موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

وكتب إلى كسرى :

وكسرى معرّب كلمة «خسرو» بالفارسية بمعنى العظيم ، وليس علما لأحدهم وإنّما هو لقب عام للملوك الساسانيين. وكسرى هذا الذي كتب إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو خسرو پرويز بن هرمز الساساني كما سيلي :

روى الطبري عن ابن اسحاق ـ وليس في السيرة ـ عن يزيد بن حبيب قال : بعث رسول الله عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى بن هرمز ملك فارس ، وكتب معه :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله. وأدعوك بدعاء الله ، فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة ، لا نذر من كان حيّا ويحقّ القول على الكافرين! فأسلم تسلم ، فإن أبيت فإنّ إثم المجوس عليك!

فلما قدم عبد الله بن حذافة بكتاب رسول الله على كسرى ، وقرأه ، شقّه (١) وقال : يكتب إليّ هذا وهو عبدي! ثم كتب كسرى إلى باذان ـ على اليمن ـ أن : ابعث على هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فيأتياني به.

فبعث باذان قهرمانه بابويه وكان حاسبا وكاتبا بكتاب فارس ، ورجلا آخر يدعى خور خسرو ، وكتب معهما إلى رسول الله يأمره أن يذهب معهما إلى كسرى. فخرجا حتى قدما الطائف ، فعرف خبرهما رجال من قريش كانوا بالطائف ففرحوا واستبشروا وقال بعضهم لبعض : أبشروا! كفيتم الرجل ، فقد نصب له كسرى ملك

__________________

(١) وقال اليعقوبي : قيل : لما وصل إليه الكتاب ـ وكان قدر ذراع أدم ـ قدّه شتورا ، أي طولا. اليعقوبي ٢ : ٧٧.

٨١

الملوك! فخرجا حتى قدما المدينة ودخلا على رسول الله ، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فظهر الكره على رسول الله ، وتكلم بابويه فقال : إنّ الشاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك. وقد بعثني إليك لتنطلق معي ، فإن فعلت كتب (باذان) إلى ملك الملوك يكفّه عنك وينفعك! وإن أبيت ، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرّب بلادك! وأقبل رسول الله عليهما فقال : ويلكما! من أمركما بهذا؟ (يعني حلق لحاهما). فقالا : ربّنا ـ يعنيان كسرى (١) ـ أمرنا بهذا. فقال رسول الله : لكنّ ربّي قد أمرني باعفاء لحيتي وقصّ شاربي. ثم قال لهما : ارجعا حتى تأتياني غدا.

وأتى رسول الله الخبر من السماء : أنّ الله قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله بعد ما مضى كذا من ليلة كذا في شهر كذا. فدعاهما فأخبرهما. فقالا : إنّا كنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا ، فهل تدري ما تقول؟! أفنكتب عنك هذا ونخبر به الملك؟! فقال : نعم ، أخبراه بذلك عنّي وقولا له : إنّ ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى ، وينتهي إلى منتهى الخفّ والحافر! وقولا له : انّك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك ، وملّكتك على قومك من الأبناء (٢). ثم أخذ منطقة فيها قطع من ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك (٣) فأعطاها إلى خور خسرو ، وخرجا من عنده ..

__________________

(١) أو باذان ، أو بادان ، حسب الأصل الفارسي ، أو بادام ، كما في المسعودي. وذلك لأنّ كسرى نفسه كان ملتحيا كما في صوره على مسكوكاته النقدية. وانظر المصادر في هامش الصفحة ١٠٠ من العدد ٤ من السنة الاولى لمجلة : وقف ميراث جاويدان بالفارسية.

(٢) الأبناء : أبناء الجيش الساساني المرسل مع سيف بن ذي يزن لانقاذ اليمن من الأحباش ، المولّدون في اليمن والمستعربون فيه.

(٣) لعلّها من هدايا المقوقس المصري أو النجاشي الحبشي.

٨٢

فلما قدما على باذان أخبراه الخبر فقال : والله ما هذا بكلام ملك ، وإنّي لأرى الرجل نبيّا كما يقول ، فلننتظرنّ ما قال ، فلئن كان هذا حقا ما فيه كلام فانّه لنبيّ مرسل ، وإن لم يكن ، فسنرى فيه رأينا.

وقال بابويه لباذان : وما كلّمت رجلا قطّ أهيب عندي منه! فقال له باذان : هل كانت معه شرطة؟ قال : لا. فلم يقم باذان من مقامه حتى قدم عليه كتاب شيرويه.

أما بعد ، فإنّي قد قتلت كسرى ، ولم أقتله إلّا غضبا لفارس لما كان استحلّ من قتل أشرافهم ، وتجميرهم (١) في ثغورهم. فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن قبلك. وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك ، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

فلمّا قرأ الكتاب قال : إنّ هذا الرجل لرسول! فأسلم. وأسلم من كان معه باليمن من أبناء فارس. ولما رجع عبد الله بن حذافة وأخبر رسول الله أنّ كسرى قد شق الكتاب ، قال : مزّق ملكه!

قال الواقدي : وكان قتل شيرويه أباه كسرى لستّ ساعات (؟!) مضين من ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين (أو بقين) من جمادى الاولى من سنة سبع (٢).

__________________

(١) التجمير : الحبس في الثغور.

(٢) الطبري ٢ : ٦٥٤ ـ ٦٥٧ وانظر سائر المصادر في كتاب : مكاتيب الرسول ١ : ٩٠ ـ ٩٧.

ونقل مختصر الخبر الحلبي في المناقب ١ : ٧٩ ، ٨٠ عن مجالس المامطيري وأعلام النبوة للماوردي. والمجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٣٨٩ ـ ٣٩١ عن المنتقى للكازروني عن ابن اسحاق كما في الطبري. وانظر بالفارسية بحثا ضافيا فيه في مجلة : وقف ميراث جاويدان ٤ : ٩١ ـ ١٠١.

٨٣

تذكير بمناسبة :

مرّ في معنى «الفتح» في نزول «سورة الفتح» عند صلح الحديبية أنّه ظهر معه مصداق قوله سبحانه : (... وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ ...)(١). وعن المسعودي : أنّ القائد الفارسي شهر براز صاحب پرويز انكشف هو ومن معه من الفرس عن الروم (٢) فأغارت الروم على مملكة الفرس في العراق فقتلت وسبت. على خلاف بينه وبين ابن العبري حيث قال المسعودي : إنّ پرويز احتال على هرقل بحيلة ردّه بها عن مدينته (طيسفون ـ المدائن) إلى القسطنطينية (٣) بينما أضاف ابن العبري : أن هرقل والروم افتتحوا مدينة كسرى (مدائن كسرى ـ طيسفون) وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا (٤).

والهزيمة المادية تلازم هزيمة معنوية ، فلعلّ رسول الله رآها فرصة مناسبة لدعوة پرويز المستكبر المنكسر إلى التخلّي عن دينه المنهزم لقبول الإسلام.

__________________

ـ وفي خلال الحرب العالمية الاولى عرض جلد مدبوغ قديم ٢١* ٣١ سم وفيه شق بطوله وفيه خمسة عشر سطرا بتوقيع : محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس ، اشتراه هانري فرعون وزير خارجية لبنان الأسبق بمبلغ ١٥٠ ليرة ذهبية (عثمانية ظ) وهو لا زال في خزانته النفيسة في بيروت. وقد أرّخوا لقتل پرويز بالميلادي ٦٢٨ وهو يوافق أواخر السنة السادسة وأوائل السابعة للهجرة.

(١) الروم : ٣ ـ ٥.

(٢) التنبيه والاشراف : ٢٢٢.

(٣) التنبيه والاشراف : ١٣٥.

(٤) تاريخ مختصر الدول : ٩٢.

٨٤

وأيضا رأى من المناسب أن يدعو النصارى لدينه ، ليقول لهم وللمشركين إنّ فرح المؤمنين بانتصارهم على عدوّهم الفرس ليس اذعانا بالحق لهم ، إلّا نسبيّا. ولعلّ دعوته للنصارى ـ حاشا النجاشي ـ كانت بعد تشديده على أندادهم اليهود وانتصاره عليهم ، كنقطة قوة له ، وتقريبا للنصارى.

دعاة الإسلام في الشام :

روى الطبري عن الواقدي : أنّ رسول الله بعث الرسل ، فبعث : شجاع بن وهب الأسدي القرشي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني (١) وكتب معه إليه : سلام على من اتّبع الهدى وآمن به. إنّي أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له ، يبقى لك ملكك! فلما قدم شجاع بن وهب وقرأه عليهم قال : من ينزع منّي ملكي! (٢). وعمّا قبل وصول الرسول إلى هرقل : دحية بن خليفة الكلبي.

روى الطبري عن ابن اسحاق عن ابن شهاب الزهري عن ابن عباس عن ابن حرب أبي سفيان! قال : كانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت اموالنا ، فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله .. خرجت في نفر تجّار من قريش إلى غزّة في الشام. وكان الفرس قد استلبوا من هرقل (فيما سبق) صليبه الأعظم (من بيت المقدس) فقدمنا غزّة حين غلب هرقل على من كان بأرضه من فارس وانتزع منهم صليبه الأعظم وأخرجهم منها.

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٤٤ ونقل عن ابن اسحاق : أنّه بعثه إلى المنذر بن الحارث صاحب دمشق ٢ : ٦٥٢.

(٢) الطبري ٢ : ٦٥٢ فروى عن النبيّ أنه قال : باد ملكه! وقد ذكرنا خبره قبل حرب خيبر ، وإنمّا اعدنا مختصر خبره هنا للارتباط.

٨٥

وكان منزله في حمص ، فلما بلغه أن صليبه قد استنقذ له ، خرج منها يمشي على قدميه ليصلّي في بيت المقدس متشكرا لله (١) ومعه بطارقته وأشراف الروم ، تبسط له البسط وتلقى عليها الرياحين! حتى انتهى إلى مدينة ايلياء (القدس) فقضى صلاته فيها.

وكانت الملوك تتهادى فيما بينها الأخبار ، فبينما هم كذلك ، إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده ، حتى قال لهرقل : أيها الملك ؛ إنّ هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل ، يحدّث عن أمر عجب حدث ببلاده ، فسله عنه. فقال هرقل لترجمانه : سله : ما هذا الحدث الذي كان ببلاده؟ فسأله ، فقال : خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبيّ ، قد صدّقه ووافقه ناس وخالفه ناس ، وكانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة ، وقد تركتهم على ذلك.

فدعا هرقل صاحب شرطته فقال له : قلّب لي الشام ظهرا وبطنا حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل ـ يعني النبيّ ـ فجاءنا صاحب شرطته ونحن في غزّة فقال لنا : انتم من قوم هذا الرجل الذي (ظهر) بالحجاز؟ قلنا : نعم. فقال : انطلقوا بنا إلى الملك. فلما انتهينا إليه قال لنا : انتم من رهط هذا الرجل (الذي ظهر في الحجاز)؟ قلنا : نعم. فقال : فأيّكم أمسّ به رحما؟ قلت : أنا (فلعلّه كان بعد مصاهرته له). فأقعدني بين يديه وأقعد أصحابه خلفي ثم قال لهم (على لسان الترجمان) : إنّي سأسأله ، فطن كذب فردّوا عليه. فقال : أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدّعي ما يدّعي! أنبئني عمّا أسألك من شأنه. قلت : سل عمّا بدا لك. قال :

__________________

(١) ونقله ابن سعد في الطبقات ١ : ٢٥٩ وفي سيرة دحلان بهامش الحلبية ٣ : ٦٤ والحلبية ٣ : ٢٧٦.

٨٦

كيف نسبه فيكم؟ قلت : محض ، أوسطنا نسبا (١). فقال : فأخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول فهو يتشبّه به؟ قلت : لا. قال : فهل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟ قلت : لا. قال : فأخبرني عن أتباعه منكم من هم؟ قلت : الضّعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان ، والنساء ؛ وأمّا ذوو الأسنان والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد! قال : فأخبرني عمّن تبعه أيحبّه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت : ما تبعه رجل ففارقه.

قال : فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟ قلت : سجال يدال علينا وندال عليه. قال : فأخبرني هل يغدر؟ قلت : لا ، ونحن منه في هدنة ، ولا نأمن غدره!

فقال : سألتك : كيف نسبه فيكم؟ فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسبا. وكذلك يأخذ الله النبيّ إذا أخذه ، لا يأخذه إلّا من أوسط قومه نسبا. وسألتك : هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله فهو يتشبّه به. فزعمت أن لا. وسألتك : هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه؟ فزعمت أن لا. وسألتك عن أتباعه. فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء. وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان. وسألتك عمّن يتبعه أيحبّه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أنه لا يتبعه أحد فيفارقه. وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه! وسألتك : هل يغدر؟ فزعمت أن لا.

فلئن كنت صدقتني عنه فليغلبنّ على من تحت قدميّ هاتين! ولوددت أنّي عنده فأغسل قدميه. ثم قال لي : انطلق لشأنك. فقمت من عنده والتفت إلى

__________________

(١) الأوسط هنا من قبيل قوله سبحانه : (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أكبرهم ، ذلك أنّ وسط الجبل والجمل والنخل والشجر والخيمة أعلاه ، ومنه قوله سبحانه : (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) بمعنى قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) لا الوسط بمعنى بين بين.

٨٧

أصحابي وأنا أضرب إحدى يدي بالاخرى وأقول : عباد الله لقد أمر (واشتدّ) أمر ابن أبي كبشة! أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام! ثم قدم عليه دحية بن خليفة الكلبي بكتاب رسول الله إليه ، وفيه :

بسم الله الرحمن الرحِيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتّبع الهدى. أما بعد ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. وإن تتولّ فإنّ إثم الاكّارين عليك (١).

ثم روى الطبري عن ابن اسحاق عن شيخ كبير من أهل الشام (يبدو أنّه كان نصرانيا وقد أسلم) كان يقول : لما بلغ هرقل أمر رسول الله ، جمع الروم فقال لهم : يا معشر الروم ، إنّي عارض عليكم امورا فانظروا فيم قد أردتها! قالوا : وما هي؟ قال : تعلمون ـ والله ـ أنّ هذا الرجل (الظاهر في الحجاز) لنبيّ مرسل ، نعرفه بصفته التي وصفت لنا في كتابنا ، فهلمّ فلنتّبعه ، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا!

فقالوا : نحن نكون تحت يدي العرب ونحن أعظم الناس ملكا وأكثرهم رجالا وأفضلهم بلدا؟! فقال : فاعطيه الجزية فأستريح من حربه وأكسر شوكته بمال اعطيه. فقالوا : نحن نعطي العرب خرجا يأخذوه منّا بالذلّ والصّغار؟! ونحن أكثر الناس عددا وأعظمهم ملكا وأمنعهم بلدا!

قال الشامي : وكانت الشام عندهم ما وراء الدرب ، وما دون الدرب أيضا أرض سورية وهي حمص ودمشق والاردن وفلسطين. فقال هرقل لهم : فلاصالحه على أن أترك له أرض سورية ، ويدعنا وأرض الشام! فقالوا : نحن نعطيه أرض

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٤٦ ـ ٦٤٩ بتصرف يسير ، وفي آخر الخبر : الاكّارين يعني عمّاله ، أي من هم محسوبون عليه. وليس الخبر في سيرة ابن هشام. وانظر المصادر في مكاتيب الرسول ١ : ١٠٥ ـ ١١٢.

٨٨

سورية وهي سرّة الشام؟! لا نفعل ذلك أبدا. فقال لهم : أما والله لترونّ أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم.

ثم انطلق إلى القسطنطينية حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام ثم قال : السلام عليك يا أرض سورية ، سلام وداع (١).

قال ابن اسحاق : بعث رسول الله دحية بن خليفة الكلبيّ إلى صاحب الروم قيصر ، ومعه تجارة له .. ولما قدم دحية من عند قيصر ومعه تجارته (٢) ، حتى إذا كان بوادي شنار أغار عليه الهنيد الضليعي الجذامي من غطفان (٣) ومعه ابنه ، فأصابا كل شيء كان معه (٤).

وقد مرّ قبل خبر خيبر أن رفاعة بن زيد الجذامي الضّبيبي من غطفان كان قد قدم على قومه بدعوتهم إلى الإسلام فأجابه جمع منهم. فلما بلغ خبر نهب دحية من كان قد أسلم وأجاب رفاعة بن زيد من قومه من الضبيب ، نفروا إلى الهنيد وابنه حتى لقوهما .. فاستنقذوا ما كان لديهما من مال دحية فردّوه عليه ، فخرج دحية إلى المدينة (٥) فروى الواقدي : أنّه انتهى إلى باب رسول الله قبل أن يدخل بيته ، فدقّ الباب ، فقال رسول الله : من هذا؟ فقال : دحية الكلبي. قال : ادخل. فدخل ،

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٥١. وليس الخبر في سيرة ابن هشام. ونقل المحقق الأحمدي مختصر هذا الخبر عن مسند الإمام أحمد ٤ : ٧٥ وقال : من المعلوم أنّ هذه الخصال الثلاث لم تكن في الكتاب الأوّل بل في المرة الثانية في السنة التاسعة من تبوك. مكاتيب الرسول ١ : ١١٥ و ١١٣ وفي ١٠٨ : أنّ دحية كان يتّجر إلى الشام ولذلك اختاره النبي رسولا إليها.

(٢) وروى الواقدي : أنّ قيصر قد أجاز دحية بكسوة ومال ١ : ٥٥٥.

(٣) نذكّر هنا بخبرهم يوم خيبر أنهم كانوا قد أجابوا دعوة اليهود لنصرتهم على المسلمين.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦٠.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦٠ ، ٢٦١.

٨٩

فاستخبره رسول الله عما كان من هرقل ، فأخبره حتى أتى على آخر ذلك. ثم قال : يا رسول الله ، أقبلت من عنده حتى كنت في حسمى فأغار عليّ قوم من جذام فما تركوا معي شيئا .. وذكر خبره للنبيّ ، ثم طلب إليه قتل الهنيد وابنه. فأمر النبيّ بالمسير إليهم ، فخرج لذلك زيد بن حارثة ... في جمادى الآخرة سنة (سبع (١)).

سريّة زيد إلى حسمى :

بعثه رسول الله مع دحية الكلبي في خمسمائة رجل يسيرون الليل ويكمنون النهار ، ومعه دليل من بني عذرة .. فأقبل به دليله العذري من قبل الأولاج (٢) من ناحية حرّة الرّجلاء.

وقد كانت غطفان من جذام ووائل ومن كان معهم من سلامان وسعد بن هذيم ، حين جاءهم رفاعة بن زيد بكتاب رسول الله ، قد توجّهوا إليه حتى نزلوا حرّة الرّجلاء. وكان رفاعة بن زيد مع ناس من بني الضبيب في كراع ربّة (٣) فأغار الدليل بزيد وجيشه على هؤلاء بالماقص من قبل الحرّة (٤) مع الصباح ، على ماشيتهم ونعمهم ، وقتلوا الهنيد وابنه ، وأكثروا فيهم القتل ، وفرّ الرجال ، فسبوا من النساء والصبيان مائة ، وأخذوا من النعم الف بعير ومن الشاء خمسة آلاف شاة (٥) فصار

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٦ و ٥٥٧ و ٥٥٥ وفيه : سنة ست ، بينما اعزام دحية إلى قيصر الروم في الشام لم يكن في سنة ست بل سبع.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٧.

(٣) أو رؤيّة كما في الواقدي. والكراع هو الجانب المستطيل من الحرّة ، كما في النهاية ٤ : ١٥.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦١.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٨.

٩٠

لكل رجل سبعة أبعرة وسبعون شاة ، ووطئوا النساء بعد الاستبراء (١).

قال ابن اسحاق : وكان بنو الضّبيب بوادي مدان من ناحية الحرّة مما يسيل مشرّقا .. وصل الجيش إلى فيفاء مدان ، وسمع بذلك بنو الضّبيب ، فركب نفر منهم .. وانطلقوا حتى إذا دنوا من الجيش وكان منهم حسّان بن ملّة الضّبيبي قد صحب دحية بن خليفة الكلبي قبل ذلك فعلّمه أمّ الكتاب .. فلما برزوا على الجيش اقبلوا يبتدرون إليهم ، فقال لهم حسّان : إنا قوم مسلمون ، فساقهم رجل إلى زيد بن حارثة ، فقال له حسان : إنّا قوم مسلمون ، فقال له زيد : فاقرؤوا أمّ الكتاب ، فقرأها حسان. فقال زيد بن حارثة : نادوا في الجيش : أنّ الله قد حرّم علينا ثغرة القوم التي جاءوا منها إلّا من خرّ (أي غدر) فنهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه. فرجعوا إلى أهلهم مساء.

وفي عتمة الليل شربوا من ألبان ابلهم ثم ركبوا إلى رفاعة بن زيد على بئر بكراع ربّه في ظهر حرّة ليلى ، فوصلوا إليه صباحا ، فقال له حسّان بن ملّة : إنّك لجالس تحلب المعزى وقد غررت جذام بكتابك الذي جئتهم به ، وها هي نساء جذام اسارى! وأخبروه خبرهم.

فقام رفاعة بن زيد إلى جمله يشد عليه رحله ، ثم ساروا إلى المدينة في ثلاث ليال ، وانتهوا إلى المسجد ، فلما دخلوا على رسول الله ورآهم أشار إليهم أن يأتوه من وراء الناس ، فلما وصلوا إليه دفع رفاعة بن زيد إلى رسول الله كتابا ، فدفعه النبيّ إلى شاب لديه وقال له : اقرأه يا غلام وأعلن. فلما قرأ الكتاب استخبره ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٦٠ هذا ، وقد مرّ أن عددهم خمسمائة رجل ، فالقياس أن لا يصل لكل رجل إلّا بعيران وخمس شياه لا أكثر ، والأغرب أن في الخبر : ويصير له من السبي المرأة والمرأتان!! وقد ذكر أن مجموع النساء والصبيان مائة! فكيف التوفيق؟!

٩١

فأخبروه الخبر. فقال رسول الله : كيف أصنع بالقتلى؟ فسكتوا ، فكرّرها. فقال أبو زيد بن عمرو : يا رسول الله أطلق لنا من حيا ، ومن قتل فهو تحت قدمي هذه. فقال رسول الله : صدق أبو زيد. ثم التفت إلى علي وقال له : اركب معهم يا علي. فقال له علي : إنّ زيدا لن يطيعني يا رسول الله! فقال : فخذ سيفي هذا ، وأعطاه سيفه. فقال علي : ليس لي ـ يا رسول الله ـ راحلة اركبها (١).

فقال بعض القوم : هذا بعير. فركبوا وخرجوا. وكان زيد بن حارثة قد بعث رافع بن مكيث بشيرا بين يديه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على ناقة من الغنيمة ، فأمره علي عليه‌السلام بالنزول عنها وردّها عليهم ، فقال : يا علي ما شأني؟ فقال عليه‌السلام : مالهم عرفوه فأخذوه. وأردفه علي عليه‌السلام خلفه ، ثم ساروا حتى التقوا بالجيش في فيفاء الفحلتين.

فلقي علي عليه‌السلام زيد بن حارثة فقال له : إنّ رسول الله يأمرك أن تردّ على هؤلاء القوم ما كان بيدك من أسير أو سبي أو مال. فقال زيد : علامة من رسول الله! فقال علي : هذا سيفه! فعرف زيد السيف ، فنزل وصاح بالناس أن يجتمعوا ، فاجتمعوا ، فقال لهم : من كان بيده شيء من سبي أو مال فليردّه ، فهذا رسول رسول الله (٢). فجعل بنو الضّبيب يأخذون ما في أيدي أصحاب زيد بن حارثة ، حتى أنّهم كانوا ينزعون لبيد بعض النساء من تحت بعض رحال الجيش (٣).

وعليه ، فخبر كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع دحية الكلبي إلى قيصر الروم بالشام تضمّن خبر

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ١٦١ ـ ٢٦٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٩ ، ٥٦٠.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦٤ ومن طريف التحريف أو التصحيف أن العبارة في السيرة : ينزعون لبيد المرأة من تحت الرحل. تصحّفت في مغازي الواقدي إلى : ليأخذون المرأة من تحت فخذ الرجل!

٩٢

كتابه الآخر مع رفاعة بن زيد الضّبيبي الجذامي من غطفان إلى قومه بني الضبيب وجذام ووائل وسعد بن هذيم من غطفان ، وأثر هذا الكتاب في إسلامهم ثمّ في إطلاق سراحهم وأموالهم.

والخبر وإن لم ينته بالنصّ على إسلام هذه القبائل من غطفان ما عدا بني الضّبيب منهم ، إلّا أنّ ظاهر الحال يشير إلى ذلك. وهناك قبائل اخرى من غطفان أسلمت فيما بعد.

كتابه إلى أكثم بن صيفي التميمي :

وأما سائر كتبه صلى‌الله‌عليه‌وآله للدعوة إلى الإسلام فمنها ما هو معلوم التاريخ للسنة الثامنة حتى العاشرة ، ومنها ما هو مجهول التاريخ ولكنّه مرجّح الالحاق بما هو معلوم التاريخ. وإنّما يبقى من مجهول التاريخ الذي يرجح تقديمه هنا كتابه إلى أكثم بن صيفي التميمي من حكماء العرب المعروفين. وقد روى خبره الصدوق في «كمال الدين» في الباب السابع والخمسين في المعمّرين ، وبدأ خبره بشعره قال :

وإن امرأ قد عاش تسعين حجة

إلى مائة لم يسأم العيش ، جاهل

خلت مائتان غير ستّ وأربع

وذلك من عدّ الليالي قلائل

قال : ولم تكن العرب تقدم عليه أحدا في الحكمة. ولما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب ابنه حليسا أن يبعثه ليعرف خبره وقال له : يا بني .. إذا قدمت على هذا الرجل فإنّي قد عرفته وعرفت نسبه ، فهو في بيت قريش أعزّ العرب ، وهو أحد الرجلين : إمّا ذو نفس أراد ملكا فخرج الملك لغيره ، فوقّره وشرّفه وقم بين يديه ولا تجلس إلا بإذنه حيث يأمرك ويشير إليك ، فإنّه ـ إن كان ذلك ـ ادفع لشره عنك وأقرب لخيره منك. وأمّا إن كان نبيا فإن الله لا يحب فيتوهم ، ولا ينظر فيحتم ، إنّما يأخذ الخيرة حيث يعلم ، لا يخطئ فيستعيب ، إنمّا أمره على ما يحب ، فستجد أمره كله

٩٣

صالحا وخبره كله صادقا وستجده متواضعا في نفسه متذللا لربّه ، فذلّ له ، ولا تحدثن أمرا دوني ، فإنّ الرسول إذا أحدث الأمر من عنده خرج من يدي الذي أرسله. واحتفظ بما يقول لك إذا ردّك إلي ، فإنّك إن توهمت أو نسيت جشّمتني رسولا غيرك. وكتب معه إليه :

«باسمك اللهم ، من العبد إلى العبد ، أمّا بعد ، فأبلغنا ما بلغك ، فقد أتانا عنك خبر ما ندري ما أصله ، فإن كنت رأيت فأرنا ، وإن كنت علّمت فعلّمنا ، وأشركنا في كنزك ، والسلام» (١).

وذكر ابن حجر (٢) وابن الأثير (٣) وابن عبد البر (٤) أنّه انتدب عنه رجلين (ولعلهما ابناه : جيش وحليس) فلما وصلا إلى رسول الله قالا له : نحن رسولا أكثم ابن صيفي وهو يسألك : من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا محمد بن عبد الله ، وأنا عبد الله ورسوله. ثم تلا هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٥).

وذكروا : أنّ رسول الله كتب إليه :

«من محمد رسول الله إلى أكثم بن صيفي ، أحمد الله إليك. إنّ الله تعالى أمرني أن أقول : لا إله إلّا الله ، وأمر الناس بقولها ، والخلق خلق الله ، والأمر كله لله ، خلقهم وأماتهم ، وهو ينشرهم وإليه المصير. أدبتكم بآداب المرسلين ، ولتسألنّ عن النبأ العظيم ، ولتعلمنّ نبأه بعد حين».

__________________

(١) كمال الدين : ٥٣٠ ، ٥٣١ وكنز الفوائد ٢ : ١٢٣.

(٢) في الإصابة ١ : ١١٠.

(٣) في اسد الغابة ١ : ١١٢.

(٤) في الاستيعاب : ١٢٨ في ترجمة الأحنف بن قيس التميمي.

(٥) النحل : ٩٠.

٩٤

فلما رجعوا إليه بالكتاب قال لابنه : يا بني ما ذا رأيت؟ قال : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها.

فجمع أكثم بن صيفي بني تميم ثم قال لهم : يا بني تميم ، كبرت سنّي ودخلتني ذلة الكبر ، فإن رأيتم منّي حسنا فأتوه وإذا انكرتم مني شيئا فقوّموني للحق أستقم له. إنّ ابني قد جاءني ، وقد شافه هذا الرجل ، فرآه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويأخذ بمحاسن الأخلاق وينهى عن ملائمها ، ويدعو أن يعبد الله وحده وتخلع الأوثان ويترك الحلف بالنيران. ويذكر أنه رسول الله ، وإنّ قبله رسلا لهم كتب.

وإنّ أحق الناس بمعاونة محمد ومساعدته على أمره انتم ، فإن يكن الذي يدعوكم إليه حقا فهو لكم ، وإن يكن باطلا كنتم أحق من كفّ عنه وستر عليه. وقد علم ذوو الفضل منكم أن الفضل فيما يدعو إليه ويأمر به ، فكونوا في أمره أوّلا ولا تكونوا آخرا ، اتبعوه تشرفوا وتكونوا سنام العرب ، وأتوه طائعين من قبل أن تأتوه كارهين ، فإنّي أرى أمرا ما هو بالهوينا لا يترك مصعدا إلّا صعده ، ولا منصوبا إلّا بلغه. إنّ هذا الذي يدعو إليه إن لم يكن دينا لكان في الأخلاق حسنا.

أطيعوني واتبعوا أمري ، أسأل لكم ما لا ينزع منكم أبدا ، انّكم أصبحتم أكثر العرب عددا وأوسعهم بلدا ، وانّي لأرى أمرا لا يتبعه ذليل إلا عزّ ، ولا يتركه عزيز إلّا ذل. اتبعوه تزدادوا مع عزكم عزّا ولا يكون أحد مثلكم إنّ الأول لا يدع للآخر شيئا ، وهذا شيء له ما بعده ، فمن سبق إليه فهو الباقي واقتدى به التالي ، فأصرموا أمركم فإنّ الصريمة قوة.

فقال مالك بن نويرة ـ وهو منهم ـ لقد خرف شيخكم! (ولم يسلم بعد). فقال أكثم : ويل للشّجيّ من الخلّي (١) والله ما عليك آسى ولكن على العامة. ثم نادى

__________________

(١) كمال الدين : ٥٣١ ، ٥٣٢.

٩٥

في قومه من يرحل معه ، فتبعه منهم مائة رجل .. فساروا حتى كانوا دون المدينة بأربع ليال .. وجهدهم العطش ، وأيقن أكثم بالموت فقال لأصحابه : أقدموا على هذا الرجل واعلموا بأنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّه رسول الله. وانظروا إن كان معه كتاب بايضاح ما يقول فآمنوا به واتبعوه وآزروه. فقدموا المدينة وأسلموا (١).

سرية ابن سعد إلى فدك :

أفاء الله على رسوله قرى فدك ، وما أوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب ، وسلّط الله رسوله عليهم وعلى قراهم وضياعهم ومزارعهم ، فكانت لرسول الله خاصة.

وأرى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغه أنّ بعض الأعراب من بني مرّة ، ولعلهم ممن حضر حرب الأحزاب ، يرعون في بوادي فدك ولا يراعون له أمرا ..

قال الواقدي : فبعث ثلاثين رجلا مع بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك (٢) فخرج إليهم ، فلقى أنعامهم معها رعاتها ، فساقها منحدرا إلى المدينة. وخرج صريخهم فأخبرهم ، فأدركوهم ليلا ، فباتوا يرامونهم حتى الصباح ، ثم حمل عليهم المرّيون فقاتل بشير بن سعد حتى جرح وسقط وظنوا أنه قتل ، وقتل من قتل وولّى من ولّى ، ورجع المرّيون بأنعامهم. ورجع بشير ، وقبله من أصحابه علبة بن زيد الحارثي وأخبر النبيّ.

__________________

(١) جمهرة رسائل العرب عن سرح العيون : ١٤. وكذلك قال الكراجكي. وقال الصدوق : لا يشك الأكثر في أنّه لم يسلم. وقال ابن عبد البر : لم يصح إسلامه في حياة رسول الله. وانظر مكاتيب الرسول ١ : ١٥٥ ـ ١٥٨.

(٢) وقال المسعودي : سرية بشير في شعبان إلى بني مرة بفدك. التنبيه والاشراف : ٢٢٧.

٩٦

وقدم غالب بن عبد الله من سرية ، فعقد النبي له اللواء وهيّأ معه مائتي رجل وقال له : سر حتى تنتهي إلى حيث اصيب أصحاب بشير ، فإن ظفّرك الله بهم فلا تبق منهم! وخرج غالب بالسرية. فلما دنا منهم بعث عليهم الطلائع ، فأوفى علبة بن زيد على جماعة منهم ورجع إلى غالب فأخبره. فأقبل غالب يسير ليلا حتى إذا كان منهم بمنظر العين ، وقد احتلبوا ابلهم وسقوها وأناخوها عند الماء وهدؤوا. ثم قام غالب في أصحابه فألف بين كل اثنين منهم وقال لهم : لا يفارق كل رجل زميله ، وإياكم أن يرجع إلي أحدكم فأقول : أين فلان صاحبك فيقول : لا أدري! ثم قال لهم : إذا كبّرت فكبّروا. فكبّر وكبّروا وأخرجوا السيوف وأحاطوا بحاضرتهم ، فخرج إليهم الرجال فقاتلوهم ساعة ، فقتل منهم من قتل ، واستولوا على النساء والماشية ، واقتسموها فكانت سهامهم لكل رجل عشرة ابعرة أو عدلها من الغنم ، وكان يحسب الجزور بعشرة من الغنم.

وافتقدوا اسامة بن زيد ، وكان قد خرج في إثر رجل منهم يقال له نهيك بن مرداس .. فلم يرجع إلّا بعد ساعة من الليل. قال الراوي : فلامه آمرنا لائمة شديدة وقال : ألم تر إلى ما عهدت إليك؟ فقال : إنّي خرجت في إثر رجل جعل يتهكّم بي ، حتى إذا دنوت ولحمته بالسيف قال : لا إله إلّا الله. فقال آمرنا : أغمدت سيفك؟ قال : لا والله ما فعلت حتى أوردته الموت! فقلنا له : والله بئسما جئت به! تقتل امرأ يقول لا إله إلّا الله! فندم (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٢٣ ـ ٧٢٥. وفي : ٧٢٣ قال : كان ذلك في شعبان. وقال المسعودي : في شهر رمضان إلى الميفعة وراء بطن نخل إلى ناحية النقرة مما يلي نجدا على ثمانية برد من المدينة ، التنبيه والاشراف : ٢٢٧. وثمانية برد ـ ٦٨٠ كم تقريبا.

٩٧

والقمي في تفسيره سمّى الرجل مرداس بن نهيك الفدكي اليهودي وقال : انّه لما أحسّ بخيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع ماله وأهله وصار في ناحية الجبل ، فمرّ به اسامة بن زيد ، فجعل يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، وطعنه اسامة فقتله. فلما رجع إلى رسول الله أخبره بذلك ، فقال له رسول الله : قتلت رجلا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟! فقال : يا رسول الله إنمّا قال تعوّذا من القتل! فقال رسول الله : فلا الغطاء عن قلبه شققت ، ولا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت! فحلف أنه بعد ذلك لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله. وأنزل الله في ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ)(١) كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.

__________________

(١) النساء : ٩٤ والخبر في تفسير القمي ١ : ١٤٨ ، ١٤٩ وفي آخره : فتخلّف اسامة عن أمير المؤمنين في حروبه. وروى الطوسي في التبيان ٣ : ٢٩٠ عن أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي أخي أبي جهل ، كان قد أسلم ، وكان أخوه أبو جهل يعذّبه ومعه الحارث بن يزيد العامري ، وكان في وثاق المشركين حتى يوم فتح مكة ، فلقى حارثا وقد أسلم وهو لا يعلم بإسلامه فقتله عياش. ونقله الطباطبائي في الميزان ونقل عن الدر المنثور عن عكرمة : أنّ عياشا هاجر فلقى الحارث في حرة المدينة وهو لا يعلم بإسلامه فقتله ، ثم أخبر النبيّ فنزلت الآية فقال له النبيّ : قم فحرّر. ثم قال : وهذا أوفق بالاعتبار وأنسب لتاريخ نزول سورة النساء. الميزان ٥ : ٤٢ وانما يراه أوفق وأنسب بالنسبة إلى الآيات السابقة : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ...) أما مع الآية الأخيرة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا ..) فلا وفق ولا تناسب.

٩٨

سريتان إلى هوازن :

روى الواقدي بسنده عن سلمة بن اياس قال : أمّر رسول الله علينا أبا بكر وبعثه ، فبيّتنا ناسا من هوازن في نجد ، وكان شعارنا أمت أمت ، فقتلت بيدي منهم سبعة رجال أهل أبيات. وذلك في شعبان سنة سبع.

قال : وفيه أيضا بعث رسول الله عمر في ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن ـ وهم بنو جشم وبنو نصر ـ في تربة (١) ومعه دليل من بني هلال ، فكانوا يسيرون

__________________

ـ ونقل الطوسي عن أبي زيد خبرا كخبر اسامة منسوبا إلى أبي الدرداء ، وهو ما نقله الطبري في جامع البيان ، ثم قال الطوسي : ويجوز في سبب نزول الآية كل واحد مما قيل.

التبيان ٣ : ٢٩٠ ، ٢٩١ ولم ينقل خبر اسامة.

أما الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٤٥ فقد بدأ بخبر اسامة وأشار إلى خبر أبي الدرداء وآخر أن صاحب السرية كان المقداد ، ثم نقل عن ابن اسحاق والواقدي : أنّ الآية نزلت في محلّم بن جثّامة الليثي وكان بينه وبين عامر بن الاضبط الاشجعي عداوة ، بعث النبيّ الليثي في سرية فلقي الأشجعي فحياه الأشجعي بتحية الإسلام ولكن الليثي رماه بسهم فقتله ، وطلب من النبيّ أن يستغفر له فقال له : لا غفر الله لك ، فانصرف باكيا ثم هلك بعد سبعة ايام فدفن فلفظته الأرض ، فاخبر النبيّ فقال : انّ الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم محلّم ولكن الله أراد أن يعظم من حرمتكم. ونزلت الآية.

والطباطبائي في الميزان نقل الوجوه عن الدر المنثور ، ثم قال : ولكن حلف اسامة واعتذاره إلى علي عليه‌السلام في تخلّفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ ٥ : ٤٥ يرى أن هذا ما يرجّح صحة خبر اسامة بن زيد. وابن اسحاق ذكر مختصر الخبر في سيرة ابن هشام ٤ : ٢٧١.

(١) تربة : موضع على أربع ليال من مكة على طريق صنعاء اليمن كما في ابن سعد ٢ : ٨٥. والتنبيه والاشراف : ٢٢٧.

٩٩

الليل ويكمنون النهار ، ولكن خبرهم بلغ هوازن فهربوا فلم يلق عمر أحدا منهم ، فانصرف راجعا إلى المدينة (١).

سرية بشير إلى غطفان :

مرّ في أخبار خيبر : أن كنانة بن أبي الحقيق أمير يهود خيبر كان قد سار إلى عيينة بن حصن الغطفاني ومعه منهم أربعة آلاف (٢) يدعوهم إلى نصرهم ولهم نصف تمر خيبر تلك السنة (٣) وأنهم أجابوهم حتى دخلوا معهم في حصن النطاة ، ولكنهم خافوا فخانوهم (٤).

وكان دليل الرسول إلى خيبر حسيل بن نويرة الأشجعي ، وبعد خيبر في سنة سبع كان في موضع الجناب (٥) لغطفان وقدم المدينة على رسول الله ، فسأله : من أين يا حسيل؟ قال : قدمت من الجناب. فقال : وما وراءك؟ قال : تركت جمعا من غطفان بالجناب قد بعث إليهم عيينة بن حصن يقول لهم : إمّا تسيروا إلينا أو نسير إليكم؟ فأرسلوا إليه : أن سر إلينا حتى نزحف إلى محمد جميعا. فهم يريدونك أو بعض أطرفك! فقال أبو بكر وعمر : ابعث إليهم بشير بن سعد!

فدعا رسول الله بشيرا وعقد له لواء ، وبعث معه ثلاثمائة رجل ، وأمرهم : أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار ـ وخرج معهم حسيل بن نويرة دليلا ـ فساروا الليل

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٢٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٢.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٠.

(٥) قال المسعودي : سرية بشير في شوال إلى يمن وجبار نحو الجناب بعرض خيبر ووادي القرى. التنبيه والاشراف : ٢٢٨.

١٠٠