دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ موارد الاصول قد تتداخل ، لأنّ المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة المتيقّنة السابقة ، ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودة.

ثمّ إنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل بإشباعه في مقامين :

أحدهما : حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة الراجع إلى الاصول الثلاثة.

الثاني : حكمه بملاحظة الحالة السابقة وهو الاستصحاب.

أمّا المقام الأوّل : وهو حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة ، فيقع الكلام فيه في موضعين ؛ لأنّ الشكّ :

إمّا في نفس التكليف ، وهو النوع الخاصّ من الإلزام وإن علم جنسه ، كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم.

____________________________________

الشك في المكلّف به ، فلا يرد عليه ما ورد في أول الكتاب من عدم اختصاص البراءة بالشك في أصل التكليف ، كما لا يختصّ الاحتياط بالشك في المكلّف به.

(وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ موارد الاصول قد تتداخل).

بمعنى : أنّه يمكن أن يكون المورد الواحد موردا لأصلين كالاستصحاب والبراءة مثلا ، وذلك لأنّ مناط الاستصحاب وإن كان ملاحظة الحالة السابقة المتيقّنة إلّا أنّ مدار الثلاثة الباقية هو عدم ملاحظتها لا ملاحظة عدم الحالة السابقة حتى لا يمكن اجتماعها مع الاستصحاب موردا ، وحينئذ يمكن تداخل الثلاثة مع الاستصحاب موردا ، فتأمّل جيدا.

(ثمّ إنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل بإشباعه في مقامين :

أحدهما : حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة الراجع إلى الاصول الثلاثة.

الثاني : حكمه بملاحظة الحالة السابقة ، وهو الاستصحاب).

وملخّص الكلام أنّه يقع البحث عن الاصول الأربعة في مقامين :

المقام الأول : يبحث فيه عن الاصول الثلاثة التي لم تلحظ فيها الحالة السابقة.

والمقام الثاني : يبحث فيه عن الاستصحاب فقط.

أمّا المقام الأول فيقع الكلام فيه في موضعين :

٢٠١

وإمّا في متعلّق التكليف مع العلم بنفسه ، كما إذا علم وجوب شيء وشك بين تعلّقه بالظهر والجمعة ، أو علم وجوب فائتة وتردّد بين الظهر والمغرب.

____________________________________

الموضع الأول : يبحث فيه عن حكم الشك في نفس التكليف ، أي : النوع الخاص من الإلزام ، كالإلزام والتكليف المردّد بين الوجوب والحرمة.

والموضع الثاني : هو ما يبحث فيه عن حكم الشك في متعلّق التكليف ، كتردّد متعلّق الوجوب بعد العلم به بين الظهر والجمعة.

* * *

٢٠٢

المقام الأول

حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة

الموضع الأول : الشك في نفس التكليف

والموضع الأول [وهو الشك في نفس التكليف] يقع الكلام فيه في مطالب ، لأنّ التكليف المشكوك فيه ؛ إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ، وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ، وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب ، [لأنّ التكليف المشكوك فيه إمّا إيجاب مشتبه بغيره وإما تحريم كذلك ، ص] ، وصور الاشتباه كثيرة.

____________________________________

(والموضع الأول : [وهو الشك في نفس التكليف] يقع الكلام فيه في مطالب) ثلاثة :

الأول : يقع الكلام في تحريم المشتبه بغير الوجوب.

والثاني : يقع الكلام في وجوب المشتبه بغير التحريم.

والثالث : يقع الكلام في تحريم المشتبه بالوجوب.

ثمّ إن صور الاشتباه وإن كانت كثيرة إلّا إنّ المطالب الثلاثة شاملة لجميع الصور المتصوّرة في الموضع الأول وذلك لإمكان فرض صور وأقسام في كلّ مطلب من المطالب الثلاثة ، كما سنبين إن شاء الله تعالى ، فنضع لصور كلّ مطلب من المطالب الثلاثة جدولا تسهيلا لفهم المحصلين ، فعليك بالجداول :

٢٠٣

____________________________________

جدول المطلب الأول

الصور المتصوّرة في المطلب الأول وهو التحريم المشتبه بغير الوجوب

فإذا أردت أن تضرب صور الاشتباه وهي سبعة في منشأ الاشتباه وهو أربعة تكون النتيجة ثمانية وعشرون.

٢٠٤

____________________________________

جدول المطلب الثاني

الصور المتصوّرة في المطلب الثاني وهو الوجوب المشتبه بغير التحريم

فإذا أردت أن تضرب صور الاشتباه وهي سبعة في منشأ الاشتباه وهي سبعة في عدد منشأ الاشتباه وهو أربعة تكون النتيجة ثمانية وعشرون.

٢٠٥

____________________________________

جدول المطلب الثالث

الصور المتصوّرة في المطلب الثالث وهو اشتباه التحريم بالوجوب

وإذا شئت ان تضرب صور الاشتباه وهي ثمانية في عدد منشأ الاشتباه وهو أربعة فتكون النتيجة اثنان وثلاثون.

فالصور الحاصلة من المطالب الثلاثة هي ثمانية وثمانون وقد أشار إليها بقوله : وصور الاشتباه كثيرة.

٢٠٦

____________________________________

جدول الأمثلة والأحكام

ولا يخفى أن هذه الجداول مبينة لما في الشك في التكليف فقط من الصور والأمثلة والأحكام.

٢٠٧

وهذا مبنيّ على اختصاص التكليف بالإلزام أو اختصاص الخلاف في البراءة

____________________________________

وينبغي التنبيه على امور :

منها : إنّ ظاهر كلام المصنّف قدس‌سره في المطلب الثالث حيث قال : وأمّا تحريم المشتبه بالوجوب ، وإن كان هو دوران الأمر بين التحريم والوجوب فقط ، فينحصر في التركيب الثنائي الواحد ، ولا يحتاج إلى الجدول ، إلّا أنّه لا يمنع عن احتمال غيرهما معهما أيضا ، فحينئذ يحتاج إلى الجدول كالمطلب الأول والثاني ، ولهذا قد أضفنا إلى التركيب الثنائي ما يمكن فرضه فيه من التركيب الثلاثي والرباعي والخماسي كما تقدم في الجدول الثالث.

ومنها : إنّ المراد من الصور الصحيحة الحاصلة من كلّ جدول هي ما يشتمل على الحكم الإلزامي حتى يصحّ الحكم بالبراءة فيه ، لأنّ البراءة عبارة عن رفع ما فيه المشقّة والتضييق على المكلّف ، فتخصّص بالحكم الإلزامي ، إذ لا مشقّة في غيره حتى يرفع بها.

ومنها : إنّ ما ذكرنا في بيان صور الاشتباه من الاحتمالات المذكورة في الجدول أولى ممّا في شرح الاعتمادي ، حيث جعل اشتباه الإباحة مع الاستحباب من جملة الصور والاحتمالات ، مع أنّ البراءة لا تجري في الحكم المشتبه إذا لم يكن إلزاميا ، ولهذا أسقطنا صور الاشتباه التي لم تكن مشتملة على الحكم الإلزامي.

الّا أن يقال : إن التكليف في اللغة وإن كان بمعنى الإلقاء في المشقّة ؛ لأنّه مأخوذ من الكلفة ، فلا يصدق على الحكم غير الإلزامي لعدم المشقّة فيه إلّا أنّه في الاصطلاح يكون أعمّ من ذلك.

(وهذا مبنيّ على اختصاص التكليف بالإلزام ، أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به).

أي : ما ذكرنا ـ من حصر عنوان الاشتباه في المطالب الثلاثة أي : ١ ـ تحريم المشتبه بغير الوجوب ٢ ـ ووجوب المشتبه بغير التحريم ٣ ـ وتحريم المشتبه بالوجوب ـ مبنيّ على أحد أمرين :

أحدهما : هو اختصاص التكليف في الشك فيه بالحكم الإلزامي ، كالتحريم والوجوب لثبوت المشقّة والكلفة فيهما فقط ، ومقتضى أدلة البراءة هو رفع الكلفة المحتملة ، كما أن مقتضى أدلة الاحتياط هو ثبوت الكلفة المحتملة.

٢٠٨

والاحتياط به ، فلو فرض شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام ، فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

____________________________________

وثانيهما : هو اختصاص النزاع والخلاف في البراءة والاحتياط بالحكم الإلزامي وإن كان التكليف شاملا للاستحباب والكراهة ـ أيضا ـ في الاصطلاح.

(فلو فرض شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام ... إلى آخره).

لو سلّم جريان الخلاف والنزاع في الاستحباب والكراهة وعدم اختصاصه بالحكم الإلزامي ، يظهر ويعلم حكمهما ممّا تقدم في التحريم والوجوب فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

فيأتي في الكراهة والاستحباب جميع ما تقدم في التحريم والوجوب من المطالب الثلاثة بجميع صورها وأقسامها في ضمن الجداول المذكورة.

غاية الأمر : يوضع مكان التحريم الكراهة ، ومكان الوجوب الاستحباب ، فتنقلب الشبهة التحريمية إلى الشبهة الكراهية ، والوجوبية إلى الاستحبابية ، حينما يقال : الكراهة المشتبهة بغير الاستحباب أو الاستحباب المشتبه بغير الكراهة ، أو الكراهة المشتبه بالاستحباب ، وحكم الأخير هو حكم دوران الامر بين التحريم والوجوب ، كما أن حكم الشبهة الكراهية هو حكم الشبهة التحريمية ، وحكم الشبهة الاستحبابية هو نفس الحكم في الشبهة الوجوبية.

وحينئذ تتمكن أن تخرج صور الاشتباه المتصوّرة لكلّ مطلب من المطالب الثلاثة في المقام بالرجوع إلى الجداول المتقدمة ، فلا حاجة في استخراجها إلى وضع الجداول الجديدة ، كما هو واضح.

فالصور الحاصلة من الجداول المذكورة ، وهي : اثنان وعشرون بغير الضرب ، وثمانية وثمانون مع الضرب تأتي في المقام أيضا.

وعلى هذا يكون مجموع صور الاشتباه من دون الضرب أربعة وأربعين ، ومع ضربها في منشأ الاشتباه الأربع يكون حاصله مائة وستة وسبعين ، وهذا بخلاف ما في شرح الاعتمادي حيث جعل صور الاشتباه ستة وعشرين ، فيكون مع ضربها في منشأ الاشتباه

٢٠٩

ثمّ متعلّق التكليف المشكوك ؛ إمّا أن يكون فعلا كلّيّا متعلّقا للحكم الشرعي الكلّي كشرب التتن المشكوك في حرمته ، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه ، وإمّا أن يكون فعلا جزئيّا متعلّقا للحكم الجزئي ، كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا ، ومنشأ الشك في القسم الثاني اشتباه الامور الخارجيّة.

ومنشؤه في الأوّل ؛ إمّا عدم النصّ في المسألة ، كمسألة شرب التتن ، وإمّا أن يكون إجمال النصّ ، كدوران الأمر في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١) ، بين التشديد والتخفيف مثلا ، وإمّا

____________________________________

مائة وأربعة فقط.

(ثمّ متعلق التكليف المشكوك ؛ إمّا أن يكون فعلا كلّيّا متعلّقا للحكم الشرعي الكلّي كشرب التتن المشكوك في حرمته ، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه).

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره يكون في بيان الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية. وحاصل الفرق بينهما :

أولا : إنّ متعلّق التكليف في الشبهة الحكمية هو كنفس الحكم كلّي ، كشرب التتن في الشبهة التحريمية ، والدعاء عند رؤية الهلال في الشبهة الوجوبية بخلاف الشبهة الموضوعية حيث يكون متعلّق الحكم كنفسه جزئيا ، كشرب هذا المائع المعيّن المحتمل كونه خمرا.

وثانيا : ما أشار إليه بقوله : (ومنشأ الشك في القسم الثاني) أي : ما يكون متعلّق الحكم فيه فعلا جزئيا(اشتباه الامور الخارجية) أي : يكون منشأ الاشتباه في الشبهة الموضوعية هي الامور الخارجية ، كشباهة المائع المعيّن بالخمر مثلا.

(ومنشؤه في الأول) أي : فيما إذا كان متعلّق التكليف فعلا كلّيا ، وهو الشبهة الحكميّة (إمّا عدم النص) ، كشرب التتن (وإمّا أن يكون إجمال النصّ ، كدوران الأمر في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بين التشديد) الظاهر في تحصيل الطهارة والاغتسال ، (و) بين (التخفيف) الظاهر في النقاء وانقطاع الدم ، فيكون مجملا على القول بعدم تواتر القراءات ، وعدم جواز الاستدلال بكلّ قراءة.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

٢١٠

أن يكون تعارض النصّين ، ومنه الآية المذكورة بناء على تواتر القراءات.

وتوضيح أحكام هذه الأقسام في ضمن مطالب :

الأول : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية.

الثاني : دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم.

الثالث : دورانه بين الوجوب والتحريم.

____________________________________

(وإمّا أن يكون تعارض النصّين).

أي : إمّا أن يكون منشأ الشك في الشبهة الحكمية تعارض النصّين (ومنه الآية) والآية يمكن أن تجعل مثالا لتعارض النصّين على القول بتواتر القراءات ، أو على القول بجواز الاستدلال بكل قراءة وإن لم تكن متواترة ، وذلك لأنّ مقتضى القراءة بالتشديد منطوقا هو حرمة المقاربة إلى تحصيل الطهارة ، ومقتضى مفهومها هو جوازها بعد الاغتسال ، ومقتضى القراءة بالتخفيف منطوقا هو حرمة المقاربة إلى النقاء وانقطاع الدم ، فيكون مفهومها هو الجواز بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل ، فيقع التعارض بين منطوق القراءة بالتشديد حيث يدل على الحرمة قبل الاغتسال ، وبين مفهوم القراءة بالتخفيف حيث يقتضي الجواز بعد النقاء وقبل الاغتسال ، فالشك في حرمة المقاربة بعد النقاء وقبل الاغتسال يكون لأجل التعارض.

(وتوضيح أحكام هذه الأقسام) المذكورة في منشأ الشك والاشتباه وهي أربعة ، كما تقدم تفصيلها(في ضمن مطالب) وهي ثلاثة على ما هو مذكور في المتن ، فنضرب الأقسام الأربعة في المطالب الثلاثة ثمّ تؤخذ النتيجة وهي اثنا عشر ، فكل مطلب من المطالب الثلاث يرجع إلى أربع مسائل باعتبار منشأ الاشتباه حيث يكون أربعا.

* * *

٢١١

المطلب الأول

فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب

فالمطلب الأوّل : فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب.

وقد عرفت أنّ متعلّق الشك ، تارة : الواقعة الكلّيّة ، كشرب التتن. ومنشأ الشك فيه عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه ، واخرى : الواقعة الجزئيّة ، فهاهنا أربع مسائل :

المسألة الاولى : ما لا نصّ فيه

وقد اختلف فيه على ما يرجع إلى قولين :

أحدهما : إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الاحتياط بالترك.

والثاني : وجوب الترك ويعبّر عنه بالاحتياط ، والأوّل منسوب إلى المجتهدين ، والثاني إلى معظم الأخباريّين.

وربّما نسب إليهم أقوال أربعة : التحريم ظاهرا ، والتحريم واقعا ، والتوقّف ، والاحتياط ،

____________________________________

ففي المطلب الأول وهو الشبهة التحريمية أربع مسائل :

(المسألة الاولى : ما لا نصّ فيه ، وقد اختلف فيه على ما يرجع إلى قولين).

التعبير بما يرجع إلى قولين إشارة إلى ضعف قول ثالث ، وهو ما نسب إلى المحقّق قدس‌سره في المعارج حيث قال بالتفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، فتجري البراءة في الأول دون الثاني ، ويأتي وجه الضعف لهذا القول.

(أحدهما : إباحة الفعل شرعا) وهو معنى البراءة.

(والثاني : وجوب الترك) وهو معنى الاحتياط.

(والأول منسوب إلى المجتهدين) والاصوليين.

(والثاني إلى معظم الأخباريين ، وربّما نسب إليهم) أي : إلى الأخباريين (أقوال أربعة : التحريم ظاهرا ، والتحريم واقعا ، والتوقّف ، والاحتياط ، ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار

٢١٢

ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان.

ويحتمل الفرق بينها وبين بعضها من وجوه أخر تأتي بعد ذكر أدلّة الأخباريّين.

____________________________________

العنوان).

أي : ليس من البعيد أن يكون اختلافهم ناشئا عن اختلاف عنوان ما استدلوا به من الأخبار ، وبذلك لا يكون هذا الاختلاف كاشفا عن اختلافهم في المذهب والرأي ؛ وذلك لأنّ من تمسك بأخبار التوقّف قال بالتوقّف ، ومن استدل بأخبار الاحتياط قال به ، ومن تمسك بأخبار الأمر بالاجتناب عن الشبهة مقدمة لترك الحرام الواقعي قال بالتحريم ظاهرا ، ومن استدل بأخبار الأمر بالاجتناب عن الشبهة بما هي هي قال بالتحريم واقعا ، باعتبار كون التحريم حكما واقعيا لها بالواقعي الثانوي ، والمقصود من الجميع هو نفي البراءة ردّا على المجتهدين.

* * *

٢١٣

البراءة

أدلة البراءة من الكتاب

احتجّ للقول الأوّل بالأدلّة الأربعة :

فمن الكتاب آيات :

منها : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١).

قيل : دلالتها واضحة.

وفيه : إنّها غير ظاهرة ، فإنّ حقيقة الايتاء الإعطاء.

____________________________________

أدلة القائلين بالبراءة : استدلّوا بالأدلة الأربعة : (فمن الكتاب آيات ، منها : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) قيل : دلالتها واضحة).

نسب القول بوضوح دلالة هذه الآية على البراءة إلى صاحب الفصول.

ثمّ إن دلالتها عليها مبنيّة على أن يكون المراد من الموصول ـ وهو «ما» ـ التكليف ، ومن «الايتاء» إعلامه وإيصاله إلى المكلّف ، فيكون معنى الآية حينئذ : لا يكلّف الله أحدا إلّا بما أوصله إليه من التكليف ، فالتكليف الذي لم يصل إلى المكلّف مرفوع عنه. فتكون دلالة الآية على البراءة على هذا الاحتمال واضحة ، إلّا أن هذا الاحتمال ينافي مورد الآية ، كما يأتي في كلام المصنّف قدس‌سره فلا يمكن أن يكون المراد بالموصول هو التكليف.

(وفيه : إنّها غير ظاهرة)

ويرد في الاستدلال بهذه الآية بأنّها لا تدلّ على البراءة أصلا ، ويتضح ما يرد على هذا الاستدلال بعد تقديم مقدمة وهي :

إنّ في الموصول أربع احتمالات :

منها : ما تقدم بأن يكون المراد منه التكليف.

__________________

(١) الطلاق : ٧.

٢١٤

فإمّا أن يراد بالموصول المال ، بقرينة قوله تعالى قبل ذلك : (مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) فالمعنى : إنّ الله سبحانه لا يكلّف العبد إلّا دفع ما اعطي من المال.

وإمّا أن يراد نفس فعل الشيء أو تركه ، بقرينة إيقاع التكليف عليه ، فإعطاؤه كناية عن الإقدار عليه ، فتدلّ على نفي التكليف بغير المقدور ، كما ذكره الطبرسي رحمه‌الله. وهذا المعنى أظهر وأشمل ؛ لأنّ الإنفاق من الميسور داخل في ما آتاه الله.

____________________________________

ومنها : أن يكون المراد به المال بقرينة قوله تعالى قبل ذلك : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي : ضيّق عليه رزقه (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١).

ومقتضى وحدة السياق ورعاية التناسب بين هذه الآية وما قبلها هو أن يكون المراد بالموصول : المال ، وبالايتاء : الاعطاء ، فيكون معنى الآية حينئذ : لا يكلّف الله عبده إلّا دفع مال أعطاه ، وتقدير الدفع قبل المال ؛ لأنّ المال يكون من الأعيان الخارجية لا يتعلّق بها التكليف ، إذ التكليف يتعلّق بالأفعال ، وحينئذ تكون الآية الشريفة أجنبية عن المقام كما لا يخفى.

ومنها : أن يكون المراد بالموصول مطلق ما يصدر من المكلّف من فعل أو ترك بقرينة إيقاع التكليف عليه ، والتكليف لا يقع ولا يتعلّق إلّا بما يصدر عن المكلّف ، وحينئذ يكون الإيتاء كناية عن الإقدار على ما صدر عن المكلّف ، فيكون معنى الآية : إنّ الله تعالى لا يكلّف العبد بفعل شيء أو تركه إلّا ما أقدره عليه ، وبذلك تكون الآية أجنبية عن المقام كالاحتمال الثاني ؛ لأنّها تدل على نفي التكليف بغير المقدور ، ولا تدل على نفيه من دون البيان.

ثمّ إن المصنّف قدس‌سره يقول : (وهذا المعنى أظهر ، وأشمل).

أي : إن المعنى الثاني في كلامه أظهر من المعنى الأول لعدم احتياجه إلى التقدير ، وأشمل منه لشموله المعنى الأول كما هو واضح في المتن.

ومنها : أن يكون المراد بالموصول ما هو الجامع بين المعاني المذكورة ، وبالإيتاء ما هو

__________________

(١) الطلاق : ٧.

٢١٥

وكيف كان ، فمن المعلوم أنّ ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور ، وإلّا لم ينازع في وقوع التكليف به أحد من المسلمين وإن نازعت الأشاعرة في إمكانه.

نعم ، لو اريد من الموصول نفس الحكم والتكليف كان إيتاؤه عبارة عن الإعلام به ، لكن إرادته بالخصوص تنافي مورد الآية ، وإرادة الأعمّ منه ومن المورد تستلزم استعمال الموصول في معنيين.

____________________________________

الجامع بين الإيصال والإعطاء والإقدار ، وبعبارة اخرى : أن يكون المراد بالإيتاء هو الإعطاء ، ولكن الإعطاء يختلف ، لأنّ إعطاء كلّ شيء بحسبه ، فإعطاء التكليف يكون بالإيصال والإعلام ، وإعطاء المال بالتمليك ، وإعطاء ما يصدر عن المكلّف بالإقدار ، وبهذا تشمل الآية المقام أيضا ، وتدل على البراءة على فرض إمكان وجود الجامع بين المعاني المذكورة.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك أن الآية يمكن الاستدلال بها على البراءة على فرض صحة الاحتمال الأول والرابع دون الاحتمال الثاني والثالث كما لا يخفى.

ثمّ إن الظاهر منها بقرينة المورد هو الاحتمال الثاني ، ثمّ الثالث ، ولا يمكن حملها على الاحتمال الأول والرابع ، لأنّ الاحتمال الأول مناف لموردها ، كما أشار إليه بقوله :

(لكن إرادته بالخصوص تنافي مورد الآية).

أي : إرادة التكليف بالخصوص من الموصول يكون منافيا لمورد الآية ، لأنّه مختصّ بالمال ، والاحتمال الرابع مستلزم لاستعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ، وهو وقد أشار إليه بقوله : (وإرادة الأعمّ منه ومن المورد تستلزم استعمال الموصول في معنيين).

إذ لا جامع بين المال والتكليف ، وذلك لأنّ الموصول إذا كان بمعنى التكليف كان مفعولا مطلقا للفعل ، أي : لا يكلّف الله نفسا إلّا تكليفا ، وإذا كان بمعنى المال كان مفعولا به ، ومن الواضح عدم الجامع بينهما لأنّ المفعول المطلق يكون من شئون الفعل ، فيكون متأخرا عنه ، والمفعول به يكون ممّا وقع عليه الفعل ، فلا بدّ أن يكون متقدما عليه ، فلا يعقل الجامع بين المعنيين.

وكيف كان ، فإنّ الاستدلال بالآية على البراءة يكون مبنيّا على الاحتمال الأول والرابع اللذين لا يمكن حمل الآية عليهما.

٢١٦

إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه ، فافهم.

نعم ، في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : هل كلّف الناس بالمعرفة؟ قال : (لا ، على الله البيان (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١) و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(٢)) (٣).

____________________________________

(فافهم) لعلّه إشارة إلى عدم صحة الاستدلال بالآية على البراءة حتى على فرض الجامع في جانب الموصول والصلة ، بأن يكون المراد بالموصول هو الشيء الشامل للمعاني الثلاثة المذكورة ، وبالإيتاء هو الإيصال والاعطاء الشامل للإعلام والإعطاء والإقدار ، لأنّ إيصال كل شيء بحسبه كما تقدم ، ويكون المراد بالتكليف والحكم ـ حينئذ ـ هو مرتبة الإنشاء لا مرتبة الفعلية والتنجّز ، لأنّ الآية ظاهرة في الاحتمال الثاني ـ كما تقدم ـ وليست ظاهرة في الاحتمال الرابع ، ومع عدم الظهور لا ينفع وجود الجامع ، إذ الواجب هو الأخذ بالظواهر دون المحتملات ، والاحتمال الرابع هو مخالف للظاهر فلا يجوز الأخذ به.

وبالجملة ، إن ما تكون الآية ظاهرة فيه من الاحتمال الثاني والثالث غير مناسب لما نحن فيه أصلا ، وما يكون مناسبا للمقام غير مفيد ، لكونه مخالفا للظاهر.

(نعم ، في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : هل كلّف الناس بالمعرفة؟ قال : (لا ، على الله البيان (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)).

والمستفاد من هذه الرواية هو أن المراد بالموصول هو التكليف ، فهذه الرواية ذكرها المصنّف قدس‌سره تأييدا لإرادة المعنى الأول من الموصول وهو التكليف ؛ وذلك لأنّ الإمام عليه‌السلام سئل عن تكليف الناس بالمعرفة الكاملة من دون البيان ، فقال عليه‌السلام في الجواب بما حاصله : من أنّه لا تجب المعرفة الكاملة على الناس قبل البيان ، بل على الله البيان بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، ثمّ استدل الإمام عليه‌السلام على عدم وجوب المعرفة بالآيتين

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) الطلاق : ٧.

(٣) الكافي ١ : ١٦٣ / ٥.

٢١٧

لكنّها لا تنفع في المطلب ، لأن نفس المعرفة بالله غير مقدور قبل تعريف الله سبحانه ، فلا يحتاج دخولها في الآية إلى إرادة الإعلام من الإيتاء في الآية. وسيجيء زيادة توضيح لذلك في ذكر الدليل العقلي إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكرنا يظهر حال التمسّك بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١).

ومنها : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٢).

____________________________________

المذكورتين ، فيعلم من استشهاده بالآيتين على نفي التكليف بالمعرفة من دون البيان أنّ المراد بالموصول هو التكليف ، فيكون معنى الآية ـ حينئذ ـ لا يكلّف الله نفسا إلّا تكليفا بيّنه لها ، سواء كان التكليف متعلّقا بالامور الاعتقادية كمعرفة الله تعالى كما في مورد الرواية أو بالأفعال كما في المقام.

ثمّ أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا التأييد بقوله : (لكنّها لا تنفع في المطلب).

أي : ما ورد في الرواية لا ينفع في إثبات المطلب ، وهو نفي التكليف من دون البيان ، بل ما ورد فيها يناسب المعنى الثالث للموصول ، وهو نفي التكليف بغير المقدور ، لأنّ نفس المعرفة بالله تعالى غير مقدور قبل البيان وقبل تعريف الله تعالى ، فلا يكون استشهاد الإمام عليه‌السلام بالآية دليلا على نفي التكليف من دون بيان ، بل يكون دليلا على نفي التكليف بغير المقدور ، ويكون المراد من الإيتاء الإقدار.

(وممّا ذكر يظهر حال التمسّك بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)).

إذ هذه الآية نصّ في نفي التكليف بغير المقدور ، فلا ترتبط بالمقام أصلا ، لأنّ ترك محتمل الحرمة مقدور ، فلا يكون مشمولا للآية.

(ومنها قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)).

وملخص تقريب الاستدلال بهذه الآية على البراءة هو أنه تعالى قد أخبر بعدم التعذيب والعقاب قبل بعث الرسل وإتمام الحجّة ، فبعث الرسل كناية عن بيان الأحكام وإيصالها إلى المكلّفين ، فيكون معنى الآية : أنّه تعالى لا يؤاخذهم على مخالفة التكليف المجهول غير الواصل إليهم ، فتدلّ على رفع العقاب في مورد الجهل بالتكليف الإلزامي وهو المطلوب

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) الإسراء : ١٥.

٢١٨

بناء على أن بعث الرسول كناية عن بيان التكليف ، لأنّه يكون به غالبا ، كما في قولك : لا

____________________________________

عند الاصولي ؛ وذلك لأنّ رفع العقاب مستلزم لرفع التكليف الفعلي عن المكلّف وهو معنى البراءة.

إلّا أن هذا التقريب مخالف لظاهر الآية ، لأنّ الرسول ظاهر في الرسول الظاهري ، فبعث الرسول يكون كناية عن بيان الأحكام بالنقل فقط ، لا عن مطلق البيان الشامل للبيان العقلي ، فيكون معنى الآية ـ حينئذ ـ هو جريان البراءة في صورة انتفاء البيان النقلي فقط ، وإن كان هناك بيان من العقل مع أنّ الحقّ عند الاصوليين هو عدم جريان البراءة في مورد وجود بيان من العقل ، بل الحكم هو الاشتغال.

وبالجملة ، إنّ جريان البراءة لا يختصّ بانتفاء البيان النقلي ، بل يجري في مورد انتفاء البيان مطلقا ، وإلّا فالحكم هو الاشتغال ، وظاهر الآية هو اختصاص جريان البراءة في مورد انتفاء البيان بالنقل ، ولا وجه لهذا الاختصاص ، بل الحق أنّ الله لا يعذب المكلّفين قبل البيان مطلقا سواء كان بالنقل أو العقل ، ويعذبهم بمخالفة التكليف بعد البيان مطلقا ، وبذلك يظهر أنّ الاستدلال بالآية على ظاهرها غير تام ، إلّا أن تقدر جملة معطوفة على جملة (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) حتى يكون معنى الآية ـ حينئذ ـ وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولا ، أو يحكم العقل ، فالله لا يعذب المكلّفين قبل البيان بالنقل أو العقل ، وبذلك يتمّ الاستدلال بها ، إلّا أن التقدير مخالف للأصل.

وقد أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الإشكال بوجوه :

الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : (بناء على أن بعث الرسول كناية ، عن بيان التكليف).

وهذا الوجه يرجع إلى الالتزام بتعميم الرسول حتى يشمل العقل لأنّه رسول من الباطن ، فيكون ـ حينئذ ـ بعث الرسول كناية عن مطلق بيان الأحكام للأنام وإتمام الحجّة عليهم ، كما تقدم في تقريب الاستدلال.

غاية الأمر : ذكر السبب الخاص ـ وهو الرسول ـ الظاهر في الرسول الظاهري يكون من باب أنه أغلب الأفراد ، إذ بيان التكليف يقع به غالبا.

والحاصل إنّ بعث الرسول كناية عن بيان التكليف مطلقا ، كما أن التعليق بالأذان في قولك : لا أبرح من هذا المكان حتى يؤذّن المؤذّن كناية عن دخول الوقت وذلك لغلبة

٢١٩

أبرح من هذا المكان حتى يؤذّن المؤذّن ، كناية عن دخول الوقت ، أو عبارة عن البيان النقلي ، ويخصّص العموم بغير المستقلّات ، أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب إلّا مع اللطف بتأييد العقل بالنقل وإن حسن الذمّ ، بناء على أنّ منع اللطف يوجب قبح العقاب دون الذمّ ، كما صرّح به البعض. وعلى أيّ تقدير فتدلّ على نفي العقاب قبل البيان.

____________________________________

وقوعه عند دخول الوقت.

والوجه الثاني : هو الالتزام ببقاء الآية على ظاهرها ، ثمّ القول بتخصيصها بما دلّ على اعتبار العقل ، فيكون معناها : وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولا ، إلّا في ما حكم به العقل مستقلا ، كوجوب شكر المنعم مثلا ، وبذلك تكون النتيجة نفي التعذيب والعقاب عند انتفاء البيان مطلقا أي : بالنقل والعقل ، وهو المطلوب عند الاصولي ، وقد أشار إليه بقوله : (أو عبارة عن البيان النقلي ، ويخصّص العموم بغير المستقلّات).

والوجه الثالث : وهو أن تبقى الآية على ظاهرها كالوجه الثاني ، ولكن من دون التزام التخصيص فيها بأن يقال : إنّ الآية تنفي فعليّة العقاب عند انتفاء البيان النقلي ، فيكون المعنى هو أن فعليّة العذاب موقوفة على البيان النقلي ، فتنتفي بانتفائه ، ولا يكفي فيها البيان العقلي ، وإن كان كافيا في استحقاق العذاب ، وبذلك يكون حجّة كالنقل.

والحاصل هو الالتزام بوجوب تأكيد العقل بالنقل في فعليّة العذاب ، وإلّا فلا يكون العذاب فعليّا من باب اللطف والرحمة من الله تعالى ، وقد أشار إليه بقوله :

(أو يلتزم بوجوب التأكيد ... إلى آخره).

ويكون معنى الآية : إن الله تعالى لا يعذب ولا يعاقب فعلا بمجرد بيان من العقل ، بل يعذّب بعد تأييد العقل بالنقل ، وأمّا استحقاق العقاب فيكفي فيه مطلق البيان ، وعلى جميع التقادير الثلاثة تدل الآية على نفي العقاب قبل البيان المستلزم لنفي التكليف من دون البيان ، وهو المطلوب عند الاصولي ، وهذا ما تشترك فيه جميع الوجوه الثلاثة.

ولكنها تفترق من جهة أن الوجه الأول دليل على إثبات الملازمة بين العقل والشرع ، فيكون ردّا على القول بإنكارها.

والوجه الثاني دليل للقول بإنكار الملازمة ، فيكون ردّا على القول بإثباتها.

والوجه الثالث دليل لإثبات الملازمة في مرحلة استحقاق العقاب دون فعليّته ، فالعقل

٢٢٠