطلب ، لا يصح إلّا بعد معرفة الله سبحانه وسائر الامور الاعتقادية بالبراهين العقلية ؛ لأن الاستدلال بالدليل الشرعي على معرفة الشارع مستلزم للدور الباطل ، كما لا يخفى. فلا يجوز الاستدلال بالروايات لمعرفة اصول الدين.

وبيان دفع التوهّم المذكور هو أنّه لا يجب عليهم أن يعلموا عدم صحة الاستدلال بالدليل الشرعي ، إلّا بعد معرفة اصول الدين بالبرهان العقلي ، بل الواجب عليهم هو علمهم بها ، ولو على سبيل الجملة ، وهم عالمون بها كذلك.

(فما يتفرع عليه من الخطأ لا يوجب التكفير ولا التضليل) ، أي : وما يتفرع ويترتب على التمسّك بالأخبار من الخطأ ، وهو ترك تحصيل العلم بالنظر والبرهان ، لا يوجب الكفر ولا الفسق ، فتقبل رواياتهم ، وتكون حجّة.

(وأمّا الفرق الذين أشار إليهم ، من الواقفيّة والفطحيّة وغير ذلك) وقد أجاب عنهم بأحد وجهين :

١٣٠

ثمّ ذكر الجوابين ، وحاصل أحدهما : كفاية الوثاقة في العمل بالخبر ، ولهذا قبل خبر ابن بكير وبني فضّال وبني سماعة ، وحاصل الثاني : أنّا لا نعمل بروايتهم إلّا إذا انضمّ إليها رواية غيرهم ، ومثل الجواب الأخير ذكر في رواية الغلاة ومن هو متّهم في نقله.

وذكر الجوابين أيضا في روايات المجبّرة والمشبّهة ، بعد منع كونهم مجبّرة ومشبّهة ، لأنّ روايتهم لأخبار الجبر والتشبيه لا تدلّ على ذهابهم إليه. ثمّ قال :

«فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار لمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها ولأجلها عملوا بها ، ولو تجرّدت لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يمكن الاعتماد على عملهم بها.

____________________________________

الوجه الأوّل : هو كفاية وثاقة الراوي في جواز العمل بالخبر وحجّيته من دون أن تكون عدالته شرطا في الحجّية. والشاهد عليه هو قبول أخبار بني فضّال من العامّة ، وبني سماعة من الواقفية.

والوجه الثاني : هو عدم جواز العمل بأخبارهم ما لم تنضمّ إليها رواية غيرهم ممّن يكون عادلا ، وذكر الوجه الثاني في رواية الغلاة ومن هو متّهم بالكذب في نقله ، ثمّ يجري كلا الجوابين في روايات المجبّرة والمشبّهة ، هذا مع أنّ نقل رواية الجبر والتشبيه لا يدل على فساد عقيدة الناقل ؛ لأن مجرّد نقل رواية الجبر والتشبيه لم يكن دليلا على كون الناقل من المجبّرة أو المشبّهة.

(فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار لمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائن).

وملخّص الإيراد : إنّكم لستم بمنكرين على أن يكون الذين أشرتم إليهم ، وهم الفرقة المحقّة ، لم يعملوا بهذه الأخبار مجرّدة عن القرينة ، كما هو محل الكلام ، بل عملوا بها لقرائن.

فلو كانت مجرّدة عنها لما عملوا بها ، ولا أقل نحتمل أن يكون عملهم بها من أجل اقترانها بالقرينة ، فإذا جاء هذا الاحتمال بطل الاستدلال ، فلا يصح الاستدلال بعملهم على حجّيتها ، إذ الاستدلال يصح فيما إذا علم أنّ عملهم بها لم يكن لأجل القرينة ، ومع عدم العلم بذلك لا يجوز الاعتماد على عملهم بها.

١٣١

قيل لهم : القرائن التي تقترن بالخبر وتدلّ على صحّته أشياء مخصوصة نذكرها فيما بعد ، من الكتاب والسّنة والإجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنّه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك لأنّها أكثر من أن تحصى ، لوجودها في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم ، وليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرائن ، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه أو دليله ومعناه ، ولا في السنّة المتواترة ، لعدم ذكر ذلك في أكثر الأحكام ، بل وجودها في مسائل

____________________________________

(قيل لهم : القرائن التي تقترن بالخبر ، وتدلّ على صحته أشياء مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسّنّة والإجماع والتواتر).

الظاهر أنّ ذكر التواتر بعد ذكر السّنّة غلط من الناسخ ، إذ التواتر داخل في السنّة ، وليس مقابلا لها ، بل ذكره الناسخ مكان العقل وهو خطأ ، وذلك لأنّ الشيخ الطوسي قدس‌سره ذكر فيما بعد في عداد القرائن الأدلّة الأربعة ، حيث قال في العدّة ـ على ما في بحر الفوائد ـ ما هذا خلاصته : والقرائن التي تدل على صحة الخبر ، وتوجب العلم أربعة أشياء :

منها : كونه موافقا لما اقتضاه العقل.

ومنها : أن يكون موافقا لنص الكتاب ؛ أمّا خصوصه أو عمومه أو دليله أو فحواه.

ومنها : أن يكون موافقا لما اجتمعت عليه الفرقة المحقّة.

فذكره الأدلّة الأربعة في عداد القرائن ، يكون أقوى شاهد على أنّ ذكر التواتر بدل العقل خطأ من الناسخ.

(ونحن نعلم أنّه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك) ، أي : اقتران أخبار الآحاد بالقرائن (لأنها) ، أي : المسائل ، كثيرة جدا بحيث لا يمكن الاستدلال بالقرائن فيها(لعدم ذكر ذلك) أي : جميع المسائل (في صريحه) أي : القرآن ، يعني : لم يدل عليه الكتاب بالمطابقة(وفحواه أو دليله ، ومعناه) أي : لعدم ذكر الجميع في مفهومه الموافق أو المخالف ، وسائر الدلالات كالدلالة الالتزامية أو الإشارة أو الاقتضائية.

والحاصل أنّ القرآن لا يدل على اقتران أخبار الآحاد بالقرينة ، لا بالمطابقة ولا بالتضمّن ، ولا بالمفهوم المخالف ، ولا بالالتزام ، فكيف يقال أنّها مقرونة بالقرينة؟

(ولا في السنّة المتواترة) أي : لعدم ذكر جميع المسائل في السنّة المتواترة ، إذ لم يوجد التواتر في أكثر الأحكام.

١٣٢

معدودة ، ولا في إجماع ، لوجود الاختلاف في ذلك ، فعلم أنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة.

ومن ادّعى القرائن في جميع ما ذكرنا كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معوّلا على ما يعلم ضرورة خلافه ، ومدّعيا لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه. ومن قال عند ذلك : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن ، حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به ، وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ، لأنّه يكون معوّلا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه» انتهى.

ثمّ أخذ في الاستدلال ثانيا على جواز العمل بهذه الأخبار : «بأنّا وجدنا أصحابنا مختلفين

____________________________________

(ولا في إجماع) ، أي : لم يذكر جميع المسائل في إجماع (لوجود الاختلاف في ذلك) ، أي : في أكثر المسائل والأحكام.

ولم يكن في كل حكم حكم عقل مطابق لمضمون الخبر ، فتكون دعوى اقتران أخبار الآحاد بالقرائن في جميع المسائل مردودة ، بل محالة.

(ومن ادّعى القرائن في جميع ما ذكرنا كان السبر) ، أي : الامتحان والاستقراء(بيننا وبينه) حاكما ، والامتحان والاستقراء يحكم لنا على خلاف من ادّعاها بعد التأمل في المسائل.

(ومن قال عند ذلك : إني متى عدمت شيئا من القرائن ، حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام).

فإنّ من قال بالعمل بالأخبار المحفوفة بالقرائن ، لا بدّ أن يقول عند عدم احتفافها بالقرائن بوجوب العمل بما يقتضيه العقل من البراءة ، فيلزمه أن يترك أكثر الأخبار ، ولا يحكم في أكثر المسائل بما ورد في الشرع ، لعدم كون هذه الأخبار في أكثر الأحكام محفوفة بالقرائن.

والرجوع إلى البراءة في موارد هذه الأخبار موجب للخروج عن الدين ، كما أشار إليه بقوله : (وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه) ، أي : يعرض أهل العلم عن هذا الحدّ لما ذكرنا.

(انتهى كلامه) في دعوى الإجماع على عمل الأصحاب بالخبر المجرّد عن القرينة ، (ثمّ أخذ في الاستدلال ثانيا) بما حاصله :

١٣٣

في المسائل الكثيرة في جميع أبواب الفقه ، وكلّ منهم يستدلّ ببعض هذه الأخبار ، ولم يعهد من أحد منهم تفسيق صاحبه وقطع المودّة عنه ، فدلّ ذلك على جوازه عندهم».

ثمّ استدلّ ثالثا على ذلك : بأنّ الطائفة وضعت الكتب لتمييز الرّجال الناقلين لهذه الأخبار ، وبيان أحوالهم من حيث العدالة والفسق ، والموافقة في المذهب والمخالفة ، وبيان من يعتمد على حديثه ومن لا يعتمد ، واستثنوا الرّجال من جملة ما رووه في التصانيف ، وهذه عادتهم من قديم الوقت إلى حديثه ، فلو لا جواز العمل برواية من سلم عن الطعن لم يكن فائدة لذلك كلّه» انتهى المقصود من كلامه ، زاد الله في علوّ مقامه.

وقد أتى في الاستدلال على هذا المطلب بما لا مزيد عليه ، حتى أنّه أشار في جملة كلامه إلى دليل الانسداد ، وأنّه لو اقتصر على الأدلّة العلميّة وعمل بأصل البراءة في غيرها ، لزم ما علم ضرورة من الشرع خلافه ، فشكر الله سعيه.

ثمّ إنّ من العجب أنّ غير واحد من المتأخّرين تبعوا صاحب المعالم في دعوى عدم دلالة كلام الشيخ على حجّية الأخبار المجرّدة عن القرينة.

____________________________________

أنّ الأصحاب قد اختلفوا في الاستدلال بهذه الأخبار ، كل واحد استدل ببعض هذه الأخبار ، ولم يعهد من أحد تفسيق من عمل بها ، فيكون هذا دليلا على جواز العمل بها عندهم.

(ثم استدلّ ثالثا) على حجّية أخبار الآحاد بأنّ الطائفة قد وضعت الكتب في علم الرجال الناقلين للأخبار ، ثمّ حكموا بجواز العمل بأخبار بعض لعدالته أو وثاقته ، وعدم الجواز بأخبار بعضهم الآخر لعدم وثاقته أو لثبوت فسقه ، فهذا الجرح والتعديل يكون أقوى دليل على حجّية أخبار الآحاد ، وإلّا يكون وضع علم الرجال لغوا.

(ثمّ إنّ من العجب أنّ غير واحد من المتأخرين تبعوا صاحب المعالم في دعوى عدم دلالة كلام الشيخ رحمه‌الله على حجّية الأخبار المجرّدة عن القرينة).

وقد تقدم من الشيخ الطوسي قدس‌سره أنّه صرّح بحجّية أخبار الآحاد المجرّدة عن القرائن ، فيكون من العجب دعوى توافق الشيخ الطوسي مع السيد القائل بعدم حجّية الأخبار المجرّدة عن القرائن ، فكيف ادّعى غير واحد من المتأخرين ـ تبعا لصاحب المعالم ـ عدم دلالة كلام الشيخ الطوسي قدس‌سره على حجّية الأخبار المجرّدة عن القرائن ، مع أنّ مواضع من

١٣٤

قال في المعالم ، على ما حكي عنه :

«والإنصاف أنّه لم يتّضح من حال الشيخ وأمثاله مخالفتهم للسيّد قدس‌سره ، إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصوم عليه‌السلام واستفادة الأحكام منه ، وكانت القرائن المعاضدة لها متيسّرة ، كما أشار إليه السيد قدس‌سره ، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد ليظهر مخالفتهم لرأيه فيه. وتفطن المحقّق من كلام الشيخ لما قلناه ، قال في المعارج : «ذهب شيخنا أبو جعفر قدس‌سره إلى العمل بخبر الواحد العدل من رواة أصحابنا ، لكنّ لفظه وإن كان مطلقا ، فعند التحقيق يتبيّن أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا ، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمّة عليهم‌السلام ودوّنها الأصحاب ، لا أنّ كل خبر يرويه عدل إماميّ يجب العمل به ، هذا هو الذي تبيّن لي من كلامه ، ويدّعي إجماع الأصحاب على العمل ، بهذه الأخبار ، حتى لو رواها غير الإماميّ وكان الخبر سليما عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب ، عمل به» انتهى.

____________________________________

كلامه قدس‌سره تدل بالصراحة على حجّية الأخبار المجرّدة عن القرائن؟!

(قال في المعالم على ما حكي عنه : والإنصاف أنّه لم يتّضح من حال الشيخ رحمه‌الله وأمثاله مخالفتهم للسيد قدس‌سره).

والإنصاف أنّه لم يظهر من الشيخ رحمه‌الله وأمثاله أن يكونوا مخالفين للسيد قدس‌سره القائل بعدم حجّية أخبار الآحاد المجرّدة عن القرائن ، لأنها كانت ميسّرة في زمان السيد رحمه‌الله لقرب عهده بزمان المعصوم عليه‌السلام وإمكان استفادة الأحكام عنه عليه‌السلام.

(كما أشار إليه) أي : تيسّر القرينة ، السيد رحمه‌الله ، حيث قال : إنّ أكثر أخبارنا مقطوع الصحة ، أمّا بالتواتر ، وإمّا بقرينة دلّت على صحتها.

ثمّ قال صاحب المعالم : (ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد) ولم يعلم من الشيخ الطوسي قدس‌سره ومن تبعه أنّهم عملوا بالخبر المجرّد عن القرينة حتى يقال أنّهم كانوا مخالفين للسيد رحمه‌الله في مسألة خبر الواحد ، حيث يقول بعدم الحجّية ما لم يكن مقرونا بالقرينة ، ويقول الشيخ قدس‌سره بالحجّية وإن لم يكن محفوفا بالقرينة.

ثمّ قال صاحب المعالم : (وتفطّن المحقّق من كلام الشيخ قدس‌سره لما قلناه) أي : فهم المحقّق قدس‌سره من كلام الشيخ رحمه‌الله ما قلناه ، من أنّه يقول بحجّية الأخبار لاقترانها بالقرائن ، ولم يقل بحجّية

١٣٥

قال بعد نقل هذا عن المحقّق : «وما فهمه المحقّق من كلام الشيخ هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، لا ما نسبه العلّامة إليه» ، انتهى كلام صاحب المعالم.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره في وجه الجمع من تيسّر القرائن ، وعدم اعتمادهم على الخبر المجرّد ، قد صرّح الشيخ في عبارته المتقدّمة ببداهة بطلانه ، حيث قال : «إنّ دعوى القرائن في

____________________________________

ما يكون مجرّدا عن القرينة ، حيث قال المحقّق في المعارج ما حاصله :

من أنّ كلام الشيخ قدس‌سره ، وإن كان مطلقا ، ولم يقيّد الخبر بالاحتفاف بالقرينة ، إلّا أنّ مقتضى التحقيق أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا ، بل يعمل بالأخبار التي نقلت عن الأئمة عليهم‌السلام ، ودوّنها الأصحاب في الاصول لاحتفافها بالقرائن.

فالحاصل أنّه لا يجب العمل بكل خبر يرويه عدل إمامي ما لم يكن محفوفا بالقرينة.

(قال بعد نقل هذا عن المحقّق : «وما فهمه المحقّق من كلام الشيخ رحمه‌الله هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ... الخ» وأنت خبير بأنّ ما ذكره في وجه الجمع من تيسّر القرائن ، وعدم اعتمادهم على الخبر المجرّد ، قد صرّح الشيخ في العبارة المتقدّمة ببداهة بطلانه).

قال صاحب المعالم رحمه‌الله بعد نقل كلام المحقّق رحمه‌الله : وما فهمه المحقّق من كلام الشيخ رحمه‌الله هو الصحيح ، لا ما نسبه العلّامة إلى الشيخ من أنّه يقول بحجّية خبر الواحد وإن لم يكن محفوفا بالقرينة.

ولكن قول صاحب المعالم بأنّ ما فهمه المحقّق من كلام الشيخ رحمه‌الله ، من أنّه يقول بحجّية خبر الواحد المحفوف بالقرينة ، لا يرجع إلى محصّل صحيح ، إذ ليس في كلام المحقّق ما يوهم ذلك إلّا قوله : (لكن لفظه وإن كان مطلقا ، وعند التحقيق يتبيّن أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا).

ولا دلالة في هذه العبارة على ما فهمه صاحب المعالم من كلام المحقّق رحمه‌الله ، بل يكون غرض المحقّق رحمه‌الله من هذا الكلام أنّ الشيخ قدس‌سره لا يعمل بكل خبر يرويه عدل إمامي ، بل بهذه الأخبار التي يتداولها الأصحاب وعملوا بها ، فيكون المناط في حجّيتها عند الشيخ قدس‌سره هو عمل الأصحاب بها ، كما تقدّم منه قدس‌سره مرارا ، لا أنّ المناط في حجّيتها كونها محفوفة بالقرائن ، كما توهّمه صاحب المعالم من كلام المحقّق رحمه‌الله.

ثمّ ما ذكره صاحب المعالم ـ في وجه الجمع بين كلام الشيخ قدس‌سره القائل بحجّية خبر

١٣٦

جميع ذلك ، دعوى محالة ، فإنّ المدّعي لها معوّل على ما يعلم ضرورة خلافه ، ويعلم من نفسه ضدّه ونقيضه» والظاهر ، بل المعلوم ، أنّه قدس‌سره لم يكن عنده كتاب العدّة.

وقال المحدّث الاسترآباديّ في محكيّ الفوائد المدنيّة :

«إنّ الشيخ قدس‌سره لا يجيز العمل إلّا بالخبر المقطوع بصدوره عنهم ، وذلك هو مراد المرتضى قدس‌سره ، فصارت المناقشة لفظيّة ، لا كما توهّمه العلّامة ومن تبعه» انتهى كلامه.

وقال بعض من تأخّر عنه من الأخباريين في رسالته ، بعد ما استحسن ما ذكره صاحب

____________________________________

الواحد ، وكلام السيد رحمه‌الله القائل بعدم حجّيته ، من أنّ عمل الشيخ قدس‌سره وأتباعه بهذه الأخبار كان من جهة احتفافها بالقرائن لتيسرها ـ باطل جزما.

ويدل على بطلان وجه الجمع المذكور تصريح الشيخ رحمه‌الله (في عبارته المتقدّمة ببداهة بطلانه حيث قال : إنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة) والظاهر أنّه لم يكن كتاب العدّة موجودا عند صاحب المعالم رحمه‌الله ، وإلّا لم يحكم على خلاف تصريح الشيخ قدس‌سره.

ومن هنا ظهر فساد ما نسبه المحدّث الاسترآبادي إلى الشيخ قدس‌سرهما حيث (وقال المحدّث الاسترآبادي في محكي الفوائد المدينة : «إنّ الشيخ قدس‌سره لا يجيز العمل إلّا بالخبر المقطوع بصدوره عنهم عليهم‌السلام ، وذلك هو مراد المرتضى قدس‌سره ، فصارت المناقشة لفظيّة ، لا كما توهّمه العلّامة ومن تبعه»).

فما نسبه المحدّث إلى الشيخ رحمه‌الله من أنّه لا يجيز العمل إلّا بما هو المقطوع صدوره عن الأئمة عليهم‌السلام مخالف لصريح كلام الشيخ القائل بحجّية خبر الواحد وإن لم يكن محفوفا بما دلّ على صدقه وصدوره عنهم عليهم‌السلام ، فيكون ما نسبه المحدّث إلى الشيخ قدس‌سره باطلا.

ويتفرّع على بطلانه بطلان ما ذكره من أنّ النزاع بين الشيخ والسيد لفظي ، إذ مراد السيّد هو عدم جواز العمل بالخبر المجرّد عن القرينة ، ومراد الشيخ قدس‌سره هو جواز العمل بالخبر المقطوع صدوره.

وتقدّم من الشيخ قدس‌سره أنّ مراده ليس جواز العمل بالخبر المقطوع صدوره ، بل مراده هو جواز العمل بكل خبر عمل به الأصحاب ، وإن لم يكن صدوره معلوما عنهم عليهم‌السلام ، فالحق أنّ النزاع بينه وبين السيّد رحمه‌الله معنوي ، كما أفاده العلّامة رحمه‌الله.

وبالجملة ، فما ذكره المحدّث الاسترآبادي لا يرجع إلى محصّل صحيح ، وكذلك ما

١٣٧

المعالم : «ولقد أحسن النظر وفهم طريقة الشيخ والسيّد قدس‌سرهما من كلام المحقّق قدس‌سره كما هو حقّه.

والذي يظهر منه أنّه لم ير عدّة الاصول للشيخ ، وإنّما فهم ذلك ممّا نقله المحقّق قدس‌سره ، ولو رآها لصدع بالحقّ أكثر من هذا. وكم له من تحقيق أبان به من غفلات المتأخّرين ، كوالده وغيره ، وفيما ذكره كفاية لمن طلب الحقّ وعرفه ، وقد تقدّم كلام الشيخ ، وهو صريح فيما فهمه المحقّق قدس‌سره ، وموافق لما يقوله السيّد قدس‌سره ، فليراجع.

والذي أوقع العلّامة في هذا الوهم ما ذكره الشيخ في العدّة : «من أنّه يجوز العمل بخبر العدل الإمامي» ولم يتأمّل بقيّة الكلام ، كما تأمّله المحقّق ، ليعلم أنّه إنّما يجوّز العمل بهذه الأخبار التي روتها الأصحاب واجتمعوا على جواز العمل بها. وذلك ممّا يوجب العلم

____________________________________

أفاده بعض المتأخرين ، وهو السيّد الصدر رحمه‌الله حيث قال : (في رسالته) شرح الوافية (بعد ما استحسن ما ذكره صاحب المعالم : ولقد أحسن النظر ، وفهم طريقة الشيخ والسيّد قدس‌سرهما من كلام المحقّق قدس‌سره كما هو حقّه).

قال السيد الصدر رحمه‌الله بعد مدحه وتحسينه لصاحب المعالم في حسن النظر وجودة الفهم ، وقد بالغ في مدحه ، حيث قال : إنّه لم ير كتاب عدّة الاصول ، ولو رآها لقضى بالحق أكثر ممّا حكم به. إلى أن قال :

(وكم له من تحقيق أبان به) أي : أظهر به من غفلات المتأخرين ، كما أنّ لوالده ، أي : الشهيد الثاني رحمه‌الله تحقيقات كاشفة عن غفلات المتأخرين.

(وفيما ذكره كفاية لمن طلب الحق) أي : فيما ذكره صاحب المعالم من وجه الجمع بين كلامي الشيخ والسيّد قدس‌سرهما ، حيث حكم بتوافقهما حقيقة كفاية لطالب الحق.

ثمّ قال السيد الصدر : قد تقدّم في كتابي أنّ كلام الشيخ قدس‌سره صريح فيما فهمه المحقّق من حجّية الخبر المقرون بالقرينة.

ثمّ بيّن وجه توهّم العلّامة فقال : (والذي أوقع العلّامة في هذا الوهم ما ذكره الشيخ قدس‌سره في العدّة : من أنّه يجوز العمل بخبر العدل الإمامي) فتوهّم العلّامة رحمه‌الله من هذا الكلام أنّ الشيخ قدس‌سره يقول بجواز العمل بكل خبر يرويه العدل الإمامي ، وإن لم يكن محفوفا بالقرينة ، فيكون النزاع بينه وبين السيّد معنويا.

(ولم يتأمّل بقيّة الكلام كما تأمّله المحقّق ، ليعلم أنّه إنّما يجوّز العمل بهذه الأخبار التي

١٣٨

بصحّتها ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إمامي يجب العمل به ، وإلّا فكيف يظنّ بأكابر الفرقة الناجية وأصحاب الأئمّة صلوات الله عليهم ، مع قدرتهم على أخذ اصول الدين وفروعه منهم عليهم‌السلام بطريق اليقين ، أنّ يعوّلوا فيهما على أخبار الآحاد المجرّدة ، مع أنّ مذهب العلّامة وغيره أنّه لا بدّ في اصول الدين من الدليل القطعي وأنّ المقلّد في ذلك خارج عن ربقة الاسلام؟! وللعلّامة وغيره كثير من هذه الغفلات لالفة أذهانهم باصول العامّة.

____________________________________

روتها الأصحاب ، واجتمعوا على جواز العمل بها ، وذلك ممّا يوجب العلم بصحّتها).

إنّ سبب وقوع العلّامة في الوهم المذكور هو أنّه لم يتأمّل كلام الشيخ قدس‌سره حقّ التأمّل حتى يعلم أنّه يكون ممّن يرى جواز العمل بالأخبار المدوّنة في كتب الأصحاب مع اجتماعهم بالعمل عليها.

ومن المعلوم أنّ ذلك ممّا يوجب العلم بصحتها ، أي : تدوينهم إيّاها ، واجتماعهم على العمل بها يكون من القرائن العامة الموجبة للقطع بصحتها ، فيكون حكم الشيخ قدس‌سره بجواز العمل بها لكونها محفوفة بالقرينة ، لا مطلقا ، كما توهّمه العلّامة.

ولا يخفى ما في هذا الكلام ؛ لأنّ إجماع الفرقة على العمل بهذه الأخبار وإن كان من القرائن العامة إلّا أنّ المقصود من القرينة عند السيّد ليس احتفافها بالقرينة العامة ، بل مراد السيّد هو اشتراط احتفافها بالقرينة الخاصة ، وهذه الأخبار ليست مقرونة بالقرائن الخاصة ، بل بالقرائن العامة.

فلا تكون حجّة عند السيّد ، مع أنّها حجّة عند الشيخ رحمه‌الله ، فيرجع النزاع بينهما إلى النزاع المعنوي ، كما فهمه العلّامة ، لا إلى النزاع اللفظي كما توهّمه صاحب المعالم.

فنرجع إلى كلام السيّد الصدر حيث قال : (لا أنّ كل خبر يرويه عدل إمامي يجب العمل به) ليس مراد الشيخ قدس‌سره هو جواز العمل أو وجوب العمل بكل خبر يرويه عدل إمامي ، وإن لم يكن محفوفا بالقرينة.

(وإلّا فكيف يظن بأكابر الفرقة الناجية) إذ لو لم تكن هذه الأخبار معلومة الصحة عند الفرقة الناجية وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام لم يعوّلوا عليها ، ولما أخذوا بها مع تمكّنهم من تحصيل العلم في الاصول والفروع.

(مع أنّ مذهب العلّامة وغيره) ممّن يقول بحجّية خبر الواحد هو وجوب تحصيل

١٣٩

ومن تتبّع كتب القدماء وعرف أحوالهم ، قطع بأنّ الأخباريّين من أصحابنا لم يكونوا يعوّلون في عقائدهم إلّا على الأخبار المتواترة أو الآحاد المحفوفة بالقرائن المفيدة للعلم ، وأمّا خبر الواحد فيوجب عندهم الاحتياط دون القضاء والإفتاء ، والله الهادي» انتهى كلامه.

أقول : أمّا دعوى دلالة كلام الشيخ في العدّة على عمله بالأخبار المحفوفة بالقرائن العلميّة دون المجرّدة عنها ، وأنّه ليس مخالفا للسيّد قدس‌سرهما ، فهو كمصادمة الضرورة ، فإنّ في العبارة المتقدّمة من العدّة وغيرها ممّا لم نذكرها ، مواضع تدلّ على مخالفة السيّد.

نعم ، يوافقه في العمل بهذه الأخبار المدوّنة ، إلّا أنّ السيّد يدّعي تواترها له واحتفافها

____________________________________

الاعتقاد في اصول الدين بالعلم واليقين ، وأنّ المقلّد في اصول الدين خارج عن ربقة الإسلام.

إلى أن قال : (ومن تتبع كتب القدماء وعرف أحوالهم ، قطع بأنّ الأخباريين من أصحابنا لم يكونوا يعوّلون في عقائدهم إلّا على الأخبار المتواترة أو الآحاد المحفوفة بالقرائن المفيدة للعلم).

والحاصل من كلام السيّد الصدر هو أنّ الأخباريين عملوا بهذه الأخبار لاحتفافها بالقرائن (انتهى كلامه).

(أقول : أما دعوى دلالة كلام الشيخ قدس‌سره في العدّة على عمله بالأخبار المحفوفة بالقرائن العلميّة دون المجرّدة عنها ، وأنّه ليس مخالفا للسيّد قدس‌سرهما فهو كمصادمة الضرورة).

المصنّف رحمه‌الله يعترض على كلام السيّد الصدر قدس‌سره من جهات :

منها : ما أشار إليه بقوله : وأما دعوى دلالة كلام الشيخ ، وحاصله : إنّ كلام الشيخ قدس‌سره في العدّة لا يدل على عمله بالأخبار المقرونة بالقرائن فقط ، بل يدل على خلاف ما ادّعاه السيّد قدس‌سره.

فما ذكره السيّد الصدر من أنّ الشيخ قدس‌سره ليس مخالفا للسيّد المرتضى قدس‌سرهما ، لأنّه لا يجيز العمل بهذه الأخبار إلّا بعد اقترانها بالقرائن العلمية ، كما هو قول السيّد قدس‌سره ، لا يرجع إلى محصّل صحيح ، إذ في مواضع من العدّة ما يدل على مخالفته للسيّد قدس‌سره.

نعم ، كان الشيخ قدس‌سره موافقا للسيّد في العمل بهذه الأخبار المدوّنة ، إلّا أنّ المناط في العمل بها عندهما لم يكن واحدا ؛ وذلك لأنّ مناط جواز العمل بها عند السيّد قدس‌سره هو

١٤٠