موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

أمّا الطوسيّ فقد اكتفى بقوله : قال أهل البيت عليهم‌السلام : إنّ المراد بذلك : المهديّ عليه‌السلام ؛ لأنّه يظهر بعد الخوف ويتمكّن ، بعد أن كان مغلوبا (١).

عود على الاستئذان :

مرّ في الآية ٣١ في المحارم : (... أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) وهنا الآية ٥٨ تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ... (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ... (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ...) وكأنّ الآية ترفع الحرج عنهم في دخول مماليكهم ومماليكهنّ عليهم وعليهنّ ، فلا ينبغي أن يكون ذلك حجة للإفك. ولم يذكر سبب خاص لنزول الآية ، ولا أستبعد استمرار مناسبة قصة الإفك على مارية ، بحجة دخول المملوك عليها.

ثم استطردت الآية وتواليها في أحكام الاستيذان ، واستثناءات الحجاب ، ومعاشرة العميان والعرجى والمرضى ، خلافا لما كانوا عليه من قبل.

وصدر الآية ٦٣ قبل الأخيرة ، وبالمناسبة السابقة أيضا ، يعود لتعظيم الرسول الكريم : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...) ففي رواية أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام قال في تفسير الآية : يقول لا تقولوا : يا محمد ولا يا أبا القاسم ، لكن قولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله. نقله القمي في تفسيره وقال : لا تدعوا رسول الله كما يدعو بعضكم بعضا (٢).

هذا ، وإن اشتهر في المحافل أخيرا ذكر خبر الحلبي في «مناقب آل أبي طالب» عن القاضي أبي محمد الكرخي في كتابه عن الصادق عليه‌السلام عن جدّته فاطمة عليها‌السلام قالت : لما نزلت (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ...) هبت رسول الله أن أقول له يا أبه ،

__________________

(١) التبيان ٧ : ٤٥٧.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١١٠.

٣٦١

فكنت أقول : يا رسول الله ، مرة واثنتين أو ثلاثا فاعرض ثم أقبل عليّ فقال : يا فاطمة ، انّها لم تنزل فيك ولا في أهلك ولا في نسلك ، أنت منّي وأنا منك ، إنّما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبر! قولي : يا أبه ، فانها أحيا للقلب وأرضى للربّ (١) وهو كما ترى من حيث الاسناد.

فعن مجاهد وقتادة : لا تقولوا : يا محمد ، كما يقول بعضكم لبعض ، بل قولوا له : يا رسول الله ، ويا نبيّ الله ، بالخضوع والتعظيم. وعن ابن عباس : احذروا فيما بينكم ـ إذا أسخطتموه ـ دعاءه عليكم فانه مستجاب لا كدعاء غيره (٢).

وحكاهما الطبرسي في «مجمع البيان» وزاد معنى ثالثا لا يبعد عن تعظيمه أيضا : أن لا تجعلوا دعوة الرسول لكم الى شيء أو أمر كدعوة بعضكم لبعض ، فليس الذي يدعوكم إليه كما يدعو بعضكم بعضا ، إذ إنّ في القعود عن أمره قعودا عن أمر الله تعالى (٣) وهذا أوفق بسياق الآية كما قال الطباطبائي (٤).

امتحان الإيمان :

والسورة التالية في النزول سورة الحج (٥) ، والآية الثالثة فيها : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) والثامنة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٢٠ وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ٣٧.

(٢) التبيان ٧ : ٤٥٧.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢٤٨ ، ٢٤٩.

(٤) الميزان ١٥ : ١٦٦ ، ١٦٧ ، ١٧١.

(٥) التمهيد ١ : ١٠٧ ومجمع البيان : ١ : ٦١٢ ، ٦١٣ وهنا في ٧ : ١١٢ روى خبرا عن أبي سعيد الخدري وعمران بن الحصين أن الآيتين ١ و ٢ نزلتا في غزوة بني المصطلق. وفيه غرائب ، وينافي ما رواه في ترتيب النزول ، فلا عبرة به.

٣٦٢

يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ* ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) والطوسي في «التبيان» بشأن الأخيرة ، والطبرسي في «مجمع البيان» بشأن الاولى رووا عن ابن عباس : انّهما نزلتا في النضر بن الحارث بن كلدة (١) وهو من أسرى بدر وقتله علي عليه‌السلام بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله في منزل الاثيل (٢) أي قبل نزولهما بخمس سنين! (٣).

وفي الآية ١١ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية في قوم وحّدوا الله وخلعوا عبادة ما دون الله وخرجوا من الشرك (ولكنّهم) لم يعرفوا أنّ محمدا رسول الله ، فهم يعبدون الله على شك في محمد وما جاء به ، فأتوه وهم يقولون : ننظر فان كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنّه صادق وأنّه رسول الله ، وإن كان غير ذلك نظرنا. فأنزل الله : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ...)(٤).

والطوسي في «التبيان» رواه عن ابن عباس قال : كانوا إذا قدموا المدينة فان صحّ جسم أحدهم ونتجت فرسه مهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما رضى به واطمأنّ إليه. وإن أصابه وجع المدينة ، وولدت امرأته جارية ، وتأخّرت عنه الصدقة قال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلّا شرا (٥)! ونقله الطبرسي في «مجمع البيان» (٦).

__________________

(١) التبيان ٧ : ٢٩٤ ومجمع البيان ٧ : ١١٣.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٦٧ ومغازي الواقدي ١ : ١٤٩.

(٣) وقال الطباطبائي : الظاهر أنّه من التطبيق. الميزان ١٤ : ٣٥٣.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٧٩. ورواه الكليني في الكافي كما عنه في الميزان ١٤ : ٣٥٦.

(٥) التبيان ٧ : ٢٩٦.

(٦) مجمع البيان ٧ : ١١٩.

٣٦٣

وكأنّ الآية ١٥ تعود إليه : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ...).

وروى الطوسي عن قتادة عن ابن عباس : أن الضمير : (لَنْ يَنْصُرَهُ) عائد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بمعنى : من كان يظن أنّ الله لا ينصر نبيّه ولا يعينه على عدوّه ويظهر دينه ، فليمت غيظا : (فَلْيَمْدُدْ) بحبل إلى سماء بيته ثم ليقطع حياته به فيذهب ويذهب غيظه معه. وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين يخشون أن لا يتم له أمره (١).

وقالوا : إنّ الضمير يرجع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّ مشركي مكة كانوا يظنون أنّ الذي جاء به النبيّ من الدين احدوثة كاذبة لا تبتني على أصل عريق ، فلا يرتفع ذكره ولا ينتشر خيره ، ولا منزلة له عند ربّه. حتى إذا هاجر إلى المدينة فنصره الله وبسط دينه ورفع ذكره غاظهم ذلك غيظا شديدا. فقرعهم الله بهذه الآية أشار بها إلى أنّ الله ناصره ، ولن يذهب غيظهم ولو خنقوا أنفسهم (٢).

وكل هذا يؤيّد نزول السورة بعد فتح مكة وحنين ، وخضوع عاصمة المشركين للمسلمين. وإليه يعود ما في الآية ١٩ : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا ...).

وفي تفسير القمي : نحن وبنو اميّة قلنا : صدق الله ورسوله ، وقال بنو اميّة : كذب الله ورسوله (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) هم بنو اميّة (٣).

وروى الواحدي بسنده عن علي عليه‌السلام قال : فينا نزلت هذه الآية في مبارزتنا

__________________

(١) التبيان ٧ : ٢٩٨ و ٢٩٩.

(٢) الميزان ١٤ : ٣٥٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٨٠ ومثله مسندا عن الحسين عليه‌السلام في الخصال ١ : ٤٢ ، ٤٣.

٣٦٤

يوم بدر وما رواه البخاري وعنه الطبرسي والواحدي عن أبي ذر بمعناه (١) وعنه مسلم والترمذي وابن ماجة وعنهم السيوطي وعنه في «الميزان» (٢) فيبدو أنّه من التطبيق وذكر المصاديق وليس سبب النزول (٣) ، بل المناسبة مخاصمة أبي سفيان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانكساره في فتح مكة وتأليفه بتأمين داره وترئيسه على المؤلّفة قلوبهم يوم الفتح ، باعتبار فترة نزول السورة.

ولذلك تعود عليهم الآية ٢٥ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ...) وقال القمي في تفسيره : نزلت في قريش حين صدّوا رسول الله عن مكة (٤) ونقل الطوسي والطبرسي : أنّ الآية نزلت في أبي سفيان وأصحابه حين صدّوا رسول الله عن مكة عام الحديبية (٥) لا في حينه بل تذكيرا به. وتستمر الآيات التاليات في أحكام الحج بالمناسبة حتى آخر الآية ٣٧ ، ولعل نزولها كان في أيام الموسم أو حواليه بعد رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة في آخر شهر ذي القعدة وقبل ذي الحجة. وتبدأ الآية ٢٦ بذكر إبراهيم عليه‌السلام وتوحيده وتطهيره للبيت ، وكأنّها تقرّر تطهيره بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فتح مكة.

آية الإذن في القتال :

ثم تعود الآيات التاليات على دفاع الله عن المؤمنين وإذنه لهم بالقتال

__________________

(١) أسباب النزول : ٢٥٥ والتبيان ٧ : ٣٠٢ ومجمع البيان ٧ : ١٢٣ ، ١٢٤.

(٢) الميزان ١٤ : ٣٦٣ ، ٣٦٤.

(٣) وانظر التمهيد ١ : ٢٠٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٨٣.

(٥) التبيان ٧ : ٣٠٨ ومجمع البيان ٧ : ١٢٨.

٣٦٥

ونصره إياهم ، فان مكّنهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر (١) إلى آيات اخرى في عواقب الكفّار والمؤمنين دنيا وآخرة ، منسجمة مع الفترة المذكورة.

وفي آية الإذن في القتال روى الواحدي عن ابن عباس عن أبي بكر قال : لمّا اخرج رسول الله من مكة قلت : إنا لله ، لنهلكنّ! فأنزل الله الآية ، فعرفت أنّه سيكون قتال! وقال : قال المفسّرون : كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله فلا يزالون يجيئون من مضروب ومشجوج فيشكونهم إلى رسول الله فيقول لهم : اصبروا فانّي لم اومر بالقتال ، حتى هاجر فأنزل الله هذه الآية (٢) وفي «التبيان» قيل : نزلت في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من أوطانهم ، فلما قووا أذن لهم في قتال من ظلمهم وأخرجهم من أوطانهم وأمرهم بجهادهم (٣).

وهذا كله مبنيّ على أن يكون المراد بقوله : (أُذِنَ) إنشاء الاذن دون الإخبار عن إذن سابق (٤) وأنّها أول آية نزلت في الأمر بالقتال (٥) وأنها نزلت ما بين هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله وغزوة بدر (٦) بل بعد الهجرة بقليل (٧) خلافا للأخبار (٨). بل الأوفق أن

__________________

(١) النور : ٤١ فكأنّها تصف تمكينه في فتح مكة.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٢٥٥ ونحوه في مجمع البيان ٧ : ١٣٨.

(٣) التبيان ٧ : ٣٢٠.

(٤) الميزان ١٤ : ٣٨٤.

(٥) التبيان ٧ : ٣٢١ ومجمع البيان ٧ : ١٣٨ والميزان ١٤ : ٣٨٣.

(٦) الميزان ١٤ : ٣٣٨.

(٧) الميزان ١٤ : ٣٥٢.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٨٤ قال : إنّ العامة يقولون : نزلت في رسول الله لما أخرجته قريش من مكة.

٣٦٦

أوّل ما نزل في القتال قوله سبحانه في سورة البقرة الاولى أو الثانية في المدينة : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ)(١) وآية الإذن في سورة الحج إنّما هي إخبار عن ذلك الإذن السابق ، أو هي إخبار وتأكيد على ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته بعد فتح مكة : إنّها حرم حرام في حرام إلّا أنّها احلّت لي ساعة من نهار (٢) وإن كان هو بدوره عملا بقوله سبحانه من قبل في سورة البقرة بعد الآية السابقة : (... وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ)(٣). ولعله لهذا عبّرت الآية : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) بفتح التاء ، إشارة إلى أنّهم قوتلوا فقاتلوا ، ولو لم يقاتلوا لم يقاتلوا ، بل لم يؤذن لهم أن يقاتلوا.

إلقاء الشيطان في أماني أنبياء الإيمان :

وإذا بنينا على نزول السورة في هذه الفترة بالمدينة ، بلا برهان قاطع على استثناء آيات منها ، فلا نسلّم باستثناء الآية ٥٢ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٤). بل الأوفق بالسياق : أن رسول الله يتمنّى ـ طبعا ـ أن يتوفّق لأداء رسالته وتبليغها ونشرها واستمرارها ودوامها ورفع بل دفع الموانع عنها. وطبيعيّ أن الشيطان بل شياطين الجن والإنس كانوا يلقون في هذه الامنية الرساليّة بما يلائمهم ويضادّ مفاد الرسالة ، ولا أقل من الترديد والتشكيك في تحقيق

__________________

(١) البقرة : ١٩٠. الميزان ١٤ : ٣٨٣ ومجمع البيان ١ : ٥١٠ والتبيان ٢ : ١٤٣.

(٢) فروع الكافي ١ : ٢٢٨.

(٣) البقرة : ١٩١.

(٤) الحج : ٥٢ وانظر التمهيد ١ : ٢٠١.

٣٦٧

أمانيها ، كما مرّت الإشارة إلى ذلك في بعض الآيات الآنفة الذكر : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) وكما بدر من بعض أصحابه من الاعتراض على مفاد صلح الحديبية والتشكّك في رسالته وصدق وعده لذلك ، كما مرّ كذلك. فنسخ الله بفتح مكة ما ألقته الشياطين من الوساوس ، وأحكم آياته بوعده بنصره لرسوله ، وقال في الآية التالية ٥٣ : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ...) وقال قبلها : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ...) وقال بعدها : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) ... (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) فتشكّكهم في تملك الرسول لا يزول ، ولذلك الله يقول لهم : إنّ هذه المرية والريب منهم لا يزال حتى يصبح الملك لله يوم الساعة (١).

وفي الآية ٣٤ من آيات مناسك الحج : ٢٥ ـ ٣٧ قال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) وكرّره في الآية ٦٧ فقال : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ* وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ* اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

وروى الطبرسي في «جوامع الجامع» أنّ جمعا من كفّار خزاعة المحالفين للمسلمين وفيهم بديل بن ورقاء الخزاعي قالوا لهم : ما لكم إنما تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟! يعنون الميتة! (٢) ولعله كان ذلك بعد فتح مكة ومعاشرتهم

__________________

(١) وبمثل هذا قال الطباطبائي في الميزان ١٤ : ٣٩١ وهو أفضل مقال في هذا المجال ، ويغني عن القيل والقال.

(٢) جوامع الجامع للطبرسي ٢ : ١٠٨ وأشار إليه في مجمع البيان ٧ : ١٥٠ وفي التبيان ٧ : ٣٣٨.

٣٦٨

معهم فيها ، وعليه فالآية نزلت بعد ذلك الجدل تردّ عليه ، وتثبّت المؤمنين على ما هم عليه ، والسياق المتكرّر مساعد مؤيّد (١).

والسورة التالية الخامسة بعد المائة في ترتيب النزول ، والتاسعة عشر في النزول بعد الهجرة هي سورة المنافقون (٢) ، وقد مرّت أخبارها في نهاية غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة ، وهناك قلنا إنّ حوادثها لا تحتمل التأخير تاريخيا ، وآياتها لا تحتمل التأخير نزولا حتى هذه الفترة ، ومع ذلك يفيد الخبر المعتمد في ترتيب النزول نزولها هنا ، فهذه نقطة مبهمة تاريخيا وتفسيريا ، والعلم عند الله.

والسورة التالية السادسة بعد المائة في ترتيب النزول ، والعشرون بعد الهجرة هي سورة المجادلة قوله سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

كان الرجل في الجاهلية إذا قال لأهله : أنت عليّ كظهر امّي حرمت عليه الى الأبد (٣). وكان أوس بن الصامت الأنصاري الخزرجي أخو عبادة بن الصامت متزوجا بابنة عمه خولة بنت ثعلبة (٤) وكان امرأ فيه سرعة ولمم (٥).

فروى الواحدي بسنده عن خولة قالت : دخل عليّ ذات يوم هو كالضجر ، فكلّمني بشيء فراددته فغضب فقال لي : أنت عليّ كظهر امّي. وخرج الى نادي

__________________

(١) وانظر الميزان ١٤ : ٤٠٦ و ٤١٣.

(٢) التمهيد ١ : ١٠٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٥٣.

(٤) أسباب النزول للواحدي : ٣٤٥.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٣٧١.

٣٦٩

قومه ثم رجع إليّ (١) فرآها زوجها وهي ساجدة في صلاتها ، وكانت حسنة الجسم ، فلما انصرفت أرادها (٢) قالت : فراودني عن نفسي فامتنعت منه فشادّني فشاددته ، وكان رجلا ضعيفا فغلبته وقلت : كلّا لا تصل إليّ حتى يحكم الله تعالى فيّ وفيك بحكمه! ثم أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

فروى القمي بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : فقالت : يا رسول الله ، إنّ زوجي (فلانا) قد نثرت له بطني واعنته على دنياه وآخرته ، ولم ير منّي مكروها. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ففيم تشكينه؟ قالت : انّه أخرجني من منزلي وقال لي : أنت عليّ حرام كظهر امّي! فانظر في أمري.

فقال لها رسول الله : ما أنزل الله تبارك وتعالى عليّ كتابا أقضي فيه بينك وبين زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلّفين.

فانصرفت وهي تبكي وتشتكي ما بها الى الله عزوجل. ثم أنزل الله تعالى في ذلك قرآنا : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ...). فبعث رسول الله الى المرأة ، فأتته ، فقال لها : جيئيني بزوجك. فأتت به.

فقال له : أقلت لامرأتك هذه : أنت عليّ حرام كظهر امّي؟ قال : قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله : قد أنزل الله فيك وفي امرأتك قرآنا ، وقرأ (الآية) وقال له : فضمّ إليك امرأتك ، فانّك قد قلت منكرا من القول وزورا ، وقد عفا الله عنك وغفر لك ، ولا تعد (٤).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٣٤٥.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٧١.

(٣) أسباب النزول للواحدي : ٣٤٥.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٥٣ ، ٣٥٤.

٣٧٠

وفي خبر الطبرسي في «مجمع البيان» قال : فلما تلا عليه هذه الآيات قال له : فهل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال : الرقبة غالية وأنا قليل المال فيذهب مالي كله! فقال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال : يا رسول الله ، والله انّي إذا لم آكل ثلاث مرّات (في اليوم) كلّ بصري وخشيت أن تغشى عيني! قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال : لا والله الا أن تعينني على ذلك ، يا رسول الله. فقال : إنّي معينك بخمسة عشر صاعا ، وأنا داع لك بالبركة.

فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعا ودعا له بالبركة ، فاجتمع أمرهما (١).

* * *

وإذا كان هذا الصحابيّ الأنصاري الخزرجي عاد الى طلاق أهل الجاهلية بصيغة الظهار بعد أكثر من ثمان سنين من الهجرة ، فاقتضى نزول مفتتح هذه السورة الى أربع آيات منها ، فالآية الثامنة منها تشير الى مخالفة جمع منهم في تحيّته صلى‌الله‌عليه‌وآله بغير تحية الله والإسلام بقولهم إذا أتوه : أنعم صباحا ، وأنعم مساء ، وهي تحية أهل الجاهلية! فأنزل الله : (... وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٢) فالآية نهتهم عن تحيّة الجاهلية. والآية التالية نهتهم عن النجوى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وأردف حكمة هذا النهي فقال : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولقد أشار في صدر الآية السابقة الثامنة الى أنّ هذا النهي عن النجوى

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٣٧١.

(٢) المجادلة : ٨ والخبر في تفسير القمي ٢ : ٣٥٥.

٣٧١

كان سابقا بنهي النبيّ وانّهم عادوا لما نهوا عنه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ...).

مجالس النبي وأصحابه :

وفي الآية الحادية عشرة دلالتان متقابلتان ، فهي من ناحية تدلّ على وجود مؤمنين في أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله وذوي العلم فيهم وأنّهم ذو وفضل في الإسلام ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحاول تفضيلهم في المجالس فيفسح لهم. ولكن الآية من ناحية ثانية تشير الى أنّ جمعا منهم كان إذا قيل لهم انشزوا أو تفسّحوا يتضايقون من ذلك ، فاقتضى الأمر نزول وحي الله يؤيّد نبي الله في ذلك ، فنزلت الآية.

وقال المقاتلان بشأن نزولها : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بعد أن بنى الصفة في مسجده (في السابعة) يخرج أيام الجمعة قبل الصلاة فيجلس فيهم ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من الأنصار والمهاجرين ، فبيناهم كذلك والمجلس غاصّ بأهله إذ أقبل عليهم جمع من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، فسلّموا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم سلّموا على القوم فردّوا عليهم ولم يفسحوا لهم ، فقال لنفر منهم بقدر البدريّين : يا فلان ويا فلان قوموا. فأقامهم ليجلس البدريّون ، فبدت الكراهة على وجوههم!

وحاول المنافقون إثارتهم فقالوا لهم : إنّ قوما أحبّوا القرب من نبيّهم وأخذوا مجالسهم بقربه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم! فو الله ما عدل على هؤلاء! وأنتم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس! فنزل قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ...)(١).

__________________

(١) المجادلة : ١١ والخبر في مجمع البيان ٩ : ٣٧٨ وأسباب النزول للواحدي : ٣٤٧.

٣٧٢

النجوى مع نبيّ الله :

كما كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يكرم الفقهاء (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ومنهم البدريّون السابقون الى الايمان والجهاد ، فهم أفهم لأحكام الإسلام وعقائده ومعارفه من اللاحقين بهم من بعدهم ، كذلك كان يكرم الفقراء منهم ، ذلك أنّهم أقرب للتقوى والايمان من المستغنين على مزلّة الطغيان ... ولكنّهم كانوا يأتونه ويغلبون الفقراء على مجالسته ومناجاته طويلا ، حتى كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طول جلوسهم ومناجاتهم ، فأمرهم الله بأن يقدّموا بين يدي نجواه صدقة وتعبّدهم بأن لا يناجي أحد رسول الله إلّا بعد أن يتصدّق بشيء ما قلّ أو كثر ، وانما غفر وأعفى عنها من لم يجدها منهم ، إذ قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١).

وكان لعلي عليه‌السلام دينار فصرفها بعشرة دراهم ، فكان يقدّم بين يدي نجواه النبيّ صدقة بدرهم عشر مرّات حتّى أنهاها ، وبخل الموسرون منهم فانتهوا عن مناجاته فلم يعمل بذلك أحد منهم سوى علي عليه‌السلام حتى نزلت الآية التالية : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...) أي اكتفى منهم عن هذه الصدقة بالصدقات المفروضة في الزكوات. وتسجّل العمل بالآية آية اخرى لفضل خاص بعلي عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) المجادلة : ١٢ والخبر في التبيان ٩ : ٥٥١ عن الزجاج ومجمع البيان ٩ : ٣٧٩ عن مقاتل ابن حيّان ، وكذلك في أسباب النزول للواحدي : ٣٤٨.

(٢) المجادلة : ١٣ والخبر في المصادر السابقة ، وما نزل من القرآن للحبري الكوفي عن مجاهد : ٨٤ وكذلك في تفسير فرات : ٤٦٩ ، ٤٧٠ وفيه عن ابن عمر : أنّه دفع الدينار إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفي تفسير القمي ٢ : ٣٥٧ عن مجاهد كذلك ، وعن الصادق عليه‌السلام أيضا. وفي هامش تفسير فرات مصادر عديدة اخرى. وفي المجمع عن مقاتل أن الفاصل كان عشر ليال ٩ : ٣٨٠.

٣٧٣

حزب الشيطان وحزب الرحمن :

إذا كان في أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله من ما زال يحيّيه بتحيّة الجاهلية ، ومن نهاه عن النجوى فعاد لذلك ، ومن يبخل عن الصدقة لنجواه فأمسك عنها بعد أن كان يطيلها معه فيحرم الآخرين منه ، ومن بدت الكراهية على وجهه لمّا أقامه ليجلس بمكانه الصحابيّ البدري. فلقد كان عبد الله بن نبتل ممن كان يجالسه ثم يرفع حديثه الى اليهود ، بل كان إذا خلا الى أصحابه يشتمونه صلى‌الله‌عليه‌وآله!

فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : بينا رسول الله في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين وقد كاد الظلّ يقلّص عنهم ، إذ قال لهم : سيأتيكم الآن انسان ينظر إليكم بعين شيطان! فإذا أتاكم فلا تكلّموه! فجاء رجل أزرق؟!

وعن مقاتل والسدّي : جاء عبد الله بن نبتل وكان أزرق العين ... فقال له رسول الله : علام تشتمني أنت وأصحابك؟! فحلف بالله ما فعل ذلك! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : علام تشتمني أنت وفلان وفلان ، وذكر أسماءهم! فحلف بالله ما فعل ذلك! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل فعلت!

فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبّوه! فنزل الوحي بقوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ويعلم من الآية التالية أنّهم كانوا من الأثرياء الأغنياء الموسرين ذوي أموال وأولاد ، إذ قال تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) والآية التالية أمضت وصف النبيّ له بالشيطان : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ

٣٧٤

الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ* كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

أجل ، هؤلاء حزب الشيطان ، فمن حزب الله؟ : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١).

وفي الآيات من الاتصال الظاهر (٢) ما لا يلائمه أن يكون بعضها لمناسبات اخرى.

__________________

(١) المجادلة : ١٤ ـ ٢٢ والأخبار في أسباب النزول للواحدي عن صحيح الحاكم وغيره : ٣٤٨. أمّا الطوسي في التبيان ٩ : ٥٥٢ والطبرسي في مجمع البيان ٩ : ٣٨٠ فاكتفوا بالنقل عن ابن زيد وقتادة : أنّها في المنافقين.

(٢) الميزان ١٩ : ١٩٨.

٣٧٥
٣٧٦

أهم حوادث

السنة التاسعة للهجرة

٣٧٧
٣٧٨

بعث الجُباة للصّدقات :

روى الواقدي بسنده عن الزهري : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما رجع من فتح مكة وحنين وعمرته في ذي القعدة إلى المدينة ، أقام فيها بقية ذي القعدة وذي الحجة ، فلما رأى هلال المحرّم.

بعث بريدة بن الحصيب ـ أو كعب بن مالك ـ إلى أسلم وغفار لجباية صدقاتهم.

وبعث عبّاد بن بشر الأشهليّ إلى سليم ومزينة.

وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة.

وبعث الضحّاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب.

وبعث ابن اللتبية الأزديّ إلى بني ذبيان.

وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة.

وبعث بسر بن سفيان الكعبي ـ أو نعيم بن عبد الله العدوي ـ إلى بني كعب الخزاعيين ، فوجدهم على عسفان أو على غدير بذات الأشطاط (قرب الحديبية)

__________________

(١) هذا وآية أخذه الصدقات هي الآية ١٠٢ من سورة التوبة النازلة بعد تبوك في التاسعة وعليه فهذا أيضاً من التشريع بالسنة المصدّق بالقرآن فيما بعد.

٣٧٩

وقد حلّ معهم على الماء بنو جهيم من بني تميم وبنو عمرو من بني تميم. فأمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منهم الصدقة ، فجمعت خزاعة الصدقة من كل ناحية ، فقال لهم بنو تميم : تؤخذ أموالكم منكم بالباطل؟! فقال الخزاعيون : نحن قوم ندين بدين الإسلام ، وهذا من ديننا. وقال التميميون : والله لا يصل إلى بعير منها أبدا! وتجمّعوا وتقلدوا أقواسهم وشهروا سيوفهم! فلما رآهم المصدّق خافهم فانطلق مولّيا وهرب منهم (١).

فقدم المصدّق على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، إنّما كنت في ثلاثة نفر. فوثبت خزاعة على التميميين فأخرجوهم من محالّهم وقالوا : لو لا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم ، ليدخلنّ علينا بلاء من عداوة محمد وعلى أنفسكم حيث تعرضون لرسل رسول الله تردّونهم عن صدقات أموالنا. فخرجوا إلى بلادهم.

غزو الفزاري لبني تميم في المحرّم (٢) :

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا؟ فانتدب أوّل الناس عيينة بن حصن الفزاريّ فقال : أنا والله لهم ، أتبع آثارهم ولو بلغوا يبرين (في ديار بني سعد) حتى آتيك بهم إن شاء الله ، فترى فيهم رأيك.

فبعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خمسين فارسا من العرب من غير المهاجرين والأنصار ، فكان يسير بالليل ويكمن لهم بالنهار ، خرج على ثنيّة ركوبة حتى انتهى إلى موضع العرج فوجدهم قد رحلوا إلى أرض بني سليم ، فخرج في أثرهم فوجدهم بعد السقيا في صحراء قد حلّوا وسرّحوا مواشيهم ، فلما رأوا الجمع ولّوا ، فأخذوا منهم أحد عشر رجلا ، وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا ، فحملهم إلى المدينة ، فحبسوا في دار رملة بنت الحارث.

__________________

(١) هذا سوى خبر الوليد بن عقبة مع بني وليعة أو بني المصطلق من خزاعة وسيأتي.

(٢) ذلك انّه إنمّا كان تمرّدا داخل الدولة الإسلامية لا غزوا.

٣٨٠