موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

الرجل يمشي على الطريق وحده! فقال رسول الله : كن أبا ذر! فلما تأمّلني القوم قالوا : يا رسول الله ، هو أبو ذر ، فلما دنوت منه قام رسول الله وقال : مرحبا بأبي ذر! يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده! ثم قال : ما خلفك يا أبا ذر؟ فأخبرته خبر بعيري فقال : إن كنت لمن أعز اهلي عليّ تخلّفا لقد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا الى أن بلغتني. ثم وضع متاعي عن ظهري ، ثم استسقى لي فاتي بإناء من ماء (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٠. ورواه قبله ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٧ بمعناه ، ثم روى بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : لما نفى عثمان أبا ذر الى الربذة (ولم يبق) معه إلّا غلامه وامرأته (أو ابنته ـ القمي ـ) أقبلنا في رهط من أهل العراق (الكوفة) معتمرين ، وإذا بجنازة على ظهر طريق (الربذة) كادت تطؤها إبلنا ، وقام إلينا غلامه فقال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله ، فأعينونا على دفنه! فبكيت عليه وقلت له : صدق رسول الله إذ قال لك : تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك! ثم نزلت وأصحابي فواريناه ، ثم حدّثتهم بحديث النبي معه في مسيره الى تبوك. ورواه الواقدي بلا اسناد. ورواه القمي في تفسيره كذلك وقال : وكانت معه إداوة فيها ماء! فقال له رسول الله : يا أبا ذر! معك ماء وعطشت؟! فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، نعم ، انتهيت الى صخرة عليها ماء السماء فذقته فاذا هو بارد عذب ، فقلت : لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله!

فقال رسول الله : يا أبا ذر رحمك الله ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، يسعد بك قوم من اهل العراق يتولّون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك.

فلما سيّر به عثمان الى الربذة كانت له غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء يقال له النقّاب فماتت كلّها. ويروي القمي الخبر عن ابنته قالت :

ثم مات ابنه ذر ، فوقف على قبره فقال له : رحمك الله يا ذر ، لقد كنت كريم الخلق

٤٤١

ومنهم عمير بن وهب الجمحي ، وأبو خيثمة عبد الله بن خيثمة

__________________

ـ بارّا بالوالدين ، وما عليّ في موتك من غضاضة ، وما بي الى غير الله من حاجة ، وقد شغلني الاهتمام لك من الاهتمام بك ، ولو لا هول المطّلع لأحببت أن أكون مكانك! فليت شعري ما قالوا لك؟ وما قلت لهم؟ ثم رفع يده فقال : اللهم انّك فرضت لك عليه حقوقا ، وفرضت لي عليه حقوقا ، وانّي قد وهبت له ما فرضت لي عليه من حقوقي ، فهب له ما فرضت عليه من حقوقك ، فانّك أولى بالحق وأكرم منّي.

ثم أصابنا الجوع ، فماتت أهله ، وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئا ولم نجد شيئا ، وجمع أبي رملا ووضع رأسه عليه ، فرأيت عينه قد انقلبت ، فبكيت وقلت له : يا أبة كيف أصنع بك وأنا وحيدة؟! فقال : يا بنتي لا تخافي ، فانّي إذا متّ جاءك من أهل العراق من يكفيك أمري ؛ فانّه أخبرني حبيبي رسول الله فى غزوة تبوك فقال : «يا أبا ذر ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، ويسعد بك أقوام من أهل العراق يتولّون غسلك وتجهيزك ودفنك» فإذا أنا متّ فمدي الكساء على وجهي ثم اقعدي على طريق العراق ، فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي : هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفّي.

قالت ابنته : فلما عاين الموت سمعته يقول : مرحبا بحبيب أتى على فاقة! لا أفلح من ندم! اللهم خنقني خناقك ، فو حقّك انّك لتعلم انّي احبّ لقاءك!

قالت ابنته : فلما مات مددت الكساء على وجهه ، ثم قعدت على طريق العراق ، فجاء نفر ، فقلت لهم : يا معشر المسلمين! هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفي! فنزلوا وجاءوا فغسّلوه وفيهم مالك بن ابراهيم الأشتر النخعي كانت معه حلة قيمتها أربعة آلاف درهم فكفّنه فيها ودفنوه وبكوا عليه.

وكأنّهم باتوا ليلتهم تلك عند قبره ، قالت ابنته : فبينا أنا نائمة عند قبره إذ سمعته في نومي يتهجد بالقرآن كما كان يتهجد به في حياته ، فقلت له : يا ابة ما فعل بك ربّك؟ فقال : يا بنيّة ، قدمت على ربّ كريم فرضي عنّي ورضيت عنه ، وأكرمني وحبّاني فاعملي ولا تغيّري. القمي ١ : ٢٩٤ ـ ٢٩٦.

٤٤٢

السالمي (١) فنقل عن هلال بن أميّة الواقفي ـ ومرّ ذكره ثاني المتخلّفين ـ قال : كان أبو خيثمة قد تخلّف معنا ، وكان لا يتهم في اسلامه ولا يغمص (ينقص) عليه ، وتخلّف معنا حتى كان بعد أن خرج رسول الله بعشرة أيام (٢).

وقال ابن اسحاق : بعد أن سار رسول الله بأيام رجع الى أهله في حائط (بستان) له في يوم حار ، وكان له امرأتان ، وقد أقامت كل واحدة منهما لها عريشا ورشّته بالماء وبرّدتا ماء وهيّأتا طعاما (٣).

قال القمي : فلما نظر إليهما قال لهما : والله ما هذا بانصاف : رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر ، قد خرج في الضحّ (الشمس) والريح ، وقد حمل السلاح مجاهدا في سبيل الله ، وأبو خيثمة قوي قاعد في عريشته ، وامرأتين حسناوتين ، لا والله ما هذا بانصاف!.

ثم أخذ ناقته فشدّ عليها رحله فلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنظر الناس الى راكب على الطريق فأخبروا رسول الله بذلك ، فقال رسول الله : كن أبا خيثمة فأقبل ، وأخبر النبي بما كان منه ، فجزّاه خيرا ودعا له (٤).

أحكام فقهية ، ومساجد الطريق :

قالوا : ولقيه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ثنيّة النور ـ بعد ثنيّة الوداع ـ عبد متسلّح قال

__________________

(١) وفي ابن هشام ٤ : ١٦٤ مالك بن قيس. وفي تفسير القمي ١ : ٢٩٧ عن الصادق عليه‌السلام قال : وهم أبو ذر وأبو خيثمة وعمير بن وهب الذين تخلّفوا ثم لحقوا برسول الله.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٨.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٣.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٩٤ والتبيان ٥ : ٣١٤ ، ٣١٥ ومجمع البيان ٥ : ١٢٠.

٤٤٣

لرسول الله : اقاتل معك يا رسول الله؟ قال : وما أنت؟ قال : مملوك لامرأة من بني ضمرة سيّئة الملك! فقال : ارجع الى سيّدتك لا تقتل معي فتدخل النار (١).

وقد مرّ في خبر أبي ذر أن جمله وقف عليه في بعض الطريق فتركه ، ولعلّه تكرّر من غيره ، فمرّ به مارّ فعلّفه أياما وأقام عليه حتى صلح البعير فركبه ، فرآه صاحبه الأول فطلبه فأبى عليه الثاني ، فاختصما إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : من أحيا خفا أو كراعا (ذا خف او ذا كراع ـ ساق ـ) بمهلكة من الأرض ، فهو له (٢) فأسقط حقّ المعرض عن ماله ، وقال بالحقّ للمحيي المتملك.

وكان يعلى بن منبّه قد استأجر معه أجيرا ، فنازعه رجل فعضّ يده ، ونزع الأجير يده من فم الرجل فسقطت ثنيّتاه! فتخاصما إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يعمد احدكم فيعضّ أخاه كما يعضّ الفحل (من الإبل!) ثم لم يحكم له بالدية وأبطل حقّه (٣).

وكانت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله جبة صوف (٤) رومية (٥) ذلك أن الصوف يصرف البرد والحرّ ، فصلى فيها بأصحابه وبيده مقود فرسه ، فبال الفرس فأصاب جبّته ، وكأن أصحابه تساءلوا : ما ذا يفعل؟ فقال : لا بأس بعرقها ولعابها وأبوالها ، ولم يغسل البول عن الجبّة (٦).

وفي المواضع التي صلّى فيها بنيت فيما بعد مساجد : بالدومة في ذي خشب ، ثم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٢.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٢.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٣.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١١.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٣.

٤٤٤

في الفيفاء ، بذي المروة حيث عجز بعير أبي ذر ، ثم بالشقة (١) ، ثم بوادي القرى قرب خيبر (ثم بالصعيد) ، ثم بالحجر (مدائن صالح) ، ثم بذنب الحوصاء (الحوضا) ، ثم بذي الجيفة في صدر الحوصاء ، ثم في جوبر بشق تاراء (ثم بطرف البتراء من ذنب كواكب ، ثم في ألاء ـ السيرة) ، ثم بذات الخطمي ، ثم في سمنة ، ثم في الأخضر ، ثم بذات الزراب ، ثم في ثنية المداران ، ثم في تبوك (٢).

بعض المنافقين في تبوك :

سويد بن صامت الأوسي من بني عمرو بن عوف في قباء ، قال عنه ابن اسحاق : إنه قبل يوم بعاث بين الاوس والخزرج ، كان قد رمى معاذ بن عفراء الخزرجي بسهم غيلة فقتله ، في غير حرب (٣).

وكان اليهود في جوار الخزرج ، فقتل حاطب بن الحارث أحدهم ، فخرج إليه ليلا جمع من الخزرج فتقاتلوا ، فقتل المجذّر بن ذياد البلوي حليف الخزرج سويد بن صامت الأوسي (٤).

وقال الواقدي : رأى سويد بن الصامت رجل من الخزرج في ارض الحرّة قرب بني غصينة مشرق بني سالم ، وكان سويد أعزل وقد جلس يبول ، فأخبر به المجذر بن ذياد فخرج إليه فقتله ، وهو الذي هيّج يوم بعاث (٥).

__________________

(١) في الواقدي : السقيا ، وهي أول المنازل الى مكة لا الشام ، وفي السيرة : الشقة لبني عذرة وهو الصحيح.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩ وعكسها ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٤ بزيادة ثلاثة منازل ..

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٧ و ٣ : ٩٥.

(٤) ابن هشام في السيرة ١ : ٣٠٧.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ٣٠٤.

٤٤٥

وجاء الاسلام فأسلم المجذّر بن ذياد والحارث بن سويد ، وخرجا يوم احد مع المسلمين ، فلما التقى الناس عدى الحارث على المجذر فقتله بأبيه سويد (١) ورآه خبيب بن يساق الخزرجي فأخبر النبي به ، فركب حماره إليهم الى قباء يفحص عن هذا الأمر فبينا هو على حماره في مسيره إليهم إذ نزل عليه جبرئيل فأخبره بذلك وأمره بقتله. وكان ذلك في يوم حار لا يذهب فيه الى قباء ، انما كان يذهب إليها يوم السبت ويوم الاثنين ، فدخل مسجد قباء وأخذ يصلي فيه ، وسمع أهل قباء به فجاؤوا يسلّمون عليه ، وجلس رسول الله يتحدث إليهم ، وكان معه عويم بن ساعدة الاوسي ، فطلع الحارث بن سويد ، فلما رآه رسول الله قال لعويم :

قدّم الحارث بن سويد الى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذّر بن ذياد ، فانه قتله يوم احد ... فقدّمه عويم فقتله (٢).

ولم يذكر هنا انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ للحارث بن سويد أو لأخيه الجلاس دية قتل أبيهم سويد في الجاهلية من المجذّر بن ذياد ، إلّا أنّ الواقدي ذكر بشأن الجلاس بن سويد أنه كان محتاجا وكانت له دية على بعض قومه (كذا) منذ الجاهلية ، فلما قدم رسول الله أخذها له فاستغنى بها (٣) وقال في غزوة تبوك : وكان الجلاس فقيرا فأعطاه مالا من الصدقة لحاجته! (٤).

ولعله من حاجته كان قد تزوج أرملة سعد أو سعيد ولها منه عمير بن سعيد فكان في حجر جلاس بن سويد (٥).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٧ و ٣ : ٩٤.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٠٥ ومرّ خبره من قبل في أخبار ما بعد احد.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٤ و ١٠٦٨ وهنا لم يقل : على بعض قومه.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٥.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٦ والواقدي ٢ : ١٠٠٥.

٤٤٦

وقد مرّ في عقد الالوية والرايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أن يحمل رايات الاوس والخزرج اكثرهم أخذا للقرآن ، فكان أبو زيد قيس بن السكن الأوسي يحمل راية بني عمرو بن عوف ... فقال وديعة بن ثابت منهم : مالي أرى قرّاءنا هؤلاء أو عبنا بطونا وأجبننا عند اللقاء وأكذبنا ألسنة؟! (١) وقال الجلاس بن سويد منهم : هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منّا! والله لئن كان محمّد صادقا لنحن شرّ من الحمر! (٢).

فقال له ربيبه عمير بن سعد : يا جلاس! والله انك لأحب الناس إليّ وأحسنهم عندي يدا ، وأعزّهم عليّ أن يصيبه شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنّك! ولئن صمت عليها ليهلكن ديني ، ولإحداهما أيسر عليّ من الاخرى! ثم مشى الى رسول الله فذكر له ما قال جلاس (٣).

فقال رسول الله لعمّار بن ياسر : الحق القوم فانهم احترقوا! فقال لهم : ما قلتم؟! قالوا : ما قلنا شيئا ، انما كنا نقول شيئا على حدّ اللعب والمزاح (٤) وفي رواية أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام قال : هؤلاء قوم كانوا مؤمنين صادقين ارتابوا وشكوا ونافقوا بعد ايمانهم ، وهم أربعة نفر أحدهم مخشي بن حمير الأشجعي (وهذا) اعترف وتاب وقال : يا رسول الله أهلكني اسمي! فسمّاه رسول الله : عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : يا ربّ اجعلني شهيدا حيث لا يعلم أحد أين أنا (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٣ و ١٠٦٦ ، ١٠٦٧.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٤.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٦.

(٤) فأنزل الله (فيما بعد): (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ...) التوبة : ٦٥.

(٥) فقتل يوم اليمامة ، ولم يعلم أحد اين قتل. تفسير القمي ١ : ٣٠١.

٤٤٧

وجاء وديعة بن ثابت الأوسي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله يعتذر ، وقد ركب النبي ناقته فأخذ بحبل ناقته ويمشي معها ورجلاه يتعثران بالأحجار وهو يقول : يا رسول الله ، انما كنا نخوض ونلعب! فلم يلتفت إليه رسول الله (١).

ومنزل الحجر مدائن صالح عليه‌السلام :

مرّ في الخبر : أن دليله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك كان علقمة بن الفغواء الخزاعي وكان يظهر من الخبر : أن منزل الحجر مدائن صالح عليه‌السلام كان المنزل السادس بل له بها المسجد السادس من المساجد التي بنيت على مواضع صلاته في طريقه الى تبوك ، ومرّ فيه أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجمع بين الظهر والعصر في منزله : يؤخر الظهر حتى يبرد ويعجّل العصر فيجمع بينهما وكان هذا فعله حتى رجع من تبوك ، وكان يروح من المنزل بعد العصر ممسيا حيث يبرد ، ذلك أنه كان في حرّ شديد (٢).

مع هذا نرى الواقدي يروي عن أبي حميد الساعدي انهم أمسوا بالحجر (٣).

وروى ابن اسحاق بسنده عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه : أنهم نزلوا بالحجر واستقوا من بئرها (٤) وروى الواقدي عن أبي هريرة : انهم استقوا من بئرها وعجنوا ، ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم : لا تشربوا من مائها ولا تتوضئوا منه للصلاة! وروى عن سهل بن سعد : انّه عجن لاصحابه وذهب ليطلب الحطب فسمع المنادي ينادي : إنّ رسول الله يأمركم أن لا تشربوا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٦.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٤.

٤٤٨

من ماء بئرهم! فقالوا : يا رسول الله قد عجنا! قال : اعلفوه الابل! فجعل الناس يهرقون ما في أسقيتهم. ولكنه يقول : وتحوّلنا الى بئر النبي صالح عليه‌السلام ، فجعلنا نستقي ، ورجعنا ممسين.

فقال رسول الله : لا تسألوا نبيّكم الآيات! هؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم آية ، فكانت الناقة ترد عليهم من هذا الفلج (الشق) تسقيهم من لبنها يوم وردها ما شربت من مائها ، فعقروها فاوعدوا ثلاثا وكان وعد الله غير مكذوب ، فأخذتهم الصيحة فلم يبق أحد منهم تحت أديم السماء إلّا هلك (١) وستهبّ هذه الليلة ريح شديدة ، فلا يقومنّ أحد منكم إلّا مع صاحبه ، ومن كان له بعير فليوثق عقاله (٢).

ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله ، إلّا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته فخنق على مذهبه. وذهب الآخر لطلب بعيره ، والحجر قريب من جبلي قبيلة طيّ : أجأ وسلمى ، فدفعته الريح إليهما عند طيء (٣).

ولم يمنعهم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الدخول في دور ثمود من مدائن صالح عليه‌السلام إلّا أنه حثّهم أن يدخلوها معتبرين باكين خائفين أن يصيبهم ما أصابهم ، فيما رواه ابن هشام عن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٦ و ١٠٠٧.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٦.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٥ بسنده عن عباس بن سهل الساعدي والواقدي عن أبي حميد الساعدي وفيهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا للأوّل فشفي وافتقد الثاني حتى رجع الى المدينة فحمله جمع من طيء إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله. وذكر ابن اسحاق أن الراوي كان يعلم هذين الرجلين من الأنصار بأسمائهم ولكنه أبى أن يسمّيهم له لخلافهما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! وروى خبرهما المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٩ عن المنتقى للكازروني.

٤٤٩

الزهري (١) والواقدي عن سهل بن سعد الساعدي ، وعن أبي سعيد الخدري : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كره أن يؤخذ شيء من متاعهم وأمرهم بالقائه (٢).

استجابة دعاء ، أم انواء؟! :

روى الواقدي بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : ولما أصبح رسول الله ارتحل ولا ماء معهم ، فشكوا ذلك الى رسول الله (٢) قالوا : يا رسول الله ، لو دعوت الله فسقانا؟ قال : (نعم) لو دعوت الله لسقيت. فقالوا : فادع الله يا رسول الله ليسقينا (٤).

وروي عن عبد الله بن أبي حدرد قال : رأيت رسول الله استقبل القبلة فما برح يدعو حتى رأيت السحاب يأتلف من كل ناحية ، حتى سحّت علينا السماء ، وكأني (لا زلت) أسمع تكبير رسول الله في المطر. ثم كشف الله السماء عنّا وان في الأرض غدائر يصبّ بعضها في بعض! فارتوى الناس عن آخرهم! وسمعت رسول الله يقول : أشهد أني رسول الله.

قال : فقلت لرجل من المنافقين (أوس بن قيظي أو زيد بن اللصيت القينقاعي) : ويحك! أبعد هذا شيء؟! فقال : سحابة مارة!.

ثم روى بسنده عن محمود بن لبيد عن زيد بن ثابت قال : لما كان من أمر الماء في غزوة تبوك ما كان ، دعا رسول الله فأرسل الله سحابة فأمطرت ، حتى ارتوى الناس. فقلنا (لسعد بن زرارة وقيس بن فهر) : يا ويحك! أبعد هذا شيء؟! فقال : سحابة مارّة (٥).

__________________

(١) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٦٥.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٨.

(٤) الخرائج والجرائح ١ : ٩٨ ح ١٦٠.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٩ ورواه المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٥ عن المنتقى للكازروني.

٤٥٠

ورواه ابن اسحاق بسنده عنه قال : لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين كان يسير مع رسول الله حيث سار ، فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله فارسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس ، أقبلنا عليه وقلنا له : ويحك! هل بعد هذا شيء؟! فقال : سحابة مارة! ولم يسمّه!.

قال الراوي فقلت لمحمود : هل كان الناس يعرفون فيهم النفاق؟ فقال : نعم والله ، ان كان الرجل ليعرفه في أخيه وأبيه وعمّه وعشيرته ثم يلبس بعضهم على بعض (١).

بل قام قوم منهم على شفير الوادي يقول بعضهم لبعض : مطرنا بنوء الذراع أو بنوء كذا (٢) حتى سمعهم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لمن حوله : ألا ترون؟! وكان خالد بن الوليد واقفا فقال : ألا أضرب أعناقهم؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، هم يقولون هكذا وهم يعلمون ان الله انزله (٣).

ضلال الناقة ، والمنافقين :

مرّ في خبر أبي حميد الساعدي قال : أمسينا بالحجر ... وفي خبر سهل الساعدي : لم نرجع إلّا ممسين ... وفي خبر الخدري : لما أصبح ارتحل ولا ماء معهم. بما يفيد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بات تلك الليلة في منزل الحجر ، ولكن كأنه سار ذلك النهار

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٦.

(٢) ناء ضد باء ، وباء وآب بمعنى واحد ، فناء بمعنى نهض وطلع ، ومصدره النوء بمعنى الطلوع ، كما النجم ، واطلق عليه ، وجمعه أنواء : النجوم إذا غابت ، وانما قيل لها أنواء ، لأنها اذا سقط الساقط منها بالمغرب طلع بإزائه طالع بالمشرق ، كما في لسان العرب ١ : ١٧٦ ، وعنه في هامش الخرائج والجرائح ١ : ٩٩.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٩٨ ح ١٦٠.

٤٥١

ومساءه ، ذلك أن الواقدي روى بسنده عن محمود بن لبيد قال : ثم ارتحل حتى اصبح في منزل ، فضلّت ناقته القصواء.

وكان أحد اليهود من بني قينقاع يسمى زيد بن اللصيت قد أسلم بما فيه من خبث اليهود وغشّهم ومظاهرة أهل النفاق ، وكان قد حضر غزوة تبوك مع عمارة بن حزم وكان عقبيّا بدريا وأخيه عمرو بن حزم وغيرهم ، ولما ضلت ناقته صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عمارة عنده ، وزيد بن اللصيت في رحل عمارة فقال : أليس محمّد (كذا) يزعم انّه نبيّ ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟! (١).

وروى الراوندي بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : قال المنافقون : يحدّثنا عن الغيب ولا يعلم مكان ناقته! فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فأخبره بما قالوا وقال له : إنّ ناقتك في شعب كذا متعلق زمامها بشجرة بحر (كذا) (٢).

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمارة عنده : إنّ رجلا قال : هذا محمّد يخبركم انّه نبي ويزعم انّه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته! وانّي والله ما اعلم إلّا ما علّمني الله ، وقد دلّني عليها ، وهي في هذا الوادي في شعب كذا. فرجع عمارة بن حزم الى رحله فقال : والله لعجب من شيء حدّثناه رسول الله آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا. فقال رجل من أهل رحله (أو أخوه عمير) : والله زيد قال هذه المقالة قبل أن تأتي! فأقبل عمارة على زيد يطعنه في عنقه ويقول : اخرج أي عدوّ الله من رحلي فلا تصحبني ، إليّ عباد الله انّ في رحلي لداهية وما أشعر! (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٩ ، ١٠١٠.

(٢) قصص الأنبياء : ٣٠٨ ح ٣٨٠ وفي اعلام الورى ١ : ٨٣ بلا اسناد وكذلك في الخرائج والجرائح ١ : ٣٠ ح ٢٥ و ١٠٨ ح ١٧٨ و ١٢١ ح ١٩٧ وفي بحار الأنوار ١٨ : ١٠٩ عن الثلاثة و ٢١ : ٢٥٠ عن المنتقى للكازروني.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٦ ، ١٦٧ بسنده عن محمود بن لبيد.

٤٥٢

ونادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الصلاة جامعة ، فلما اجتمع الناس للصلاة خطبهم فقال في خطبته : أيها الناس ، إنّ ناقتي بشعب كذا. فبادروا إليها (١) وكان الذي أتى بها الحارث بن خزمة الأشهلي ، وجدها كما قال رسول الله قد تعلق زمامها بشجرة.

فقال زيد بن اللصيت : قد كنت شاكا في محمد (كذا) وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرة ، لكأني لم اسلم الا اليوم ، وأشهد أنه رسول الله.

ولكن خارجة بن زيد بن ثابت يقول : لم يزل فسلا (رذلا) حتى مات (٢).

وقبل تبوك :

روى الواقدي عن المغيرة بن شعبة قال : بتنا بعد الحجر وقبل تبوك ، وقمنا بعد الفجر ، وخرج رسول الله لقضاء الحاجة فحملت مع النبيّ ادواة فيها ماء وتبعته بالماء ، فأبعد ، ثم صببت عليه فغسل وجهه ، وكانت عليه جبّة رومية ضيّقة الأكمام ، فأراد أن يخرج يديه ليغسلهما فضاق كمّ الجبّة ، فأخرج يديه من تحت الجبّة فغسلهما (٣) ومسح برأسه ، فأهويت لأنزع خفّه فقال : دعهما فاني أدخلتهما طاهرتين (٤). فرأيته يمسح على ظاهر الخفّين (٥).

__________________

(١) قصص الأنبياء : ٣٠٨ ح ٣٨٠ عن الصادق عليه‌السلام.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٠. وهنا ينفرد الواقدي عن عقبة بن عامر بخبر عن نوم بلال ونوم النبيّ عن صلاة الصبح الى ما بعد طلوع الشمس ، في منزل قبل تبوك ٢ : ١٠١٥ بينما مرّ خبره بعد خيبر. ولدى وصوله الى تبوك يروي الواقدي خبر خطبته لها ٢ : ١٠١٦ بينما مرّ خبره.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١١.

(٤) كما في البخاري ومسلم ومسند أحمد.

(٥) كما في سنن أبي داود والترمذي ومسند أحمد ، وفي خبر آخر فيهما عن ابن شعبة

٤٥٣

وانتهى الى تبوك :

وانتهى النبيّ الى تبوك يوم الثلاثاء من شعبان (١) فكان سفر تبوك عشرين ليلة (٢)

__________________

ـ زاد النعلين والجوربين. وروى الشيخان وابو داود والترمذي وأحمد مسحه على الخف عن جرير بن عبد الله البجلي. وروى الترمذي والنسائي واحمد والشافعي عن صفوان بن عسّال قال : أمرنا رسول الله في الخفين اذا نحن أدخلناهما على طهر أن نمسح عليهما ولا نخلعهما الا من جنابة ، اذا أقمنا يوما وليلة واذا سافرنا ثلاثا. وروى أبو داود المسح على الجوربين عن أنس بن مالك وأبي امامة وابن عباس ، والبراء بن عازب وسهل بن سعد وعبد الله بن مسعود وعمرو بن حريث وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، كما في التقويم القطري لعام ١٤١٨ ه‍ : ١٤٨ ، ١٤٩.

وفي تفسير العياشي عن أبي بكر بن حزم قال : توضأ رجل وعليّ عليه‌السلام يراه فمسح على خفيه ودخل مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل في الصلاة ، وسجد فجاء علي عليه‌السلام فوطأ على رقبته وقال له : ويلك! تصلي على غير وضوء فقال : أمرني عمر بن الخطاب بهذا (المسح على الخفين) فأخذ علي بيده حتى انتهى الى عمر فقال له : انظر ما يروي عليك هذا ـ ورفع صوته ـ : فقال عمر : نعم أنا أمرته ، فإنّ رسول الله قد مسح! قال : قبل نزول المائدة أو بعدها؟ قال : لا أدري! قال : فلم تفتي وأنت لا تدري؟! ان الكتاب سبق الخفين. تفسير العياشي ١ : ٢٩٧.

فمسحه صلى‌الله‌عليه‌وآله على خفه في تبوك كان سابقا على نزول سورة المائدة وآية الوضوء والمسح بالأرجل وعليه فالمسح على الخفين منسوخ بالقرآن بسورة المائدة.

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٨ واعلام الورى ١ : ٢٤٤. فلو كان خروجه في ٢٥ رجب و ٢٠ ليلة في الطريق يكون وصوله الى تبوك في منتصف شعبان.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٦١.

٤٥٤

وأقام بها عشرين ليلة يصلي ركعتين ، وهرقل يومئذ في حمص (١) وكانت اقامته بقية شعبان (نصفها الثاني) وأياما من شهر رمضان (٢).

قالوا : ولما انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك وضع بيده حجرا قبلة واحجارا تليه ، ثم صلى الظهر بالناس (٣) ركعتين (٤) وكان يؤخّر الظهر حتى يبرد ويعجّل العصر فيجمع بينهما ، فعل ذلك في تبوك حتى رجع منه (٥).

وحان موعد غدائه وكان مع ستة نفر من أصحابه اذ جاءه رجل من بني سعد بن هذيم فوقف عليه وقال : يا رسول الله ، اشهد أن لا إله إلّا الله وانك رسول الله. فقال له النبيّ : قد أفلح وجهك ، اجلس. ثم قال : يا بلال ، اطعمنا.

قال الرجل : فبسط بلال اديما ثم قرّب زقّا (قربة صغيرة مدبوغة) فأدخل يده فيها وأخرج منها بيده قبضات من تمر معجون بالسمن والأقط. فقال لنا رسول الله : كلوا. وإن كنت لآكله وحدي ، فأكلنا حتى شبعنا! فقلت : يا رسول الله ، ان كنت لآكل هذا وحدي! فقال : الكافر يأكل في سبعة أمعاء! والمؤمن يأكل في معى واحد!.

قال الرجل : ومن الغد جئته حين غدائه لأزداد في الاسلام يقينا ، فاذا حوله عشرة ، وقال لبلال : اطعمنا يا بلال ، فقرّب جرابا فيه تمر وجعل يخرج منه قبضات ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥ وقال ابن اسحاق : بضع عشرة ليلة. السيرة ٤ : ١٧٠ وجمع القولين المسعودي مع القصر في الصلاة في التنبيه والاشراف : ٢٣٥. وفي بحار الأنوار ٢١ : ٢٥١ عن المنتقى للكازروني : أقام بتبوك شهرين! بينما أكثر روايته عن الواقدي.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٤٤.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩.

٤٥٥

فقال له النبي : اخرج ، ولا تخف من ذي العرش إقتارا! فنشر كل الجراب ، ولم يكن كثيرا بل مدّين. فوضع النبي يده على التمر ثم قال : كلوا باسم الله ، فأكلوا وأنا معهم حتى ما أجد له مسلكا! ومع ذلك بقي على نطع الأديم مثل ما جاء به بلال كأنّا لم نأكل منه تمرة واحدة!.

قال الرجل : ثم عدت من الغد ومعه عشرة نفر أو يزيدون رجلا أو رجلين ، فقال لبلال : يا بلال اطعمنا. فجاء بالجراب فنثره ، ووضع النبي يده عليه فقال : كلوا باسم الله ، فاكلنا حتى شبعنا ورفع مثل ما صبّ (١).

قال : وكان هرقل قد علم من علائم النبي وصفاته أشياء فبعث إليه رجلا من غسّان من عرب الشام يسأل : هل هو يقبل الصدقة؟ وينظر هل في عينيه حمرة؟ وهل بين كتفيه خاتم النبوة؟ فجاء الرجل وسأل فاذا هو لا يقبل الصدقة ، ونظر الى حمرة عينيه وخاتم النبوة بين كتفيه ، ووعى أشياء من حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم عاد الى هرقل (في حمص) فذكر له ذلك. فدعا قومه الى التصديق به فأبوا حتى خافهم على ملكه فامتنع هو أيضا ، ولكنه ظلّ في موضعه في حمص لم يزحف ولم يتحرك. فتبيّن بطلان ما اخبر به صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه من دنوه الى أدنى الشام الى الحجاز وبعثه عسكره نحوهم (٢).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يكثر التهجد في الليل ويصلي بفناء خيمته ، فيقوم ناس من المسلمين يحرسونه ، وأقبل ذات ليلة عليهم فقال لهم : اعطيت خمسا ما اعطيهنّ أحد قبلي :

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٧ ، ١٠١٨ وإليه يعود ما جاء مختصرا في اعلام الورى ١ : ٨١ والخرائج والجرائح ١ : ٢٨ ح ١٥ وعنهما في بحار الأنوار ١٨ : ٢٧ ح ٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٨ ، ١٠١٩ ورواه المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٥١ عن المنتقى للكازروني.

٤٥٦

١ ـ بعثت الى الناس كافة ، وانما كان النبي يبعث الى قومه (كذا).

٢ و ٣ ـ وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، أينما أدركتني الصلاة تيمّمت وصلّيت ، وكان من قبل لا يصلّون إلّا في كنائسهم والبيع (كذا).

٤ ـ واحلّت لي الغنائم آكلها ، وكان من قبلي يحرمونها.

٥ ـ والخامسة : هي ما هي! هي ما هي! قيل لي : سل ، فكل نبيّ قد سأل ، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلّا الله (١).

وقال : من يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، حرّمه الله على النار (٢).

الخير في نواصي الخيل :

وفي تبوك قام الى فرسه الظّرب فطرح عليه ثيابا وجعل يمسح ظهره بردائه! فقيل : يا رسول الله ، تمسح ظهره بردائك؟ فقال : نعم ، انّي قد بتّ الليلة وان الملائكة لتعاتبني في مسح الخيل ، وأخبرني خليلي جبرئيل انّه يكتب لي بكلّ حسنة او فيها إيّاه حسنة ، وانّه يحطّ بها عني سيئة. وما من امرئ من المسلمين يربط فرسا في سبيل الله فيوفيه بعليفه يلتمس به قوته إلّا كتب الله له بكل حبة حسنة ، وحط عنه بكل حبة سيئة!

فقيل : يا رسول الله ، فأي الخيل خير؟ قال : أدهم ، أرثم ، أقرح ، محجّل الثلاث مطلق اليمين. فان لم يكن أدهم فكميت على هذه الصفة (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢١ ، ١٠٢٢ وإليه يعود ما في الخصال ١ : ٢٠١ ح ١٤ و ٢٩٢ ح ٥٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٠. والأدهم : الشديد الحمرة الى السواد. والأرثم : في شفته العليا وأنفه بياض. والأقرح : بياض ما فوق أنفه في وجهه دون الغرة. ومحجّل الثلاث

٤٥٧

وقال : إنّ الخيل في نواصيها الخير الى يوم القيامة ، اتخذوا من نسلها وباهوا بصهيلها المشركين. أعرافها ادفاؤها ، وأذنابها مذابها (١) والذي نفسي بيده انّ الشهداء ليأتون يوم القيامة أسيافهم على عواتقهم لا يمرّون بأحد من الأنبياء إلّا تنحّى عنهم! حتى انهم ليمرّون بابراهيم الخليل خليل الرحمن فيتنحى لهم! حتى يجلسوا على منابر من نور ، ويقول الناس : هؤلاء الذين أراقوا دماءهم لربّ العالمين! فيكونون كذلك حتى يقضي الله عزوجل بين عباده (٢).

ولقد فضّل نساء المجاهدين على القاعدين في الحرمة كامّهاتهم ، فما من أحد من القاعدين يخالف الى امرأة من نساء المجاهدين فيخونه في أهله إلّا اوقف يوم القيامة فيقال له : إنّ هذا خانك في أهلك! فخذ من عمله ما شئت! فما ظنّكم؟! (٣).

فقال له رجل : كان لي امرأتان فاقتتلتا ، فرميت احداهما فأصبتها (يعني ماتت) فما تقول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تعقلها ولا ترثها (٤).

ومن الحوادث في تبوك بعد أن أقاموا بها أياما : وفاة عبد الله المزني ذي البجادين ، وقد مرّ خبره أنهم لما خرجوا الى تبوك طلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعو له بالشهادة فقال : اللهم انّي احرّم دمه على الكفار! فقال : يا رسول الله ليس هذا أردت! فقال : انك اذا خرجت غازيا في سبيل الله فاخذتك الحمّى فقتلتك فأنت شهيد! فكأنه أشار بهذا الى أنه سيرزق الشهادة بالحمّى وليس بإراقة دمه بيد

__________________

ـ مطلق اليمين : في أرجله الثلاث دون اليمين بياض الى موضع القيد ، كما في النهاية.

(١) يقول : دفء الفرس في عرفه (الشعر الكثير فوق رقبته ، وأذنابها يذبّ عنها).

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٩ ، ١٠٢٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٧. أي تؤدي ديتها لمن يرثها دونك وأنت لا ترثها.

٤٥٨

الكفار ، وكان كذلك ، واخبر رسول الله بذلك فحضره ليلا وأمر بحفر قبره ، وبلال المؤذن بيده شعلة نار ، وقد نزل النبي في قبره ويدلون بجسده إليه وهو يقول : اللهم انّي أمسيت راضيا عنه فارض عنه! وكان عبد الله بن مسعود حاضرا فلما سمع ذلك قال : يا ليتني كنت صاحب الحفرة ـ أو ـ اللحد (١).

حوادث هذه السفرة ، وادي القرى :

مرّ عن الواقدي : أنّ مساجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفة في سفره الى تبوك : بذي خشب ثم بالفيفاء ثم بالمروة ثم بالشقة ثم بوادي القرى قبل الحجر (٢).

ووادي القرى يسمى اليوم وادي العلا شمال خيبر بعد تيماء وهي على ١٦٥ كم على طريق الشام من المدينة ، وهي ديار بني عذرة (٣).

وكان من بطون بني عذرة بنو الأحبّ ، وكأنهم كانوا يسكنون من وادي القرى موضعا يقال له القالس ، فأقطعه النبي لهم وأمر الأرقم فكتب لهم بذلك كتابا رواه ابن سعد :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، هذا ما اعطى محمّد رسول الله بني الأحب ، أعطى قالسا. وكتب الأرقم» (٤).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧١ والواقدي في المغازي ٢ : ١٠١٤ ونقله في بحار الأنوار ٢١ : ٢٥٠ عن المنتقى للكازروني.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩.

(٣) معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية : ١٥٩.

(٤) مكاتيب الرسول ٢ : ٤٥٠ عن الطبقات ١ : ٢٧٣ واعلام السائلين : ٤٩.

٤٥٩

أهل تيماء :

كانت تيماء حصنا ينسب الى السموأل بن أوفى بن عاديا الأزدي القحطاني ، فأهل تيماء من بني عاديا الأزديّين ولكنّهم يهود. وفي التاسعة للهجرة لما بلغهم نزول الرسول بوادي القرى كأنّهم رهبوه (١). فأرسلوا إليه وصالحوه على أن يقيموا بأرضهم وبلادهم وعليهم الجزية.

وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن سعيد فكتب لهم : بذلك كتابا رواه ابن سعد :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، هذا كتاب من محمّد رسول الله لبني عاديا : أنّ لهم الذمّة وعليهم الجزية ، ولا عداء ولا جلاء ، الليل مدّ والنهار شد. وكتب خالد بن سعيد» أي : لا يعادون ولا يجلون من ديارهم ما امتدت الليالي واشتدت الأيام (٢).

وكان في اراضي تيماء مع بني عاديا ناس كثير من بني جوين من الطائيين ، وكأنّه أسلم قسم منهم وقدموا عليه واستكتبوه فأمر المغيرة أن يكتب لهم فكتب لهم :

«... لبني جوين الطائيّين لمن آمن منهم بالله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وفارق المشركين ، وأطاع الله ورسوله ، وأعطى من المغانم خمس الله وسهم النبي ، وأشهد على اسلامه ، فانّ له أمان الله ومحمّد بن عبد الله. وانّ لهم أرضهم ومياههم ما أسلموا عليه ومن ورائها غدوة الغنم مبيتة. وكتب المغيرة» اي : إن لهم ما أسلموا عليه من أرضهم وعلاوة عليها ما تغدو عليه أغنامهم الى أن تبيت ليلها (٣).

دومة الجندل :

مرّ أن تيماء تبعد عن المدينة الى الشام ١٦٥ كم على طريق معبّدة تصل بعدها

__________________

(١) في مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١ : كان أهل تيماء قد خافوا النبي لما رأوا العرب قد أسلموا.

(٢) مكاتيب الرسول ٢ : ٤٣٤ ، ٤٣٥ عن الطبقات ١ : ٢٧٩ ومع ذلك أجلاهم عمر.

(٣) مكاتيب الرسول ٢ : ٣٣٩ عن الطبقات ١ : ٢٦٩.

٤٦٠