دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

وحكي عن المحدّث الاسترآبادي في فوائده : «إن تحقيق هذا الكلام هو أنّ المحدّث الماهر إذا تتبّع الأحاديث المرويّة عنهم في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر ، لعموم البلوى بها ، فإذا لم يظفر بحديث دلّ على ذلك الحكم ينبغي أن يحكم قطعا عاديّا بعدمه ؛ لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا ، أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه‌السلام ـ كما في المعتبر ـ كانوا ملازمين لأئمّتنا عليهم‌السلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكان همّهم وهمّ الأئمّة عليهم‌السلام إظهار الدين عندهم وتأليفهم كلّ ما يسمعون منهم في الاصول ، لئلّا يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامة ، وليعمل بما في تلك الاصول في زمان الغيبة الكبرى. فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال من شيعتهم ، كما في الروايات المتقدّمة.

____________________________________

الكلام في كلام المحقّق قدس‌سره.

وقد تقدّم أنّ المستفاد من كلامه في المعتبر هو التفصيل في قاعدة عدم الدليل دليل العدم لا في مسألة البراءة ، وكذلك المستفاد من المقدّمتين من كلامه في المعارج هو أنّ انتفاء الدليل في مسألة عامّة البلوى دليل على انتفاء الحكم ، فلا يرتبط كلامه في المعارج بالتفصيل في مسألة البراءة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، بل التفصيل يرجع إلى قاعدة عدم الدليل دليل العدم في كلا الكلامين.

(وحكي عن المحدّث الاسترآبادي في فوائده : «إنّ تحقيق هذا الكلام ... إلى آخره).

هنا يذكر المصنّف قدس‌سره ما حكي عن المحدّث الاسترآبادي في تحقيق كلام المحقّق في المعارج.

وحاصل ما أفاده المحدّث في توجيه كلام المحقّق قدس‌سرهما هو أنّ المحدّث الماهر إذا تتبّع الأحاديث المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام في مسألة تعمّ بها البلوى بحيث لو كان فيها حكم مخالف للأشهر ، ووجد لعموم البلوى ، ولم يجد بحديث دلّ على ذلك الحكم فكان عليه أن يحكم بعدم ذلك الحكم ، إذ لو كان لدلّ عليه دليل شرعي ؛ لأنّ الأئمّة عليهم‌السلام قد بيّنوا ما يعمّ به البلوى قطعا ؛ وذلك لأنّ جمعا غفيرا من أفاضل علمائنا أربعة آلاف منهم تلامذة الإمام الصادق عليه‌السلام كانوا ملازمين للأئمّة عليهم‌السلام في مدّة تزيد عن ثلاثمائة سنة ، وكان همّهم وهمّ الأئمّة إظهار الدين ، وكان أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام قد ألّفوا من عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى

٣٨١

ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسّك بأنّ نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع ـ إلى أن قال ـ : ولا يجوز التمسّك في غير المسألة المفروضة إلّا عند العامّة القائلين بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر عند أصحابه كلّ ما جاء به وتوفّرت الدواعي على جهة واحدة على نشره وما خصّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدا بتعليم شيء لم يظهره عند غيره ، ولم يقع بعده ما اقتضى اختفاء ما جاء به» انتهى.

أقول : المراد بالدليل المصحّح للتكليف ـ حتى لا يلزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ـ هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه والاستفادة منه. فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شاف أصلا ، أو كان ولم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه أو تمكّن

____________________________________

عهد أبي محمد العسكري عليه‌السلام أربعمائة كتاب تسمّى الاصول ، لئلّا يحتاج الشيعة إلى ما سلك إليه العامّة من العمل بالقياس ، والاستحسانات العقليّة ، وليعمل بما في تلك الاصول في زمان الغيبة الكبرى إلى أن قال : ففي تلك الصورة يجوز التمسّك بالبراءة بأن يقال : إنّ نفي دليل على حكم مخالف للأصل في مسألة تعمّ بها البلوى دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع.

ثم قال : ولا يجوز التمسّك به في غير مسألة تعمّ بها البلوى ، والوجه فيه : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أودع أكثر الأحكام عند وصيه عليه‌السلام على عقيدة الإماميّة ، ثمّ اختفى عنّا أكثر الأحكام بواسطة إخفاء الظالمين بعد أن غصبوا حقّ الوصي ، إلّا إن عند العامّة القائلين بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر عند جميع أصحابه كلّ ما جاء به ممّا تعمّ به البلوى وغيره ، فيمتنع الاختفاء عادة على عقيدتهم ، فحينئذ يجوز التمسّك بالبراءة إذا لم يوجد دليل على الحكم من غير فرق بين ما يعمّ به البلوى ، وغيره. انتهى كلام المحدّث مع توضيح منّا وكلامه مذكور في المتن فراجع.

(أقول : المراد بالدليل المصحّح للتكليف ـ حتى لا يلزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ـ هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه ... إلى آخره).

ومن هنا يبدأ المصنّف قدس‌سره في تحقيق كلام المحقّق قدس‌سره في المعارج ، وهذا الكلام منه تمهيدا لدفع توهّم التفصيل المذكور المنسوب إلى المحقّق قدس‌سره ، ثمّ يظهر من ردّ التفصيل المزبور ضعف ما زعمه المحدّث الاسترآبادي تحقيقا لكلام المحقّق في المعارج ، فنقول

٣٨٢

لكن بمشقّة رافعة للتكليف ، أو تيسّر ولم يتمّ دلالته في نظر المستدلّ ، فإنّ الحكم الفعلي

____________________________________

في بيان المطلب :

إنّ مراد المحقّق من إثبات البراءة بقاعدة عدم الدليل دليل العدم لا يخلو من أحد احتمالين :

أحدهما : أن يكون مراده بالبراءة هو البراءة الفعليّة ، فيكون في مقام إثبات البراءة الفعليّة.

وثانيهما : أن يكون مراده بالبراءة هو البراءة الواقعيّة.

وأمّا لو كان المراد بالبراءة التي يثبتها بعدم الدليل هو البراءة الفعليّة كما هو ظاهر كلامه ، فلا وجه للتفصيل المذكور أصلا ؛ وذلك لأنّ البراءة الفعليّة ـ حينئذ ـ تدور مدار عدم الدليل على ثبوت التكليف ، لأنّ عدم الدليل علّة تامّة لعدم التكليف الفعلي ، إذ ثبوت التكليف الفعلي من غير دليل مستلزم للتكليف بما لا يطاق وهو قبيح عقلا ولا يجوز شرعا ، فحينئذ إذا تتبّع المكلّف ولم يجد الدليل على التكليف حصل له القطع بعدم التكليف الفعلي بحكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق من دون فرق بين أن يكون التكليف ممّا تعمّ به البلوى وغيره.

ثمّ إن رفع التكليف الفعلي بعدم الدليل عبارة عن البراءة الفعليّة ، وحينئذ لا يبقى مجال لما ذكره المحدّث الاسترآبادي قدس‌سره تحقيقا لكلام المحقّق قدس‌سره في المعارج لعدم الفرق في البراءة الفعليّة بين ما تعمّ به البلوى وغيره.

وأمّا لو كان مراده بالبراءة هو البراءة الواقعيّة دون الفعليّة ، لكان التفصيل المذكور في محلّه ؛ لأنّ البراءة إنّما تثبت بعدم الدليل فيما إذا كان التكليف عامّ البلوى ، إذ حينئذ يحصل للمكلّف بعد الفحص عنه ، وعدم وجدانه الظنّ الاطمئناني بعدم التكليف في الواقع ، وإلّا لوجده ، أو نقل إليه ، لكونه محلّ ابتلاء لعامّة المكلّفين ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن التكليف عامّ البلوى ، إذ عدم وجدانه لا يدلّ على عدم وجوده في الواقع.

وكيف كان ، فظاهر كلامه قدس‌سره هو الاحتمال الأوّل ، والشاهد عليه هو تمسّكه بقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق ، والتكليف كذلك يلزم على تقدير أن يكون التكليف فعليّا بغير دليل عليه ، فعدم الدليل عليه يكشف عن نفي فعليّة التكليف ، وهو معنى البراءة الفعليّة.

٣٨٣

في جميع هذه الصور قبيح على ما صرّح به المحقّق رحمه‌الله في كلامه السابق ، سواء قلنا : بأنّ وراء الحكم الفعلي حكما آخر يسمّى حكما واقعيّا أو حكما شأنيّا على ما هو مقتضى مذهب المخطّئة ، أم قلنا بأنّه ليس وراءه حكم آخر ، للاتّفاق على أنّ مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو الحكم الفعلي.

وحينئذ فكلّ ما تتبّع المستنبط في الأدلّة الشرعيّة في نظره إلى أن علم من نفسه عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبّع ، ولم يجد فيها ما يدلّ على حكم مخالف للأصل ، صحّ له دعوى القطع بانتفاء الحكم الفعلي ، ولا فرق في ذلك بين العامّ البلوى وغيره ، ولا بين العامّة والخاصّة ، ولا بين المخطّئة والمصوّبة ، ولا بين المجتهدين والأخباريّين ، ولا بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع وسائر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم. هذا بالنسبة

____________________________________

ولتوضيح هذه العبارة بصورة أتمّ نرجع إلى ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ـ دامت إفاداته ـ فنقول : إن المراد بالدليل المصحّح للتكليف بحيث لا يلزم مع وجوده تكليف المكلّف بما لا يطاق هو ما تيسّر وتمكّن المكلّف من الوصول إليه بلا مشقّة رافعة للتكليف ، وتمكّن الاستفادة منه بأن تكون دلالته تامّة عنده ، فإذا لم يكن الدليل بهذه الأوصاف على ثبوت التكليف لم يصح التكليف الفعلي من دون فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شأني أصلا ، أو كان ولم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه ، أو تمكّن بمشقّة رافعة للتكليف أي : تكليف وجوب الفحص ، أو تمكّن من الوصول إليه من غير مشقّة رافعة للتكليف ، ولكن لم تتم دلالته عند المستدل ، فإنّ الحكم الفعلي وتنجّزه في جميع هذه الصور قبيح عقلا(على ما صرّح به المحقق رحمه‌الله في كلامه السابق) في الإجماع على البراءة حيث قال : إن أهل الشرائع كافّة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شيء من المشتهيات سواء علم الإذن فيها أم لا؟

فالمتحصّل هو عدم صحّة التكليف ، وتنجّزه من غير دليل جامع للشرائط المذكورة ، ومن المعلوم أنّ مجرد وجود التكليف في الواقع لا يكون قبيحا في جميع الصور المذكورة ، وإنّما القبيح هو تنجّز التكليف بغير دليل ، فيرجع مراد المحقّق قدس‌سره إلى نفي فعليّة الحكم لا إلى نفي الحكم في الواقع ، وذلك للاتّفاق على أنّ مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو الحكم الفعلي لا الحكم الواقعي ، فحكم العقل يقتضي نفي الحكم الفعلي لا

٣٨٤

إلى الحكم الفعلي. وأمّا بالنسبة إلى الحكم الواقعي النازل به جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو سمّيناه حكما بالنسبة إلى الكلّ ، فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقّق رحمه‌الله من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، لأنّ المفروض عدم إناطة التكليف به.

نعم ، قد يظنّ من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه بعموم البلوى به ، لا بمجرّده ، بل مع ظنّ عدم المانع من نشره في أوّل الأمر من الشارع أو خلفائه أو من وصل إليه ، لكن هذا الظنّ لا دليل على اعتباره ، ولا دخل له بأصل البراءة التي هي من الأدلّة العقليّة ، ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق ، ولا بكلام المحقّق رحمه‌الله فما تخيّله المحدّث تحقيقا لكلام المحقّق رحمه‌الله مع أنّه

____________________________________

نفي الحكم الواقعي ، وحينئذ فكلّما تتبّع المستنبط في الأدلّة الشرعيّة المعتبرة عنده ولم يجد فيها ما يدلّ على ثبوت حكم مخالف للأصل كحرمة ما شكّ في حرمته صحّ له دعوى القطع بالبراءة ، ولا فرق في حكم العقل بعدم تنجّز التكليف من غير دليل للزوم محذور التكليف بما لا يطاق بين العامّ البلوى وغيره ولا بين العامّة والخاصّة ، ولا بين المخطّئة والمصوّبة ، وهكذا.

لكن هذا الذي استدل به المحقّق إنّما يتمّ بالنسبة إلى نفي الحكم الفعلي ، كما تقدّم.

(وأمّا بالنسبة إلى الحكم الواقعي النازل به جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو سمّيناه حكما بالنسبة إلى الكل) كما عليه المخطّئة ، فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقّق قدس‌سره إذ لا يلزم منه التكليف بما لا يطاق حتى يقال بنفيه واقعا.

(نعم ، قد يظنّ من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه بعموم البلوى به ، لا بمجرّده ، بل مع ظنّ عدم المانع من نشره في أوّل الأمر من الشارع ... إلى آخره).

إلّا إنّ هذا الظنّ لم يكن معتبرا ، إذ لا دليل على اعتباره بالخصوص حتى يكون ظنّا خاصا.

(ولا دخل له بأصل البراءة).

لأنّ أصل البراءة حجّة من باب حكم العقل بعدم التكليف ظاهرا في مورد عدم الدليل عليه ، ولم يكن اعتبار أصل البراءة من باب الظنّ بعدم الحكم الواقعي حتى يكون لهذا الظنّ دخل بأصل البراءة.

(ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق).

٣٨٥

غير تامّ فى نفسه ، أجنبيّ عنه بالمرّة.

نعم ، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة الظنّ بها فيما بعد الشرع ، كما سيجيء عن بعضهم. لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي ذكره المحقّق رحمه‌الله.

ومن هنا يعلم أنّ تغاير القسمين الأوّلين من الاستصحاب باعتبار كيفيّة الاستدلال ،

____________________________________

لأنّ حصول الظنّ في عامّ البلوى يكون مسبّبا عن تتبّع الحكم والدليل عليه وعدم وجدانهما لا عن بطلان التكليف بما لا يطاق.

(ولا بكلام المحقّق).

إذ لم يكن في كلامه في المعارج دلالة ولا إشارة إلى الفرق بين عامّ البلوى وبين غيره ، بل المستفاد من كلامه هو التمسّك في نفي الحكم بقاعدة عدم الدليل بالظنّ ، بل في كلامه إشارة إلى عدم الفرق بين عامّ البلوى وبين غيره ؛ لأنّ عدم جواز التكليف بما لا يطاق جار في عامّ البلوى وغيره.

(فما تخيّله المحدّث تحقيقا لكلام المحقّق رحمه‌الله مع أنّه غير تامّ في نفسه ، أجنبي عنه بالمرّة).

وأمّا كونه غير تامّ في نفسه فلأنّ حصول الظنّ من عدم الدليل على عدم الحكم لم يكن دائميّا في عامّ البلوى ولا مختصّا به ، بل قد يحصل منه بعدم الحكم في غير عامّ البلوى أيضا ، فلا فرق فيه بين عامّ البلوى وغيره.

وأمّا كونه أجنبيّا عن كلام المحقّق ، فلما تقدّم من عدم دلالة ولا إشارة في كلامه إلى الفرق بين عامّ البلوى وبين غيره.

(نعم ، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة الظنّ بها فيما بعد الشرع).

قد يحصل من استصحاب البراءة الذي تقدّم ذكره من المحقّق في المعتبر الظنّ بالبراءة واقعا ، فتكون البراءة ـ حينئذ ـ من الأمارات كما قيل ، إلّا إنّ حصول الظنّ بالبراءة الواقعيّة لم يكن مسبّبا عن بطلان التكليف بما لا يطاق ، بل يكون مسبّبا عن ثبوت البراءة واقعا حال الصغر وقبله.

وبالجملة ، التمسّك بقبح التكليف بما لا يطاق ينفي تنجّز التكليف في مورد عدم الدليل عليه لا وجوده الواقعي.

قوله : (ومن هنا يعلم ... إلى آخره).

٣٨٦

حيث إن مناط الاستدلال في هذا القسم الملازمة بين عدم الدليل وعدم الحكم مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة السابقة.

فجعله من أقسام الاستصحاب مبنيّ على إرادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشكّ ولو لدليل آخر غير الاتّكال على الحالة السابقة ، فيجري فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة ، ومناط الاستدلال في القسم الأوّل ملاحظة الحالة السابقة حتى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم.

____________________________________

دفع لما يتوهّم من عدم الفرق بين القسم الأوّل وهو استصحاب حال العقل ، وبين القسم الثاني وهو عدم الدليل دليل العدم ؛ لأنّ كل واحد منهما موجب للظنّ بانتفاء التكليف في الواقع ، فكيف جعلهما المحقّق في المعتبر قسمين؟ حيث جعل الاستصحاب ثلاثة أقسام كما تقدّم في كلامه في المعتبر.

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في دفع التوهّم المذكور هو أنّ التغاير والفرق بين القسمين يوجب صحّة جعلهما قسمين ، والفرق بينهما من جهتين : الفرق من الجهة الاولى يرجع إلى مناط الاستدلال ، ومن الجهة الثانية إلى المورد.

ثمّ إنّ النسبة بينهما هي التباين مناطا والعموم المطلق ، أو العموم من وجه موردا ، وبيان الفرقين تفصيلا : إنّ مناط الاستدلال في القسم الثاني هي الملازمة العاديّة بين عدم الدليل وعدم الحكم من دون لحاظ الحالة السابقة ، وهذا بخلاف القسم الأوّل وهو استصحاب البراءة الأصليّة ، فلا بدّ فيه من لحاظ الحالة السابقة.

ومن المعلوم أنّ النسبة بين لحاظ الحالة السابقة ، وعدم لحاظها هي التباين. هذا ملخص الفرق من الجهة الاولى.

وقوله : (فجعله من أقسام الاستصحاب مبنيّ على إرادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشكّ).

دفع لما يتوهّم من عدم صحّة جعل القسم الثاني من أقسام الاستصحاب بعد اعتبار الحالة السابقة في الاستصحاب ، وعدم اعتبارها في القسم الثاني.

وحاصل الدفع هو أنّ جعله من أقسام الاستصحاب مبني على إرادة معنى عام ولو مجازا من الاستصحاب وهو مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشكّ.

٣٨٧

ويشهد لما ذكرنا من المغايرة الاعتباريّة أن الشيخ لم يقل بوجوب مضي المتيمّم الواجد للماء في أثناء صلاته لأجل الاستصحاب ، وقال به لأجل أنّ عدم الدليل دليل العدم.

نعم ، هذا القسم الثاني أعمّ موردا من الأوّل ، لجريانه في الأحكام العقليّة وغيرها ، كما ذكره جماعة من الاصوليّين.

____________________________________

(ويشهد لما ذكرنا من المغايرة الاعتباريّة).

أي : المغايرة الحاصلة بسبب اعتبار شيء في أحدهما دون الآخر ، فليس المراد من الاعتبار ، هو مقابل الحقيقة حتى يكون الفرق بينهما اعتباريّا غير حقيقي.

(إنّ الشيخ لم يقل بوجوب مضي المتيمّم الواجد للماء في أثناء صلاته لأجل الاستصحاب).

أي : استصحاب كفاية التيمّم قبل وجدان الماء ، فعدم القول بالاستصحاب لعلّه من جهة عدم اعتبار الاستصحاب عند الشكّ في المقتضي.

(وقال به لأجل أنّ عدم الدليل دليل العدم).

أي : قال بوجوب مضي المتيمّم لأجل عدم الدليل على انتقاض التيمّم دليل العدم أي : عدم الانتقاض.

ثمّ أشار المصنّف قدس‌سره إلى الفرق بينهما من حيث المورد بقوله :

(نعم ، هذا القسم الثاني أعمّ موردا من الأوّل).

وظاهر هذا الكلام هو أنّ النسبة بينهما من حيث المورد هي عموم مطلق ، والقسم الثاني أعمّ موردا من القسم الأوّل ، لجريانه أي : القسم الثاني في الأحكام العقليّة دون الأوّل ، كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها ، حيث لا يجري فيه استصحاب عدم وجوبها بعد رفع النسيان بالالتفات ، ولكن يجري فيه عدم الدليل ، وهذه هي مادة الافتراق من جانب قاعدة عدم الدليل دليل العدم.

ومادة الاجتماع هي كشرب التتن إذا لم يكن على حرمته دليل شرعي كما هو كذلك ، فيجري أصل البراءة أي : استصحاب البراءة الأصليّة أيضا.

ثمّ المقصود هو ملاحظة النسبة بحسب المورد بين عدم الدليل دليل العدم ، وبين استصحاب البراءة خاصّة ، وإلّا فالنسبة بينه وبين مطلق الاستصحاب هي العموم من وجه ،

٣٨٨

والحاصل أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ بناء المحقّق رحمه‌الله على التمسّك بالبراءة الأصليّة مع الشكّ في الحرمة ، كما يظهر من تتبّع فتاويه في المعتبر.

الثاني : مقتضى الأدلّة المتقدّمة كون الحكم الظاهري في الفعل المشتبه الحكم هي الإباحة من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع.

فهذا الأصل يفيد القطع بعدم اشتغال الذمّة ، لا الظنّ بعدم الحكم واقعا ، ولو

____________________________________

كما في شرح الاعتمادي فراجع.

(والحاصل أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ بناء المحقّق رحمه‌الله على التمسّك بالبراءة الأصليّة) ليس على التمسّك بالظنّ الحاصل من عدم الدليل المختصّ بما يعمّ به البلوى ، بل بناؤه على التمسّك بالبراءة الأصليّة فقط مع الشكّ في الحرمة.

فلا فرق فيه بين عامّ البلوى وغيره ، وحينئذ لا تصحّ نسبة التفصيل إليه.

(الثاني : مقتضى الأدلّة المتقدّمة كون الحكم الظاهري في الفعل المشتبه الحكم هي الإباحة من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع. فهذا الأصل يفيد القطع بعدم اشتغال الذمّة ، لا الظنّ بعدم الحكم واقعا ... إلى آخره).

وغرض المصنّف قدس‌سره من ذكر هذا الأمر الثاني هو ردّ من يقول بكون أصالة البراءة من الأمارات ، فتكون حجيّتها من باب الظنّ بعدم الحكم واقعا ، كما يظهر من جماعة ، منهم صاحب المعالم والشيخ البهائي قدس‌سرهما فيقول المصنّف قدس‌سره ردّا لهذا التوهم بما حاصله : من أنّ مقتضى أدلّة البراءة المتقدّمة هي الإباحة الظاهريّة بمعنى عدم المنع الشرعي ، ونفي العقاب على المخالفة إن اتّفقت ، لا بمعنى الإباحة الخاصّة التي هي أحد الأحكام الخمسة حتى يقال : إنّه مقتضى بعض الأدلّة المتقدّمة لا جميعها وهو قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) (١) وقوله عليه‌السلام : (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) (٢).

فلا بدّ ـ حينئذ ـ من تقدير كلمة «بعض» في كلام المصنّف قدس‌سره لتكون العبارة : مقتضى بعض الأدلّة المتقدّمة هي الإباحة.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧. الوسائل ٢٧ : ١٧٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٧.

(٢) الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢. التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٧. الوسائل ١٧ : ٨٨ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ١.

٣٨٩

أفاده لم يكن معتبرا ، إلّا إنّ الذي يظهر من جماعة كونه من الأدلّة الظنّيّة ، منهم صاحب المعالم رحمه‌الله عند دفع الاعتراض عن بعض مقدّمات الدليل الرابع الذي ذكره لحجيّة خبر الواحد ، ومنهم شيخنا البهائي رحمه‌الله.

ولعلّ هذا هو المشهور بين الاصوليّين ، حيث لا يتمسّكون فيها إلّا باستصحاب البراءة السابقة ، بل ظاهر المحقّق رحمه‌الله في المعارج الإطباق على التمسّك بالبراءة الأصليّة حتى يثبت الناقل ، وظاهره أنّ اعتمادهم في الحكم بالبراءة على كونها هي الحالة السابقة الأصليّة.

والتحقيق أنّه لو فرض حصول الظنّ من الحالة السابقة فلا يعتبر ، والإجماع ليس على اعتبار هذا الظنّ وإنّما هو العمل على طبق الحالة السابقة ولا يحتاج إليه بعد قيام الأخبار المتقدّمة وحكم العقل.

____________________________________

والحاصل إنّ مقتضى الأدلّة هي الإباحة ، بمعنى : عدم المنع الشرعي ونفي العقاب من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع ، فلا تكون أصالة البراءة من الأمارات ، وإنّما تفيد القطع بعدم اشتغال الذمّة بالتكليف الفعلي ، وبذلك تدخل ضمن الاصول العمليّة.

وبالجملة إنّ أصل البراءة يكون من الاصول العمليّة ، وإنّ مفاده هو القطع بعدم العقاب والإلزام في مرحلة الظاهر ، وذلك لعدم المنع الشرعي المستلزم للعقاب.

(إلّا إنّ الذي يظهر من جماعة كونه من الأدلّة الظنيّة ، منهم صاحب المعالم رحمه‌الله).

حيث تمسّك بدليل الانسداد مضافا إلى تمسّكه بآيتي النفر والنبأ والإجماع ، فقال : أصالة البراءة لا تفيد إلّا الظنّ ، فيستفاد من كلامه هذا هو كون أصالة البراءة من الأدلّة الظنيّة ، ومنهم الشيخ البهائي حيث قال : والبراءة الظنّية.

ولعلّ هذا أي : كون أصل البراءة من الأدلّة الظنيّة هو المشهور بين الاصوليّين الذين تمسّكوا للبراءة بعدم الدليل حيث يكون عدم الدليل دليلا ظنيّا عندهم على عدم التكليف في الواقع فيما تعمّ به البلوى.

نعم ، إنّ هذا الظنّ لم يكن معتبرا شرعا لعدم الدليل على اعتباره ، مضافا إلى تمسّكهم باستصحاب البراءة الأصليّة حيث جعلوا اعتبار الاستصحاب منوطا بالظنّ.

وممّا تقدّم يظهر أن أصالة البراءة عندهم من الأدلّة الظنيّة لا من الاصول العمليّة لاعتمادهم في إثبات كون البراءة الأصليّة مفيدة للظنّ ببقاء الحالة السابقة ، كما يظهر من

٣٩٠

الثالث : لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا ونقلا ، كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها.

وهل الأوامر الشرعيّة للاستحباب فيثاب عليه وإن لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعي ، أو غيري بمعنى كونه مطلوبا لأجل التحرّز عن الهلكة المحتملة والاطمئنان بعدم وقوعه فيها ، فيكون الأمر به إرشاديا لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى الخاصيّة المترتّبة على الفعل أو الترك ، نظير أوامر الطبيب ، ونظير الأمر بالإشهاد عند المعاملة لئلّا يقع التنازع؟

____________________________________

المحقّق قدس‌سره في المعارج.

هذا ملخص ما يظهر من جماعة من كون أصالة البراءة عندهم من الأدلّة الظنيّة ، وقد تقدم بما لا مزيد عليه من أنّ مقتضى أدلّة البراءة هي الإباحة ، بمعنى : عدم المنع شرعا ونفي العقاب بنفي تنجّز التكليف ، وإنّ اعتبارها لم يكن مستندا إلى عدم الدليل ، أو إلى استصحاب البراءة الأصليّة حتى تدخل ضمن الأمارات الظنيّة وإنّما اعتبارها مستند إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان وسائر الأدلّة من الآيات والروايات ، فلا يدور اعتبارها مدار إفادة الظنّ وعدمه ، وبذلك ثبت أنّها أصل من الاصول العمليّة.

نعم ، لو كان اعتبارها مستندا إلى استصحاب البراءة الأصليّة ، أو إلى عدم الدليل ـ كما تقدّم ـ فهو وإن كان قد يفيد الظنّ بعدم الحكم واقعا إلّا إنّ هذا الظنّ لم يكن معتبرا شرعا ، لقيام الإجماع على عدم اعتباره.

واستصحاب البراءة الأصليّة لا يجدي في إدخالها ضمن الأمارات لأنّ التمسّك بالاستصحاب هنا لمجرّد العمل على طبق الحالة السابقة تعبّدا بحكم الشرع حتى وإن لم يفد الظنّ ، وبذلك تكون البراءة من الاصول لا من الأمارات ، فتأمّل جيدا.

(الثالث : لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا ونقلا).

وهو يشتمل على ثلاثة مطالب :

الأوّل : هو حسن الاحتياط عقلا وشرعا.

والثاني : هو بيان حال الأمر المتعلّق بالاحتياط ، هل هو إرشادي أو مولوي؟

والثالث : هو عدم الفرق في حسن الاحتياط بين أفراد المسألة.

٣٩١

وجهان : من ظاهر الأمر بعد فرض عدم إرادة الوجوب ، ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ، فإنّ الظاهر كونها مؤكّدة لحكم العقل بالاحتياط. والظاهر أنّ حكم العقل بالاحتياط ـ من حيث هو احتياط على تقدير كونه إلزاميّا ـ لمحض الاطمئنان ودفع احتمال العقاب.

وكما أنّه إذا تيقن بالضرر يكون إلزام العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقّن ، فكذلك طلبه الغير الإلزامي إذا احتمل الضرر ، بل وكما أنّ أمر الشارع بالإطاعة في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)(١) لمحض الإرشاد ، لئلّا يقع العبد في عقاب المعصية ويفوته ثواب

____________________________________

أما الأوّل : وهو رجحان الاحتياط ؛ أمّا بحسب العقل ، فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى مزيد بيان ؛ لأنّ العقل دائما يحكم بحسن إتيان ما يحتمل أن يكون مطلوبا للمولى ، وترك ما يحتمل أن يكون مبغوضا له ، وأمّا رجحانه بحسب الشرع فللأخبار الواردة في باب الاحتياط التي استدل بها الأخباريّون على وجوب الاحتياط.

وأما الثاني : ففيه وجهان :

الوجه الأوّل : وهو كون الأمر مولويّا ، فقد أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (من ظاهر الأمر) هو كونه مولويّا كما أنّه ظاهر في الوجوب إلّا إنّه ليس ظاهرا في الوجوب فيما نحن فيه لما سيأتي.

والوجه الثاني : هو كونه للإرشاد ، وقد أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (ومن سياق جلّ الأخبار الواردة) في هذا الباب.

فإنّ الظاهر منها كون الأمر المتعلّق بالاحتياط للإرشاد ، وهو مختار المصنّف قدس‌سره ولتوضيح مختاره قدس‌سره نقدّم مقدمة في بيان الفرق بين الأمر المولوي والإرشادي فنقول :

إنّ الثواب والعقاب في الأمر المولوي معلول لمخالفة ذلك الأمر أو موافقته ، ففي مخالفته عقاب وفي موافقته ثواب بخلاف الأمر الإرشادي فإنّه لا يكون في مخالفته عقاب ولا في موافقته ثواب ، بل هو إرشاد إلى مصلحة في الفعل ، أو إلى مفسدة في تركه كأوامر الطبيب للمريض بشرب الدواء ، حيث يرى الطبيب أنّ مصلحة المريض في شرب الدواء

__________________

(١) الأنفال : ١.

٣٩٢

الطاعة ولا يترتّب على مخالفته سوى ذلك ، فكذلك أمره بالأخذ بما يأمن معه الضرر لا يترتّب على موافقته سوى الأمان المذكور ، ولا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعي على تقدير تحقّقه.

ويشهد لما ذكرنا أنّ ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصّي عن الهلكة الواقعيّة لئلّا يقع فيها من حيث لا يعلم ، واقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا ، ومن المعلوم أنّ الأمر باجتناب المحرّمات في هذه الأخبار ليس إلّا للإرشاد ، لا يترتّب على مخالفتها وموافقتها سوى الخاصيّة الموجودة في المأمور به وهو الاجتناب عن الحرام أو فوتها ، فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتّب على موافقته سوى ما يترتّب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع ، بل فعله المكلّف حذرا من الوقوع في الحرام.

____________________________________

فيأمره بشربه ، فلا يترتّب على أمره بشرب الدواء سوى ما في الدواء من الخاصيّة عند الشرب وفوت الخاصيّة عند عدم الشرب.

إذا عرفت هذا فقد اتّضح لك أنّ الأوامر الشرعيّة المتعلّقة بالاحتياط تكون من قبيل أوامر الطبيب إرشاديّة ، وذلك لوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله :

(إنّ ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصّي عن الهلاكة الواقعيّة لئلّا يقع فيها من حيث لا يعلم).

وحاصله : إنّ غالب الأوامر المتعلّقة بالاجتناب عن الشبهات قد علّلت بأنّ في الاجتناب عنها تخلّص عن الهلاكة وعن الوقوع في المحرّمات الواقعيّة المجهولة ، فلا يترتّب عليها سوى ما يترتّب على ارتكاب الحرام الواقعي من الهلاك والعقاب على تقدير كون المشتبه حراما في الواقع ، وهذا هو نفس ملاك الأوامر الإرشاديّة ، كما لا يخفى.

وثانيهما : ما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(واقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا).

أي : يشهد لما ذكرنا من كون هذه الأوامر للإرشاد اقتران الاجتناب عن الشبهات مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا ، كما تقدّم في رواية فضيل بن عيّاض ، حيث قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الورع من الناس؟ قال عليه‌السلام : (الذي يتورّع عن محارم الله)

٣٩٣

ولا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه ، من حيث إنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، فيكون ـ حينئذ ـ حال الاحتياط والأمر به حال نفس الإطاعة الحقيقيّة ، والأمر بها في كون الأمر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح أو الثواب لو لا الأمر.

هذا ، ولكنّ الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة ، مثل قوله عليه‌السلام : (من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرمات) (١).

وقوله : (من ترك الشبهات كان لما استبان له من الإثم أترك) (٢).

وقوله : (من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه) (٣).

____________________________________

أي : يجتنب عن محارم الله المعلومة ، ثمّ قال عليه‌السلام : (ويجتنب هؤلاء) (٤) أي : أموال هؤلاء الظلمة أي : بني اميّة وبني العباس. ولم يصرّح باسمهم تقيّة أو مطلق الأموال المشتبهة ، فالإمام عليه‌السلام قد جعل الاجتناب عن المحرّمات المعلومة مقارنا بالاجتناب عن الشبهات ، ومن المعلوم أنّ الأمر بالاجتناب عن المحرّمات المعلومة يكون للإرشاد ، فكذلك الأمر بالاجتناب عن المشتبهات يكون للإرشاد بقرينة الاقتران بينهما في الرواية.

فالمتحصّل من جميع ما ذكر هو أنّ الأمر بنفسه وإن كان ظاهرا في كونه مولويّا ، كما أنّه ظاهر في الوجوب إلّا إنّ القرينة في المقام قامت على كونه للإرشاد كما تقدّم.

(ولا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه ، من حيث إنّه انقياد وإطاعة حكميّة).

أي : لا يبعد الالتزام بترتّب الثواب على الأمر الإرشادي ، كالأمر المولوي من حيث كون امتثال الأمر الارشادي انقيادا وإطاعة حكميّة.

غاية الأمر ترتّب الثواب في الأمر الإرشادي ينشأ عن الإطاعة الحكميّة تفضّلا من المولى وجزاء لانقياد العبد لمولاه ، أمّا في الأمر المولوي فينبعث العبد عن الإطاعة الحقيقيّة أجرا من المولى وجزاء لعمله.

(ولكن الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة) في المتن ، هو كون الأمر بالاجتناب عن

__________________

(١) كنز الفوائد ١ : ٣٥٢. الوسائل ٢٧ : ١٦٩ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٥٢.

(٢) الفقيه ٤ : ٥٣ / ١٩٣. الوسائل ٢٧ : ١٧٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٨.

(٣) الفقيه ٤ : ٥٣ / ١٩٣. الوسائل ٢٧ : ١٧٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٨.

(٤) معاني الأخبار : ٢٥٢ / ١. الوسائل ٢٧ : ١٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٣٠.

٣٩٤

هو كون الأمر به للاستحباب. وحكمته أن لا يهون عليه ارتكاب المحرّمات المعلومة.

ولازم ذلك استحقاق الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط مضافا إلى الخاصيّة المترتّبة على نفسه.

ثمّ لا فرق فيما ذكرناه من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة حتى مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بناء على أن دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة ، وظهور الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضا.

____________________________________

الشبهات مولويّا يدلّ على الاستحباب ، وذلك لترتّب المصالح على نفس ذلك الأمر ، وهي وصول النفس إلى مرتبة الكمال بحيث لا ترتكب الفحشاء والمنكر ، فهو كالأوامر المولويّة بالواجبات الشرعيّة موجبة لكمال النفس كما أشار إليه بقوله :

(وحكمته أن لا يهون عليه ارتكاب المحرّمات المعلومة).

فيكون المراد من المحرّمات التي يجتنب عنها باجتناب المشتبهات هي المحرّمات المعلومة لا المحرّمات المجهولة التي يتّفق الاجتناب عنها في ضمن الاجتناب عن المشتبهات ، كما هو مبنى كون الأوامر إرشاديّة. هذا تمام الكلام في المطلب الأوّل والثاني.

وبقى الكلام في المطلب الثالث ، وأشار إليه بقوله :

(ثمّ لا فرق فيما ذكرنا من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة).

هذا الكلام من المصنّف قدس‌سره دفع لما قد يتوهّم من عدم حسن الاحتياط في بعض أفراد المسألة لدوران الأمر بين الاستحباب والتحريم في بعض الأفراد ، وبذلك يكون الأمر من قبيل دوران الأمر بين المحذورين ، ومن المعلوم أنّ الحكم فيه هو التخيير لا الاحتياط بالترك فقال المصنّف قدس‌سره دفعا لهذا التوهّم : لا فرق فيما ذكرنا من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة.

ولتوضيح هذا الدفع نرسم لك جدولا يكشف عن الأفراد التي يقع فيها الإشكال فنقول : إن مجموع الأفراد سبعة ، حاصلة من دوران التحريم المشتبه مع الاستحباب والكراهة والإباحة ، وحاصل الجدول ما يلي :

٣٩٥

ولا يتوهّم : «إنّه يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبّة ، بل حسن الاحتياط بتركه» ، إذ لا ينفكّ ذلك عن احتمال كون فعله تشريعا محرّما ، لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحقّقه ، ومع إتيان ما احتمل كونه عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقّق موضوع التشريع ؛ ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال ، كما في الصلاة إلى أربع جهات ، أو في الثوبين المشتبهين ، وغيرهما. وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء الله.

____________________________________

التحريم المشتبه مع

(١) الإباحة

(٢) الكراهة

التحريم المشتبه مع

(٣) الاستحباب

(٤) الاباحة والكراهة

التحريم المشتبه مع

(٥) الاباحة والاستحباب

(٦) الكراهة والاستحباب

التحريم المشتبه مع

(٧) الاباحة والكراهة والاستحباب

وممّا تقدّم يظهر أنّ الإشكال يقع في القسم الثالث من الجدول وجوابه هو : بعدم الفرق في حسن الاحتياط بالترك بين جميع الأقسام المذكورة حتى في القسم الثالث ؛ لأنّ دفع المفسدة الملزمة بالترك أولى من جلب المصلحة غير الملزمة بالفعل ، كما لا يخفى.

(ولا يتوهّم : «إنه يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبة ... إلى آخره).

ولا بدّ أوّلا من تقريب التوهّم حتى يتّضح فساده.

أمّا تقريبه فهو : إنّ من المسلّم بين الفقهاء هو حسن الاحتياط بالفعل في العبادات التي لم يحرز استحبابها لعدم اعتبار ما دلّ على استحبابها كصلاة الأعرابي مثلا ، ولكن مقتضى ما ذكر من حسن الاحتياط بالترك فقط هو عدم حسن الاحتياط بالفعل لدورانه بين الاستحباب والحرمة التشريعيّة ، إذ إتيانه بعنوان العبادة المستحبّة تشريع محرّم عقلا وشرعا.

وأمّا فساد التوهّم فأوضح من الشمس ؛ لأنّ كون التحريم المحتمل في المقام تشريعيّا ينتفي بانتفاء موضوعه إذا أتى بالفعل برجاء كونه مستحبّا ؛ لأنّ التشريع هو إدخال ما لم يعلم أنّه من الدّين في الدّين ، وهذا الملاك لا يتحقّق فيما إذا أتى بالفعل برجاء استحبابه.

٣٩٦

الرابع : نسب الوحيد البهبهاني رحمه‌الله إلى الأخباريّين مذاهب أربعة فيما لا نصّ فيه : التوقف ، والاحتياط ، والحرمة الظاهريّة ، والحرمة الواقعيّة. فيحتمل رجوعها إلى معنى واحد ، وكون اختلافها في التعبير لأجل اختلاف ما ركنوا إليه من أدلّة القول بوجوب اجتناب الشبهة ، فبعضهم ركن إلى أخبار التوقّف ، وآخر إلى أخبار الاحتياط ، وثالث إلى أوامر ترك الشبهات مقدّمة لتجنّب المحرّمات كحديث التثليث ، ورابع إلى أوامر ترك المشتبهات من حيث إنّها مشتبهات ، فإنّ هذا الموضوع في نفسه حكمه الواقعي الحرمة.

____________________________________

(الرابع : نسب الوحيد البهبهاني رحمه‌الله إلى الأخباريّين مذاهب أربعة).

وهي : التوقّف ، والاحتياط ، والحرمة الظاهريّة ، والحرمة الواقعيّة ، ثمّ بيّن الفرق بين الأقوال الأربع :

تارة : من حيث التعبير.

واخرى : من حيث ما ركنوا إليه من الأدلّة.

وثالثة : من حيث المورد.

ثمّ بيّن الفرق بين الحرمة الظاهريّة والواقعيّة من وجوه متعدّدة ، فيرجع كلامه في هذا الأمر الرابع إلى بيان أربعة مطالب :

المطلب الأوّل والثاني ، أشار إليه بقوله :

(فيحتمل رجوعها إلى معنى واحد ... إلى آخره).

لا بمعنى الاتحاد في المفهوم لاختلافها مفهوما بالضرورة والوجدان ، بل بمعنى انطباق الكلّ على مطلب واحد بلحاظ جهات متعدّدة ، كانطباق الكاتب والشاعر والضاحك على زيد ، حيث يصدق عليه الكاتب من جهة كونه كاتبا ، والشاعر من جهة كونه شاعرا ، والضاحك من جهة كونه ضاحكا ، فينطبق الكل على زيد الواحد ، ولكن كلّ واحد منها ينطبق من جهة مغايرة لما ينطبق عليه الآخر.

ثمّ الاختلاف بينها ؛ إمّا ناشئ عن الاختلاف في التعبير ، أو عن الاختلاف فيما ركنوا إليه من الأدلّة.

أما الأوّل : فباعتبار أنّ الاجتناب عن المشتبه توقّف عن الاقتحام في الهلكة عبّر عنه بالتوقّف ، وباعتبار أنّ الاجتناب المذكور أخذ بالأوثق في مقام العمل عبّر عنه بالاحتياط ،

٣٩٧

والأظهر أن التوقّف أعمّ بحسب المورد من الاحتياط ، لشموله الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس ممّا يجب فيها الصلح أو القرعة ، فمن عبّر به أراد وجوب التوقّف في جميع الوقائع الخالية عن النصّ العامّ والخاصّ.

والاحتياط أعمّ من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به أراد الأعمّ من محتمل التحريم

____________________________________

وباعتبار أنّ موضوع وجوب الاجتناب هو المشتبه الحكم وله حكم في الواقع عبّر عن حكم ذلك الموضوع بالحرمة الظاهريّة ، وباعتبار أنّ نفس عنوان المشتبه عنوان من العناوين وموضوع من الموضوعات ، ولكلّ موضوع حكم في الواقع وليس حكم المشتبه إلّا الحرمة عند الأخباريّين عبّر عن حكمه بالحرمة الواقعيّة.

وأما الاختلاف باعتبار ما ركنوا إليه من الأدلّة ؛ فلأجل أنّ من تمسّك بأخبار التوقّف عبّر بالتوقّف ، ومن تمسّك بأخبار الاحتياط عبّر بالاحتياط ، ومن تمسّك بما دلّ على الاجتناب عن الشبهات لئلّا يقع في المحرّمات كحديث التثليث عبّر بالحرمة الظاهريّة ، ومن تمسّك بما دلّ على الاجتناب عن الشبهات بما هي شبهات عبّر بالحرمة الواقعيّة.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى المطلب الثالث بقوله :

(والأظهر أنّ التوقّف أعمّ بحسب المورد من الاحتياط لشموله ... إلى آخره).

أي : لشمول التوقّف جميع موارد الاحتياط ، كالشكّ في المكلّف به ودوران الأمر بين المحذورين.

(الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس).

والأوّل كتردّد الفرس بين كونه لزيد ، أو عمرو ، والثاني كالمرأة المردّدة بينهما فرضا ، والثالث كالولد المردّد كذلك ، إذ لا يمكن الاحتياط في هذه الموارد.

أمّا في دوران الأمر بين المحذورين ، فعدم إمكان الاحتياط فيه واضح ، والحكم فيه ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ هو التخيير ، أو التوقّف ، أو ترجيح جانب الحرمة على الوجوب.

ثمّ إن الحكم في الأحكام المشتبهة في الأموال ... إلى آخره ، هو الصلح أو القرعة كما ذكر قدس‌سره في المتن.

(والاحتياط أعمّ من موارد احتمال التحريم).

٣٩٨

ومحتمل الوجوب ، مثل وجوب السورة أو وجوب الجزاء المردّد بين نصف الصيد وكلّه.

وأمّا الحرمة الظاهريّة والواقعيّة فيحتمل الفرق بينهما : بأنّ المعبّر بالاولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعي فالحرمة ظاهريّة ، والمعبّر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها لمشتبه الحكم ، وهو موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعيّة. أو بملاحظة أنه إذا منع الشارع المكلّف من حيث إنّه جاهل بالحكم من الفعل فلا يعقل إباحته له واقعا ، لأنّ معنى الإباحة : الإذن والترخيص ، فتأمّل.

____________________________________

لأنّه يجري في الشبهة الوجوبيّة أيضا ، مثل وجوب السورة في باب الأقل والأكثر الارتباطيّين ، ووجوب الجزاء في الأقل والأكثر الاستقلاليّين.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى المطلب الرابع بقوله :

(وأمّا الحرمة الظاهريّة والواقعيّة ... إلى آخره).

والفرق بين الحرمة الظاهريّة والواقعيّة وجوه :

الأوّل : هو الفرق بينهما في التعبير ، والاختلاف في التعبير نشأ عن الاختلاف في لحاظ لسان الدليل ؛ وذلك لأنّ من لاحظ عروض الحرمة لموضوع محكوم بحكم واقعي مجهول عبّر عنها بالحرمة الظاهريّة في مقابل الحرمة الواقعيّة المجهولة ، ومن لاحظ عروضها لنفس عنوان المشتبه وهو موضوع من الموضوعات الواقعيّة فعبّر عنها بالحرمة الواقعيّة.

والثاني : ويحتمل أن يكون هذا الفرق بحسب المعنى ، بأن يكون التعبير بالحرمة الظاهريّة من المخطّئة ، حيث يحتمل عندهم أن يكون حكم المشتبه في الواقع هي الحليّة ، فالحرمة ـ حينئذ ـ تكون ظاهريّة ، والتعبير بالحرمة الواقعيّة من المصوّبة حيث لا يقولون بالحكم الظاهري ، فالحرمة ـ حينئذ ـ تكون واقعيّة.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى هذا الفرق بقوله :

(أو بملاحظة أنّه إذا منع الشارع المكلّف من حيث إنّه جاهل بالحكم من الفعل فلا يعقل إباحته له واقعا ، لأنّ معنى الإباحة : الإذن والترخيص) في الواقع ، ومن الواضح الترخيص الواقعي لا يجتمع مع الحرمة الواقعيّة لأنّهما متناقضان عندهم.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى بطلان التصويب ، فحينئذ لا تنافي بين أن يكون حكم الشيء في الواقع مع قطع النظر عن العلم والجهل هو الإباحة ، وبين أن يكون حكمه باعتبار كونه

٣٩٩

ويحتمل الفرق بأنّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل أن يكون الحكم في الواقع هي الإباحة ، إلّا إنّ أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهرا ، والقائل بالحرمة الواقعيّة إنّما يتمسّك في ذلك بأصالة الحظر في الأشياء من باب قبح التصرف فيما يختصّ بالغير بغير إذنه.

ويحتمل الفرق بأنّ معنى الحرمة الظاهريّة حرمة الشيء في الظاهر فيعاقب عليه مطلقا وإن كان مباحا في الواقع.

والقائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّه لا حرمة ظاهرا أصلا ، فإن كان في الواقع حراما استحقّ المؤاخذة عليه وإلّا فلا ، وليس معناها أنّ المشتبه حرام واقعا ، بل معناه أنه ليس فيه إلّا الحرمة الواقعيّة على تقدير ثبوتها ، فإنّ هذا أحد الأقوال للأخباريين في المسألة ، على ما

____________________________________

مجهول الحكم هي الحرمة لاختلاف الحكمين بحسب الموضوع أو بحسب المرتبة.

والثالث : هو الفرق بينهما معنى ، كما أشار قدس‌سره إليه بقوله :

(ويحتمل الفرق بأنّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل أن يكون الحكم في الواقع هي الإباحة).

إلّا إنّ مقتضى أدلّة الاجتناب عن الشبهات هي حرمتها ظاهرا.

(والقائل بالحرمة الواقعيّة إنّما يتمسّك في ذلك بأصالة الحظر في الأشياء) بحسب ما ذكروا من حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير من دون إذن ، فيكون حكمه هذا كحكمه بقبح الظلم ، ومن المعلوم أنّ قبح الظلم عقلا كحرمة الغصب شرعا حكم واقعي.

والرابع : ما أشار إليه بقوله :

(ويحتمل الفرق بأنّ معنى الحرمة الظاهريّة) هو (حرمة الشيء في الظاهر).

لأنّ مقتضى أدلّة الاجتناب عن الشبهات هو كون الاجتناب عنها واجبا ظاهريّا فيعاقب على تركه مطلقا ، وإن كان مباحا في الواقع (والقائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّه لا حرمة ظاهرا أصلا) وبذلك تكون الأوامر المتعلّقة بالشبهات للإرشاد.

وحينئذ فإن كان المشتبه في الواقع حراما يعاقب عليه وإلّا فلا ، وبذلك تكون الحرمة واقعيّة ، لا بمعنى أنّ المشتبه حرام واقعا لكونه موضوعا من الموضوعات ، بل بمعنى ليست الحرمة على تقدير ثبوتها إلّا واقعيّة كما هو مقتضى كون الأمر للإرشاد.

(فإنّ هذا) أي : احتمال الحرمة الواقعيّة بهذا المعنى (أحد الأقوال للأخباريين).

٤٠٠