موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

والخبر كان عن ابن اسحاق وهو يقول : إن وفدهم رجع الى قومهم في أواخر شوال أو أوائل ذي القعدة للسنة العاشرة ، أي قبل حجة الوداع بقليل.

وبعد أن ولّى وفدهم بعث إليهم عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي من بني النجار ، ليفقّههم في الدين ، ويعلّمهم السنة ومعالم الاسلام ، ويأخذ منهم صدقاتهم.

وكتب له كتابا أمره فيه بأمره وعهد إليه فيه عهده :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا بيان من الله ورسوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه الى اليمن : آمره بتقوى الله في أمره كلّه (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وآمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله ، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به ، ويعلّم الناس القرآن ويفقّههم فيه ، وينهى الناس أن لا يمس القرآن انسان إلّا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم ، ويلين للناس في الحق ، ويشتدّ عليهم في الظلم ، فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ويبشّر الناس بالجنة وبعملها ، وينذر الناس النار وعملها ، ويستألف الناس حتى يفقّهوا في الدين ، ويعلّم الناس معالم الحج وسنّته وفريضته وما أمر الله به ، والحج الأكبر هو الحج والحج الأصغر هو العمرة.

وينهى الناس أن يصلّي أحد في ثوب واحد صغير إلّا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على عاتقيه ، وينهى الناس أن يحتبي أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه الى السماء ، وينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه.

وينهى ـ إذا كان بين الناس هيج ـ عن الدعاء الى القبائل والعشائر ، وليكن دعواهم الى الله وحده لا شريك له ، فمن لم يدع الى الله ودعا الى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف حتى تكون دعواهم الى الله وحده لا شريك له.

__________________

(١) المائدة : ١ وهي كما يأتي نزلت مرة واحدة في حجة الوداع بعد هذا ، فكيف هنا؟!

٥٨١

ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم الى المرافق ... ويمسحون برءوسهم ـ كما أمرهم الله ـ وأرجلهم الى الكعبين (١) وأمر بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع ، والسجود ، والخشوع ، ويغلّس بالصبح ، ويهجّر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخّر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل. وأمر بالسعي الى الجمعة إذا نودي إليها ، والغسل عند الرواح إليها.

وأمره أن يأخذ من المغانم (؟) خمس الله ، وما كتب على المؤمنين في الصدقة : من العقار : عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب (٢) نصف العشر ، وفي كل عشر من الإبل : شاتان ، وفي كل عشرين : أربع شياه ، وفي كل أربعين من البقر : بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر : تبيع : جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم : سائمة وحدها شاة ، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له.

وأنّه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ، ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين ، له مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيّته أو يهوديّته فإنه لا يردّ عنها ، وعلى كل حالم ذكر أو انثى حرّ أو عبد دينار واف ، أو عوضه ثيابا ، فمن أدّى ذلك فإنّ له ذمّة الله وذمّة رسوله ، ومن منع ذلك

__________________

(١) جاء في نصّ ابن اسحاق تقديم أرجلهم الى الكعبين على مسح الرءوس ، وهو خلاف إجماع المسلمين كافة ، فكأنّه اريد به وصل الأرجل بغسل الوجوه والأيدي! وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٣١ ، والوضوء في الكتاب والسنة للشيخ نجم الدين العسكري ، ووضوء النبي للدكتور الشهرستاني.

(٢) الغرب : الدلو الكبير الواسع.

٥٨٢

فإنّه عدوّ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (١).

__________________

(١) رواه ابن هشام في السيرة ٤ : ٢٤١ ـ ٢٤٣ عن ابن اسحاق بلا إسناد ، ولعله من حذف ابن هشام ، فقد رواه يونس بن بكير عن ابن اسحاق قال : أخرج لي عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتابا وحدّثني عن أبيه عن جدّه : أنّه كتاب النبي لجدّه عمرو بن حزم لما بعثه الى اليمن ، رواه عنه البيهقي في سننه ودلائل النبوة ٥ : ٤١٣.

وأشار إليه الطوسي في الخلاف ٢ : ٧ ، ونقل عنه في ٢ : ٥٩ ، والمبسوط ٧ : ١١٤ و ١٢٢ و ١٢٤ ، ولكنّه روى في التهذيب ١٠ : ٢٩١ عن الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة بن أيوب عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن أبي مريم قال : قال لي الصادق عليه‌السلام : يا أبا مريم ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كتب لعمرو بن حزم كتابا في الصدقات فخذه منه (؟) فأتني به حتى انظر إليه. فانطلقت إليه (؟) فأخذت منه (؟) الكتاب فأتيته به فعرضته عليه ، فإذا فيه أبواب الصدقات والديات ومنها فيه : «في العين خمسون [ابلا] وفي الجائفة الثلث ، وفي المنقلة : خمس عشرة ، وفي الموضحة : خمس من الإبل» فهو غير الكتاب السابق.

ويلاحظ : أن ابن اسحاق قال : أوفده صلى‌الله‌عليه‌وآله الى بني الحارث بن كعب. وهم بنجران أعم من نصاراهم وغيرهم ، وذكر في عهده إليه الجزية من أهل كتابهم ، هذا وقد سبقت جزيتهم في معاهدتهم معه عند إبائهم عن المباهلة ، فهل تجتمع الجزيتان؟ أو هو تأكيد للسابق؟ أو هي من غيرهم؟! ثم الجزية إنما هي على الرجال (انظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٤٤) وما معنى أن يأخذ الخمس من المغانم؟!

وأقدم ذكر له في سنن النسائي ٨ : ٥٦ أو ٥٩ عن سعيد بن المسيّب : أن عمر قضى في الأصابع ... حتى وجد كتاب (؟) عند آل عمرو بن حزم. ولهذا قال بعضهم بوفاته في خلافة عمر ، والأصح وفاته بعد الخمسين ، فكيف قيل : عند آل عمرو؟! انظر الاستيعاب ٢ : ٥٠ ، واسد الغابة ٤ : ٢١١ ، والاصابة ٢ : ٥٣٢ ، ومكاتيب الرسول ٢ : ٥١٥.

بل روى الطبري ٣ : ٣٣٨ ان داره كانت بجنب دار عثمان بن عفّان حين حاصره الناس ففتح لهم باب داره وناداهم فدخلوا على عثمان من دار ابن حزم. وروى عنه ابنه محمد

٥٨٣

وإذ كان عمرو بن حزم للأضحى في نجران ، روى الشافعي كما في مسنده : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب إليه : أن عجّل الأضاحي وأخّر الفطر (١) أي عجّل الأضاحي قبل صلاة عيد الأضحى ، وأخّر الفطر بعد صلاة عيد الفطر.

ويبدو أنّه رحل الى نجران بأهله وهي حامل بابنه محمد ، وأنّها ولدته قبل نهاية السنة العاشرة ، فكتب بذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكتب إليه رسول الله : سمّه محمدا وكنّه أبا عبد الملك (٢)؟!

__________________

ـ حديث : عمّار تقتله الفئة الباغية ، بعد مقتل عمّار. وقتل ابنه محمد في وقعة الحرّة كما في اسد الغابة. وكان ابنه أبو بكر يحدث عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : فاطمة بضعة مني يسخطني ما يسخطها ، وعنه رواه عمر بن عبد العزيز لبني أميّة لما ردّ فدك ونقموا عليه ذلك ، كما في الشافي ٤ : ١٠٣ ، وتلخيصه ٤ : ١٢٧ ، ١٢٨ ، وبهامشه مصادره ، وفيه أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كان والي عمر بن عبد العزيز على المدينة ومع هذا اضطرب خبر ظهور الكتاب : ففي كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام : ٩٣٣ بسنده عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري قال : لما استخلف عمر بن عبد العزيز أرسل الى المدينة يلتمس كتاب رسول الله في الصدقات ، فوجد عند آل عمرو بن حزم كتابه إليه في الصدقات. فنسخ له. ونسخه محمد بن عبد الرحمن ، ونسخه منه عمرو بن هرم ، وعنه نقل أبو عبيد خبره.

وفيه : ٩٣٨ : أن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتب به الى عامل مكة محمد بن هشام ، زعموا أنّه الكتاب الذي كتب به رسول الله الى عمرو بن حزم.

فهل كان التماسه لكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل استعماله لأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فوجده عنده ثم استعمله؟ وهل كان إرساله لنسخة الكتاب الى محمد بن هشام عامل مكة قبل ذلك أو بعده؟ وهل هما كتابان أو كتاب واحد؟ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٤٥ و ٥٤٨.

(١) مسند الإمام الشافعي ١ : ١٥٢.

(٢) الطبقات الكبرى ٥ : ٥٠ وط ٢ : ٦٩.

٥٨٤

الإعداد لحجّة الوداع :

روى الطبرسي في «الاحتجاج» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : أتى جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : يا محمد ، إنّ الله جلّ اسمه يقرئك السلام ويقول لك : إنّي لم أقبض نبيّا من أنبيائي ولا رسولا من رسلي إلّا بعد إكمال ديني وتأكيد حجّتي ، وقد بقي عليك من ذلك فريضتان مما يحتاج أن تبلغهما قومك : فريضة الحج ، وفريضة الولاية والخلافة بعدك ؛ فإني لم اخل أرضي من حجة ولن اخلها أبدا ، فإنّ الله جلّ ثناؤه يأمرك أن تبلّغ قومك الحج وتحجّ ويحجّ معك من استطاع إليه سبيلا من أهل الحضر والأطراف والأعراب ، فتعلّمهم من معالم حجّتهم مثل ما علّمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم ، وتوقفهم من ذلك على مثل الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلّغتهم من الشرائع (١).

وروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة عشر سنين لم يحج ، ثم (٢) كتب الى من بلغه كتابه ممن دخل في الاسلام أن رسول الله يريد الحج ، يؤذنهم بذلك ، ليحجّ من أطاق الحجّ ، فأقبل الناس (٣).

وأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم : بأن رسول الله يحجّ عامه هذا (٤). ألا إن رسول الله يريد الحج وأن يعلّمكم من ذلك مثل الذي علّمكم من شرائع دينكم ، ويوقفكم من ذلك على ما أوقفكم عليه من غيره (٥).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٦٨.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٣) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٤) فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٥) الاحتجاج ١ : ٦٨.

٥٨٥

فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب واجتمعوا لحجّ رسول الله (١).

واستعمل على المدينة أبا دجانة الأنصاري أو سباع بن عرفطة الغفاري (٢).

وخرج رسول الله في أربع بقين من ذي القعدة (٣) وبلغ من حجّ مع رسول الله من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون (٤).

وساق الهدي أربعا أو ستّا وستين (٥) ومائة بدنة (٦) وعليها ناجية بن جندب الأسلمي الخزاعي (٧).

فلما نزل (عند) الشجرة (بذي الحليفة أول منزل بعد المدينة الى مكة وهو ميقاتهم) أمر الناس : بنتف الابط وحلق العانة والغسل والتجرّد في إزار ورداء أو إزار وعمامة يضعها على عاتقه لمن لم يكن له رداء (٨).

وكان أبو بكر التيمي قد تزوّج بأسماء بنت عميس الخثعمية أرملة جعفر بن أبي طالب بعد شهادته في مؤته ، فكانت قد حملت منه بابنه محمد ، وحجّت مع زوجها أبي بكر وهي حامل مقرب. فلما انتهوا الى ذي الحليفة ولدته. فأرسلت الى رسول الله : كيف أصنع؟ فقال لها : اغتسلي واستثفري (٩) وأحرمي (١٠).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٢) ابن هشام في السيرة ٤ : ٢٤٨.

(٣) المصدر الأسبق ٢١ : ٣٩٠ و ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ و ٢٣٤ ، و ٢١ : ٣٨٩ عن السرائر عن ابن محبوب.

(٤) الاحتجاج ١ : ٦٨.

(٥) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٦) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٧) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٨) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٦ عن السابق ١ : ٢٣٤.

(٩) أي تحتشي قطنا ثم تشد عليه بخرقة تمنع خروج الدم بذلك.

(١٠) صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، وروى مختصر الخبر الطوسي في أماليه ح ٨٩٥ ، ونقله المجلسي عن المنتقى في بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٢.

٥٨٦

فاستثفرت وتمنطقت بمنطقة وأحرمت (١) وأهّلت بالحج (٢).

وإنما انتهى النبيّ الى ذي الحليفة عند الظهر ، ولكنّه بات فيه (ليلة الجمعة) ليجتمع إليه أصحابه والهدي ، فلما اجتمع إليه نساؤه جميعا في الهوادج ، وانتهى إليه اجتماع أصحابه والهدي (٣) وزالت الشمس اغتسل ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلّى فيه الظهر (٤) ركعتين (٥) ثم عزم بالحج مفردا (٦) ، ثم خرج فدعا بالهدي فأشعره في الجانب الأيمن ، وقلّده نعلين قبل أن يحرم ، أشعر هو بنفسه بدنة وقلدها وهو متوجه الى القبلة ، ثم أمر ناجية بن جندب الذي كان قد استعمله على بدنه أن يشعرها وكان معه فتيان من أسلم. وسأله : يا رسول الله ، أرأيت ما عطب منها كيف أصنع به؟

قال : تنحره وتلقي قلائده في دمه وتضرب به صفحته اليمنى ، ولا تأكل أنت منها ولا أحد من رفقتك (٧) ، وخرج حتى انتهى الى البيداء عند الميل الأول فصفّ له

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٧٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٧٧.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٣٧٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٨٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٩ و ١٠٩٠ ، وفي إعلام الورى : أنّه أقام تلك الليلة لمخاض أسماء بنت عميس الخثعمية.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ و ٤ : ٢٤٥ ، ولم يصلّ الجمعة للسفر.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٩ ، وفيه : وكان يصلي بين المدينة ومكة ركعتين آمنا لا يخاف : ١٠٩١.

(٦) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ ، كذا ، والمعروف في الحديث والفقه أنّه حجّ قرانا كما في الروضة البهية ١ : ١٧٤ ، ط. القاهرة.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٠ و ١٠٩١ ، عن أمّ سلمة وابن عباس وناجية.

٥٨٧

سماطان فلبّى بالحج مفردا (١) قال : لبيك اللهم لبيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك (٢) وكان ثوباه يمانيّين من الكرسف (٣) وإنّما كان الناس تابعين ينظرون ما يؤمرون فيتّبعونه ، أو يصنع شيئا فيصنعونه (٤) فأحرم الناس كلهم بالحج لا ينوون عمرة ، ولا يدرون ما حج التمتّع (٥) هذا وقد خرج معه كثير منهم بغير سياق هدي (٦).

وأصبح رسول الله يوم الأحد في منزل ملل ، ثم راح حتى انتهى الى شرف السيّالة ، فصلّى بها المغرب والعشاء وتعشّوا ، ومشوا فتجاوز السيّالة الى عرق الظبية دون الرّوحاء فصلى الصبح بها ومشوا حتى نزل بالروحاء ، وحضر رجل من بني نهد قد صاد حمار وحش فعقره فأهداه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : صيد البرّ لكم حلال إلّا ما صدتم أو صيد لكم.

ثم راح رسول الله من الرّوحاء فتجاوز بدرا الى المنصرف فصلّى المغرب والعشاء وتعشّى به ، ومشوا حتى انتهى الى الإثابة قبل الجحفة فصلّى بها الصبح.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٣) المصدر السابق ٢١ : ٤٠١ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٥٩. وفي مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٠ : أنّه أحرم في ثوبين صحاريّين إزار ورداء.

(٤) بحار الانوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٥) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٦) الارشاد ١ : ١٧٣.

٥٨٨

وبها أناخ غلام أبي بكر بعيره الذي عليه زاد أبي بكر فغلبته عيناه ، فقام البعير يجرّ خطامه به ، وقام الغلام فظنّ أن بعيره لزم الطريق فلزم الغلام الطريق وأخذ ينشده فلا يسمع له بذكر. ومشوا حتى أصبح النبي يوم الثلاثاء بالعرج فنزل صلى‌الله‌عليه‌وآله بأبيات بها وجلس بفناء منزله ، فجاء أبو بكر فجلس الى جنبه ، فجاءت عائشة فجلست الى جانبه الآخر ، جاءت أسماء فجلست الى جنب أبي بكر ... حتى قبيل الزوال إذ جاء غلام أبي بكر متسربلا ، فسأله أبو بكر : أين بعيرك؟ قال : ضلّ منّي! فقام إليه أبو بكر يضربه ويقول : بعير واحد يضلّ منك! ورسول الله يبتسم ويقول : ألا ترون الى هذا المحرم وما يصنع؟

وكان زاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بعير أبي بكر ، فانتشر الخبر بأنّ ناقة رسول الله قد ضلّت ، وبلغ الخبر الى بني أسلم فحملوا جفنة من حيس (تمر وسمن ودقيق) فاقبلوا بها حتى وضعوها بين يدي رسول الله ، فأكل رسول الله وأهله وأبو بكر وكل من كان مع رسول الله حتى شبعوا.

وكان صفوان بن المعطّل على ساقة الناس أي مؤخّرتهم ليرفع ما سقط ويهدي من ضلّ منهم ، فما لبثوا حتى طلع صفوان بن المعطّل بالبعير وأناخه على باب منزل رسول الله وقال لأبي بكر : انظر هل تفقد شيئا من متاعك؟ فنظر فقال : إلّا قعبا وكان القعب مع الغلام.

وجاء سعد بن عبادة ومعه ابنه قيس بناقة عليها زاد حتى وجدا رسول الله واقفا عند باب منزله وقد أتى الله بناقته التي عليها زاده. فقال سعد : يا رسول الله ، قد بلغنا أن زاملتك ضلّت ، فهذه زاملة مكانها. فقال رسول الله : قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما ، بارك الله عليكما! أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟ فقال سعد : يا رسول الله ، المنّة لله ولرسوله ، والله يا رسول الله للّذي تأخذ من أموالنا أحبّ إلينا من الذي تدع. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : صدقتم يا أبا ثابت أبشر فقد أفلحت!

٥٨٩

ويوم الأربعاء نزل رسول الله السقيا ، ثم أصبح رسول الله بالأبواء ، فصلّى في مكان المسجد بوادي الأبواء على يسار المتوجه الى مكة. ثم راح النبي حتى انتهى الى قلعات اليمن (مرتفعاته) وكان هناك شجرة سمرة جلس النبي تحتها ، وصلّى في مكان المسجد الذي في مهبط الوادي من ثنية أراك الى الجحفة ، وفي يوم الجمعة نزل الجحفة وصلّى بها في مكان المسجد الذي دون موضع خم. ويوم السبت كان في قديد فصلّى في مكان مسجد المشلّل ، ثم صلّى في مكان المسجد الذي بأسفل لفت.

وفي لفت مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بامرأة في هودجها ومعها ولد صغير فأخذت بعضده وسألته : يا رسول الله ، ألهذا حج؟ قال : نعم ، ولك أجر.

وفي يوم الأحد كان في عسفان ، ثم راح حتى انتهى الى كراع الغميم. وكان معه مشاة فصفوا له صفوفا في الغميم وشكوا إليه من شدة المشي عليهم (١) ، وأنّه قد أجهدهم وشكوا إليه الاعياء ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم أعطهم أجرهم وقوّهم. ثمّ قال لهم : لو استعنتم بالنسلان (٢) لخفّت أجسامكم وقطعتم الطريق. ففعلوا فخفّت أجسامهم (٣).

وروى ابن اسحاق بسنده عن عائشة قالت : لما كنّا بسرف ، حضت ذلك اليوم فكنت أبكي ، فدخل عليّ النبيّ وأنا أبكي فقال : ما لك يا عائشة؟ لعلك نفست (حضت) قلت : نعم ، والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر! فقال : لا تقولي ذلك ، وإنّك تقضين كل ما يقضي الحاجّ إلّا أنك لا تطوفين بالبيت (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٢ ـ ١٠٩٧.

(٢) النسلان : سرعة الجريان بخطى متقاربة ، انظر مجمع البحرين ٥ : ٤٨٣.

(٣) المحاسن للبرقي (م ٢٧٤ ه‍) ٢ : ١٢٨ عن الصادق عليه‌السلام.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٨.

٥٩٠

وصول الرسول الى مكة وعمرته :

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الاثنين في مرّ الظّهران فلم يبرح منها حتى غربت الشمس فرحل إلى الثنيتين : كدى وكداء ، فصلى المغرب والعشاء وتعشى وبات بينهما (١) وكان ذلك في آخر اليوم الرابع من ذي الحجة (٢) فلما أصبح اغتسل ودخل مكة نهارا (٣) وذلك من العقبة في أعلاها (كدى الى الابطح) فلما انتهى الى باب المسجد ـ باب بني شيبة ـ استقبل الكعبة فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على أبيه إبراهيم (٤) ، ثم دخل بناقته العضباء واستلم الركن (الحجر الأسود) بمحجنه (عصا قصيرة معوجة الرأس) وقبّل المحجن (٥) ثم طاف بالبيت سبعة أشواط ثم صلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام (٦) قرأ في الاولى بعد الفاتحة سورة الكافرون ، وفي الثانية التوحيد (٧) ثم دخل زمزم (كذا) فشرب منه ثم استقبل الكعبة وقال : اللهم إني

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٧.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ ، وكذلك فيه ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ ، وفيه ٢١ : ٣٨٩ ، عن السرائر عن ابن محبوب.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٧.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ ، ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٧ ، وقال اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرّا.

(٥) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٢ عن فروع الكافي ١ : ٢٨٣ ، ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٨ وقال باسم الله والله أكبر.

(٦) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٢٣ و ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ و ٢١ : ٣٦٧ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٧) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٤ ، ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الصادق عن الباقر عليهما‌السلام وفي مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٨ ثم عاد الى الركن فاستلمه.

٥٩١

اسألك علما نافعا ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء وسقم. ثم رجع الى الحجر الأسود ليستلمه وقال لاصحابه : ليكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر ، ثم استلمه فخرج الى الصفا وقال لأصحابه : ابدؤوا بما بدأ به الله تعالى إذ قال : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) حتى صعد على الصفا فقام عليه (١) واستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره قال : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلّا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. قال مثل هذا ثلاث مرّات ، ودعا بين ذلك ، ثم نزل الى بطن الوادي ومشى حتى صعد الى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا (٢).

وفي «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يلبّي كلما علا أكمة أو هبط واديا أو لقي راكبا ، وفي آخر الليل ، وفي أدبار الصلوات (٣).

وكان الذي يرحّل لرسول الله معمّر بن عبد الله العدوي ، فقال له رسول الله ذات ليلة : يا معمّر ، إن الرحل لمسترخ الليلة ، فقال معمّر : بأبي أنت وأمّي لقد شددته كما كنت أشدّه ، ولكن بعض من يحسدني على مكاني منك أراد أن تستبدل بي! فقال : ما كنت لأفعل ذلك (٤).

حجّ علي عليه‌السلام من اليمن :

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كاتب عليّا عليه‌السلام بالتوجّه الى الحجّ من اليمن ، ولم يذكر له نوع الحجّ الذي قد عزم عليه ، فخرج أمير المؤمنين بمن معه من العسكر الذي صحبه الى

__________________

(١) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ و ٢٨٤ ، ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٨.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٤ ، ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٩.

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٤) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٥.

٥٩٢

اليمن ، وساق معه أربعا وثلاثين بدنة هديا ، ومعه الحلل (١) ولما بلغ يلملم عقد نيّته بنيّة النبي وقال : اللهم إهلالا كإهلال نبيّك.

فلما قارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة من طريق المدينة قاربها أمير المؤمنين عليه‌السلام من طريق اليمن ، (فلما كان بالفتق قرب الطائف خلّف على أصحابه أبا رافع القبطي (٢)) وتقدمهم للقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأدركه وقد أشرف على مكة ، فسلّم وأخبره بما صنع وأنه سارع للقائه قبل الجيش.

فسرّ رسول الله بذلك وابتهج بلقائه وكان محرما فسأله : بم أهللت يا علي؟ فقال عليه‌السلام : يا رسول الله ، إنك لم تكتب إليّ بإهلالك ولا عرفتنيه ، فعقدت نيّتي بنيّتك وقلت : اللهم إهلالا كإهلال نبيّك. وسقت معي من البدن أربعا وثلاثين بدنة.

فقال رسول الله : الله أكبر ، فقد سقت أنا ستا وستين ، وأنت شريكي في حجي ومناسكي وهديي ، فأقم على إحرامك ، وعد الى جيشك ، فعجّل بهم إليّ حتى نجتمع بمكة إن شاء الله.

فودّعه أمير المؤمنين عليه‌السلام وعاد الى جيشه. فوجدهم (عند السدرة داخلين مكة (٣)) قد لبسوا الحلل التي كانت معهم ، فقال للذي استخلفه عليهم (أبي رافع) : ويلك ما دعاك الى أن تعطيهم الحلل قبل أن ندفعها الى النبي ولم أكن أذنت لك في ذلك؟ فقال الرجل : سألوني أن يتجمّلوا بها ويحرموا فيها ثمّ يردّونها علي.

فانتزعها أمير المؤمنين عليه‌السلام من القوم وشدّها في الأعدال (٤).

__________________

(١) قال الواقدي : إنها كانت خمس الغنائم ، وقال المفيد : كانت جزية نصارى نجران.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٠.

(٣) المصدر السابق ٢ : ١٠٨١.

(٤) الأعدال : جمع عدل ، أحد جانبي حمل الحيوان. الارشاد ١ : ١٧٢ ، ١٧٣ ، ورواه ابن إسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٠ إلّا أنّه قال : فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم.

٥٩٣

خطبته في آخر عمرته :

روى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما فرغ من سعيه وهو على المروة أقبل على الناس بوجهه.

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن هذا جبرئيل ـ وأومأ بيده الى خلفه ـ يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحلّ ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ، ولكنّي سقت الهدي ، ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحل (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

فقال رجل من القوم : أنخرجنّ حجاجا ورءوسنا وشعورنا تقطر؟! (يعني من غسل الجنابة). فقال له رسول الله : أما إنك لن تؤمن بهذا أبدا! فقال سراقة بن مالك الكناني : يا رسول الله ، علّمنا ديننا كأنّنا خلقنا اليوم : فهذا الذي أمرتنا به ألعامنا هذا؟ أم لما يستقبل؟ فقال له رسول الله : بل هو للأبد الى يوم القيامة ، وشبّك أصابعه وقال : دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة (١).

ثم أمر مناديه فنادى : لمن لم يسق منكم هديا فليحلّ وليجعلها عمرة ، ومن ساق منكم هديا فليقم على إحرامه. فأطاع بعض الناس في ذلك وخالف بعض ، فأنكر رسول الله على من خالف في ذلك وقال : لو لا اني سقت الهدي لأحللت وجعلتها عمرة ، فمن لم يسق هديا فليحلّ. فرجع قوم وأقام آخرون على الخلاف ، وقال بعضهم : إنّ رسول الله أشعث أغبر ونلبس الثياب ونقرب النساء وندهن؟!

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩١ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ ، ٢٣٤. وفيه ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ ، وفيه ٢١ : ٤٠٤ ، ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الصادق عن الباقر عن جابر ، ولفظه : فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ وليجعلها عمرة. ونقلها المجلسي عن المنتقى للكازروني.

٥٩٤

وقال آخرون : أما تستحيون أن تخرجوا ورءوسكم تقطر من الغسل ورسول الله على إحرامه؟!

وكان فيمن أقام على الخلاف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عمر بن الخطاب ، فاستدعاه رسول الله وقال له : مالي أراك يا عمر محرما أسقت هديا؟! قال : لم أسق! قال : فلم لا تحل وقد أمرت من لم يسق الهدي بالاحلال؟ فقال : يا رسول الله ، والله لا أحللت وأنت محرم! فقال له النبي : إنك لن تؤمن بها حتى تموت (١).

وروى ابن اسحاق بسنده عن عائشة قالت : أمر الناس أن يحلوا بعمرة الّا من ساق الهدي ... فحلّ كل من لا هدي معه وحل نساؤه ، وروى بسنده عن حفصة بنت عمر قالت : وأمر رسول الله نساءه أن يحللن بعمرة ، فقلن له : يا رسول الله فما يمنعك أن تحلّ معنا؟! فقال : إني أهديت ولبّدت (٢) فلا احل حتى أنحر هديي (٣).

ثمّ لم ينزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة ، فقالت له أم هانئ بنت أبي طالب : يا رسول الله ، ألا تنزل في بيوت مكة؟ فأبى (٤) وخرج منها الى الأبطح بين مكة ومنى فنزل بها هو وأصحابه ، حتى يوم التروية (٥) أي بقية يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة (٦).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٧٣ ، ١٧٤.

(٢) كان الحجّاج إذا كان يطول مكثهم في إحرامهم يلبّدون شعور رءوسهم بشيء من الصمغ أو الخطمي (طين طيب الرائحة) عن الغبار والشعث والقمل.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٨ و ٢٤٩ ، ورواه الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٩٢. وفيه قال : لما قدم مكة صلّى بهم رسول الله ركعتين ثم قال : يا أهل مكة أتمّوا صلاتكم فإن سفراي مسافرون.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٠.

(٥) المصدر الأسبق ٢١ : ٣٩٢ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٠.

٥٩٥

وقدم علي عليه‌السلام من اليمن فطاف وصلّى وسعى (ولم يقصر) والتقى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورآه كذلك لم يقصّر ، ثم دخل على فاطمة وهي لم تسق هديا فأحلّت كما أمر رسول الله ، فوجد عليها ثيابا مصبوغة ووجد ريحا طيّبا ، فقال لها : ما هذا يا فاطمة؟ فقالت : بهذا أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فخرج علي عليه‌السلام الى رسول الله مستفتيا فقال : يا رسول الله ، إني وجدت فاطمة قد أحلت وعليها ثياب مصبوغة؟! فقال له رسول الله : أنا أمرت الناس بذلك ، وأنت قرّ على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي (١).

ورواه ابن اسحاق وزاد : أن جيش علي عليه‌السلام أظهر الشكوى منه لما صنع بهم فروى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : فقام رسول الله فينا خطيبا فسمعته يقول : أيها الناس ، لا تشكوا عليّا ، فو الله انه لأحسن في سبيل الله من أن يشكى (٢).

ورواه الواقدي عن أبي سعيد الخدري وكان معه في تلك الغزوة قال : إنهم لما قدموا على رسول الله شكوه إليه ، فدعا عليّا فقال له : ما لأصحابك يشكونك؟ فقال : قسمت عليهم ما غنموا وحبست الخمس حتى يقدم عليك وترى رأيك فيه ، وقد كان الامراء ينفّلون من الخمس من أرادوا ، فرأيت أن أحمله إليك لترى رأيك فيه. قال : فسكت النبي (٣).

__________________

(١) المصدر الأسبق ٢١ : ٣٩١ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ ، وفيه ٢١ : ٣٩٦ ، عن السابق ١ : ٢٣٤ ، وفيه ٢١ : ٣٨٣ ، عن أمالي الطوسي مختصرا ، وفيه ٢١ : ٤٠٤ عن المنتقى ، وهو في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، عن الصادق عن الباقر عن جابر. وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٩ ، عن عبد الله بن نجيح وفي مغازي الواقدي ٣ : ١٠٨٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٠.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١٠٨١ هكذا بتر الخبر.

٥٩٦

وزاد المفيد : ثم أمر مناديه فنادى في الناس : ارفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب فإنه خشن في ذات الله عزوجل ، غير مداهن في دينه (١).

ويبدو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كسا الكعبة بتلك الحبرات من برود وكانت الكعبة على عهده ثمانية عشر ذراعا (٢) أي نحوا من ستّة أمتار ، فأصبح ذلك سنّة من بعده.

ومكث النبي في بطحاء مكة يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وهو يوم التروية (٣).

وخرج لمناسك الحج :

روى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما كان زوال الشمس من يوم التروية أمر رسول الله الناس أن يغتسلوا ويهلّوا بالحجّ. ثم خرج النبيّ وأصحابه مهلّين بالحج ملبّين حتى أتى منى فصلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر (٤) ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، ثم أمر أن تضرب له قبّة من شعر بنمرة من موقف عرفات ، ثم سار رسول الله (٥) ولم يأخذ بين المأزمين بل أخذ طريق ضبّ الى عرفات (٦).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٧٣.

(٢) مغازي الواقدي ٣ : ١١٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٢ عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣. ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠١ وقال : ونزل بموضع دار الامارة اليوم.

(٥) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٥ عن المنتقى وهو في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، عن الصادق عن الباقر عن جابر. وفي مغازي الواقدي ٢ : ١١٠١.

(٦) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٥ عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

٥٩٧

وكانت قريش تفيض من طريق المزدلفة ويمنعون الناس أن يفيضوا منها ، فكانوا يرجون أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون ... وقال الله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ)(١).

وفي خبر جابر الأنصاري : أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام ولا تجوزه ، فلم تكن تشك في ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجاز رسول الله حتى أتى عرفة (٢) فلما رأت قريش أن قبّة رسول الله مضت كأنّه دخل في أنفسهم شيء من ذلك.

وانتهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الى نمرة بحيال شجر الأراك من بطن عرنة من عرفة (٣) فوجد قبته قد ضربت هناك فنزل بها حتى زاغت الشمس.

فلمّا زاغت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت له (٤) فخرج وقد اغتسل (٥) فقال : أيها الناس ، إن الله باهى بكم في هذا اليوم ليغفر لكم عامة! ثمّ التفت الى علي عليه‌السلام فقال : ويغفر لعلي خاصة ، ثم قال : ادن مني يا علي. ودنا منه فأخذ بيده وقال : إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أطاعك وتولّاك من بعدي ، وإنّ الشقي كل الشقي حقّ الشقي من عصاك ونصب لك عداوة بعدي (٦) ثم ركب وسار حتى وقف حيث المسجد اليوم (٧) في بطن الوادي ، فخطب الناس (٨) فقال :

__________________

(١) البقرة : ١٩٩. ولفظ الخبر : فأنزل الله ، وعليه فالنزول في العاشرة وفي المصحف في أوائل ما بعد الهجرة. والخبر من المصدر الأسبق.

(٢) من المصدر الأسبق ، ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠٢.

(٣) المصدر الأول في هذا العنوان.

(٤) المصدر الثاني من هذا العنوان ، ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠١.

(٥) المصدر الأول في هذا العنوان.

(٦) أمالي المفيد : ١٦١.

(٧) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٢ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٨) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٥. ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الصادق عن الباقر

٥٩٨

«الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.

اوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثّكم على العمل بطاعته ، واستفتح الله بالذي هو خير.

أيها الناس! اسمعوا منّي ما ابيّن لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

أيّها الناس! إنّ دماءكم وأعراضكم عليكم حرام الى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها الى من ائتمنه عليها.

وإنّ ربا الجاهلية موضوع ، وإنّ أوّل ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلّب.

وإنّ دماء الجاهلية موضوعة ، وإنّ أول دم أبدأ به (١) دم ابن ربيعة بن الحارث (بن عبد المطلب) كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل (٢).

وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية (٣).

والعمد قود (٤) وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ، وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية.

__________________

ـ عن جابر ، وعليه فالخطبة الاولى كانت في عرفات.

(١) تحف العقول : ٢٩.

(٢) المصدر الأسبق.

(٣) المآثر : المفاخر ، والسدانة : خدمة البيت ، والسقاية : سقاية زمزم للحجّاج.

(٤) القود : القصاص.

٥٩٩

أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضى بأن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم.

أيها الناس : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ...)(١) وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات والأرض و (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ...)(٢) : ثلاثة متوالية وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، ورجب بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس : إنّ لنسائكم عليكم حقّا ولكم عليهن حقا ، حقكم عليهن : أن لا يوطئن أحدا فرشكم ، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلّا بإذنكم ، وأن لا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تعضلوهنّ وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكتاب الله ، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيرا.

أيها الناس : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(٣) ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه ـ ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد ـ فلا ترجعنّ كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي (٤). ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

__________________

(١) التوبة : ٣٧.

(٢) التوبة : ٣٦.

(٣) الحجرات : ١٠.

(٤) الباب ٣٦ والأخير من الجزء ٢١ من بحار الأنوار في حجة الوداع وما جرى فيها من ٣٧٨ إلى ٤١٣ روى فيه المجلسي الخطبة في خبرين الأول عن الخصال للصدوق

٦٠٠