دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

ذكر العلّامة الوحيد المتقدّم في موضع آخر حيث قال بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم ب : «أنّه لا يدلّ على الحظر أو وجوب التوقّف ، بل مقتضاه أن من ارتكب شبهة واتّفق كونه حراما في الواقع يهلك لا مطلقا ، ويخطر بخاطري أنّ من الأخباريّين من يقول بهذا المعنى» انتهى.

ولعلّ هذا القائل اعتمد في ذلك على ما ذكرنا سابقا ، من أنّ الأمر العقلي والنقلي بالاحتياط للإرشاد ، من قبيل أوامر الطبيب لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها عدا ما يترتّب على نفس الفعل المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر. نعم ، الإرشاد على مذهب هذا الشخص على وجه اللزوم ، كما في بعض أوامر الطبيب لا للأولويّة ، كما اختاره القائلون بالبراءة.

وأمّا ما يترتّب على نفس الاحتياط فليس إلّا التخلّص من الهلاك المحتمل في الفعل. نعم ، فاعله يستحق المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى ، ففيه نوع من الانقياد ويستحقّ عليه المدح والثواب ، وأمّا تركه فليس فيه إلّا التجرّي بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى ، ولا دليل على حرمة التجرّي على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه.

بل عرفت في مسألة حجيّة العلم المناقشة في حرمة التجرّي بما هو أعظم من ذلك ، كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركّب ولا يلزم من تسليم استحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجرّي بالإقدام على ما يحتمل

____________________________________

هذا تمام الكلام فيما ذكره الوحيد البهبهاني قدس‌سره.

ثمّ يقول المصنّف قدس‌سره :

(ولعلّ هذا القائل اعتمد في ذلك على ما ذكرنا سابقا ، من أنّ الأمر العقلي والنقلي بالاحتياط للإرشاد ... إلى آخره).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره هو أنّه لعلّ القائل بالحرمة الواقعيّة بالمعنى الأخير نظر في ذلك إلى كون الأمر بالاحتياط للإرشاد ، كما اختاره القائلون بالبراءة.

غاية الأمر أنّ الأمر الإرشادي على مذهب الوحيد قدس‌سره يكون على وجه اللزوم ، كبعض أوامر الطبيب ، وعلى مذهب القائلين بالبراءة على وجه الأولويّة.

قوله : (ولا يلزم من تسليم استحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط استحقاق

٤٠١

كونه مبغوضا. وسيأتي تتمّة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إن شاء الله تعالى.

الخامس : إنّ أصل الإباحة في مشتبه الحكم إنّما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليه ، فلو شكّ في حلّ أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية جرى أصالة الحلّ ، وإن شكّ فيه من جهة الشكّ في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة ، لأصالة عدم التذكية ؛ لأنّ من شرائطها قابليّة المحلّ وهي مشكوكة ، فيحكم بحرمتها وكون الحيوان ميتة.

____________________________________

العقاب بترك الاحتياط ... إلى آخره).

دفع لما يتوهّم من الملازمة بين استحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط ، وبين استحقاق العقاب على التجرّي بترك الاحتياط.

وحاصل الدفع أنّ الملازمة غير ثابتة ؛ وذلك لأنّ الالتزام في الثواب على الانقياد إنّما هو من باب التفضّل من المولى ، ولا يتصوّر هذا التفضّل في جانب العقاب على التجرّي.

(الخامس : إنّ أصل الإباحة في مشتبه الحكم إنّما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليه ... إلى آخره).

وتوضيحه يحتاج إلى مقدمة مشتملة على امور :

منها : إنّ المراد بأصالة الإباحة هي أصالة البراءة الجارية في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

ومنها : إنّ المراد بعدم البيان في البراءة العقليّة وعدم العلم في البراءة الشرعيّة هو مطلق عدم الدليل والحجّة عقلا أو شرعا ، فيرتفع بمطلق البيان والدليل الشامل للأصل المعتبر شرعا.

ومنها : إنّ المراد بالأصل الموضوعي هو الأصل الذي يكون رافعا لموضوع الأصل الآخر ـ كالأصل السببي بالنسبة إلى الأصل المسبّبي ـ فيكون حاكما عليه ، لا خصوص الأصل الجاري في الموضوع.

إذا عرفت هذه المقدمة يتّضح لك ما أفاده المصنّف قدس‌سره من أنّ جريان أصالة البراءة مشروط بعدم وجود أصل موضوعي حاكم عليها ، كالبراءة في شرب التتن مثلا حيث لا يكون في موردها أصل موضوعي ، وإلّا فالأصل الموضوعي يكون بيانا عقلا وحجّة شرعا فيكون رافعا للشكّ ولو تعبّدا ، فيتقدّم على أصالة البراءة بالحكومة من دون فرق بين أن

٤٠٢

ويظهر من المحقّق والشهيد الثانيين قدس‌سرهما فيما إذا شكّ في حيوان متولّد من طاهر

____________________________________

تكون الشبهة حكميّة ، كاستصحاب حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ، فيما إذا شكّ في جواز الوطء فإنّ الاستصحاب يمنع عن التمسّك بأصالة البراءة للحكومة ، أو تكون الشبهة موضوعيّة كاستصحاب الخمريّة فيما إذا شكّ في انقلابه خلّا ، فإنّ استصحاب الخمريّة رافع لموضوع البراءة عن حرمة شرب المائع المعلوم كونه خمرا ، فيتقدّم عليها بالحكومة أو الورود.

وكيف كان ، فالضابط هو : إنّ كلّ مورد جعل الشارع للحكم بالحليّة سببا خاصا ، كالأموال ، والفروج واللحوم ، حيث جعل سبب حليّة الأموال الملكيّة ، والفروج النكاح ، واللحوم التذكية ، فإذا شكّ في حليّة هذه الامور لأجل الشكّ في تحقّق أسبابها لا تجري أصالة الحليّة والبراءة ، لأجل وجود أصل موضوعي حاكم عليها وهو أصالة عدم تحقّق السبب في كل واحد منها.

وقد ذكر غلام رضا في تعليقته على الرسائل ضابطا في هذا المقام ، لا يخلو ذكره من فائدة ، حيث قال : ما هذا لفظه :

«أقول : مبنى الشرط المزبور إنّما هو قاعدة المزيل والمزال ، وهي جارية بالنسبة إلى جميع الاصول ، وما نحن فيه من شعبها ، وضابطه أنّ كل حكم كالإباحة وأمثالها إذا علّق على وجود سبب ، وشكّ في وجود هذا السبب ، أو سببيّة الشيء الموجود ، فالأصل الجاري في طرف السبب مزيل والأصل الجاري في طرف الحكم مزال ، ولا يجري بعد جريان الأوّل ، لأنّه يرتفع الشك مع وجوده ، والأصل الموضوعي في المقام أصل سببي ، ومع وجوده لا تبقى شبهة بحكم الشرع لكي تجري أصالة الإباحة التي مجراها الشبهات ، فإنّه كما ترتفع الشبهة بالعلم الوجداني كذلك ترتفع بالعلم الشرعي المنبعث من الحكم بالعمل به». انتهى مورد الحاجة من كلامه.

ثمّ يتفرع على الضابط المذكور جريان أصالة عدم التذكية والحكم بالحرمة والنجاسة فيما إذا شكّ في حليّة لحم حيوان من جهة الشكّ في قبوله التذكية ، لأنّ من شرائط التذكية قابليّة المحلّ لها ، وهي مشكوكة بالفرض ، فتجري أصالة عدم التذكية ، وأصالة الطهارة لا تمنع جريان أصالة عدم التذكية لكون الأوّل مسبّب والثاني سبب ، ومن المعلوم أنّ الأصل

٤٠٣

ونجس لا يتبعهما في الاسم وليس له مماثل ، إنّ الأصل فيه الطهارة والحرمة.

____________________________________

السببي مانع عن جريان الأصل المسبّبي.

ويتفرع على ما ذكر بطلان ما يظهر من المحقّق والشهيد الثانيين قدس‌سرهما من التفكيك بين الحرمة والنجاسة ، حيث حكما في هذه المسألة بالحرمة والطهارة ، ولعلّ ما ذكراه يرجع إلى ما قيل : من أنّ الأصل في اللحوم هي الحرمة والطهارة.

وكيف كان ، فينبغي أن يبسط الكلام في المقام ، فإنّه لا يخلو عن فائدة فنقول :

إن الشكّ في الحرمة لا يخلو عن أحد احتمالين :

أحدهما : أن تكون الشبهة فيه حكميّة.

وثانيهما : أن تكون موضوعيّة.

ثمّ كل واحدة منهما تنقسم إلى أقسام :

أمّا أقسام الشبهة الحكميّة ، فهي أربعة :

الأوّل : هو أن يكون الشكّ في الحليّة من غير جهة التذكية وعدمها وإنّما من جهة عدم الدليل على الحليّة كالشكّ في حليّة لحم الحمار فرضا ، والمرجع فيه أصالة الحليّة ، لكون التذكية محرزة بالوجدان ، فيحكم بالحليّة ما لم تثبت الحرمة.

والثاني : أن يكون الشكّ في الحليّة لأجل الشكّ في قابليّة الحيوان للتذكية وعدمها ـ كما في كلام المحقّق والشهيد الثانيين ـ من الحيوان المتولّد من الشاة والخنزير من دون أن يصدق عليه اسم أحدهما ، ولم يكن له مماثل ممّا يقبل التذكية أو لا يقبلها ، والمرجع فيه هو عموم ما يدلّ على قابليّة كل حيوان للتذكية إلّا ما خرج بالدليل كالخنزير مثلا إن كان هناك عموم ، فيحكم بالحليّة بعد وقوع التذكية عليه ، وبذلك لا يصحّ ما يظهر من المحقّق والشهيد من الحكم بالحرمة بمقتضى أصالة عدم التذكية ، لأنّها أصل عملي والأصل العملي متأخر رتبة عن الدليل الاجتهادي ، فمع وجود الدليل الاجتهادي ـ كالعموم فيما نحن فيه ـ لا تجري أصالة عدم التذكية.

نعم ، يكون الأصل هو المرجع فيما إذا لم يكن هناك عموم يدلّ على قابليّة كل حيوان للتذكية ؛ ولذلك قال المصنّف قدس‌سره : إنّ ما يظهر منهما من الحكم بالحرمة إنّما يحسن مع عدم عموم ... إلى آخره.

٤٠٤

____________________________________

والثالث : أن يكون الشكّ في الحليّة ناشئا من جهة الشكّ في اعتبار شيء في التذكية وعدمه ، كما إذا شكّ في اعتبار كون الذبح مشروطا بآلة من الحديد وعدمه مثلا ، والمرجع فيه أصالة عدم التذكية فيما إذا تمّ الذبح بغير الحديد ، للشكّ في تحقّق التذكية فيحكم بالحرمة.

والقسم الرابع : أن يكون الشكّ في الحليّة بعد العلم بالتذكية من جهة عروض مانع عن تأثيرها في الحليّة ، كما إذا شرب حيوان مأكول اللحم لبن الكلب ، فإنّ شرب لبن الخنزير مع الاشتداد يوجب الحرمة قطعا فيكون مانعا عن تأثير التذكية في الحليّة ، وإنّما الشكّ في لبن الكلب هل يوجب الحرمة ـ أيضا ـ أم لا؟ والمرجع فيه أصالة عدم المانعيّة فيحكم بالحليّة ، ومن الواضح أن الحرمة في القسم الرابع حرمة عرضيّة وفي سائر الأقسام الثلاثة المتقدمة ذاتيّة. هذا تمام الكلام في أقسام الشبهة الحكميّة.

وأما أقسام الشبهة الموضوعيّة فهي ـ أيضا ـ أربعة :

الأوّل : ما كان الشكّ فيه ناشئا من جهة احتمال عدم وقوع التذكية لأجل الشكّ في أصل تحقّق الذبح ، أو لاحتمال اختلال بعض الشرائط ، ككون الذابح مسلما أو كون الذبح بالحديد أو غيرهما ، مع العلم بكون الحيوان قابلا للتذكية ، والمرجع فيه هو أصالة عدم التذكية فيحكم بالحرمة.

والثاني : ما كان الشكّ في الحليّة ناشئا من جهة دوران اللحم بين كونه من حيوان مأكول اللحم وبين كونه من غيره بعد العلم بكون الحيوان قابلا للتذكية ووقوعها عليه مع الشرائط كما إذا لم يعلم أنّه من الشاة أو الأرنب ، فالمرجع فيه هو أصالة الحليّة وذلك للعلم بالتذكية ، واحتمال الحرمة يرتفع بأصالة الحليّة.

والثالث : ما إذا كان الشك في الحليّة ناشئا من جهة احتمال عدم قبول الحيوان للتذكية ذاتا ، بعد العلم بوقوع الذبح الجامع للشرائط عليه ، كما لو تردّد المذبوح بين كونه شاة أو كلبا من جهة الظلمة مثلا ، فالمرجع فيه أصالة الحليّة إذا قلنا بعموم يدلّ على قابليّة كل حيوان للتذكية ، أو قلنا بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي كاستصحاب عدم الكلبيّة في المقام مثلا.

٤٠٥

فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية فإنّما يحسن مع الشكّ في قبول التذكية وعدم عموم يدلّ على جواز تذكية كل حيوان إلّا ما خرج ، كما ادّعاه بعض.

وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة أكل لحمه قبل التذكية ، ففيه : إنّ الحرمة قبل التذكية

____________________________________

وأمّا إذا منعنا عن كلا الأمرين أو عن أحدهما ، فإن قلنا بأنّ التذكية أمر وجودي بسيط مسبّب عن الذبح الجامع للشرائط ، فالمرجع هو استصحاب عدم التذكية فيحكم بالحرمة.

وأمّا إذا قلنا بأنّ التذكية عبارة عن نفس الفعل الخارجي ، فالمرجع هو أصالة الحليّة للقطع بتحقّق التذكية.

والقسم الرابع : ما إذا كان الشكّ في الحليّة ناشئا من جهة احتمال طروّ عنوان مانع عن التذكية كالجلل في الشاة مثلا ، بعد العلم بكون الحيوان قابلا للتذكية ذاتا والعلم بوقوعها عليه ، ومرجعه إلى أصالة الحليّة لأصالة عدم طروّ مانع عن التذكية ، فتثبت التذكية بضمّ الوجدان وهو الذبح الجامع للشرائط إلى الأصل ، أي : أصالة عدم مانع عنها.

ثمّ إن الحرمة في القسم الرابع ـ أيضا ـ عرضيّة ، وفي الثلاثة المتقدّمة ذاتيّة. ومن يريد بسط الكلام أكثر فليرجع إلى تقرير سيدنا الاستاذ آية الله العظمى السيد أبي القاسم الخوئي (دام ظلّه).

(فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية فإنّما يحسن مع الشكّ في قبول التذكية وعدم عموم يدلّ على جواز تذكية كل حيوان إلّا ما خرج ... إلى آخره).

إلّا إنّ عدم العموم الدال على قابليّة كل حيوان للتذكية غير متحقّق ، لما يظهر من كلام المصنّف قدس‌سره في كتاب الطهارة من وجود عموم يدلّ على جواز تذكية كل حيوان ، وحينئذ يتمسّك بالعموم في مورد الشكّ ويحكم بالحليّة لما تقدّم سابقا من عدم جريان الأصل مع وجود الدليل الاجتهادي.

(وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة أكل لحمه قبل التذكية).

بأن يقال : إنّ الميتة عبارة عن كل ما لم يذكّ شرعا ولو كان حيّا ، وذلك لقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(١) حيث استثنى المذكّى عما ذكر قبله من اللحوم المحرمة.

__________________

(١) المائدة : ٣.

٤٠٦

لأجل كونه من الميتة ، فإذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة فتحتاج حرمته إلى موضوع آخر ، ولو شكّ في قبول التذكية رجع إلى الوجه السابق ، وكيف كان فلا يعرف وجه لرفع اليد عن أصالة الحلّ والإباحة.

نعم ، ذكر شارح الروضة هنا وجها آخر ، ونقله بعض محشّيها عن تمهيد القواعد ، قال شارح الروضة : «إنّ كلّا من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فإذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه ، وهو ظاهر» ، انتهى.

____________________________________

(ففيه : إنّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة ... إلى آخره).

وحاصل ما ذكره في ردّ استصحاب الحرمة قبل التذكية حال الحياة أنّ الحرمة قبل التذكية كانت باعتبار كون اللحم ميتة ، وأمّا بعد التذكية فلم يكن ميتة بناء على فرض إثبات عموم جواز تذكية كل حيوان إلّا ما خرج بالدليل ، ولا يجري استصحاب الحرمة حال الحياة ، لعدم بقاء الموضوع الذي هو شرط الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ الموضوع في حال الحياة هو الحيوان ، وبعد التذكية الجامعة للشرائط تغيّر الموضوع من الحيوان إلى الجثّة ، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب لا يجري مع احتمال تبدّل الموضوع فضلا عن تبدّله بالقطع واليقين ، فحينئذ يحتاج الحكم بالحرمة إلى موضوع آخر ، ككونه من السباع الذي دلّ الدليل على حرمته مع كونه مذكّى.

(ولو شكّ في قبول التذكية) أي : ولو كان استصحاب الحرمة لأجل الشكّ في قبول التذكية(رجع إلى الوجه السابق) وهو إثبات الحرمة بأصالة عدم التذكية ، وقد تقدّم الجواب عنه في الوجه السابق ، ولا حاجة إلى تكراره. هذا ما ظهر من المحقّق والشهيد وقد تقدّم ما فيهما.

وهناك وجه ثالث يظهر من شارح الروضة أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (نعم ، ذكر شارح الروضة هنا وجها آخر ، ونقله بعض محشّيها عن تمهيد في القواعد ، قال شارح الروضة : «إنّ كلّا من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فإذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه».

وحاصل هذا الوجه أنّ النجاسات محصورة في الفقه بالعشر ، كما في باب الطهارة

٤٠٧

ويمكن منع حصر المحلّلات ، بل المحرّمات محصورة ، والعقل والنقل دلّ على إباحة ما لم يعلم حرمته ؛ ولذا يتمسّكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الأطعمة والأشربة.

ولو قيل : إن الحلّ إنّما علّق في قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(١) المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام ، فكلّ ما شكّ في كونه طيّبا فالأصل عدم إحلال الشارع له.

قلنا : إنّ التحريم محمول في القرآن على الخبائث والفواحش ، فإذا شكّ فيه فالأصل عدم

____________________________________

والنجاسة ، وهكذا المحلّلات محصورة في امور : كالأنعام الثلاث ، إذا لم يدخل المشكوك فيهما يحكم بطهارته وحرمة لحمه ، وهذا الوجه مبنيّ على أن يكون الواجب على الشارع بيان النجاسات والمحلّلات ، فيصحّ أن يقال : إنّ النجاسات والمحلّلات محصورة فيما بيّنه الشارع ووجدناه ، فتجري أصالة الطهارة والحرمة فيما عداه ، إلّا إنّ الأمر ليس كذلك ، بل الواجب على الشارع ـ من باب قبح العقاب بلا بيان ـ بيان المحظورات الشرعيّة وهي المحرّمات والنجاسات ، فحينئذ تكون المحرّمات والنجاسات محصورة ، فإذا لم يدخل المشكوك فيهما يحكم بحلّيته وطهارته.

(ولو قيل : إنّ الحلّ إنّما علّق في قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام).

وهو : قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ)(٢) ، فالمستفاد من هذه الآية هو حصر الحلّية في الطيّب فإذا شك في كون الشيء من الطيّبات ، يجري فيه أصل عدم تحليل الشارع له ، ويحكم بحرمته كما يظهر من المحقّق والشهيد قدس‌سرهما ، وأجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الوجه بوجوه :

أشار إلى الوجه الأوّل بقوله :

(إنّ التحريم محمول في القرآن على الخبائث والفواحش).

وذلك كقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)(٣) ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ)(٤) ، وقوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ

__________________

(١) المائدة : ٤.

(٢) المائدة : ٤.

(٣) الاعراف : ٣٣

(٤) النجم : ٢٢

٤٠٨

التحريم.

ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الإباحة ، وعموم قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ)(١) ، وقوله عليه‌السلام : (ليس الحرام إلّا ما حرّم الله تعالى) (٢) ، مع أنّه يمكن فرض كون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّبا ، بل الطيّب ما لا يستقذر ، فهو أمر عدمي يمكن إحرازه بالأصل عند الشكّ ، فتدبّر.

____________________________________

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)(٣).

والمستفاد من هذه الآيات هو أنّ الحرمة منحصرة في الفواحش والخبائث فإذا شكّ في كون الشيء من الخبائث تجري أصالة عدم التحريم فيه ، ولا يحتاج الحكم بعدم التحريم إلى إحراز عدم الخباثة بالأصل حتى يقال : إنّ أصل عدم الخباثة ليس بحجّة لكونه استصحابا للعدم الأزلي ، وهو ليس بحجّة ، فلا يصحّ الحكم بعدم التحريم لو كان متوقّفا على إحراز عدم الخباثة.

وأشار إلى الوجه الثاني بقوله :

(ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الإباحة ، وعموم قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) ... إلى آخره).

أي : مع تعارض أصالة عدم الحليّة الناشئ من الشكّ في كونه طيّبا ، وأصالة عدم التحريم الناشئ من الشكّ في كونه خبيثا يرجع إلى أصالة الإباحة ومقتضى عموم قوله عليه‌السلام : (ليس الحرام إلّا ما حرّم الله) هو الحليّة.

وقد أشار إلى الوجه الثالث بقوله :

(مع أنّه يمكن فرض كون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّبا).

بأن يقال : إنّ الطيّب هو ما لا يستقذر ، فيكون أمرا عدميّا يمكن إحرازه بالأصل عند الشكّ ، فيحكم بالحليّة.

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

(٢) التهذيب ٩ : ٤٢ / ١٧٦. الاستبصار ٤ : ٧٥ / ٢٧٥. العياشي ١ : ٤١١ / ١١٧. الوسائل ٢٤ : ١٢٣ ، أبواب الأطعمة المحرمة ، ب ٥ ، ح ٦.

(٣) الاعراف : ١٥٧.

٤٠٩

السادس : حكي عن بعض الأخباريّين كلام لا يخلو إيراده عن فائدة وهو :

«إنّه هل يجوّز أحد أن يقف عبد من عباد الله ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعيّة؟ فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم واقتفي أثره وما يثبت من المعلوم. فإن اشتبه عليّ شيء عملت بالاحتياط. أفيزلّ قدم هذا العبد عن الصراط ويقابل بالإهانة والاحباط فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقة الأبرار؟ هيهات هيهات أن يكون أهل التسامح والتساهل في الدين في الجنّة خالدين وأهل الاحتياط في النار معذّبين!» ، انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى على العوام فضلا عن غيرهم أنّ أحدا لا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وأنّه سبيل النجاة ، وأمّا الإفتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنّه غير مطابق للاحتياط ؛ لاحتمال حرمته ، فإن ثبت وجوب الإفتاء فالأمر يدور بين الوجوب والتحريم ،

____________________________________

(فتدبّر) ويمكن أن يكون الوجه في الأمر بالتدبّر هو أنّه لو سلّمنا كون الطيّب أمرا عدميّا كذلك لم ينفع استصحاب عدم القذارة في المقام ؛ وذلك لأنّه إن اريد به إثبات عدم قذارة هذا الفرد المشكوك يكون الأصل مثبتا ، والأصل المثبت ليس بحجّة ، ومع عدم إثبات قذارته لا يكون مفيدا هذا كما في التنكابني.

وأما ما ذكره الاستاذ الاعتمادي فحاصله : إنّ كون المشكوك طيّبا لا يحرز بالأصل ، سواء قلنا : بأنّه أمر وجودي مضاد للخباثة ، أو قلنا : بأنّه أمر عدمي مناقض للخباثة.

أمّا على الأوّل فلعدم الحالة السابقة للطيّبيّة ، كعدم وجود الحالة السابقة للخباثة.

وأما على الثاني فلعدم حجيّة استصحاب العدم الأزلي ، فالحقّ في الجواب هو الوجه الأوّل والثاني.

(السادس : حكي عن بعض الأخباريّين كلام لا يخلو إيراده عن فائدة ... إلى آخره).

بعض الأخباريّين هو السيد الجزائري.

وحاصل كلامه : هو أنّه هل يمكن أن يعاقب عبد من عباد الله وهو يقول في موقف الحساب في الجواب : ـ إذا سئل عنه بما كنت تعمل في الأحكام الشرعية؟ ـ كنت أعمل بقول المعصوم عليه‌السلام فيما إذا وجدناه ، وبالاحتياط فيما إذا اشتبه الحكم علينا. والاستفهام إنكاري أي : لا يعقل أن يعاقب من عمل بالاحتياط ، ولا يزل قدمه عن الصراط ، ولا يقابل بالإهانة والاحباط ، بأن يؤمر به إلى النار ، ويحرم مرافقة الأبرار ، بخلاف تارك الاحتياط

٤١٠

وإلّا فالاحتياط في ترك الفتوى.

وحينئذ فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله ، فإن التفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ، وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه ، كمن احتمل أنّ فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا.

وعلى كلّ تقدير ، فلا ينفع قول الأخباريّين له : إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا قول الاصولي له : إنّ العقل يحكم بنفي البأس مع

____________________________________

والعامل بالبراءة ، فيمكن في حقّه ما ذكر ، لأنّه من أهل التسامح والتساهل في الدين ، وهيهات هيهات أن يكون أهل التسامح والتساهل ، والمراد بهم الاصوليّون في الجنة مخلدين ، وأهل الاحتياط والمراد بهم الأخباريون في النار معذبين!

والمستفاد من هذا الكلام هو أنّ الاحتياط طريق النجاة ، فيجب الالتزام به.

ويقول المصنّف قدس‌سره ردّا لهذا الكلام ما حاصله :

إنّه إن كان مراده ـ الجزائري ـ من حسن الاحتياط هو الاحتياط من حيث العمل ، فلا يخفى حسنه على العوام فضلا عن الفقهاء الأعلام ، لكون العمل بالاحتياط طريقا للنجاة ، ولكنه ليس محل الكلام كما لا يخفى ، وإن كان مراده هو الإفتاء بوجوب الاحتياط ، فلا إشكال في عدم حسنه ، لأنّ الإفتاء بوجوب الاحتياط مخالف للاحتياط ، لاحتمال حرمة الإفتاء بوجوبه وبذلك يدور الأمر بين الوجوب والتحريم ، فكيف يمكن الاحتياط في الإفتاء بوجوب الاحتياط؟ هذا على تقدير وجوب إفتاء العالم للجاهل (وإلّا) أي : وإن لم يثبت (فالاحتياط في ترك الفتوى).

وإذا كان الاحتياط بترك الفتوى أصلا يكون مرجع الجاهل عند العمل هو ما حكم به عقله ، فإن التفت بأنّ حكمه هو قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس بارتكاب المشتبه ، وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب في ارتكاب المشتبه كان مجبولا بترك المشتبه دفعا للضرر المحتمل.

(وعلى كل تقدير ، فلا ينفع قول الأخباريّين ... إلى آخره).

لأنّه يترك المشتبه بمقتضى حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.

(ولا قول الاصولي ... إلى آخره).

٤١١

الاشتباه.

وبالجملة ، فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط ، والإفتاء بوجوبه من الأخباريّين نظير الإفتاء بالبراءة من المجتهدين ، ولا متيقّن من الأمرين في البين ، ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من مفاسد ارتكاب المشتبه ، كما لا يخفى ، فما ذكره هذا الأخباري من الإنكار لم يعلم توجّهه إلى أحد ، والله العالم وهو الحاكم.

____________________________________

لأنّه يعمل بحكم عقله بقبح العقاب بلا بيان على فرض الالتفات إليه.

قوله : (والإفتاء بوجوبه من الأخباريّين نظير الإفتاء بالبراءة من المجتهدين).

دفع لما قد يتوهّم من أنّ إفتاء الأخباريّين بوجوب الاحتياط ليس من باب الاحتياط حتى يكون مخالفا للاحتياط ، بل لأدلّة الاحتياط.

وحاصل الدفع أنّ إفتاء المجتهدين بالبراءة ـ أيضا ـ يكون لأدلّة البراءة ، فيكون إفتاء الأخباريّين بوجوب الاحتياط نظير إفتاء المجتهدين بالبراءة.

قوله : (ولا متيقّن من الأمرين في البين).

دفع لما يقال : من أنّ أخذ الجاهل بما يفتي به الأخباريّون من وجوب الاحتياط أخذ بما هو المتيقّن ، وبناء على هذا يجب الأخذ به.

وحاصل الجواب قول المصنّف قدس‌سره : ولا متيقّن من الأمرين في البين ، وقد تقدّم تفصيله.

قوله : (ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من مفاسد ارتكاب المشتبه ... إلى آخره).

دفع لما يتوهّم من أنّ الإفتاء بالاحتياط ليس إلّا من جهة السلامة عن التالي الفاسد الذي يترتّب على ارتكاب المشتبه.

وحاصل الدفع ما ذكره قدس‌سره في المتن.

والوجه في ذلك : إنّ بناء الدين الإسلامي على تسهيل الامور على العباد : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١) ، وحملهم على الأثقل بوجوب الاحتياط في كلّ موارد الاشتباه يوجب التنفّر عن الدين.

(فما ذكره هذا الأخباري من الإنكار) أي : الاستفهام الانكاري (لم يعلم توجّهه إلى أحد).

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

٤١٢

المسألة الثانية

إجمال النص

ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة إجمال النصّ.

إمّا بأن يكون اللفظ الدال على الحكم مجملا ، كالنهي المجرّد عن القرينة إذا قلنا باشتراكه لفظا بين الحرمة والكراهة.

وإمّا بأن يكون الدال على متعلّق الحكم كذلك ؛

سواء كان الإجمال في وضعه كالغناء ، إذا قلنا بإجماله ، فيكون المشكوك في كونه غناء محتمل الحرمة.

أم كان الإجمال في المراد منه ، كما إذا شكّ في شمول الخمر للخمر غير المسكر ولم يكن هناك إطلاق يؤخذ به.

____________________________________

(المسألة الثانية : ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة إجمال النصّ ... إلى آخره).

والإجمال تارة : يكون في لفظ ما دلّ على التكليف. واخرى : فيما دلّ على متعلّق الحكم والتكليف.

ثمّ الأوّل على قسمين :

الأوّل : أن يكون الإجمال من جهة الهيئة بأن تكون صيغة النهي مشتركة بين الحرمة والكراهة ، ولم تكن هناك قرينة معيّنة لأحدهما.

والثاني : أن يكون الإجمال من جهة المادة ، كقول الشارع : في هذا الفعل بأس ، أو لا ينبغي أن يؤتى به ، حيث كان مفاده مردّدا بين الحرمة والكراهة ، ولم نقل بظهوره بالكراهيّة فرضا.

ثمّ إنّ الإجمال من جهة متعلّق الحكم ـ أيضا ـ على قسمين :

الأوّل : أن يكون الإجمال من جهة الوضع ، كالغناء ، حيث لا يعلم أنّه وضع للصوت المطرب ، أو الصوت المرجّع ، أو الصوت الجامع لهما ، وذلك لأنّه فسّر تارة : بالصوت المطرب ، واخرى : بالصوت المرجّع ، وثالثة : بالصوت الجامع لهما ، غاية الأمر الجامع لهما

٤١٣

والحكم في ذلك كلّه كما في المسألة الاولى ، والأدلّة المذكورة من الطرفين جارية هنا.

وربّما يتوهّم أنّ الإجمال إذا كان في متعلّق الحكم ، كالغناء وشرب الخمر الغير المسكر ، كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق الحكم ، وهو فاسد.

____________________________________

حرام يقينا ، لصدق الغناء عليه قطعا ، وكل واحد من المعنيين الأخيرين محتمل الحرمة ، فنجري فيهما البراءة.

الثاني : أن يكون الإجمال من جهة الشكّ في شمول إطلاق اللفظ لبعض أفراده الخفيّة بعد العلم بالوضع ، كالشكّ في دخول الخمر غير المسكر في المراد من قول الشارع : الخمر حرام ، فيما إذا لم يكن هناك إطلاق وإلّا فيؤخذ به.

ثمّ إن هذه الأقسام كلّها تكون من قبيل الشبهة الحكميّة فتكون داخلة في محل النزاع ، ومن المعلوم أنّ الملاك في كون الشبهة حكميّة أن تكون الشبهة ناشئة من فقدان النصّ ، أو إجماله ، أو تعارضه ، ولا شكّ في صدق الإجمال في جميع الصور المذكورة.

فتوهّم خروج ما إذا كان الإجمال في متعلّق الحكم بقسميه عن الشبهة الحكميّة ، ودخوله في الشبهة الموضوعيّة التي تسمّى بالشبهة في طريق الحكم عند الأخباريّين فاسد.

وذلك لأنّ الملاك في كون الشبهة موضوعيّة أن تكون الشبهة ناشئة من جهة الشكّ في مصاديق مفاهيم ألفاظ الخطاب بعد العلم بالوضع ، كاشتباه مصداق الخمر بين الإناءين بعد العلم بما وضع له لفظ الخمر في قول الشارع : اجتنب عن الخمر ، ولكن هذا الملاك منتف في المقام ، فتكون الشبهة حكميّة.

(والأدلّة المذكورة من الطرفين) أي : الاصولي والأخباري (جارية هنا) أي : في المسألة الثانية ، فلا يحتاج إلى تكرارها.

ويمكن الفرق بين المسألة الاولى والثانية فيما إذا قلنا باعتبار أصالة البراءة من باب الظنّ ، كما تقدّم من جماعة منهم صاحب المعالم ، إذ تجري البراءة في المسألة الاولى لتحقّق مناط الاعتبار فيها ، بخلاف المسألة الثانية لعدم جريان البراءة فيها ، وذلك لعدم حصول الظنّ بعدم الحكم بعد وجود النصّ المجمل.

وهكذا لا يجري في المقام بعض الأدلّة المتقدّمة كقوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) (١) إذ النهي قد ورد في المقام وإن كان مجملا. وعدم جريان بعض الأدلّة لا يختصّ بقول من يقول باعتبار البراءة من باب الظنّ ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧. الوسائل ٢٧ : ١٧٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٧.

٤١٤

المسألة الثالثة

تعارض النصّين

أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصّين ، وعدم ثبوت ما يكون مرجّحا لأحدهما.

والأقوى فيه ـ أيضا ـ عدم وجوب الاحتياط لعدم الدليل عليه ، عدا ما تقدّم من الوجوه المذكورة التي عرفت حالها ، وبعض ما ورد في خصوص تعارض النصّين ، مثل ما في غوالي اللآلئ من مرفوعة العلّامة رحمه‌الله إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام ، قال :

قلت : جعلت فداك! يأتي عنكم الخبران ، أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخذ؟

فقال : (يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ، واترك الشاذّ النادر).

فقلت : يا سيدي! إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم.

فقال : (خذ بما يقوله أعدلهما عندك ، وأوثقهما في نفسك).

فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان عندي.

____________________________________

(المسألة الثالثة : أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصّين ... إلى آخره).

يقول المصنّف قدس‌سره في هذه المسألة بعدم وجوب الاحتياط لعدم الدليل عليه ، إذ لا يمكن أن يستدل على وجوب الاحتياط إلّا بما تقدّم من الأدلّة الثلاثة وهي : الآيات ، والروايات ، وحكم العقل ، وقد عرفت عدم دلالتها على وجوب الاحتياط.

فيبقى الكلام في (ما ورد في خصوص تعارض النصّين ، مثل ما في غوالي اللآلئ من مرفوعة العلّامة رحمه‌الله إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام ، قال :

قلت : جعلت فداك! يأتي عنكم الخبران ، أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخذ؟

فقال : (يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ، واترك الشاذّ النادر).

فقلت : يا سيدي! إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم.

فقال عليه‌السلام : (خذ بما يقوله أعدلهما عندك ، وأوثقهما في نفسك).

فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان عندي.

٤١٥

فقال : (انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه ، وخذ بما خالفهم ، فإنّ الحقّ فيما خالفهم).

قلت : ربّما كانا موافقين لهم ، أو مخالفين لهم ، فكيف نصنع؟

قال : (فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط).

فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان ، فكيف أصنع؟

قال : (إذن فتخيّر أحدهما ، فتأخذ به وتدع الآخر) (١) ، الحديث.

____________________________________

فقال : (انظر ما وافق منهما مذهب العامة ، فاتركه ، وخذ بما خالفهم ، فإنّ الحقّ فيما خالفهم).

قلت : ربّما كانا موافقين لهم ، أو مخالفين لهم ، فكيف نصنع؟

قال : (فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط).

فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط ، أو مخالفان ، فكيف أصنع؟

قال : (إذن فتخيّر أحدهما ، فتأخذ به وتدع الآخر) ، الحديث).

ولا بدّ من البحث في هذه الرواية من جهات :

الجهة الاولى : في شرح ما يحتاج إليه من بعض مفرداتها ، أو جملها.

والجهة الثانية : في بيان دلالتها على الاحتياط ، أو التخيير.

والثالثة : في بيان عدم صحّة الاستناد إليها في إثبات الاحتياط ، أو التخيير.

أمّا البحث عن الجهة الاولى فنقول :

إنّ المراد بالخبر ما نقل عن الإمام عليه‌السلام ، وبالحديث ما نقله الإمام عليه‌السلام عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد بالشهرة هو الشهرة في الرواية فقط ، لأنّ السائل قد فرضها في طرفي المسألة حيث قال : يا سيدي إنّهما معا مشهوران ، إذ الشهرة في الفتوى لا يعقل تحقّقها في طرفي المسألة.

ثمّ فرض كونهما موافقين للعامّة بأن يكون أحدهما موافقا للمذهب الحنفي ، والآخر موافقا للمذهب الشافعي ، وفرض كونهما مخالفين لهم بأن يدلّ أحدهما على مسح الرجل ، والآخر على مسح الخف ، فيكون كلاهما مخالفا لمذهبهم ، لأنّ الواجب عندهم هو غسل الرجل ، ثمّ فرض كونهما موافقين للاحتياط ـ كما في الأوثق ـ هو أن يكون

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٤١٦

وهذه الرواية وإن كانت أخصّ من أخبار التخيير ، إلّا إنّها ضعيفة السند ، وقد طعن صاحب الحدائق فيها وفي كتاب الغوالي وصاحبه ، فقال :

«إنّ الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي ، مع ما هي عليها من الإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور» ، انتهى.

ثمّ إذا لم نقل بوجوب الاحتياط ، ففي كون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه ، أو كون الحكم الوقف ، أو التساقط والرجوع إلى الأصل ، أو التخيير بين الخبرين في أول الأمر أو دائما ،

____________________________________

أحدهما دالّا على وجوب الظهر ، والآخر على وجوب الجمعة ، وفرض كونهما مخالفين له هو أن يكون أحدهما دالّا على استحباب فعل ، والآخر على إباحته مع احتمال الوجوب فيه.

وأمّا الجهة الثانية : فقد أشار إليها بقوله :

((فخذ بما فيه الحائطة لدينك)).

وقوله : ((إذن فتخيّر أحدهما)).

حيث يكون المستفاد من الأوّل وجوب الاحتياط في باب تعارض النصّين ، ومن الثاني التخيير فيما إذا كان الخبران موافقين للاحتياط ، وعلى التقديرين ليس الحكم في باب التعارض هو البراءة ، بل إمّا الاحتياط ، أو التخيير.

وأمّا الجهة الثالثة : فقد أشار إليها بقوله : (إلّا إنّها ضعيفة السند ... إلى آخره).

وحاصل الكلام ـ كما في المتن ـ إنّ هذه الرواية ، وإن كانت أخصّ من أخبار التخيير ـ لأنّ المستفاد من سائر أخبار التخيير هو التخيير مع فقد المرجّح مطلقا ، سواء كان الاحتياط موافقا لهما أم لا ، والمستفاد من هذه الرواية هو التخيير مع موافقتهما للاحتياط ، فلو كانت معتبرة من حيث السند كانت مخصّصة لتلك الأخبار ، وبذلك يجب الأخذ بها ـ إلّا إنّها ضعيفة السند ، فلا يجوز الاستناد إليها في إثبات الاحتياط أو التخيير ، ولا يجوز تخصيص أخبار التخيير بها. هذا تمام الكلام في البحث عن المرفوعة.

(ثمّ إذا لم نقل بوجوب الاحتياط ، ففي كون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه ، أو كون الحكم الوقف ، أو التساقط والرجوع إلى الأصل ، أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر أو دائما ،

٤١٧

وجوه ، ليس هنا محلّ ذكرها ، فإنّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط ، والله العالم.

بقي هنا شيء ، وهو أنّ الاصوليّين عنونوا في باب التراجيح الخلاف في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف ، ونسب تقديم المخالف ـ وهو المسمّى بالناقل ـ إلى أكثر

____________________________________

وجوه ، ليس هنا محل ذكرها).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره أنّه لو لم نقل بوجوب الاحتياط ، لعدم الدليل عليه ، تترتّب وجوه :

منها : أن يكون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه من الخبرين المتعارضين.

ومنها : أن يكون الحكم هو التوقّف ، ثمّ الرجوع إلى أصل البراءة.

ومنها : أن يكون الحكم هو التساقط ثم الرجوع إلى أصل البراءة ، والفرق بين التوقّف والتساقط أنّ التساقط عبارة عن فرض الخبرين المتعارضين كالعدم فيرجع إلى أصل البراءة ، سواء كان موافقا لأحدهما أو مخالفا لهما معا ، إذ التساقط يوجب نفي الحجيّة عنهما ، بخلاف الوقف حيث لا يوجب نفي الحجيّة عنهما ، فلا يجوز الرجوع إلى أصل مخالف لهما.

ومنها : التخيير ، وهو على قسمين :

أحدهما : هو الابتدائي ، بأن يكون التخيير قبل الأخذ بأحدهما ، وأمّا بعد الأخذ فيجب العمل على ما أخذ به فقط.

وثانيهما : هو الاستمراري ، بأن يكون التخيير دائما ، فيجوز له أن يعمل بغير ما أخذه أولا من باب التخيير.

ثم يقول المصنّف قدس‌سره : إنّ هذه الوجوه ليس المقام محل ذكرها ، لأنّ المقصود في المقام هو نفي وجوب الاحتياط لا ذكر الوجوه والاحتمالات.

(بقي هنا شيء ، وهو أنّ الاصوليّين عنونوا في باب التراجيح الخلاف في تقديم الخبر الموافق للاصل على المخالف ... إلى آخره).

والخبر الموافق للأصل يسمّى بالمقرّر لكونه مقرّرا ومثبتا لحكم العقل بالبراءة ، والمخالف ناقلا لنقله المكلّف من حكم العقل بالبراءة إلى حكم الشرع بما يخالفه من الوجوب أو الحرمة.

٤١٨

الاصوليّين ، بل إلى جمهورهم منهم العلّامة قدس‌سره ، وعنونوا ـ أيضا ـ مسألة تقديم الخبر الدال على الإباحة على الدالّ على الحظر والخلاف فيه ، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور ، بل يظهر من المحكي عن بعضهم عدم الخلاف في ذلك.

والخلاف في المسألة الاولى ينافي الوفاق في الثانية ، كما أنّ قول الأكثر فيهما

____________________________________

ثمّ نسب تقديم المخالف في هذه المسألة إلى أكثر الاصوليّين ، بل إلى جمهورهم ومنهم العلّامة قدس‌سره.

(وعنونوا ـ أيضا ـ مسألة تقديم الخبر الدال على الإباحة على الدال على الحظر والخلاف فيه ، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور ، بل يظهر من المحكي عن بعضهم عدم الخلاف في ذلك ... إلى آخره).

يظهر من الفاضل الجواد عدم الخلاف في تقديم الحاظر على المبيح ، وقوله : عدم الخلاف ، ظاهر في الاتّفاق.

والفرق بين المسألتين أنّ الاولى خلافيّة ، والثانية اتّفاقيّة على ما يظهر من البعض.

ولكن يرد على قول الاصوليّين في هاتين المسألتين وجوه :

منها : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(والخلاف في المسألة الاولى ينافي الوفاق في الثانية).

وملخّص الإيراد : إنّ المسألة الثانية وهي تقديم الحاظر على المبيح ، فرد من أفراد المسألة الاولى ، لأنّ الناقل في المسألة الاولى ما يشمل الحاظر في الثانية ، إذ الناقل أعمّ ممّا يدلّ على الحرمة ، فيمكن أن يكون ممّا يدلّ على الوجوب ، والحاظر مختصّ بالحرمة ، وهكذا المبيح في المسألة الثانية من أفراد المقرّر في المسألة الاولى ، إذ المبيح ما دلّ على البراءة من الحرمة فقط ، والمقرّر ما دلّ على البراءة من الحرمة والوجوب ، فالمسألة الثانية داخلة في الاولى ، وحينئذ يجب أن يكون حكمهما واحدا.

ولا معنى لأن يكون تقديم الحاظر على المبيح وفاقيّا ، وتقديم الناقل على المقرّر خلافيّا ، بل كل من يقول بتقديم الحاظر على المبيح في المسألة الثانية يجب عليه أن يقول بتقديم الناقل على المقرّر في المسألة الاولى ، وبالعكس.

ومنها : ما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

٤١٩

مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ، بل التخيير ، أو الرجوع إلى الأصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريّين والبراءة عند المجتهدين حتى العلّامة ، مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير.

ويمكن أن يقال : إنّ مرادهم من الأصل في الناقل والمقرّر أصالة البراءة من الوجوب لا أصالة الإباحة ، فيفارق مسألة تعارض المبيح والحاظر ، وأنّ حكم أصحابنا بالتخيير أو الاحتياط لأجل الاخبار الواردة ، لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما فيفارق

____________________________________

(كما أنّ قول الأكثر فيهما مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ، بل التخيير ، أو الرجوع إلى الاصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريّين والبراءة عند المجتهدين).

فيرجع الإيراد الثاني إلى مخالفة قولهم لعملهم ، والتنافي بين القول والعمل لا ينبغي من الجاهلين المؤدّبين فضلا عن الفقهاء المجتهدين.

ومنها : ما أشار إليه بقوله :

(مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير).

وحاصل هذا الإيراد هو ردّ حصر قول الأصحاب في القولين المذكورين في كلتا المسألتين ، لأنّ جماعة منهم لم يقولوا في المسألة الاولى بتقديم الناقل ولا في الثانية بتقديم الحاظر ، وهكذا لم يقولوا في المسألة الاولى بتقديم المقرّر ولا في الثانية بتقديم المبيح ، بل ذهبوا فيهما إلى التخيير ، فحصر قولهم في المسألتين في قولين ليس في محلّه.

(ويمكن أن يقال : إنّ مرادهم من الأصل في) مسألة(الناقل والمقرّر أصالة البراءة من الوجوب لا أصالة الإباحة ... إلى آخره).

أي : ويمكن الجواب عن الإيراد الأوّل بالفرق بين المسألة الاولى والثانية ، بأنّ الشبهة في المسألة الاولى وجوبيّة وفي المسألة الثانية تحريميّة.

فحينئذ لا يتنافى الخلاف في الاولى مع الوفاق في الثانية على فرض الوفاق فيها ، وعلى تقدير عدم الاتّفاق في المسألة الثانية ـ كما هو كذلك ـ فلا إشكال في الأوّل.

والجواب عن الإيراد الثاني قد أشار إليه بقوله :

(وأنّ حكم أصحابنا بالتخيير أو الاحتياط لأجل الأخبار الواردة ... إلى آخره).

٤٢٠