موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

النساء الثوابت :

قال الواقدي : ورأت أمّ حارث الأنصارية الناس يولّون منهزمين فجعلت تقول : والله ما رأيت كاليوم ما صنع هؤلاء الفرّار بنا! من جاوز بعيري أقتله! ورأت زوجها أبا الحارث على جمله والجمل يريد أن يلحق بالّافه! فقالت له : يا حار! تترك رسول الله؟! وأخذت بخطام الجمل وهي لا تفارقه. ومرّ بها في هذا الحال عمر بن الخطاب ، فقالت له أمّ الحارث : يا عمر! ما هذا! فقال عمر : أمر الله (١).

وفي تفسير القمي قال : كانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول لهم : اين تفرّون عن الله ورسوله؟! ومرّ بها (فلان؟) فقالت له : ويلك! ما هذا الذي صنعت؟! فقال لها : هذا أمر الله (٢).

وألمح الواقدي إلى أن أبا طلحة زيد بن سهيل الأنصاري كان من الثابتين أو الثائبين الأوائل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو زوج أمّ سليم بنت ملحان أمّ أنس بن مالك الأنصاري ، وروى عنه ـ وعن أمّ عمارة : أنها جرّدت سيفا وثبتت ومعها أمّ الحارث وأم سليط وأمّ سليم وهي حامل بعبد الله بن أبي طلحة ، ومعها خنجر سلّته وهي تصيح بالأنصار : أية عادة هذه! ما لكم وللفرار! ونظرت إلى رجل من هوازن

__________________

ـ أمسكت بزوجها معها ٢ : ٩٠٤. وبهذا يزداد التسع الثابتون من بني هاشم إلى مثلهم من غيرهم فالمجموع سبعة عشر رجلا ولعل ما عدا التسعة من أوائل الراجعين ، وسنقرأ عن عمر خبرا خاصا مع إحدى النساء الثوابت ، فيما يلي. وسنقرأ عن عقيل بن أبي طالب أنه قاتل المشركين ورجع إلى مكة وسيفه متلطخ بدمائهم ٢ : ٩١٨.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٤. وروى مثله عن أبي قتادة ٣ : ٩٠٨.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٧ والكلمة من البوادر الاولى لفكرة القدر بمعنى الجبر.

٢٨١

حامل لواء لهم على جمل وهو يتابع المسلمين ، فاعترضته وضربت بخنجرها عرقوب جمله فوقع على ذيله ، فضربت الرجل بخنجرها حتى قتلته وأخذت سيفه!

تقول : وكان المسلمون قد بلغ أقصى هزيمتهم مكة! ورسول الله قائم مصلت بيده سيفه قد طرح غمده ينادي : يا أصحاب سورة البقرة! ثم تراجع المسلمون وكرّوا ، فكرّوا الأنصار ينادون بشعارهم شعار الأوس : بني عبيد الله ، وشعار المهاجرين : بني عبد الرحمن ، وسائر المسلمين : يا خيل الله! ورجع فيهم ابناي إلي : حبيب وعبد الله (١).

وروى عن ابن عباس : أنّ الصابرين كانوا ثمانية منهم حارثة بن النعمان (٢).

وروى عن حارثة بن النعمان قال : لما انكشف الناس قال لي رسول الله : يا حارثة كم ترى الذين ثبتوا؟ فنظرت عن يميني وشمالي فحزرتهم مائة ، فقلت : يا رسول الله هم مائة. وما التفتّ ورائي تحرّجا (٣).

ويقال : إنّ المائة الصابرة يومئذ : ثلاثة وثلاثون من المهاجرين ، وسبعة وستون من الأنصار قد حفّوا به صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ولعلهم أوائل الراجعين.

شماتة الكفّار :

قال ابن اسحاق : لما رأى جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم بعضهم بما في نفوسهم من الضغن : فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! (٥) فسمعه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٣ هذا وقد مرّ أنها كانت حاملا بعبد الله ، فلعلّ أحدهما : عبيد الله.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠١.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٦ واليعقوبي ٢ : ٦٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٩١٠.

٢٨٢

أبو مقيت الأسلمي فناداه : أما والله لو لا أنّي سمعت رسول الله ينهى عن قتلك لقتلتك! وقال سهيل بن عمرو المخزومي : إنّ هذه لا يجبرها محمد وأصحابه! فسمعه عكرمة بن هشام المخزومي فقال : ليس الأمر إلى محمد وإنّما الأمر بيد الله ، إن اديل عليه اليوم فان له العاقبة غدا. فقال له سهيل : إنّ عهدك بخلافه لحديث! فقال له عكرمة : إنّا كنّا نوضع في غير شيء كنا نعبد الحجر وهو حجر لا يضرّ ولا ينفع! (١).

وروى المفيد في «الإرشاد» عن معاوية بن أبي سفيان قال : لما كانت الهزيمة يوم حنين لقيت بني أميّة ومعهم أبي منهزمين ، فصحت بأبي : يا ابن حرب : لا قاتلت عن دينك! ولا صبرت مع ابن عمك! ولا كففت هؤلاء الأعراب عن حريمك! فقال : من أنت؟! قلت : معاوية. فقال : ابن هند؟! قلت : نعم ، فقال : بأبي أنت وامّي! ووقف ، فاجتمع إليه جمع من أهل مكة (٢).

مقتل أبي جرول :

جاء في «الإرشاد» : قالوا : وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل يرفعه لمن وراءه من المشركين ليتّبعوه ، فإذا أدرك ظفرا من المسلمين أكبّ عليهم ، وهو يرتجز ويقول :

أنا أبو جرول ، لا براح

حتى نبيح القوم أو نباح!

فصمد له علي عليه‌السلام فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فألقاه وهو يقول :

قد علم القوم لدى الصباح

أنّي في الهيجاء ذو نصاح

فلما قتل علي عليه‌السلام أبا جرول خذل قومه لقتله ، وكرّ المسلمون من الأنصار

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٠ ، ٩١١.

(٢) الإرشاد ١ : ١٤٤ وقد مرّ عن اليعقوبي ٢ : ٦٣ أنه عدّ معاوية ضمن المؤلّفة قلوبهم الذين أعطى النبي لكل واحد منهم مائة من ابل الغنيمة.

٢٨٣

والمهاجرين عليهم ، وتقدّمهم علي عليه‌السلام حتى قتل أربعين رجلا منهم (١) فكان من قتله أبا جرول والأربعين الذين تولّى قتلهم منهم قد سبّب في هلعهم ووهنهم وخذلانهم وهزيمتهم وظفر المسلمين بهم (٢).

تراجع المنهزمين :

قال القمي في تفسيره : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعمه العباس : يا عباس ، اصعد هذا

__________________

(١) رواه الكليني بسنده عن أبان الأحمر البجلي عن الصادق عليه‌السلام في روضة الكافي : ٣٠٨ وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٦ وخلت الروضة المطبوعة عن أبان.

(٢) الإرشاد ١ : ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٥٠ وقال اليعقوبي : ومضى علي عليه‌السلام إلى صاحب راية هوازن فقتله فكانت الهزيمة ٢ : ٦٣ ولا يعني به إلّا أبا جرول. وذكره ابن اسحاق بسنده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري فقال : إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار فأتاه على من خلفه فضرب الجمل فوقع وضرب الأنصاري نصف ساقه فقطعها ٤ : ٨٦ و ٨٨. أما الواقدي فقد رفعه مرسلا ، وسمّى الأنصاري أبا دجانة وقال : هو الذي عرقب الجمل ، وشدّ عليه هو وعليّ عليه‌السلام فقطع علي يده اليمنى وقطع أبو دجانة يده اليسرى ، فاعترض لهما فارس آخر بيده راية حمراء فضربا فرسه ثم ضرباه بأسيافهما ولم يسلباهما ، وسلبهما أبو طلحة زيد بن سهل ، ومضياهما يضربان أمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ٢ : ٩٠٢ أما عن عدد القتلى من هوازن فسيأتي عن ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩٢ : أنه قتل منهم سبعون رجلا. وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٧ أنه قتل منهم قريب من مائة رجل. وكذلك في مجمع البيان ٥ : ٣٠ وذكر المسعودي في التنبيه والاشراف : ٢٣٥ أنهم مائة وخمسون. فالواقدي زاد ثلاثين والمسعودي زاد خمسين ، وعلى الأول يكون لعلي عليه‌السلام نصف القتلى ، وعلى الأخير الثلث ، والثلثان الباقيان لسائر المقاتلين من المسلمين كلهم. وعليه فلا يبعد ما جاء في دعاء الندبة : «فأودع قلوبهم أحقادا بدرية وخيبرية وحنينية».

٢٨٤

الضرب (التل الصغير) وناد : يا أصحاب البقرة! ويا أصحاب الشجرة! إلى أين تفرّون؟! هذا رسول الله! ففعل العباس ذلك ، فلما سمع الأنصار نداء العباس عطفوا يرجعون وهم يقولون : لبّيك ، وكسروا جفون سيوفهم ، ولكنهم استحيوا أن يرجعوا إلى رسول الله فمرّوا به ولحقوا براياتهم ، فسأل رسول الله عنهم عمّه العباس : من هؤلاء يا أبا الفضل؟. قال : هؤلاء الأنصار يا رسول الله (١). واشتبكوا مع المشركين.

قال المفيد : فلما رآهم النبيّ قام في ركابي سرجه فأشرف عليهم وقال : الآن حمي الوطيس (ـ التنّور).

أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب (٢)

قال القمي : ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي سفيان بن الحارث : ناولني كفا من الحصى ، فناوله ، فرماه في وجوه المشركين وقال : شاهت الوجوه! (٣).

وروى الطبرسي في «اعلام الورى» عن سلمة بن الأكوع قال : نزل رسول الله عن البغلة بنفسه فقبض قبضة من التراب ثم ركب واستقبل به وجوه القوم ورماه وقال : شاهت الوجوه! فما خلق الله منهم إنسانا إلّا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة ، فولّوا مدبرين وأتبعهم المسلمون يقتلون فيهم ، وفرّ مالك بن عوف (٤).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٨٧.

(٢) الإرشاد ١ : ١٤٣ وروى : حمي الوطيس الصدوق في الفقيه ٤ : ٣٧٧ ط الغفاري.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٧ ورواه الواقدي بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري ٣ : ٨١٠ وروى قبله عن الزهري عن كثير بن العباس بن عبد المطّلب : أنّ النبيّ قال ذلك للعباس وهو ناوله! ٣ : ٨٩٨ ، ٨٩٩ ولا ريب أن جابر الأنصاري أكثر حيادا في الرواية.

(٤) اعلام الورى ١ : ٢٣٢.

٢٨٥

وروى الواقدي هنا ما يفسّر الهزيمة الاولى لخالد بن الوليد مع بني سليم في المقدمة : قال : قالوا : لما رجع المسلمون يتّبعون هوازن يقتلونهم وهزموا تنادى بنو سليم بينهم : ارفعوا القتل عن بني امّكم! فرفعوا الرماح وكفّوا عن القتل! فلما رأى رسول الله الذي صنعوا قال : اللهم عليك ببني بكمة! أما في قومي فوضعوا السلاح وضعا وأما عن قومهم فرفعوا رفعا! وأمر رسول الله بطلب القوم. وكانت بكمة ابنة مرّة أمّ سليم جدّ بني سليم من الهوازن! (ولعلهم لذلك هزموا أوّلا).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لخيله : إن قدرتم على بجاد فلا يفلتنّ منكم! وكان بجاد من بني سعد بن بكر من هوازن (قبيلة حليمة السعدية مرضعة النبي) وكان قد نزل لديه رجل مسلم فأسره بجاد وقطّعه حيّا وحرّقه بالنار! (١).

نزول النصر :

قال القمي في تفسيره : ونزل النصر من السماء ، فكانت هوازن تسمع قعقعة السلاح في الجوّ فانهزموا في كل وجه ، وهو قول الله سبحانه : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ)(٢).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن سعيد بن المسيّب عن رجل من هوازن كان معهم يوم حنين قال : لما التقينا يوم حنين كشفناهم وجعلنا نسوقهم حتى انتهينا إلى رسول الله على البغلة الشهباء ، فتلقانا رجال بيض الوجوه قالوا لنا : ارجعوا ، وركبوا أكتافنا! فرجعنا ، يعني الملائكة (٣).

وروى الواقدي عن من أسلم من هوازن قالوا : حملنا عليهم حملة ركبنا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٢ ، ٩١٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٨.

(٣) مجمع البيان ٥ : ٣٠.

٢٨٦

أكتافهم حتى انتهينا إلى النبيّ على بغلة شهباء ، وحوله رجال بيض حسان الوجوه ، فقال : شاهت الوجوه ، ارجعوا! فانهزمنا وركب المسلمون اكتافنا وتفرّقت جماعتنا في كل وجه ، وجعلنا نلتفت وراءنا ننظر إليهم وهم يطلبوننا ، وجعلت الرّعدة تسحقنا حتى لحقنا بعلياء بلادنا مما كان بنا من الرّعب!

وروى عن عدّة منهم قالوا : لقد رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلك الكف من الحصيات ، فما منّا أحد إلّا يشكو القذى في عينيه! ولقد كنّا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصى في الطساس ما يهدأ عنّا. ولقد رأينا رجالا بيضا على خيل بلق عليهم عمائم حمر قد ارخوها بين أكتافهم ، وهم بين السماء والأرض كتائب كتائب ، لا شيء بأيديهم ولكنّا لا نستطيع أن نقاتلهم أو نتأمّلهم من الرّعب! (١).

هكذا تراءت الملائكة لهم ، بينما حكى الله للمسلمين عن نصره لهم يوم حنين فقال : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) فما روى عن المسلمين أنهم رأوا جنود الله ، ولا عن من معهم من المؤلفة قلوبهم من مشركي قريش مكة ، اللهم إلّا :

ما رواه الواقدي عن شيوخ الأنصار قالوا : رأينا يومئذ شيئا كالكساء المخطّط أو كالسحاب المركوم هوى من السماء إلى الأرض ، فإذا هو نمل انبثّ في الوادي ، وإذا هو نصر أيّدنا الله به (٢).

وما رواه ابن اسحاق عن أبيه عن جبير بن مطعم العدوي قال : حين اقتتال الناس وقبل هزيمة هوازن رأيت شيئا كالكساء الأسود نزل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم ، فإذا هو نمل انبثّ فملأ الوادي ، ثم لم يكن إلّا أن هزم القوم ، فلم أشك أنها كانت الملائكة (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٥.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩١ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٠٥.

٢٨٧

وفي كيفية هزيمتهم ومقاومتهم قال ابن اسحاق : لما انهزمت هوازن اشتد القتل من ثقيف في بني مالك ، وكانت رايتهم مع عوف بن الربيع ذي الخمار فقتل ، فأخذها عثمان بن عبد الله فقاتل بها حتى قتل ، وقتل منهم معه وتحت رايته سبعون رجلا.

وأما راية الأحلاف منهم فقد كانت مع قارب بن الأسود ، وهو لما رأى هزيمة قومه أسند رايته إلى شجرة وهرب معه بنو عمه وقومه من الأحلاف ، فلم يقتل منهم سوى رجلين (١).

قتل الصغار والاسارى :

وروى الواقدي : أنّ الخزرج رجعوا بزعيمهم سعد بن عبادة وهو يصيح بهم : يا للخزرج يا للخزرج! وثاب الأوس بزعيمهم اسيد بن حضير وهو يصيح بهم : يا للأوس يا للأوس! وحنقوا على هوازن فقتلوا منهم حتى الصغار ، فبلغ ذلك رسول الله فنادى بالأوس : ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرّية؟! ألا لا تقتل الذرّية! ثلاثا. فقال اسيد بن حضير : انما هم أولاد المشركين! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوليس خياركم أولاد المشركين؟! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ، فأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها (٢).

قال المفيد : وما زال المسلمون يقتلون المشركين ويأسرون منهم حتى ارتفع النهار ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكفّ عنهم ونادى : أن لا يقتل أسير من القوم. ومرّ عمر بن الخطّاب بأسير من هذيل يدعى ابن الأكوع كان عينا لهم على المسلمين في

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٠٧ إلّا أنه قال : قتل منهم قريب من مائة رجل. وقال المسعودي في التنبيه والاشراف : قتل منهم مائة وخمسون رجلا : ٢٣٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٥ ويلاحظ فيه : حتى يعرب عنها لسانها ، وليس فيه : ويمجّسانه أو يمجّسانها ، فهي اضافة زائدة. والمشهور : كل مولود ، وليس فيه : حتى يعرب ..

٢٨٨

فتح مكة ، وحضر معهم في حنين فاسر ، فأقبل عمر على رجل من الأنصار ، وقال له : عدوّ الله الذي كان عينا علينا ها هو أسير فاقتله! فقتله الأنصاري. فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فكرهه وقال : ألم آمركم أن لا تقتلوا أسيرا؟!

ومع ذلك بلغه بعد ذلك أنهم قتلوا أسيرا آخر هو جميل بن معمر بن زهير! فغضب صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعث إليهم يقول لهم : ما حملكم على قتله وقد جاءكم أن لا تقتلوا أسيرا؟! فقالوا : انما قتلنا بقول عمر! فلم يصفح عنه حتى تشفّع فيه عمير بن وهب (١).

ومرّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن قتل الوليد والمرأة والعسيف ، وهو الشيخ الفاني وأنه الآن أمر بالكف عن قتلهم ، وكفّ المسلمون عن تتبّع من سلك الثنايا إلّا بعض بني سليم فانهم تعقّبوا بني عنزة من ثقيف وقد توجّهوا نحو ثنيّة نخلة ، ومعهم شيخهم دريد بن الصّمة.

قال ابن اسحاق : فادرك ربيعة بن رفيع السلمي دريد بن الصّمة (في وادي سميرة) على جمل في مركب دون الهودج فهو يظن أنها امرأة يريد أسرها ، فأناخ الجمل فإذا هو شيخ كبير ابن مائة وستين سنة وهو لا يعرفه ، فرفع سيفه وضربه به فلم يفعل شيئا ، فقال له : بئس ما سلّحتك به امّك! خذ سيفي من وراء الرّحل في الشجار (الهودج) واضرب به فوق الطعام ودون الدّماغ ، فإذا ذهبت إلى امّك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصّمة. فضربه بسيفه فقتله (٢) مع أنه كان أسيرا أو مستأسرا وعسيفا أي شيخا فانيا (٣) وقد مرّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن قتلهما.

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٤٤ ، ١٤٥.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩٥ ومغازي الواقدي ٢ : ٩١٤ ، ٩١٥ إلّا أنه ادّعى أنّ رسول الله بعث ذلك الخيل خلفهم.

(٣) النهاية ٣ : ٩٦.

٢٨٩

وروى الواقدي عن أمّ عمارة عن أمّ سليم بنت ملحان أمّ أنس بن مالك قالت : رجع إليّ ابناي حبيب وعبد الله ابنا زيد الأنصاري باسارى مكتّفين فقمت إليهم وقتلت أحدهم من غيظي (١) مع نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك مكررا.

مصير الأمير مالك :

وادي نخلة كان إلى جهة الطائف ، وسلكه سوى بني عنزة الثقفيّين أميرهم مالك بن عوف النصري ومعه جمع من الفرسان وتبعهم غيرهم نحو الطائف.

قال ابن اسحاق : فوقف في طريقه على ثنية من الثنايا (مرتفع بين جبلين) وقال لأصحابه : قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم وتلحق اخراكم ، فوقفوا حتى مضى من كان لحق بهم من المنهزمين.

وقال ابن هشام : بينما مالك وأصحابه على الثنية إذ رأى خيلا طلعت ، فقال لأصحابه : ما ذا ترون؟ قالوا : نرى قوما واضعي رماحهم بين آذان خيولهم طويلي الأفخاذ. فقال هؤلاء بنو سليم ، ولا بأس عليكم منهم! فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادي. ثم طلعت خيل اخرى تتبعها ، فقال لأصحابه : ما ذا ترون؟ قالوا : نرى قوما عارضي رماحهم على خيولهم ، اغفالا (لا علامة لهم). فقال : هؤلاء الأوس والخزرج ، ولا بأس عليكم منهم! فلما انتهوا إلى أسفل الثنية سلكوا طريق بني سليم في بطن الوادي ولم يصعدوا في الثنية.

ثم طلع فارس ، فقال لأصحابه : ما ذا ترون؟ قالوا : نرى فارسا طويل الفخذين ، واضعا رمحه على عاتقه ، عاصبا رأسه بعصابة حمراء. فقال : هذا الزبير بن العوّام ، وأحلف باللات ليخالطنّكم فاثبتوا له!

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٣.

٢٩٠

فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم فقصدهم (١) فنزل مالك عن فرسه وطفق يلوذ بالشجر حتى سلك في جبل يسمى اليسوم في أعلى وادي نخلة ، وبصر بهم الزبير فحمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية ، وهرب مالك بن عوف إلى ناحية «ليّة» من نواحي الطائف ، فدخل فيها قصرا تحصّن فيه (٢).

والي أوطاس :

قال المفيد : أخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف ، وأخذت الأعراب ومن تبعهم إلى أوطاس (حيث جاءوا منه) فبعث النبيّ في أثرهم إلى أوطاس أبا عامر الأشعري في جماعة منهم ابن عمه أبو موسى الأشعري قيس بن عبد الله (٣) فوقفوا لقتالهم.

قال ابن هشام : فتقدم لقتاله إخوة عشرة ، دعاهم أبو عامر إلى الإسلام ، فكان يحمل عليه أحدهم فيقتله أبو عامر فيتقدم الآخر منهم حتى تقدم عاشرهم ، فحمل عليه أبو عامر وهو يقول : اللهم اشهد عليه. فقال الرجل : اللهم لا تشهد عليّ! فكفّ عنه أبو عامر ، وانصرف الرجل ، فرماه اخوان آخران فأصاب أحدهما ركبته وأصاب الآخر قلبه فقتله ، فقتلهما أبو موسى (٤).

قالوا : وأوصى أبو عامر إلى ابن عمه أبي موسى ودفع رايته إليه وقال له : ادفع فرسي وسلاحي إلى رسول الله وقل له يستغفر لي ، ورجع أبو موسى ومن معه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٩٧ ـ ٩٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٦ ـ ٩١٧.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٩٧ ـ ١٠٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٦.

٢٩١

إلى رسول الله ، وجاء بفرسه وسلاحه إليه وقال : إن أبا عامر أمرني بذلك وقال : قل لرسول الله يستغفر لي. فقام رسول الله فصلّى ركعتين ثم قال : اللهم اغفر لأبي عامر واجعله من أعلى أمّتي في الجنة. ثم أمر بتركة أبي عامر أن تدفع إلى ابنه (١).

الغنائم والأسرى :

روى ابن اسحاق بسنده عن أبي قتادة الأنصاري قال : لما وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم ، قال رسول الله : من قتل قتيلا فله سلبه (٢).

وروى بسنده عن أنس بن مالك قال عن زوج امّه أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري أنه في يوم حنين استلب وحده عشرين قتيلا (٣).

وروى الواقدي عن أمّ أنس بن مالك أمّ سليم بنت ملحان زوجة أبي طلحة الأنصاري قالت : لما كانت هزيمة هوازن وذهبوا في كل وجه جعل الناس يأتون بالاسارى فرأيت في بني مازن بن النجّار ثلاثين أسيرا ، ورجع إليّ ابناي حبيب وعبد الله ابنا زيد بن سهل ـ أبي طلحة الأنصاري ـ باسارى مكتّفين ، فقتلت احدهم من غيظي! (٤) مع نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك.

قالوا : وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغنائم أن تجمع ، ونادى مناديه : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يغل! ومن أصاب شيئا من المغنم فليردّه!

فروى الواقدي عن عمارة بن غزيّة : أن عبد الله بن زيد المازني كان قد أخذ قوسا يومئذ يرمي بها المشركين فردّها في المغنم. وجاءه رجل بحبل وقال : يا رسول

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٦.

(٢) وفي مغازي الواقدي : من قتل قتيلا له عليه بيّنة فله سلبه ٢ : ٩٠٨.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٣.

٢٩٢

الله ، وجدت هذا الحبل حيث انهزم العدو أفأشدّ به على رحلي؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لك نصيبي منه فكيف تصنع بأنصباء المسلمين؟! (١).

وقال ابن اسحاق : جاءه رجل من الأنصار بكبّة من خيوط شعر فقال : يا رسول الله أخذت هذه الكبّة أعمل بها برذعة بعير لي دبر؟ فقال : أما نصيبي منها فلك! فقال : أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي بها ، فطرحها من يده (٢).

ووجد في رحل رجل من أصحابه غلولا ، فلم يخرق رحله ولم يعاقبه وإنمّا لامه وبكّته (٣) نعم ، بضرب الأيدي وحثوا التراب عليه عاقب من قتل امرأة :

فقد روى الواقدي عن الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر قال : كنت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين فرأيته يتخلّل الرجال ويسأل عن منزل خالد بن الوليد ، فاتي به إليه ـ وهو يومئذ شاب ـ فحثا عليه التراب! وأمر من عنده فضربوه بما كان في أيديهم! (٤) عقوبة على قتله المرأة كما مرّ.

وروى ابن هشام بسنده قال : وكان عقيل بن أبي طالب صهر شيبة بن ربيعة المخزومي (٥) على ابنته فاطمة ، وكان قد قاتل المشركين يوم حنين وإنمّا أخذ ابرة منهم ورجع بها إلى مكة فدفعها إلى امرأته وقال لها : هذه ابرة تخيطين بها ثيابك! وسمع منادي رسول الله بمكة يقول : من أصاب شيئا من المغنم فليردّه! فرجع عقيل إلى زوجته فاطمة وقال لها : والله أرى ابرتك قد ذهبت ، فردّها (٦).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٥ ودبر : مجروح دبره أبي عقبه ، والبرذعة : جلّ البعير.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٨ ، ٩١٩. والتبكيت : التقريع والتوبيخ.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٢.

(٥) وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩١٨ : الوليد بن عتبة بن ربيعة.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٥.

٢٩٣

فروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام قال : سبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين أربعة آلاف رأس (؟ ج : انسان ، بقرينة لفظ سبى) واثني عشر ألف ناقة ، سوى ما لا يعلم من الغنائم (١) كذا ، بل الظاهر : الأغنام ، بقرائن : ذكر النوق ، وعدم ذكر الغنم وهو بصدد البيان ، وعدم معنى محصّل للغنائم هنا ، وذكر ما يقربه لدى الواقدي قال : «وكانت الغنم لا يدرى عددها : أربعين ألفا واقل وأكثر» ولكن الإبل زادها إلى الضعف : أربعة وعشرين ألف بعير ، ولم يذكرهما ابن اسحاق ، واتفقا في عدد السبي بزيادة الفين : فالواقدي : وكان السبي ستة آلاف (٢) من النساء والذراري (٣) ولعل ما في خبر أبان عن الصادق عليه‌السلام أحدهما : الذراري أو النساء : والأخير هو الظاهر المتبادر من لفظ السبي بلا ذكر الذرية. وأما سائر الاسراء غير الذرية والنساء ، من الرجال ، فكأنهم لم يذكروا لقلّتهم.

خبر بجاد ، والشيماء :

منهم : بجاد السعدي. قال الواقدي : وكان قد أتاه رجل مسلم ـ قبل حنين ـ فأخذه بجاد فقطّعه ثم حرّقه بالنار ، وعرف جرمه فهرب (٤).

فروى ابن اسحاق : أنّ رسول الله قال يومئذ : إن قدرتم على بجاد فلا يفلتنّكم! وظفر به المسلمون مع أهله ، وقريبا منهم الشيماء بنت الحارث السعدي

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٣٣ وفي كتاب أبان المعاد : المبعث والمغازي : ١١١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٣.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٣.

٢٩٤

اخت رسول الله من الرضاعة ، وهم منهزمون ، فساقوهم بعنف ، فقالت لهم : اعلموا ـ والله ـ اني لاخت صاحبكم من الرضاعة! فلم يصدّقوها ، حتى أتوا بها إلى رسول الله. فقالت : يا رسول الله ، إنّي اختك من الرضاعة. قال : وما علامة ذلك؟ قالت : عضّة عضضتنيها في ظهري وأنا متورّكتك (حاملتك على وركي). فعرف رسول الله العلامة ، فبسط لها رداءه فأجلسها عليه (١) وقال لها :

إن أحببت فعندي محبّة مكرّمة ، وإن أحببت أن امتّعك (متاعا) وترجعي إلى قومك فعلت. فقالت : بل تمتّعني وتردّني إلى قومي. فأعطاها جارية ، وأكرمها بغلام مكحول (٢).

وزاد الواقدي : أنها أسلمت ، وكلّمها النسوة في بجاد ، فرجعت إليه فكلّمته أن يعفو عنه ويهبه لها. وسألها عمّن بقي منهم؟ فأخبرته بعمّها أبي برقان وأخيها واختها ، فأمر لها ببعيرين ، ثم قال لها : ارجعي إلى الجعرّانة تكونين مع قومك (٣).

قال ابن اسحاق : وأخذ عيينة بن حصن من هوازن عجوزا وقال : انّي لأحسب لها في الحيّ نسبا فعسى أن يعظم فداؤها!

__________________

(١) وعن ابن اسحاق في إعلام الورى ١ : ٢٣٩ : فنزع النبيّ برده فبسطه لها فأجلسها عليه.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٠٠ ، ١٠١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٤ وتمامه : فلما رجع من الطائف إلى الجعرّانة أعطاها نعما وشاء لها ولمن بقي من أهل بيتها. وفي خبره : أنه سألها عن أمه وأبيه من الرضاعة ، فأخبرته بموتهما ، ودمعت عيناه ٢ : ٩١٣ بينما مرّ عنه في آخر أخبار فتح مكة عن أبي الحصين قال : قدمت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله خالته أو عمته من بني سعد وانتسبت له فعرفها ، وجعل يسائلها عن حليمة فأخبرته أنها توفيت ، فذرفت عينا رسول الله ، ثم سألها عمّن بقي منهم فقالت : اخواك واختاك .. ٢ : ٨٦٩ وعليه فقد علم بوفاة مرضعته حليمة السعدية ، وانما أخبرته اخته الشيماء هنا عن ابيه وأبيها الحارث بن عبد العزّى.

٢٩٥

واعطى رسول الله جارية لعمر بن الخطّاب ، فوهبها لابنه عبد الله ، فبعث بها إلى أخواله بني جمح في مكة حتى يرجع إليهم. وأعطى عثمان زينب بنت حيّان ، وأعطى عليا (عليه‌السلام) ريطة بنت هلال السعدية (١) فلم يصبها علي عليه‌السلام. وأعطى عبد الرحمن بن عوف امرأة منهنّ وهو في حنين فردّها إلى الجعرانة (٢). وأعطى صفوان بن أميّة اخرى. وأعطى جبير بن مطعم جارية منهن. وأعطى طلحة بن عبيد الله جارية منهن. وأعطى سعد بن أبي وقاص جارية منهن ، وأعطى أبا عبيدة بن الجراح جارية منهن ، وأعطى الزبير بن العوّام جارية منهن ، وهذا كله بحنين (٣).

ونادى مناديه في الناس : أن استبرءوا سباياكم بحيضة (٤). وقال رسول الله يومئذ : لا توطأ حامل من السبي حتى تضع حملها ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة. وسألوا النبيّ يومئذ عن العزل فقال : ليس من كل الماء يكون الولد ، وإذا أراد الله أن يخلق شيئا لم يمنعه شيء (٥).

وقال ابن اسحاق : ولما جمعت لرسول الله سبايا حنين وأموالها جعل عليها

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٢ و ١٣٣.

(٢) الجعرّانة في طريق مكة إلى الطائف أقرب إلى مكة على سبعة أميال (كيلومترين تقريبا) من مواقيت حدود الحرم ، والجعرّانة لقب لريطة بنت سعد صاحبة المثل المعروف : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) فالموضع سمي بلقبها.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٤.

(٤) التهذيب ٨ : ١٧٦ ، الحديث ٦١٥ بسنده عن الصادق عليه‌السلام.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٩.

٢٩٦

مسعود بن عمرو الغفاري ، وأمر بها أن تحمل إلى الجعرّانة ، فحبست بها (١) وقال الواقدي : جعل عليها بديل بن ورقاء الخزاعي (٢).

الشهداء والقتلى :

مرّ آنفا مقتل أبي عامر الأشعري في أوطاس ، ودفن بها. ومرّ قبله مقتل ايمن ابن عبيد الخزرجي ابن أمّ أيمن الحبشية حاضنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دفاعا دونه بيد أمير هوازن مالك بن عوف النصري. ومن الأنصار : سراقة بن الحارث العجلاني ، وانفرد الواقدي بذكر رقيم بن ثابت من بني لوذان ، وانفرد ابن اسحاق بخبر يزيد بن زمعة من قريش جمح به فرسه فقتل ، فدفنوا هناك.

قال الواقدي : وذكر له صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل من المسلمين قاتل قتالا شديدا فاصابه جراح اشتدّ به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو من أهل النار! فوقع في نفوسهم من ذلك شيء وارتابوا. ولما اشتد الجراح بالرجل ـ ولم يسمّه ـ أخذ من كنانته مشقصا (نصلا عريضا) فانتحر به! فأمر رسول الله بلالا أن ينادي : أنّ الله يؤيّد الدين بالرجل الفاجر! ألا لا دخل الجنة إلّا مؤمن! (٣).

دم عامر الأشجعي :

قبل اليوم بأربعين صباحا تقريبا ـ مرّ الخبر ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله تعمية لخبر مسيره إلى مكة لفتحها ، أرسل أبا قتادة في سريّة إلى بطن إضم في طريق تهامة ، وكان منها محلّم

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٠١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٧. وكما في مجمع البيان ٥ : ٣٠ والدرجات الرفيعة : ٤١٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٧.

٢٩٧

ابن جثّامة الليثي ، وكان في نفسه شيء من عامر بن الأضبط الأشجعي ، إذ مرّ بهم في ذلك الطريق ولم يكن علم إسلامه قبله إلّا أنه لما مرّ عليهم سلّم عليهم بتحيّة الإسلام ، ومع ذلك حمل عليه محلّم فقتله وسلبه. وفي شأنه نزلت الآية من سورة النساء : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(١). ثم لم يلقوا جمعا فرجعوا إلى المدينة ، وقبلها بليلة في منزل ذي خشب بلغهم خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة ، فأخذوا على بين حتى لحقوا به في منزل السقيا (٢).

والأشجع من غطفان ورئيسهم يومئذ عيينة بن حصن الفزاري من غطفان ، وبنو ليث من بني تميم ويدفع عنهم الأقرع بن حابس التميمي ، ومحلّم القاتل حاضر في حنين ، ولم يذكروا لما ذا لم يطالب بدم المقتول الأشجعي قبل اليوم ، أما اليوم :

فقد روى ابن اسحاق بسنده عن عروة بن الزبير بن سعد السلمي ممّن حضر حنينا قال : صلى بنا رسول الله الظهر في حنين ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها ، فقام إليه عيينة بن حصن يطلب بدم عامر الأشجعي ، وقام إليه الأقرع بن حابس يدفع عن القاتل محلّم بن جثّامة وهو في طرف الناس وهو رجل طويل خفيف اللحم أسمر محمّر بالحنّاء كان قد استعدّ للقصاص في حلّة عليه.

قال سعد : فسمعنا عيينة بن حصن يقول للنبيّ : والله يا رسول الله لا أدعه حتى اذيق نساءه من الحرقة مثل ما أذاق نسائي! ورسول الله يقول : بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا ، وخمسين إذا رجعنا (٣) وأبى عيينة! فارتفعت الأصوات وكثر اللغط ، إلى أن قام رجل من بني ليث ـ قبيلة المقتول ـ قصير مجتمع ، عليه أداة

__________________

(١) النساء : ٩٤ كذا ، بينما نزول السورة كان في السنة الرابعة للهجرة لا الثامنة.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٥ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٩٧.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٥ ، ٢٧٦.

٢٩٨

كاملة وبيده درقة ، يقال له : مكيتل ، فقال : يا رسول الله ، والله ما وجدت لهذا القتيل شبها في غرّة الإسلام إلّا كغنم وردت (الماء) فرميت اولاها فنفرت اخراها (١) اسنن اليوم ، وغيّر غدا! (٢).

فرفع رسول الله يده فقال : بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا (٣).

فخلا الأقرع بن حابس بقيس وعيينة بن حصن فقال لهم : يا معشر قيس ، يستصلح رسول الله الناس في قتيل (بديته) فمنعتموه! أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله فيغضب الله عليكم بغضبه؟! أو أن يلعنكم رسول الله فيلعنكم الله بلعنته؟! فو الذي نفس الأقرع بيده لتسلمن إلى رسول الله فليصنعنّ ما أراد ، أو لآتينّ بخمسين رجلا من بني تميم كلهم يشهدون بالله : أنّ صاحبكم قتل كافرا ما صلّى قط! فلا طلّن (اهدرنّ) دمه! فلما سمعوا بذلك قبلوا الدية (٤).

فلما قبل أولياء القتيل بالدية ، قال بعض من حضر لأولياء القاتل : أين صاحبكم هذا (القاتل) يستغفر له رسول الله؟ فتنادوه. فقام الرجل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعيناه تدمعان وقال : يا رسول الله ، قد كان من الأمر

__________________

(١) وكأنّه يهدّد رسول الله بالارتداد عن الإسلام لانهم وردوه في غرّته فنفروا عنه بقتل صاحبهم والحكم بالدية له وعدم القصاص له!

(٢) أي : اعمل بسنّتك في القصاص اليوم ، فإذا شئت أن تغيّر فغيّر بعدنا ، كما في النهاية ٢ : ١٨٦ فكأنه يتّهمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتغيير سنّته في القصاص لهم! وكأنّه لهذا فسّر أبو ذر الخشني غيّر بأنها من الغيرة بمعنى الدية بحاشية السيرة ٤ : ٢٧٦.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٦.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٧.

٢٩٩

الذي بلغكم ، فانّي أتوب إلى الله تعالى فاستغفر لي (١). فقال له رسول الله أنت آمنت بالله ثم (٢) قتلته بسلاحك في غرّة الإسلام؟! ثمّ رفع يديه ورفع صوته يتفقّد به الناس فقال : اللهم لا تغفر لمحلّم! ثلاثا ، ثمّ قال له : قم!

فقام من بين يدي رسول الله وهو يتلقى دمعه بفضل ردائه!

وقال ضمرة بن سعد السلمي وكان حضر حنينا مع أبيه سعد : كنّا نتحدث فيما بيننا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما أراد أن يعلم قدر الدّم عند الله ، وإلّا فانّه حرّك شفتيه باستغفار له (٣).

فروى ابن اسحاق عن الحسن البصري قال : فو الله ما مكث محلّم بن جثّامة إلّا سبعا حتى مات ، فدفنوه ، فلفظته الأرض ، فأعادوه ، فأعادته الأرض ، فردّوه فردّته الأرض ، فطرحوه بين صخرتين ثم رموا عليه الحجارة حتى واروه! فبلغ ذلك رسول الله فقال : والله ، إنّ الأرض لتطابق على من هو شرّ منه ، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرمة ما بينكم بما أراكم منه (٤).

وإلى الطائف :

مرّ عن ابن اسحاق : أن جفاة أهل مكة لما رأوا هزيمة المسلمين تكلم بعضهم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٠.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٦.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٠ ، ٩٢١.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٧. وعنه الواقدي ونقل مختصر خبره الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٤٥. وسيأتي في حصار الطائف أن رجلا من بني ليث ـ قبيلة المقتول هنا ـ قتل رجلا من هذيل ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقصاص منه فكان أول قصاص! بينما مرّ قبل هذا غير واحد من مورد القصاص في المدينة قبل فتح مكة ، وإنمّا يحمل مثل هذا على مبلغ علم الراوي لا الاستقصاء.

٣٠٠