دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

ومنه يظهر فساد ما انتصر بعض المعاصرين للمستدلّ ، بعد الاعتراف بما ذكرنا من ظهور القضيّة في الانقسام الفعلي ، فلا يشمل مثل شرب التتن من «أنّا نفرض شيئا له قسمان حلال وحرام ، واشتبه قسم ثالث منه كاللحم ، فإنّه شيء فيه حلال وهو لحم الغنم ، وحرام وهو لحم الخنزير. فهذا الكلّي المنقسم حلال ، فيكون لحم الحمار حلالا حتى نعرف حرمته».

____________________________________

(ومنه يظهر فساد ما انتصر بعض المعاصرين للمستدل ، بعد الاعتراف بما ذكرنا من ظهور القضية في الانقسام الفعلي ... إلى آخره).

أي : وممّا ذكرنا ـ حيث قلنا بأنّ قوله عليه‌السلام : (فيه حلال وحرام) بيان لمنشا الاشتباه في الشبهة الموضوعية ـ يظهر فساد ما انتصر به بعض المعاصرين للمستدل ، وهو الفاضل النراقي قدس‌سره.

فلا بدّ أوّلا : من بيان ما انتصر به الفاضل النراقي للمستدل مع اعترافه بظهور القضية في الانقسام الفعلي كما يقوله المصنّف قدس‌سره ، لا الانقسام الاحتمالي كما ذكره السيد الصدر رحمه‌الله.

وثانيا : من بيان وجه فساد ما انتصر به.

وأمّا تقريب ما انتصر به الفاضل النراقي فملخصه : هو أنّ الرواية وإن كانت لا تشمل مثل شرب التتن ، لعدم وجود قسمين فيه ، إلّا إنّها تشمل بعض الشبهات الحكميّة ، فيتمّ المطلب في مثل شرب التتن بالإجماع المركّب ، ثمّ بيّن ما انتصر به بقوله :

(من «أنّا نفرض شيئا له قسمان حلال وحرام ، واشتبه قسم ثالث منه كاللحم ، فإنّه شيء فيه حلال وهو لحم الغنم ، وحرام وهو لحم الخنزير) وفيه ما هو مشتبه بالشبهة الحكمية كلحم الحمار(فيكون لحم الحمار حلالا حتى نعرف حرمته»).

وأمّا وجه فساد هذا التوجيه فقد ظهر ممّا ذكرنا من أنّ قوله عليه‌السلام : (فيه حلال وحرام) بيان لسبب الاشتباه ، فوجود القسمين يكون سببا للاشتباه ، ومن المعلوم أنّ وجود القسمين منشأ للاشتباه في الشبهة الموضوعية ، لأنّه يتصوّر فيما إذا كان القسم الثالث المشتبه قابلا للاندراج في كلّ واحد من القسمين ، كاللحم المشترى من السوق ، وهذا بخلاف لحم الحمار حيث لم يكن سبب الاشتباه فيه وجود القسمين ، أي : لحم الغنم ولحم الخنزير ، لأنّ لحم الحمار لا يكون قابلا للاندراج في لحم الخنزير ولحم الغنم حتى يكون وجودهما منشأ للاشتباه فيه ، بل منشأ الاشتباه فيه هو عدم النصّ فيكون خارجا عن مورد

٢٨١

ووجه الفساد أنّ وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحمار ولا دخل له في هذا الحكم أصلا ولا في تحقّق الموضوع ، وتقييد الموضوع بقيد أجنبي ـ لا دخل له في الحكم ولا في تحقّق الموضوع مع خروج بعض الأفراد منه ، مثل شرب التتن ، حتى احتاج هذا المنتصر إلى إلحاق مثله بلحم الحمار وشبهه ممّا يوجد في نوعه قسمان معلومان بالإجماع المركّب ـ مستهجن جدّا لا ينبغي صدوره من متكلّم فضلا عن الإمام عليه‌السلام.

هذا ، مع أنّ اللازم ممّا ذكر عدم الحاجة إلى الإجماع المركّب ، فإنّ الشرب فيه قسمان : شرب الماء وشرب البنج ، وشرب التتن كلحم الحمار بعينه ، وهكذا جميع الأفعال المجهولة

____________________________________

الرواية ، لأنّ الرواية لا تشمل الشبهة الحكمية كما تقدّم ، بل هي مختصة بالشبهة الموضوعية.

والمتحصّل من جميع ما ذكرنا هو أنّ سبب الاشتباه في لحم الحمار ، والشك في حليّته وحرمته لم يكن وجود القسمين في مطلق اللحم ، بل لو فرض جميع أنواع اللحم حلالا أو حراما لكان هذا الاشتباه في لحم الحمار باقيا على حاله ، بل السبب فيه هو عدم الدليل.

(ولا دخل له في هذا الحكم أصلا ، ولا في تحقق الموضوع).

أي : ولا دخل لوجود القسمين في الحكم بحليّة لحم الحمار أصلا ، ولا دخل لوجود القسمين في تحقّق الاشتباه والشك في حليّة لحم الحمار لأنّه مشكوك الحكم ، وذلك لفقدان الدليل لا لوجود القسمين ، ومن ذكر هذا التقييد الذي لا دخل له في لحم الحمار ـ لا حكما ولا موضوعا ـ يعلم أنّ الإمام عليه‌السلام لم يقصد من الرواية الشبهة الحكميّة ، إذ لو قصدها لم يذكر قيدا لا دخل له أصلا ، بل يكون موجبا لخروج بعض أفرادها كشرب التتن منها ، فقد أشار إليه بقوله :

(وتقييد الموضوع) مبتدأ إلى قوله (مستهجن جدّا) خبره.

قوله : (مع أنّ اللازم ممّا ذكر عدم الحاجة إلى الإجماع المركّب).

إيراد منه على تصحيح شمول الرواية بعض الشبهات الحكمية كلحم الحمار ، حيث فرض لمطلق اللحم أقساما ، فأدخله بهذا الفرض في الرواية ، ثم تمسّك على حكم ما ليس له قسمان كشرب التتن بالإجماع المركّب.

وتقريب الإيراد : إنّ فرض الأقسام في لحم الحمار بعينه يجري في شرب التتن ، فيدخل

٢٨٢

الحكم. وأمّا الفرق بين الشرب واللحم بأنّ الشرب جنس بعيد لشرب التتن بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي أن يصغى إليه.

____________________________________

في الرواية بعد الفرض ، فلا حاجة في الحكم بالحليّة فيه إلى الإجماع المركّب أصلا ، وفرض الأقسام للشرب موجود في المتن.

قوله : (وأمّا الفرق بين الشرب واللحم بأنّ الشرب جنس بعيد لشرب التتن بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي أن يصغى إليه).

دفع لما يتوهّم من أنّ ما ذكر ـ من عدم الحاجة إلى الإجماع المركّب من جهة فرض الأقسام في الشرب كاللحم ـ غير صحيح ، بل نحتاج إلى الإجماع المركّب ولو صح فرض القسمين في الشرب ، وذلك للفرق بين فرض القسمين في الشرب وبين فرضهما في اللحم ، حيث يكون الشرب جنسا بعيدا للقسمين ، واللحم جنسا قريبا لهما ، وذلك لأنّ الجنس القريب ما ليس بينه وبين أنواعه واسطة فينقسم إليها بلا واسطة ، كتقسيم الحيوان إلى الانسان والفرس مثلا.

والجنس البعيد ما يكون بينه وبين أنواعه واسطة ، كالجسم النامي المنقسم إلى الحيوان وغيره.

ثمّ إنّ الحيوان ينقسم إلى الإنسان والفرس ، فالجسم النامي ينقسم إلى الإنسان والفرس بواسطة انقسامه إلى الحيوان وغيره.

ففي المقام يكون انقسام مطلق اللحم إلى لحم الخنزير والغنم والحمار بلا واسطة ، ولكن انقسام الشرب إلى شرب التتن وشرب البنج يكون مع الواسطة ، لأنّ الشرب ينقسم أوّلا : إلى شرب المائع وإلى غيره ، ثم شرب المائع ينقسم : إلى شرب الماء وإلى شرب الخمر ، وشرب غير المائع ينقسم : إلى شرب التتن وإلى شرب البنج.

والحاصل من هذا البيان هو انطباق ملاك الجنس البعيد على الشرب ، وانطباق ملاك الجنس القريب على اللحم ، فيكون الشرب جنسا بعيدا ، فيمكن أن يقال : إنّ الرواية لا تشمل ما يكون المقسم فيه جنسا بعيدا للأقسام.

وحاصل الدفع لهذا التوهّم هو أنّ الرواية شاملة لكل ما فيه أقسام ، من دون فرق بين أن يكون المقسم جنسا بعيدا وبين غيره ، وحينئذ لا حاجة في الحكم بالحليّة في الشرب إلى

٢٨٣

هذا كلّه مضافا إلى أنّ الظاهر من قوله : (حتى تعرف الحرام منه) معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ، ومعلوم أنّ معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحليّة لحم الحمار.

وقد اورد على الاستدلال : «بلزوم استعمال قوله ، عليه‌السلام : (فيه حلال وحرام) في معنيين :

أحدهما : إنّه قابل للاتصاف بهما ، وبعبارة اخرى : يمكن تعلّق الحكم الشرعي به ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما.

____________________________________

الإجماع المركّب.

(هذا كلّه مضافا إلى أنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : (حتى تعرف الحرام منه) معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ... إلى آخره).

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره إشارة إلى وجه ثان لفساد ما ذكره النراقي قدس‌سره ؛ وذلك لوجهين :

أحدهما : ما تقدّم من اختصاص الرواية بالشبهة الموضوعية.

وثانيهما : إن الغاية وهي قوله عليه‌السلام : (حتى تعرف الحرام منه بعينه) صحيحة في الشبهة الموضوعية فقط ، حيث يكون معنى الرواية أنّ كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، أي : المشتبه منه ، كاللحم المشترى من السوق لك حلال حتى تعرف أنّه من قسم الميتة فيحكم بالحرمة ، ولا يصح أن يقال : إنّ المشتبه في الشبهة الحكميّة ـ وهو لحم الحمار ـ لك حلال حتى تعرف الحرام من اللحم ، أي : حتى تعرف لحم الخنزير ، إذ لا يصح أن يكون الحكم بحليّة لحم الحمار مغيّا بمعرفة لحم الخنزير ، حتى يكون معنى الكلام ـ حينئذ ـ أنّ لحم الحمار لك حلال حتى تعرف لحم الخنزير.

(وقد أورد على الاستدلال : «بلزوم استعمال قوله عليه‌السلام : (فيه حلال وحرام) في معنيين ... إلى آخره).

والمورد هو المحقّق القمّي قدس‌سره.

وملخّص إيراده على الاستدلال المذكور هو أنّ الاستدلال المذكور مستلزم لاستعمال اللفظ في المعنيين في موردين من الرواية :

أحدهما : قوله عليه‌السلام : (فيه حلال وحرام).

٢٨٤

والثاني : إنّه منقسم إليهما ويوجد النوعان فيه ؛ إمّا في نفس الأمر أو عندنا ، وهو غير جائز ، وبلزوم استعمال قوله عليه‌السلام : (حتى تعرف الحرام منه بعينه) في المعنيين أيضا ، لأنّ المراد حتى تعرف من الأدلة الشرعية الحرمة إذا اريد معرفة الحكم المشتبه ، وحتى تعرف من الخارج من بيّنة أو غيرها الحرمة إذا اريد معرفة الموضوع المشتبه ، فليتأمّل» ، انتهى ، وليته أمر بالتأمّل في الإيراد الأوّل أيضا. ويمكن إرجاعه إليهما معا ، وهو الأولى ، وهذه جملة ما استدل به من الأخبار.

والإنصاف ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه في

____________________________________

وثانيهما : قوله عليه‌السلام : (حتى تعرف الحرام منه بعينه).

أمّا تقريب المورد الأوّل ، فيحتاج إلى مقدمة وهي :

إنّ قوله عليه‌السلام : (فيه حلال وحرام) قد اريد منه معنيان :

أحدهما : كون الشيء قابلا لأن يتّصف بالحليّة والحرمة حتى يخرج به ما لا يقبل الحرمة ، كالأفعال الاضطرارية.

وثانيهما : كونه منقسما إلى الحلال والحرام فعلا حتى يخرج به ما علم أنّه حرام ولا حلال فيه ، أو بالعكس.

ومن ذلك يتضح لك لزوم استعمال قوله عليه‌السلام : (فيه حلال وحرام) في المعنيين المذكورين ، حيث استعمل في قابليّة الاتصاف بهما والقسمة إليهما فعلا معا. وأما تقريب المورد الثاني فيكون واضحا ومبيّنا في المتن.

قوله (فليتأمّل) إشارة إلى ردّ الإيراد في كلا الموردين :

وأما عدم لزوم استعمال اللفظ في المعنيين في المورد الأوّل فهو : إنّ قوله : (فيه حلال وحرام) قد استعمل واريد منه مطلق ما فيه احتمال الحليّة والحرمة ، سواء كان من جهة قابليّة الاتصاف بهما فقط ، أو من جهة الانقسام إليهما فعلا أيضا.

وأمّا عدم لزوم استعمال اللفظ في المعنيين في المورد الثاني فواضح ؛ لأنّ المراد بقوله : (حتى تعرف) هو مطلق المعرفة ، سواء حصلت من الأدلة الشرعية أو من الخارج ، فلا يلزم استعمال اللفظ في المعنيين في كلا الموردين. هذا تمام الكلام في الاستدلال بالسنّة على البراءة.

٢٨٥

الشبهة ، بحيث لو فرض تماميّة الأخبار الآتية للاحتياط وقعت المعارضة بينها ، لكن بعضها غير دالّ إلّا على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عامّ به ، فلا يعارض ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت للحجّيّة سندا ودلالة.

____________________________________

(والانصاف ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه ... إلى آخره).

أي : إنّ بعض الأخبار المتقدمة ، كقوله عليه‌السلام : (كل شيء مطلق حتى يرد فيه النهي) (١) ظاهر في عدم وجوب الاحتياط قبل ورود النهي عن الشيء حيث يدل على أنّ وجوب الاحتياط منوط بورود النهي عنه ، فيكون معارضا لما دلّ على وجوب الاحتياط.

نعم ، بعضها يدل على أنّ عدم وجوب الاحتياط منوط بعدم ورود أمر عام به ، فيكون ما دل على وجوب الاحتياط حاكما عليه.

* * *

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧. الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٧.

٢٨٦

دليل الاجماع على البراءة

وأمّا الإجماع فتقريره على وجهين :

الأوّل : دعوى إجماع العلماء كلّهم من المجتهدين والأخباريّين على أنّ الحكم ـ فيما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو ، ولا على تحريمه من حيث إنّه مجهول الحكم ـ هو البراءة وعدم العقاب على الفعل.

وهذا الوجه لا ينفع إلّا بعد عدم تماميّة ما ذكر من الدليل العقلي والنقلي للحظر والاحتياط فهو نظير حكم العقل الآتي.

الثاني : دعوى الإجماع على أنّ الحكم ـ فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو ـ هو عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب.

____________________________________

(وأمّا الإجماع فتقريره على وجهين :

الأوّل : دعوى إجماع العلماء كلّهم من المجتهدين والأخباريين على أنّ الحكم ـ فيما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو ، ولا على تحريمه من حيث إنّه مجهول الحكم ـ هو البراءة وعدم العقاب على الفعل).

وملخّص تقرير القسم الأوّل من الإجماع هو أنّ حكم المشتبه وما لم يعلم حكمه الواقعي هو البراءة باتفاق المجتهدين والأخباريين ، ويكون هذا الاتّفاق منهم على فرض عدم دليل من العقل أو النقل على التحريم ، فيكون الإجماع المزبور فرضيّا وتعليقيّا ولا ينفع إلّا بعد إثبات عدم تماميّة ما سيأتي من الدليل العقلي والنقلي على وجوب الاحتياط من قبل الأخباريين ، ولو تمّ دليل الاحتياط كان حاكما على دليل البراءة كما يكون حاكما على حكم العقل الآتي على البراءة ، حيث يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، ولكن ما يدل على وجوب الاحتياط يكون بيانا للحكم الظاهري ، فيكون حاكما أو واردا على حكم العقل المذكور ، على الخلاف المذكور في محلّه ، ولهذا قال : إنّ هذا الإجماع الفرضي يكون نظير حكم العقل الآتي.

(الثاني : دعوى الإجماع على أن الحكم ـ فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو ـ هو عدم وجوب الاحتياط ... إلى آخره).

أي : إن هذا القسم من الإجماع يكون تنجّزيّا في مقابل القسم الذي كان فرضيّا وتعليقيّا.

٢٨٧

وتحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه :

الأوّل : ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه.

فإنّك لا تكاد تجد من زمان المحدّثين إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرّد الاحتياط. نعم ، ربّما يذكرونه في طيّ الاستدلال في جميع الموارد ، حتى في الشبهة الوجوبيّة التي اعترف القائلون بالاحتياط بعدم وجوبه فيها ، ولا بأس بالإشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول.

فمنهم ثقة الاسلام الكلينى رحمه‌الله حيث صرّح في ديباجة الكافي بـ : «أنّ الحكم فيما اختلفت فيه الأخبار التخيير».

____________________________________

(وتحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه).

ويذكر الوجوه الثلاثة لطريق العلم بالقسم الثاني ؛ لأنّ هذا القسم شامل للإجماع القولي والعملي.

ثمّ إنّ القولي على قسمين : إمّا محصّل ، أو منقول.

وملخّص الوجه الأوّل وهو الإجماع المحصّل ، أنّه إذا لاحظنا فتاوى العلماء في الفقه والاصول من زمان المحدّثين ، وهم أصحاب الأئمة عليهم‌السلام إلى أرباب التصنيف ، وهم المجتهدون قدس‌سرهم ، لما وجدنا من يعتمد على حرمة الشيء من الأفعال بمجرد الاحتياط.

نعم ، ربّما يذكرون الاحتياط من باب التأييد في طيّ الاستدلال في جميع الموارد حتى في مورد الشبهة الوجوبيّة التي لا يقول بوجوب الاحتياط فيها الأخباريون فضلا عن المجتهدين ، ثمّ يذكر المصنّف قدس‌سره من يظهر منه القول بعدم وجوب الاحتياط واحدا واحدا حيث يقول :

(فمنهم ثقة الإسلام الكليني).

وملخّص ما يظهر منه قدس‌سره هو أنّه صرح في باب تعارض الأخبار بأنّ الحكم هو التخيير ، ولم يقل بوجوب الاحتياط مع ورود الأخبار بوجوب الاحتياط في باب تعارض الخبرين كقوله عليه‌السلام : (خذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط) (١) الحديث.

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٢٨٨

ولم يلزم الاحتياط مع ورود الأخبار بوجوب الاحتياط فيما تعارض فيه النصّان وما لم يرد فيه نصّ بوجوبه ، في خصوص ما لا نصّ فيه ، فالظاهر أنّ كلّ من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا.

ومنهم الصدوق رحمه‌الله ، فإنّه قال : «اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة حتى يرد النهي». ويظهر من هذا موافقة والده ومشايخه ؛ لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة مع مخالفته لهم ، بل ربّما يقول : «الذي اعتقده وافتي به» ، واستظهر من عبارته هذه أنّه من دين الإماميّة.

وأمّا السيّدان فقد صرّحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة ، وصرّحا ـ أيضا ـ في مسألة العمل بخبر الواحد أنّه متى فرضنا عدم الدليل على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل.

وأمّا الشيخ قدس‌سره فإنّه وإن ذهب وفاقا لشيخه المفيد رحمه‌الله إلى أنّ الأصل في الأشياء من طريق العقل الوقف ، إلّا أنّه صرّح في العدّة ب «أنّ حكم الأشياء من طريق العقل وإن كان هو الوقف لكنّه لا يمتنع أن يدل دليل سمعي على أنّ الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف ، بل عندنا الأمر كذلك وإليه نذهب» ، انتهى.

____________________________________

فإذا لم يقل بوجوب الاحتياط في باب التعارض مع وجود النصّ فيه على الاحتياط ، لم يقل بوجوبه فيما لا نصّ فيه ـ كالمقام ـ بطريق أولى وذلك لعدم ورود النصّ الدال على وجوب الاحتياط فيه ، وإنّما ورد النصّ بوجوب الاحتياط في مطلق الشبهة وفي خصوص باب التعارض.

(ومنهم الصدوق رحمه‌الله فإنّه قال : «اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة حتى يرد النهي»).

وتعبيره باعتقادنا ظاهر في الاتفاق وموافقة الآخرين معه ، فكان يعلم بالموافقة ، وإلّا كان الصحيح أن يقول : اعتقادي بدل اعتقادنا ، بل هذا التعبير في مقابل العامّة ظاهر في أنّ كون الأشياء على الإباحة من مذهب الإماميّة.

(وأمّا السيّدان فقد صرّحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة).

ومن المعلوم أنّ شرب التتن ممّا لا طريق على كونه ذا مفسدة فيحكم بإباحته.

(وأمّا الشيخ قدس‌سره) فقد قال في العدّة : بـ (أنّ حكم الأشياء) قبل الشرع (من طريق العقل وإن كان هو الوقف ، لكنّه لا يمتنع أن يدل دليل سمعي على أنّ الأشياء على الإباحة

٢٨٩

وأمّا من تأخّر عن الشيخ رحمه‌الله كالحلبي والعلّامة والمحقّق والشهيدين وغيرهم ، فحكمهم بالبراءة يعلم من مراجعة كتبهم.

وبالجملة ، فلا نعرف قائلا معروفا بالاحتياط ، وإن كان ظاهر المعارج نسبته إلى جماعة.

ثمّ إنّه ربّما نسب إلى المحقّق قدس‌سره رجوعه عمّا في المعارج إلى ما في المعتبر من التفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره وأنّه لا يقول بالبراءة في الثاني ، وسيجيء الكلام في هذه النسبة بعد ذكر الأدلّة إن شاء الله.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ تخصيص بعض القول بالبراءة بمتأخّري الإماميّة مخالف للواقع ، وكأنّه ناشئ عمّا رؤي من السيّد رحمه‌الله والشيخ رحمه‌الله من التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد ، ويؤيّده ما في المعارج من نسبة القول برفع الاحتياط على الإطلاق إلى جماعة.

____________________________________

بعد أن كانت على الوقف ، بل عندنا الأمر كذلك) أي : الإباحة بالدليل السمعي ، (وإليه نذهب).

والمستفاد من كلامه هذا إباحة الأشياء في الشرع بما دل عليها من أدلة البراءة.

فالمتحصّل من الجميع أنّه ليس هناك قائلا معروفا بالاحتياط ، إلّا أنّه تظهر من المعارج نسبة القول بالاحتياط إلى جماعة ، وهذه النسبة غير صحيحة كما سيأتي وجه عدم صحتها.

(وممّا ذكرنا) من أنّ القول بالبراءة لا يختصّ بالمتأخّرين ، بل يقول بها المتقدّمون (يظهر أنّ تخصيص بعض القول بالبراءة بمتأخّري الإماميّة مخالف للواقع) إذ تقدّم القول بها من المتقدّمين ، فيكون اختصاص القول بالبراءة بالمتأخّرين على خلاف الواقع ، (وكأنّه) أي : التخصيص المذكور(ناشئ عمّا رؤي من السيد والشيخ قدس‌سرهما من التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد) ولم يتفطّن بأنّ التمسّك بالاحتياط كان من باب التأييد ، لا من باب الدليل.

(ويؤيّده ما في المعارج من نسبة القول برفع الاحتياط على الإطلاق إلى جماعة).

ويؤيّد عدم اختصاص القول بالبراءة بالمتأخّرين ما في المعارج من نسبة القول بالبراءة في الشبهة التحريميّة والوجوبيّة إلى جماعة من المتقدمين.

وأمّا جعله مؤيّدا لا دليلا ، فهو لعدم صراحة كلام المحقّق في المعارج على وجود القول بالبراءة من القدماء.

٢٩٠

الثاني : الإجماعات المنقولة والشهرة المحقّقة فإنّها قد تفيد القطع بالاتّفاق.

وممّن استظهر منه دعوى ذلك الصدوق رحمه‌الله في عبارته المتقدّمة عن اعتقاداته ، وممّن ادّعى اتفاق المحصّلين عليه الحلّي في أوّل السرائر ، حيث قال بعد ذكر الكتاب والسنّة والإجماع :

«إنّه إذا فقدت الثلاثة ، فالمعتمد في المسألة الشرعيّة عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة التمسّك بدليل العقل» انتهى.

ومراده بدليل العقل ـ كما يظهر من تتبّع كتابه ـ هو أصل البراءة.

وممّن ادّعى إطباق العلماء المحقّق في المعارج في باب الاستصحاب ، وعنه في المسائل المصريّة ـ أيضا ـ في توجيه نسبة السيّد إلى مذهبنا جواز إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم ورود نصّ فيه :

«إنّ من أصلنا العمل بالأصل ، حتى يثبت الناقل ولم يثبت المنع عن إزالة النجاسة بالمائعات».

فلو لا كون الأصل إجماعيّا لم يحسن من المحقّق قدس‌سره جعله وجها لنسبة مقتضاه إلى مذهبنا.

وأمّا الشهرة فإنّما تتحقّق بعد التتبّع في كلمات الأصحاب خصوصا في الكتب الفقهيّة ، ويكفي في تحقّقها ذهاب من ذكرنا من القدماء والمتأخّرين.

____________________________________

(والثاني : الإجماعات المنقولة والشهرة المحقّقة ... إلى آخره).

الثاني من الوجوه الثلاث : هي الإجماعات المنقولة ، وممّن استظهر منه دعوى ذلك الإجماع هو الصدوق قدس‌سره في عبارته المتقدّمة ، وهي قوله : «إنّ اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة» ، وكذلك يظهر الإجماع من الحلّي رحمه‌الله ، حيث قال بعد ذكر الكتاب والسنة والإجماع : «إنه إذا فقدت الثلاثة ، فالمعتمد في المسألة الشرعيّة عند الباحثين عن مأخذ الشريعة هو التمسّك بدليل العقل». ومراده من دليل العقل هو أصل البراءة.

وممّن ادّعى اطباق العلماء المحقّق في المعارج في باب الاستصحاب ، وعنه في رسالة المسائل المصريّة يستظهر الإجماع على البراءة أيضا ، حيث قال في توجيه نسبة السيّد جواز إزالة النجاسة بالمضاف إلى مذهبنا : «بأنّ هذه الدعوى من السيّد رحمه‌الله لم تكن مبنيّة على التتبّع ، بل على القاعدة» ، وهي : «أن من أصلنا» أي : من قواعد الشيعة «العمل

٢٩١

الثالث : الإجماع العملي الكاشف عن رضاء المعصوم.

فإنّ سيرة المسلمين من أوّل الشريعة ، بل في كلّ شريعة ، على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ، وأنّ طريقة الشارع كانت تبليغ المحرّمات دون المباحات وليس ذلك إلّا لعدم احتياج الرخصة في الفعل إلى البيان وكفاية عدم النهي فيها.

قال المحقّق رحمه‌الله على ما حكي عنه :

«إنّ الشرائع كافّة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شيء من المشتهيات ، سواء علم الإذن

____________________________________

بالأصل» أي : البراءة «حتى يثبت الناقل» أي : المانع «ولم يثبت المنع عن إزالة النجاسة بالمائعات المضافة».

وكلامه هذا في توجيه نسبة السيّد يكون جوابا عمّا أورد على النسبة المذكورة ، من أنّه كيف نسب السيّد ذلك الحكم إلى الإماميّة ، ولم يذهب إليه أحد ، ولم يدل عليه دليل! مع أن مقتضى القاعدة هو استصحاب النجاسة ، والاشتغال بالعبادة؟! فالمستفاد من هذا التوجيه أن الرجوع إلى أصل الإباحة عند المحقّق قدس‌سره يكون إجماعيا.

وأمّا الشهرة فهي متحقّقة قطعا.

(الثالث : الإجماع العملي الكاشف عن رضاء المعصوم عليه‌السلام ... إلى آخره).

والثالث من الوجوه الثلاثة : هي السيرة التي تسمّى بالإجماع العملي الكاشف عن رضاء المعصوم عليه‌السلام ، إذ لم يردع المسلمين عن العمل بالبراءة ، فسيرة المسلمين قد جرت على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ، والشارع لم يمنعهم عن هذه الطريقة ، بل طريقة الشارع مؤيّدة لهذه الطريقة ، حيث كانت تبليغ المحرمات دون المباحات ؛ وبذلك يكون المستفاد منها هو أن ما يحتاج إلى البيان هو المحرّم ، والرخصة والإباحة غير محتاج إلى البيان ، فيحكم بإباحة الأشياء ما لم يرد النهي فيها من قبل الشارع.

وهكذا يؤيّد هذا الإجماع العملي ما حكي عن المحقّق قدس‌سره : بأن أهل الشرائع كافة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شيء من المشتهيات ، وإن لم يعلم الإذن من الشرع ، ولا يوجبون عليه أن يعلم التنصيص على الإباحة عند تناول شيء من المأكول والمشروب ،

٢٩٢

فيها من الشرع أم لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكول والمشروب أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الإذن» ، انتهى.

أقول : إن كان الغرض ممّا ذكر من عدم التخطئة بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم فهو حسن مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه من الشارع ، لكنّه راجع إلى الدليل العقلي الآتي ، ولا ينبغي الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع ، بل بناء كافّة العقلاء وإن لم يكونوا من أهل الشرائع على قبح ذلك.

وإن كان الغرض منه أنّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل ـ حتى لو فرض عدم قبحه لفرض العقاب من اللّوازم القهريّة لفعل الحرام مثلا ، أو فرض المولى في التكاليف العرفيّة ممّن يؤاخذ على الحرام ولو صدر

____________________________________

بل يعذرونه في كثير من المحرمات إذا تناولها من غير علم ، فيكون هذا من أهل الشرائع دليلا على حكمهم بالإباحة ما لم يرد النهي من الشرع ، إذ لو كانت المشتهيات ممنوعة ومحظورة شرعا لأسرعوا إلى تخطئة من يرتكبها من دون أن يعلم الإذن فيها شرعا. انتهى كلامه مع توضيح منا.

فالمستفاد من المحقّق إن عدم تخطئة أهل الشرائع من يبادر إلى تناول المشتهيات دليل على تحقّق السيرة منهم بإباحة الأشياء ما لم يرد النهي عنها.

(أقول : إن كان الغرض ممّا ذكر من عدم التخطئة بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم فهو حسن ... إلى آخره).

وحاصل إيراد المصنّف قدس‌سره على ما حكي عن المحقّق قدس‌سره هو أنّ الغرض من عدم تخطئتهم إن كان بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم عقلا مع عدم حكم الشارع بوجوب الاحتياط فهو حسن ، إلّا إنّ الاتفاق المذكور لم يكن من أدلّة البراءة مستقلا ، بل هو راجع إلى الدليل العقلي الآتي ، فلا يختصّ بأهل الشرائع ، بل بناء جميع العقلاء جرى على قبح مؤاخذة الجاهل.

(وإن كان الغرض منه أنّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل ـ حتى لو فرض عدم قبحه ... إلى آخره).

٢٩٣

جهلا ـ لم يزل بناؤهم على ذلك ، فهو مبني على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

____________________________________

أي : وإن كان غرض المحقّق قدس‌سره أنّ بناء العقلاء جرى على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن قبح مؤاخذة الجاهل ، بل لو فرض عدم قبح عقاب الجاهل لفرض العقاب من اللّوازم القهريّة لفعل الحرام ، كالسكر بالنسبة إلى شرب الخمر حيث يكون من اللّوازم القهريّة ويترتّب عليه ، وإن كان عن جهل (أو فرض المولى في التكاليف العرفيّة ممن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلا لم يزل بناؤهم على ذلك) أي : تجويز الارتكاب.

وقوله : (لم يزل) جواب لقوله : (حتى لو فرض عدم قبحه ... إلى آخره) وقوله : (فهو) جواب لقوله : (وإن كان الغرض منه ... إلى آخره).

وحاصل الكلام هو إن كان غرض المحقّق أنّ العقلاء بنوا على تجويز ارتكاب الجاهل ـ ولو فرض عدم عقابه عقلا ـ فهذا التجويز منهم مبنيّ على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل عندهم (وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله) في باب الشك في المكلّف به فانتظر.

* * *

٢٩٤

دليل العقل على البراءة

الرابع من الأدلّة : حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف.

ويشهد له حكم العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه ـ أصلا ـ بتحريمه.

ودعوى : «إنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقليّ ، فلا يقبح بعده المؤاخذة».

____________________________________

و (الرابع من الأدلّة : حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف).

وتقريب حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان يتّضح بعد ذكر مقدّمة مشتملة على أمرين :

أحدهما : إنّ قبح العقاب بلا بيان إنّما يكون دليلا على البراءة على القول بالقبح والحسن العقليين كما عليه العدليّة ، وأمّا على قول الأشاعرة الذين لا يقولون بهما فلا يكون دليلا على المطلب ، إذ لا قبح حتى يحكم به العقل.

وثانيهما : إنّ المراد بالبيان هو البيان الواصل إلى المكلّف لا مطلق البيان ، فحينئذ يكون موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو عدم البيان الواصل إلى المكلّف ، لا عدم البيان الواقعي ؛ لأنّ البيان الواقعي لا تأثير له في تحريك المكلّف نحو امتثال التكليف ، ولا يتمّ به الحجّة عليه إذ حاله حال العدم ، فإنّ الانبعاث نحو عمل أو الانزجار عنه إنّما هو من آثار التكليف الواصل.

وبهذا يتّضح لك حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلّف بعد فحصه موارد وجود التكليف فحصا كاملا وعدم وجدانه دليلا عليه ، فيكون ـ حينئذ ـ معذورا عند العقل في عدم امتثال التكليف المجهول ؛ لأنّ فوت التكليف ـ حينئذ ـ مستند إلى عدم البيان الواصل إليه من قبل المولى ، لا إلى تقصير من المكلّف.

(ودعوى : «إن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي ، فلا يقبح بعده المؤاخذة ...» مدفوعة ... إلى آخره).

ولتوضيح ذلك أقول : إن العقل كما يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، كذلك يحكم بوجوب

٢٩٥

مدفوعة بأنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب

____________________________________

دفع الضرر المحتمل ، فيقع التعارض بينهما في مورد شرب التتن ، إذ مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو عدم العقاب لعدم البيان فيه ، ومقتضى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل هو العقاب لوجود احتمال الضرر الناشئ عن احتمال الحرمة فيه ، فيكون وقوع التعارض بينهما مستلزما لثبوت المتناقضين لحكم العقل باستحقاق العقاب وبعدمه في مورد واحد ، وهو محال.

فلا بدّ في دفع هذا التناقض من القول بأنّ إحدى القاعدتين وهي قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل واردة على الاخرى وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّ القاعدة الثانية وهي حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل تكفي أن تكون بيانا للزوم الاحتياط في محتمل الحرمة ، فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها.

وبهذا البيان يتضح لك ما ذكر من الإشكال على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يمكن الاستدلال بها على البراءة. هذا تمام الكلام في تقريب الدعوى المذكورة.

ثمّ إنّ كلام المصنّف قدس‌سره في دفع هذه الدعوى ، حيث قال : (مدفوعة بأنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته ... إلى آخره) مشتمل على جوابين مبنيّين على أن يكون المراد بالضرر العقاب :

أمّا الجواب الأوّل : فنقول بعدم ثبوت حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل حتى يكون واردا على حكمه بقبح العقاب بلا بيان لو كان المراد بالضرر العقاب كما هو المفروض ، بل الأمر يكون بالعكس ، أي : يكون حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واردا على حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل ؛ وذلك لأنّ متعلّق الشك في المقام هو التكليف لا العقاب ، والشك في التكليف لا يستلزم الشك في العقاب حتى يكون محتملا ، بل يكون الشك في التكليف علّة تامة للقطع بعدم العقاب وذلك بحكم قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل ، فلا يبقى لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل موضوع للقطع بعدم الضرر والعقاب ، وهو معنى عدم ثبوت الحكم المذكور.

وأمّا الجواب الثاني : المبني على ثبوت حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، بأن

٢٩٦

عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة كليّة ظاهريّة وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمّت عوقب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف في الواقع ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده ، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة ، بل قاعدة القبح واردة عليها لأنّها فرع احتمال الضرر ، أعني : العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

____________________________________

يكون مورد قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فرض وصول التكليف إلى المكلّف بنفسه أو بطريقه كأطراف العلم الإجمالي مثلا ، ومورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان فرض عدم وصوله بنفسه ولا بطريقه إلى المكلّف ، كما في الشبهة بعد الفحص واليأس عن الدليل على ثبوت التكليف ، فحينئذ لا توارد بين القاعدتين في مورد واحد حتى تكون إحداهما واردة على الاخرى ، ومنه يظهر أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ليس بيانا للتكليف المجهول ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(بأنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة كليّة ظاهريّة) مستقلّة في مقابل بيان قاعدة كليّة واقعيّة ، كحكم العقل بوجوب ردّ الوديعة(وإن لم يكن في مورده) أي : بيان قاعدة(تكليف في الواقع).

والحاصل أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل لم يكن بيانا للتكليف المجهول حتى يكون واردا على حكمه بقبح العقاب من دون بيان ؛ وذلك لأنّ بيان التكليف لا يخلو عن أحد قسمين :

أحدهما : بيانه بنفسه ، كقيام الدليل على حرمة شرب التتن مثلا.

وثانيهما : بيانه بإيجاب الاحتياط حتى يتنجّز التكليف الواقعي المجهول بسبب وجوب الاحتياط.

ومن المعلوم أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل لم يكن بيانا للتكليف المجهول بأحد الوجهين ؛ لأنّ حكم العقل قد تعلّق بمعلول التكليف وهو العقاب ، لا بنفس التكليف ولا بملاكه ، أعني : المفسدة الذاتيّة ، فلا يعقل أن يكون بيانا للتكليف المجهول ، وإنّما هو بيان لقاعدة كلّيّة ظاهريّة ، والعقاب إنّما هو على مخالفة نفس هذه القاعدة ، لا على مخالفة التكليف الواقعي المجهول.

٢٩٧

فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فتردّد المكلّف به بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها. هذا كلّه إن اريد بالضرر العقاب.

وإن اريد مضرّة اخرى غير العقاب التي لا يتوقّف ترتّبها على العلم ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلّا إنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين.

____________________________________

فالمتحصّل ممّا ذكر أنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا تكون واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل قاعدة قبح العقاب واردة عليها ؛ وذلك لعدم احتمال الضرر بعد حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، فمورد قاعدة دفع الضرر ليس الشك في التكليف بعد الفحص ، بل موردها هو إذا علم التكليف إجمالا ، كما إذا تردّد المكلّف به بين أمرين ، كالإناءين المشتبهين في الشبهة المحصورة الموضوعيّة ، والشك في وجوب الظهر أو الجمعة في الشبهة الحكميّة ، وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف ... إلى آخره).

هذا تمام الكلام فيما إذا كان المراد بالضرر هو العقاب الاخروي الذي يترتّب على العلم بالتكليف.

(وإن اريد مضرّة اخرى غير العقاب التي لا يتوقّف ترتّبها على العلم ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلّا أنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين).

أي : إن اريد بقاعدة وجوب دفع الضرر مضرّة اخرى غير العقاب كالمضرّة الدنيويّة فهو ـ أي : الضرر الآخر ـ وإن كان محتملا ولا يرتفع احتماله بقبح العقاب بلا بيان ، لأنّ المرتفع به هو الضرر الاخروي بمعنى العقاب ، وبه لا تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة دفع الضرر.

إلّا أنّ الإشكال يرد على قاعدة دفع الضرر من جهة اخرى : وهي أن الشبهة فيها موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها عند الأخباريين أيضا ، فتكون خارجة عن محلّ النزاع ؛

٢٩٨

فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود ، فلا بدّ على كلا القولين ؛ إمّا من منع وجوب الدفع ، وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر. وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعيّة إن شاء الله تعالى.

____________________________________

وذلك لأنّ محلّ الكلام هو الشبهة الحكميّة لا الموضوعيّة.

وبيان كون الشبهة موضوعيّة يتضح بعد بيان مقدمة وهي :

إنّ في كل شبهة موضوعيّة كانت أو حكميّة احتمال ضرر ، فاحتمال الضرر موجود في كل شبهة وجوبيّة كانت أو تحريميّة ، موضوعيّة كانت أو حكميّة ، فعنوان الضرر يكون كعنوان الخمر حيث يكون ارتكابه محرّما شرعا ، فكما أنّ احتمال الخمريّة في مائع يسمّى شبهة موضوعيّة ، كذلك احتمال الضرر في شيء يسمّى شبهة موضوعيّة ، وتقدّم أنّ احتمال الضرر موجود في كل شبهة ، فكل شبهة من جهة احتمال الضرر موضوعيّة.

ومن هذه المقدمة يتّضح لك ما أفاده المصنّف قدس‌سره من أنّ الشبهة من هذه الجهة أي : من جهة احتمال الضرر موضوعيّة ، سواء كانت من غير هذه الجهة حكميّة تحريميّة ، كشرب التتن حيث تكون الشبهة فيه من جهة احتمال الحرمة حكميّة تحريميّة ، ومن جهة احتمال الضرر موضوعيّة تحريميّة ، أو موضوعيّة تحريميّة ، كالمائع المحتمل كونه خمرا ، حيث تكون الشبهة فيه موضوعيّة من كلتا الجهتين أي : من جهة احتمال الخمريّة ، واحتمال الضرر معا ، أو حكميّة وجوبيّة ، كالدعاء عند رؤية الهلال حيث تكون الشبهة فيه من جهة احتمال الوجوب حكميّة وجوبيّة ، ومن جهة احتمال الضرر موضوعيّة تحريميّة ، أو موضوعيّة وجوبيّة ، كقضاء الصلاة المشكوك فوتها حيث تكون الشبهة فيه موضوعيّة من جهتين أي : من جهة احتمال القضاء وجوبيّة موضوعيّة ، ومن جهة احتمال الضرر تحريميّة موضوعيّة.

والمتحصّل من الجميع أنّ الشبهة من جهة احتمال الضرر في جميع الموارد موضوعيّة ، ومن الواضح أنّها مجرى البراءة بالاتفاق.

(فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود ، فلا بدّ على كلا القولين ؛ إمّا من منع وجوب الدفع ، وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر).

٢٩٩

ثمّ إنّه ذكر السيّد أبو المكارم قدس‌سره في الغنية : «إن التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق». وتبعه بعض من تأخّر عنه فاستدلّ به في مسألة البراءة.

والظاهر أنّ المراد به ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد الطاعة ، كما صرّح به جماعة

____________________________________

وتقدّم أنّ الشبهة من جهة احتمال الضرر موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها بالاتفاق ، فلا يكون دفع الضرر المحتمل واجبا عند الأخباريين ، كما أنّه لم يكن واجبا عند الاصوليين ، ومع ذلك فلو ثبت وجوب دفع الضرر المحتمل بأن يقال : إن العقل يحكم مستقلا بوجوب دفع الضرر المحتمل كالضرر المقطوع ، كما أنّه يحكم بوجوب دفع العقاب المحتمل كالمقطوع لكان هذا الإشكال مشترك الورود.

ويرد على الأخباريين ـ أيضا ـ كما يرد على الاصوليين (فلا بدّ على كلا القولين) إمّا منع وجوب دفع الضرر المحتمل عقلا ، وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه بارتكاب الضرر المحتمل فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر ، بمعنى : إنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وإن كان ثابتا ، إلّا إنّ الشارع قد أذن بارتكاب الشبهات الموضوعيّة مع احتمال الضرر فيها ، فينكشف من إذن الشارع أنّ الضرر يتدارك بمصلحة في الترخيص ، ووجوب دفع الضرر المحتمل بحكم العقل يختصّ بما لا يتدارك ، فتأمّل جيدا.

(ثمّ إنّه ذكر السيّد أبو المكارم قدس‌سره في الغنية : إن التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق ... إلى آخره).

ذكر السيّد في كتاب الغنية دليلا عقليا آخر على البراءة ، وتبعه بعض من تأخّر عنه كالمحقّق وغيره ، وتقريب ما ذكره من الدليل العقلي الآخر يحتاج إلى مقدمة وهي :

إن التكليف بما لا يطاق قبيح عقلا ، فلا يجوز صدوره عن عاقل فضلا عن الشارع الحكيم ، والتكليف بما لا طريق إلى العلم به للمكلف تكليف بما لا يطاق فلا يجوز عقلا.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : إن حرمة شرب التتن ممّا لا طريق إلى العلم به للمكلّف ؛ لأنّ المفروض هو عدم الدليل الدال على الحرمة ، فيكون التكليف بالاجتناب عنه تكليفا بما لا يطاق ، وهو لا يجوز عقلا ، فتكون النتيجة ـ حينئذ ـ إباحة شرب التتن.

قوله : (والظاهر أنّ المراد به ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد الطاعة).

دفع لما يقال من أن الاجتناب عن شرب التتن مقدور للجاهل ، فلا يلزم من وجوب

٣٠٠