موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

شمالا الى منطقة الجوف بنحو ٤٥٠ كم وبعدها شمالا بأكثر من ١٥٠ كم تصل الى تبوك ، وبعدها شمالا أيضا بنحو ٢٣٨ كم نتجاوز الحدود الأردنية لأقرب مدينة إليها معان. وفي الجوف قرية دومة الجندل ، والجندل : الحجارة ، والدّومة : شجرة برّية صحراوية ، هذا إذا وافقنا تلفّظ اهلها اليوم بفتح الدال ، وإلّا فقد جرى المتقدمون على ضبطها بضم الدّال ونسبوها الى دوما بن اسماعيل بن ابراهيم عليه‌السلام. ويشرف عليها حصن مارد : حصن اكيدر الكندي. والجوف منطقة زراعية بها مزارع وقرى ودومة الجندل أشهر بلدة فى الجوف ، وكانت قاعدة تلك المنطقة حتى عام ١٣٧٠ ه‍ وتجاورها إمارة حائل وحائل مدينة في شمال تيماء وبقربها يمرّ رمل عالج في شمال صحراء نجد ، وأقرب مدينة من إمارة حائل الى دومة الجندل مدينة سكاكة تبعد عنها خمسين كم بينهما طريق معبّدة ، وفي عام ١٣٧٠ ه‍ كان أمير دومة الجندل تركي ابن احمد السديري فنقل القاعدة الى سكاكة (١) والظاهر انها هي محل تحكيم الحكمين بعد حرب صفين.

وقد مرّ علينا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يمر بتيماء نفسها وانما قاربها بوادي القرى ، فلما بلغهم نزوله بقربهم كأنهم رهبوه فارسلوا إليه وصالحوه وهنا أيضا لم يمرّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بدومة الجندل في طريقه الى تبوك ، ولكن كأنه حين قاربها ولعله من قبل الحائل أو سكاكة ، تشكّك أهل دومة الجندل لعله يريد مجالدتهم ، وهم من بني عليم من كلب كندة ، فأوفدوا إليه حارثة بن قطن وحمل بن سعدانة الكلبيّين فأسلما ، فامر من كتب لهم كتابا رواه ابن سعد جاء فيه :

«... هذا كتاب من محمّد رسول الله لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب ، مع حارثة بن قطن. لنا الضاحية من البعل ، ولكم الضامنة من النخل ، على

__________________

(١) معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية : ١٢٧ ، ١٢٨ لعاتق بن غيث البلادي. والمعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية ق ٢ : ٥٤٣ ، ٥٤٤ للشيخ حمد الجاسر.

٤٦١

الجارية العشر وعلى الغائرة نصف العشر ، لا تجمع سارحتكم ، ولا تعدّ فاردتكم. تقيمون الصلاة لوقتها ، وتؤتون الزكاة بحقّها ، لا يحظر عليكم النبات ، ولا يؤخذ منكم عشر البتات ، لكم بذلك العهد والميثاق ، ولنا عليكم النصح والوفاء (ولكم) ذمة الله ورسوله ، شهد الله ومن حضر من المسلمين».

الضامنة من النخل : ما تضمنته أمصارهم وحفظتها عمارتهم من الفاعل بمعنى المفعول أي المضمونة. وبعكسها الضاحية أي الظاهرة البادية ، البيداء ، والبعل : كذلك ما خرج من النخل عن العمارة. والجارية : ما يسقى بالمياه الجارية ، وبعكسها الغائرة : ما يسقى بالمياه الغائرة في أغوار البئار. والسارحة : الغنم السارحة للرعي ، ولا تجمع أي لا ترد عن سرحها ورعيها ، والفاردة : التي لا زكاة فيها ، ولا تعد : أي لا تعدّ مع المزكاة منها. والبتات : البضائع (١).

قلنا كأن هذا كان حينما مرّ بقربهم في طريقه الى تبوك قبل أن يصل إليها بأكثر من ١٥٠ كم ، وكأنّه ترك ملكهم الاكيدر الكندي المتنصّر ، ويظهر أنه كان متنصرا متأثّرا بالروم مرتبطا بهم ، فتركه لينظر ما ذا يفعل ، حتى نزل بتبوك ، ولم يظهر من الاكيدر أي أثر حينئذ ...

الأكيدر الكندي :

روى الواقدي باسناده عن صحابيّين مباشرين للأحداث : اسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعن عكرمة عن ابن عباس : قالوا : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارسا الى اكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل. فقال خالد : يا رسول الله ، كيف لي به وسط

__________________

(١) مكاتيب الرسول ٢ : ٣٩٢ ، ٣٩٣ عن الطبقات ١ : ٣٣٥.

٤٦٢

بلاد كلب وانما أنا في اناس يسير؟! فقال رسول الله : ستجده يصيد البقر فتأخذه! (١) فان ظفرت به فأت به إليّ فان أبق فاقتلوه (٢).

فخرج خالد إليه ، أي تراجع من تبوك الى دومة الجندل بأكثر من ١٥٠ كم ، فوصل الى حصنه المشرف على دومة الجندل في ليلة مقمرة ، وكان الفصل صيفا حارا ، فكان قد صعد على سطح حصنه ومعه امرأته الرباب بنت انيف الكندي ومعهما شراب وجارية تغنّي لهما.

واقبلت البقر الوحشية تحكّ بقرونها باب الحصن ، فاشرفت امرأته فرأت البقر دون عسكر المسلمين ، وكان اكيدر يتصيّد بقر الوحش ، فحشمته امرأته على ذلك ، فنزل وأبلغ أخاه حسّان بن عبد الملك ومماليكه وأمرهم أن يسرجوا فرسه والخيول ، فركبوا وخرجوا من حصنهم وانما يحملون رماحا قصيرة للصيد ، وقد كمن لهم خيل خالد.

فلما انفصلوا من حصنهم وانفصل منهم اكيدر يطاردون أبقار الوحش ، حاصره جمع من خيل خالد فاستؤسر ولم يقاوم ، وامتنع أخوه حسّان وقاتل فقوتل حتى قتل ، وهرب من معهم من أهلهم ومماليكهم الى الحصن فدخلوه وأغلقوه.

وكان على حسان قباء ديباج مخوّص بالذهب ، فاستلبه خالد وسلّمه الى عمرو بن أميّة الضّمري وبعث به الى رسول الله ليخبره بأخذهم الاكيدر.

وقال خالد لاكيدر : هل لك أن اجيرك من القتل حتى آتي بك الى رسول الله على أن تفتح لي دومة؟ قال : نعم ، ذلك لك. فانطلق به خالد في وثاق حتى أدناه من

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٥ والخرائج والجرائح ١ : ١٠١ ح ١٦٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٦.

٤٦٣

باب الحصن ، فنادى اكيدر أهله : افتحوا باب الحصن. فأبى عليه أخوه مضاد بن عبد الملك ، فقال اكيدر لخالد : والله لا يفتحون لي ما رأوني في وثاق فخلّ عني ، فلك الله والأمانة أن افتح لك الحصن إن كنت تصالحني على أهله. قال خالد : فانّي اصالحك. فقال اكيدر : فحكّمني ، وإلّا حكّمتك. قال خالد : بل نقبل منك ما أعطيت. فأعطى اكيدر من نفسه : ألفي بعير وثمانمائة فرس ، وأربعمائة درع وأربعمائة رمح ، وعلى أن يذهب به وبأخيه مضاد الى رسول الله فيحكم فيهما حكمه. ثم خلى خالد سبيله ، وتخلى هو وخيله عنه ، ففتحوا له الحصن ففتحه لهم ، فدخله خالد وخيله فأوثقوا أخاه مضادا وأخذوا ما صالحوه عليه من الابل والسلاح.

ثم خرج خالد ومعه اكيدر وأخوه مضاد ، فقدم بهما عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وعليه قباء ديباج وصليب من ذهب (٢) وكانت معه هدية من كسوة فأهداها إليه (٢) ، فصالحه على الجزية وحقن دمه ودم أخيه ، وكتب لهم كتابا فيه ما صالحهم. وعزل يومئذ للنبي صفي خالص قبل أن يقسم شيء من الفيء ، ثم خمّست الغنائم فعزل خمسه له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكان معهم أبو سعيد الخدري فأسهم له خالد عشرا من الابل ودرعا وبيضة ورمحا. ولسائرهم لكل رجل خمس من الابل مع السلاح من الرماح والدروع وبدونها ستة من الابل كما كان لكعب بن عجرة (٤).

هذا ما رواه الواقدي بما تقدم من أسناده ، وليس فيه سوى الاشارة الى كتاب الصلح والجزية عليه وعلى أهل حصنه ، بصفتهم نصارى من اهل الكتاب فهم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٧.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٩.

٤٦٤

أهل الذمة في الاسلام. ولم يرو الواقدي نص الكتاب بأسناده المتقدمة وانما رواه عن شيخ من أهل دومة الجندل (١) بما يفيد اسلامهم :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، هذا كتاب من محمّد رسول الله لاكيدر حين اجاب الى الاسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد (٢) في دومة الجندل وأكنافها. ان لنا الضاحية من الضحل ، والبور ، والمعامي ، وأغفال الارض ، والحلقة ، والسلاح والحافر والحصن ، ولكم الضامنة من النخل ، والمعين من المعمور (بعد الخمس) لا تعدل سارحتكم ، ولا تعدّ فاردتكم ، ولا يحظر عليكم النّبات ، ولا يؤخذ منكم عشر البتات. تقيمون الصلاة لوقتها ، وتؤتون الزكاة لحقّها ، عليكم بذلك العهد والميثاق ، ولكم بذلك الصدق والوفاء شهد الله ومن حضر من المسلمين».

والضاحية : أطراف الأرض ، والضحل : الماء القليل ، والبور : من الارض البوار ، والمعامي : الأراضي المجهولة ، والأغفال : الأراضي لا أثر عليها ، والفاردة : ما لا زكاة فيه من الغنم حتى الأربعين فلا تعدّ مع الزكاة ، والبتات : البضائع.

قال : قالوا : ولم يك في يد النبي خاتم فختمه بظفره (٣) وكأنه غفل عن نص الكتاب باسلام أكيدر ، فكرّر يقول : ووضع فيه عليه الجزية (٤).

__________________

(١) كذلك رواه أبو عبيد السكوني (م ٢٢٤ ه‍) في كتاب الأموال : ١٩٤ فقال : أتاني به شيخ من دومة الجندل في صحيفة بيضاء فقرأت نسخته ثم نسخته حرفا بحرف. وهو معاصر للواقدي وعاش بعده عشرين عاما فلعله عثر على ما عثر عليه قبله الواقدي كذلك.

(٢) هنا وصف له بسيف الله ، ولعلّه من قرائن الاختلاق.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٠ و ١٠٢٨. هذا وقد مرّ انّه أمر باعداد ختم له لما أراد أن يكتب الى الامراء والملوك لأول السابعة.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٠. وقال ابن الأثير (ت ٦٣٠ ه‍) في اسد الغابة ١ : ١١٣ يردّ على من عدّه مسلما فمن الصحابة : اما سريّة خالد فصحيح ، وانما اهدى اكيدر لرسول الله ،

٤٦٥

أهل مقنا :

مرّ أن بين تبوك وبين مدينة معان في طريق عمّان الاردن في أوائل حدودها : ٢٣٨ كم ، هذا في البر ، والبحر المجاور هو البحر الأحمر ذو الشعبتين شعبة منها تمرّ بالاردن وعليها الميناء الاردني الرئيس المنسوب الى مدينة العقبة : ميناء العقبة على خليج العقبة ، وهي التي كانت تسمى سابقا : ميناء أيلة ، وكانت بجنوبها عقبة جبلية كأداء فنسبت المدينة الى تلك العقبة. وكان مدخل العقبة يسمى البويب وكان باب الاردن من السعودية بجانبه الجنوبي المخفر السعودي وبجانبه الشمالي المخفر الاردني ، ثم توافقوا على تعديل الحدود فدخل البويب كله في الاردن عام ١٣٧٩ ه‍ (١) وعلى شاطئ العقبة بين رأس الشيخ والحقل قرية في أسفل وادي الحمض غربي جبل تيران في الطرف الغربيّ من شعيب ، تسمى القرية بمقنا كما كانت تسمى قديما (٢).

وكأنّ ما مرّ عن الواقدي : كانت تيماء ودومة الجندل وأيلة قد خافوا النبي لما رأوا أن العرب قد أسلمت (٣) شمل أهل مقنا ، وكأنّهم كانوا من بني وائل وجذام وسعد الله ، فقدم منهم عبيد بن ياسر من سعد الله فارسا ومعه رجل من جذام ، على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبوك فأسلما (٤) ، ومعهما فرس عتيق يسمّونه المراوح فأهداه عبيد إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

ـ وصالحه ولم يسلم ، وهذا لا اختلاف فيه بين أهل السير ، ومن قال انّه أسلم فقد اخطأ خطأ ظاهرا. يرد بهذا على البلاذري في فتوح البلدان : ٧٢ وابن مندة وأبي نعيم إذ ذكراه في الصحابة. ثم ردّه احمد بن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢ ه‍) في الاصابة ١ : ١٢٤ فاطال بذكر أدلة من قال باسلامه. وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٩٣.

(١) المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية : ٣٥.

(٢) المصدر نفسه (القسم الثالث) : ٤ ، ٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٢.

٤٦٦

فأجرى الخيل فسبق هذا الفرس فقبله منه ، ووهبه للمقداد بن عمرو (١) فأعطى رسول الله لفرس عبيد مائة حلة لهما كل سنة. وكتب لأهل مقنا : انهم آمنون بأمان الله وأمان محمد (مما يشير الى خوفهم أيضا) وان عليهم ربع ثمارهم وربع غزولهم ، وجعلها لهما ، فلم يزل يجرى لهما ولآلهما ذلك حتى نزعت آخر زمان بني أميّة (٢).

وواضح ان هذه الأرباع من الغزول والثمار ليست من الزكوات بل هي من الجزية ، فهم اهل ذمّة من أهل الكتاب ، وقيل انهم كانوا يهودا (٣).

وكأنّ عبيدا عرّف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما حواليه من ميناء أيلة : ميناء العقبة وقسّيسها يوحنّا بن رؤبة. وكانوا ثلاثمائة رجل (٤).

واهل أيلة : ميناء العقبة :

فأمر ان يكتبوا إليهم كتابا وأرسله إليهم مع رسله المذكورين في الكتاب : حريث بن زيد الطائي وحرملة وشرحبيل وابي ، لم يذكروا باكثر من هذا ، وأرسلهم إليهم مع هذين الرجلين من أهل مقناكما هو مذكور في آخر الكتاب برواية ابن سعد : جاء فيه خطابا ليوحنّا القسيس : «اني لم اكن لاقاتلكم حتى اكتب إليكم ، فأسلم أو اعط الجزية ، وأطع الله ورسوله ورسل رسوله واكرمهم واكسهم كسوة

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٢ ، ١٠٣٣ ويبدو ان ما كان لعبيد انما هي المائة حلة من ربع غزلهم ، ويستبعد أن يكون له كل الربع وانظر نصّ الكتاب وشرحه ومصادره في مكاتيب الرسول ٢ : ٢٨٨ ـ ٢٩١.

(٣) مكاتيب الرسول ٢ : ٢٩١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١.

٤٦٧

حسنة غير كسوة الغزاء ، واكس (ابن) زيد (حريث بن زيد الطائي) كسوة حسنة ، فمهما رضيت رسلي فاني قد رضيت ، وقد علم الجزية ، فان اردتم أن يأمن البر والبحر فاطع الله ورسوله ، ويمنع عنكم كل حق كان للعرب والعجم الّا حق الله وحق رسوله. وانك ان رددتهم ولم ترضهم لا آخذ منك شيئا حتى اقاتلكم فاسبي الصغير وأقتل الكبير! فاني رسول الله بالحق ، أومن بالله وكتبه ورسله وبالمسيح ابن مريم انّه كلمة الله ، واني أومن به انّه رسول الله. وآت قبل أن يمسّكم الشرّ ، فاني قد اوصيت رسلي بكم ... وان حرملة شفع لكم ، واني لو لا الله وذلك لم اراسلكم شيئا حتى ترى الجيش ، وانكم ان اطعتم رسلي فان الله لكم جار ومحمّد ومن يكون منه. وان رسلي : شرحبيل وأبي وحرملة وحريث بن زيد الطائي ، فانهم مهما قاضوك عليه فقد رضيته ، وان لكم ذمّة الله وذمّة محمّد رسول الله ، والسلام عليكم ان اطعتم ، وجهزوا أهل مقنا الى أرضهم».

قال ابن سعد : فلما وصل الكتاب إليه وقرأه أشفق أن يبعث إليهم سريّة كما بعث الى دومة الجندل ، فاقبل إليه (١).

وأهل أذرح والجرباء :

وهما اليوم قريتان اردنيّتان في الشمال الغربي من مدينة معان الاردنية الحدودية بنحو ٢٢ كم على يسار الطريق من معان الى عمان ، بين اذرح والجرباء زهاء ثلاثة أميال ، وليس ثلاث ليالي كما قيل (٢) فكتب لهما كتابا :

__________________

(١) الطبقات الكبرى ١ : ٢٨٩.

(٢) معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية : ٨١ في المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية : ٢١ ، رجّح أنّ بهما كان أمر الحكمين ، وفي ذلك شعر غير قليل في معجم البلدان.

٤٦٨

«بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمّد النبي لأهل جرباء واذرح ، انهم آمنون بأمان الله وامان محمّد ، وان عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة ، والله كفيل عليهم».

وكأن اهل اذرح تذرّعوا الى ان يكتب لهم كتاب على حدة ، فكتب لهم :

«بسمِ الله الرحمن الرحيم ، من محمّد النبي لأهل اذرح ، انهم آمنون بأمان الله وأمان محمّد ، وان عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة ، والله كفيل عليهم بالنصح والاحسان للمسلمين ، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة والتعزير ...» (١).

وروى الواقدي بسنده عن جابر الأنصاري قال : يوم اتي بيوحنّا بن رؤبة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأيته معقود الناصية وعليه صليب من ذهب ، فلما رأى النبي كفّر (وضع يديه على صدره) وأومأ برأسه أو طأطأ ، فأومأ إليه النبي ان ارفع رأسك (٢) قالوا : وأهدى يوحنّا الى النبي بغلة بيضاء (٣) فكساه النبي بردا يمانيا ، وأمر له بخباء عند بلال (٤).

وكان أهل ميناء أيلة : ميناء العقبة ثلاثمائة رجل ، فصالحه النبي بثلاثمائة دينار كل سنة عن رأس كل رجل دينار ، وأمر جهيم بن الصلت فكتب لهم :

«بِسم الله الرحمن الرحيم ، هذا أمنة من الله ومحمّد النبي رسول الله ليحنّة بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسائرهم في البر والبحر ، لهم ذمّة الله وذمّة محمّد رسول الله ، ولمن كان معه من اهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر (٥) ومن أحدث حدثا فانّه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١.

(٣) السيرة الحلبية ٣ : ١٦٠ وبهامشه زيني دحلان ٣ : ٣٧٤.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٢.

(٥) كان يأتيهم اهل اليمن في البحر ، وأهل الشام برا وبحرا.

٤٦٩

لا يحول ماله دون نفسه ، وانّه لطيب لمن أخذه من الناس ، وانّه لا يحلّ ان يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من برّ أو بحر. وهذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة باذن رسول الله» (١).

وإسلام فئام من جذام :

جذام ولخم ابنا عدي من بطون كهلان وأبوا قبيلتين وأعمام كندة ، ومساكنهم من مدين الى تبوك فاذرح ، وكان لهم صنم يسمّى الأقيصر في مشارق الشام ، فكانوا يحجون إليه فيحلقون رءوسهم لديه ، وفي مواطنهم يعبدون المشتري.

ومرّ خبر سريّة زيد بن اسامة إليهم ، وحضروا وشاركوا في جيوش الغساسنة والروم في غزوة مؤتة ، وسمع الرسول باجتماعهم لحربه في البلقاء من تبوك.

وسمع منهم مالك بن الأحمر بقدومه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك ، فوفد إليه واسلم ، ثم سأله أن يكتب له كتابا يدعو به قومه الى الاسلام ، فكتب له صلى‌الله‌عليه‌وآله في رقعة أدم بطول شبر وعرض أربعة أصابع : «بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمّد رسول الله لمالك بن الأحمر ولمن تبعه من المسلمين : أمانا لهم ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، واتّبعوا المسلمين وجانبوا المشركين ، وأدوا الخمس من المغنم وسهم الغارمين ... فهم آمنون بأمان الله عزوجل ، وأمان محمّد رسول الله» (٢).

قال الطبرسي : وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بتبوك بأبي عبيدة بن الجرّاح الى بني جذام فأصاب بعضهم وسبى منهم سبايا. وبعث سعد بن عبادة الى ناس من بني سليم وبليّ فلما قاربهم هربوا (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٠٠.

(٢) فتوح البلدان : ٧٩ ولسان الميزان ٣ : ٢٠ والاصابة ٣ برقم ٧٥٩٣ واسد الغابة ٤ : ٢٧١ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٤٩.

(٣) اعلام الورى ١ : ٢٤٤.

٤٧٠

وكان هرقل في موضعه (حمص (١) أو دمشق) (٢) لم يزحف ولم يتحرك ، وكان الذي اشيع في المدينة أنه بعث أصحابه ودنا الى أدنى الشام باطلا (٣).

الرجوع من تبوك :

مرّ عن اليعقوبي والطبرسي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انتهى الى تبوك في شهر شعبان (٤) وعن ابن اسحاق : انّه أقام بها بضع عشرة ليلة (٥) وعن الواقدي أقام عشرين ليلة (٦) فقد أقبل إليهم شهر الله : شهر رمضان المبارك ، شهر الصيام.

فأجمع رسول الله على الرجوع من تبوك ، وقد أرمل الناس إرمالا شديدا ، وقد هزلت الابل ... فدخل عمر بن الخطاب على رسول الله فقال : يا رسول الله ...

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥.

(٢) التنبيه والاشراف : ٢٣٦.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٩. وقد قال المفيد : كان الله قد أوحى الى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسير الى تبوك ، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها الى حرب ولا يمنى بقتال عدو. الارشاد ١ : ١٥٤. وقال الواقدي : شاور رسول الله أصحابه للتقدم من تبوك الى الشام ، فقال عمر : ان كنت امرت بالمسير فسر! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو امرت به ما استشرتكم فيه ٢ : ١٠١٩ مما يؤيد ما أفاده الشيخ المفيد قدس‌سره أنّه لم يكن مأمورا من ربّه بأكثر مما مرّ الى هنا في تبوك بلا تقدّم منه الى الشام ، وعليه فلم يرجع عن مشورة. ونقل الواقدي عن عمر قوله : وقد أفزعهم دنوّك ٢ : ١٠١٩ ولا دليل عليه وقد قال الواقدي : انهم لم يزحفوا ولم يتحركوا! وعليه فلا يصح ما في سيرة المصطفى : ٦٥٠ ـ ٦٥٣ وفي سيد المرسلين ٢ : ٥٦٨ ، ٥٦٩.

(٤) اليعقوبي ٢ : ٦٨ واعلام الورى ١ : ٢٤٤.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٠.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥ و ١٠٦١.

٤٧١

ادع بفضل زادهم ثم اجمعها فادع الله فيها بالبركة ـ كما فعلت حيث أرملنا في الحديبية ـ فان الله عزوجل يستجيب لك! فأمر أن ينادوا الناس بذلك. فنادى منادي رسول الله : من كان عنده فضل من زاد فليأت به!

وأمر رسول الله فبسطت الانطاع (الجلود المدبوغة للمائدة) فجعل الرجل يأتي بالمدّ من الدقيق والتمر والسويق ، والقبضة منها ، وكسر الخبز ، فيوضع كل صنف من ذلك على حدة ، وكل ذلك ثلاثة أفراق (تسعة أصواع ـ ٢٦ كغم) ثم قام النبي فتوضأ وصلّى ركعتين ، ثم دعا الله عزوجل أن يبارك فيه.

ثم نادى مناديه : هلمّوا الى الطعام خذوا منه حاجتكم! فأقبل الناس وجعلوا يتزوّدون الزاد ، وكل من جاء بوعاء او جراب ملأه دقيقا وسويقا وخبزا! وكانت الأنطاع تفيض بما عليها حتى انتهوا ورسول الله واقف عليهم يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّي عبده ورسوله ، وأشهد انّه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلّا وقّاه الله حرّ النار (١).

ورواه الراوندي فقال : شكوا إليه نفاد زادهم فقال : من كان عنده شيء من تمر أو دقيق او سويق فليأتني به. فجاء أحدهم بدقيق والآخر بكفّ سويق ، فبسط رداءه فجعلا ذلك عليه ، فوضع احدى يديه على احداهما والاخرى على الاخرى ، ثم قال : نادوا في الناس : من أراد الزاد فليأت! فأقبل الناس يأخذون حتى ملئوا جميع ما كان معهم من الأوعية وذلك الدقيق والسويق على حاله ما زاد ولا نقص من واحد منهما شيء على ما كان عليه (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٧ ـ ١٠٣٩. عن أربعة من الصحابة : أبي هريرة وأبي زرعة الجهني وأبي حميد الساعدي وسهل بن سعد الساعدي.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٩ ح ٦٠.

٤٧٢

وكرامة في وادي الناقة :

وقفل رسول الله من تبوك حتى كان قبل وادي الناقة (١) ، وكان فيه حجر من جبل يرشح من أسفله ماء بقدر ما يروي الراكبين أو الثلاثة ، فقال رسول الله : من سبقنا الى ذلك الوشل (الحجر المترشح في الجبل) فلا يستقين منه شيئا حتى نأتي!

فسبق إليه أربعة ممن كان مع النبي من المنافقين : الحارث بن يزيد الطائيّ حليف بني عمرو بن عوف الأوسيّين ، وزيد بن اللصيت ، ومعتّب بن قشير ، ووديعة بن ثابت (٢) فاستقوا ما فيه ، فلما أتاه رسول الله لم ير فيه شيئا ، فسأل : من سبقنا الى هذا الماء؟ فقيل له : يا رسول الله فلان وفلان. فقال : ألم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه؟! ثم لعنهم ودعا عليهم! ثم نزل فوضع يده تحت رشح الماء فجعل يصبّ في يده فرشّه به ومسحه بيده ودعا (٣) فروى الواقدي عن معاذ بن جبل كان يقول : فو الذي نفسي بيده انخرق الماء وان له حسّا كحسّ الصواعق ، فشرب الناس واستقوا ما شاءوا (٤).

وروى عن سلمة بن سلامة قال : فقلت لوديعة بن ثابت : ويلك! أبعد ما ترى شيء؟! أما تعتبر؟! فقال : لقد كان يفعل مثل هذا من قبل! (٥).

وروى بسنده عن أبي قتادة قال : بينما نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نسير في الجيش ليلا ... ومعي ماء في اداوة وركوة (قربة صغيرة) فتوضأ النبي من ماء الاداوة معي وفضل منه شيء فقال لي : يا أبا قتادة احتفظ بما في الاداوة والركوة فان لهما شأنا!.

__________________

(١) وفي السيرة ٤ : ١٧١ : وادي المشقّق.

(٢) مغازي الواقدي ٣ : ١٠٣٩.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧١ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٩ وقال : ألم أنهكم؟!

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٩ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧١ بلا ذكر اسم معاذ.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٩.

٤٧٣

ثم لحقنا الجيش غدا عند زوال الشمس وقد كادت أن تنقطع أعناقهم وخيلهم من العطش! فدعا رسول الله بالركوة وأفرغ فيها ما في الاداوة ثم وضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه وفاض حتى ارتوى الناس وارووا خيلهم وركابهم! وذلك قوله لي : احتفظ بما في الاداوة والركوة (١) وهو يقول : أشهد أني رسول الله حقّا (١) أو : اشهدوا اني رسول الله حقا (٣).

وقبل منزل الحجر :

وقبل أن يصل منزل الحجر عطش العسكر بعد المرّتين الاوليين عطشا شديدا حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير ، فشكو ذلك الى رسول الله ، فدعا اسيد بن حضير فجاء وهو متلثّم ، فقال له رسول الله : عسى أن تجد لنا ماء. فخرج يضرب في كل وجه ، فوجد امرأة معها قربة ماء فأخبرها بخبر رسول الله فقالت : فانطلق بهذا الماء الى رسول الله. فلما جاء به اسيد دعا فيه رسول الله بالبركة ثم قال : هلمّوا أسقينّكم! فلم يبق معهم سقاء إلّا ملئوه ، ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت ... ثم راحوا العصر مبردين متروّين من الماء (٤).

مؤامرة العقبة :

روى الراوندي عن الصادق عليه‌السلام قال : كان القرآن ينزل بكلام المنافقين حتى قال بعضهم لبعض : ما تأمنون ان تسمّوا في القرآن فتفضحوا انتم وعقبكم ، هذه عقبة بين أيدينا ـ عقبة فيق (٥) ـ لو رمينا به منها يتقطّع!

__________________

(١) و (٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٠ ، ١٠٤١.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٢٨ ح ١٧ و ١٢٤ ح ٢٠٥.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤١ ، ١٠٤٢.

(٥) عقبة فيق مشرفة على بحيرة طبرية وينحدر منها الى غور الاردن ، كما في معجم

٤٧٤

فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هذا فلان وفلان ـ حتى عدّهم ـ قد قعدوا ينفرون بك (١).

وكان من مسلمة الفتح أبو مروان الحكم بن أبي العاص بن اميّة وكان من أشد جيران رسول الله أذى له في الاسلام ، وبعد فتح مكة هاجرها الى المدينة (٢) فكان مع المسلمين في غزوة تبوك.

فروى الطوسي عن المفيد بسنده عن ابن عمر : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما انتهى الى العقبة قال : لا يجاوزها احد. فعوّج الحكم بن أبي العاص فمه مستهزئا به (٣).

وروى الطبرسي عن الزجاج والكلبي : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي ، وسار رسول الله في العقبة ، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان

__________________

البلدان ٤ : ٢٨٦ ومراصد الاطلاع ١ : ١٦٣ و ٣ : ١٠٥٢ هذا والمفروض انها بعد تبوك الى المدينة ، وقد مرّ أن تبوك تبعد عن الاردن بأكثر من ٢٠٠ كم فأين هم من غور الاردن وبحيرة طبريّة؟! هذا غريب.

وفي الخبر : عقبة ذي فيق ، ومثله غرابة ما جاء في خبر آخر أنها في طريق اليمن ٢ : ٤٩٢ ، ومثلهما غرابة ما في مراصد الاطلاع ٢ : ٩٤٨ : انها ماء لبني عكرمة في طريق مكة بعد واقصة وقبل القاع لمن يريد مكة. وفيه : أنها ليست العقبة بل بطن العقبة ، ثم هي المنزل العاشر من مكة الى العراق قبل العراق بمنزلين أو مرحلتين! انظر وقعة الطف : ١٥٧ ـ ١٧٧.

(١) الخرائج والجرائح ١ : ١٠٠ ح ١٦٢ واحتمال معقول ان يكون سبب ذلك حديث المنزلة منه لعلي عليه‌السلام.

(٢) أنساب الاشراف ٥ : ٢٧.

(٣) أمالي الطوسي : ١٧٥ ح ٢٩٥. وتمامه : فدعا عليه النبيّ فصرع شهرين ثمّ أفاق ، فأخرجه النبيّ عن المدينة ونفاه عنها طريداً. وقد دخلها بعد فتح مكّة وولد له فيها ابنه مروان ، فخرج إلى الطائف حتى ردّه عثمان أول خلافته آخر سنة (٢٤ هـ) وهو عمّ عثمان.

٤٧٥

معه أحدهما يقود ناقته والآخر يسوقها ، وكان الذين همّوا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا. فروى عن الباقر عليه‌السلام : كان ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب (١).

وعنه عليه‌السلام قال : انهم ائتمروا بينهم ليقتلوه ، وقال بعضهم لبعض : ان فطن نقول : انما كنا نخوض ونلعب ، وان لم يفطن نقتله! وكان حذيفة يسوق دابّته ، فلما أمر جبرئيل رسول الله أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم ، قال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم. فضربها حتى نحّاهم.

فلما نزل (من الجبل) قال لحذيفة : من عرفت من القوم؟ قال : لم أعرف منهم أحدا. فقال رسول الله : انهم فلان وفلان ، حتى عدّهم كلّهم.

فقال حذيفة : الا تبعث إليهم فتقتلهم؟!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اكره أن تقول العرب : لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم (٢) وعن

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٧٩ عن التبيان ٥ : ٢٦١ عن الزجاج والواقدي.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٧٠ والخبر عن الباقر عليه‌السلام في تفسير العياشي ٢ : ٩٥ ح ٨٤ : انهم اجتمعوا اثنا عشر : التيمي والعدوي والعشرة معهما ، فكمنوا لرسول الله في العقبة ، وائتمروا بينهم ليقتلوه ... وفي تفسير القمي ١ : ٣٠١ بسنده عنه عليه‌السلام قال : قعدوا لرسول الله في العقبة وهمّوا بقتله. فقط ، مختزلا.

وذيل خبر المجمع جاء في ذيل الخبر السابق عن الخرائج عن الصادق عليه‌السلام : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ناداهم : يا أعداء الله يا فلان ويا فلان حتى سمّاهم كلهم بأسمائهم. وفي هذا الخبر عن حذيفة : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا نام على ناقته قصّرت في السير ، وفي تلك الليلة قلت في نفسي : لا افارق هذه الليلة رسول الله ، وحبست ناقتي معه ... فلما نادى المنافقين نظر فإذا به يراني فقال لي : عرفتهم؟ قلت : نعم. فقال : لا تخبر بهم أحدا! فقلت : يا رسول الله أفلا تقتلهم؟ قال : اني اكره أن يقول الناس : قاتل بهم حتى ظفر فقتلهم. الخرائج والجرائح للراوندي ١ : ١٠٠ ح ١٦٢.

٤٧٦

__________________

ـ وفي كتابه قصص الأنبياء : ٣٠٩ روى عن الصدوق بسنده عنه عليه‌السلام قال : لما انتهى الى العقبة وقد جلس عليها أربعة عشر رجلا ثمانية من قريش (كما في خبر الباقر عليه‌السلام) وستة من أفناء الناس ... فناداهم رسول الله : يا فلان ويا فلان ... انتم قعود لتنفروا ناقتي؟! وكان حذيفة خلفه فلحق به فقال له : يا حذيفة سمعت؟ قال : نعم ، قال : فاكتم.

وبناء على هذين الخبرين : فهل يفترض انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأمر الناس ـ بما فيهم حذيفة وعمار ـ بسلوك الوادي ولم يمنعهم من سلوك العقبة؟! أو كان ذلك ومع ذلك قال حذيفة : لا والله لا افارق رسول الله. كما في الخبر الأول عن الخرائج؟! ثم ما ذا عن عمّار؟ ثم في الخبر الثاني عن القصص : قال يا حذيفة سمعت؟ ولكن في الأول : قال : عرفتهم؟ قلت : نعم برواحلهم وهم متلثمون! وكيف يمكن ذلك؟! ثم أليس نهاه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يخبر بهم أحدا وأمره بالكتمان؟ فهل كتم؟

وقد نقل الصدوق في الخصال ٢ : ٤٩٩ بسنده عن زياد بن المنذر بن الجارود العبدي المنسوب إليه فرقة الجارودية من الزيدية عن مشيخته عن حذيفة بن اليمان قال : الذين نفروا برسول الله ناقته (كذا!) في منصرفه من تبوك أربعة عشر : أبو الشرور ، وأبو الدواهي ، وأبو المعازف وابوه ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة ، والمغيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري ، وعبد الرحمن بن عوف. فهو إن كنّى عن اربعة فقد باح بعشرة!

ولهذا علّق محقق بحار الأنوار ٢١ : ١٣٨ الشيخ البهبودي يقول : انما أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستر عليهم ليتمّ ابتلاء المسلمين وليجري قضاء الله بافتتان امته ، وعليه فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله لحذيفة بالكتمان لم يكن مولويا وانما كان ارشاديا (كذا) ولذلك نرى حذيفة اكتتم ذلك طول حياته وبعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنه في أواخر عمره حين تم الافتتان كان يعرّض أحيانا ويصرّح اخرى بأسماء بعضهم كأبي موسى الأشعري.

فقد روى ابن شاذان (م ٢٦٠ ه‍) في الايضاح : ٦١ والطبري الامامي (ق ٤) في المسترشد : ١٣ ط. النجف و ١٥٨ ط. قم بسند واحد عن حذيفة قال : والله ما في أصحاب

٤٧٧

الامام العسكري عليه‌السلام قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر في منتصف الليل بالرحيل وأمر مناديه فنادى : الا لا يسبقن رسول الله أحد الى العقبة ولا يطؤها حتى يجاوزها رسول الله. ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة فينظر من يمرّ بها فيخبر رسول الله!

فقال حذيفة : يا رسول اني أتبيّن الشرّ في وجوه رؤساء عسكرك ، واني أخاف ان قعدت في أصل الجبل وجاء منهم من أخاف أن يتقدّمك الى هناك للتدبير عليك ، يحسّ بي فيكشف عنّي فيعرفني ويخافني فيقتلني!

فقال رسول الله : انك اذا بلغت أصل العقبة فاقصد اكبر صخرة هناك الى جانب أصل العقبة ... وجاءوا على جمالهم ... يقول بعضهم لبعض : من رأيتموه هاهنا كائنا من كان فاقتلوه لئلا يخبروا محمّدا انهم قد رأونا هنا فينكص محمّد ولا يصعد هذه العقبة الا نهارا ، فيبطل تدبيرنا عليه ... ثم تفرقوا فبعضهم عدل عن الطريق المسلوك وصعد الجبل ، وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال وهم يقولون : ألا ترون أجل محمّد كيف أغراه فمنع الناس من صعود العقبة حتى يقطعها هو لنخلوا به هاهنا فيمضي فيه تدبيرنا وأصحابه عنه بمعزل؟!

فلما تمكّن القوم على الجبل حيث أرادوا ... أقبل حذيفة فأخبر رسول الله بما رأى وسمع. فقال رسول الله : أو عرفتهم بوجوههم؟ قال : يا رسول الله كانوا متلثّمين ، ولكنّي عرفت أكثرهم بجمالهم ، ولما فتّشوا الموضع ولم يجدوا أحدا أحدروا اللثام فرأيت وجوههم فعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم : فلان فلان ...

فقال رسول الله : يا حذيفة اذا كان الله يثبّت محمّدا لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه ، ان الله تعالى بالغ أمره ولو كره الكافرون.

__________________

ـ رسول الله أحد أعرف بالمنافقين منّي ، وأنا أشهد أن أبا موسى الأشعري منافق! وانظر الاستيعاب بهامش الاصابة : ٢٧٣. وسيأتي مثل ذلك في منصرف النبيّ من غدير خم.

٤٧٨

ثم قال : يا حذيفة فانهض بنا أنت وعمار وسلمان (كذا) وتوكلوا على الله ، فاذا جزنا الثنية الصعبة فأذنوا للناس أن يتّبعونا. فصعد رسول الله وهو على ناقته وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بخطام ناقته يقودها ، والآخر خلفها يسوقها ، وعمار الى جانبها ، والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثّون حوالي الثنية على تلك العقبات ، وقد جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب (قرب) فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول الله لتقع في المهوى الذي يهوّل الناظر النظر إليه من بعد ، ولكنّها لما قربت من ناقة رسول الله ارتفعت ارتفاعا عظيما فجاوزت ناقة رسول الله فسقطت في جانب المهوى ، ولم يبق منها شيء الا صار كذلك ، وناقة رسول الله كأنها لا تحسّ بشيء من تلك القعقعات التي كانت للدباب.

ثم قال رسول الله لعمّار : اصعد الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه رواحلهم فارم بها. ففعل عمّار ذلك ، فنفرت بهم فبعضهم سقط فانكسرت عضده ، ومنهم من انكسرت رجله ، ومنهم من انكسر جنبه (١).

__________________

(١) التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام وعنه في الاحتجاج للطبرسي ١ : ٦٤ ـ ٦٦ وعنهما في بحار الأنوار ٢١ : ٢٢٩ ـ ٢٣١.

وقال الواقدي : وكان رسول الله ببعض الطريق وأمامه عقبة اذ مكر به اناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من تلك العقبة ، واخبر رسول الله خبرهم ، فلما بلغ رسول الله تلك العقبة قال للناس : اسلكوا بطن الوادي فانه أوسع لكم وأسهل. فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله العقبة ، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها ، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه.

فبينا رسول الله يسير في العقبة اذ سمع حسّ القوم قد غشوه ، فأمر حذيفة أن يردّهم ، فرجع حذيفة إليهم وجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده ، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس. ورجع حذيفة حتى أتى رسول الله فساق به ... فقال له النبي :

٤٧٩

__________________

ـ يا حذيفة هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم؟ قال : يا رسول الله كان القوم متلثّمين ومن ظلمة الليل فلم ابصرهم وعرفت راحلة فلان وفلان.

فروى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : ان رسول الله سمّى لحذيفة وعمّار اهل العقبة الذين أرادوا بالنبي وهم ثلاثة عشر رجلا.

وروى بسنده عن نافع بن جبير قال : لم يخبر رسول الله أحدا الّا حذيفة ، وهم اثنا عشر رجلا. ثم ادّعى : ليس فيهم قريشيّ. ودعمه الواقدي ، بينما روى بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن عمار قال : اشهد ان الخمسة عشر رجلا اثنا عشر رجلا منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد!

قال : ولما خرج رسول الله من العقبة نزل الناس ... فلما أصبح تقدم إليه اسيد بن حضير الأوسي فقال له : يا رسول الله ، ما منعك البارحة من سلوك الوادي فقد كان أسهل من العقبة؟ فقال : يا أبا يحيى ، أتدري ما أراد المنافقون البارحة وما همّوا به؟ قالوا : نتّبعه في العقبة فاذا أظلم عليه الليل قطعوا أنساع (حبال) ناقتي ونخسوها حتى يطرحوني من راحلتي! فقال اسيد : يا رسول الله ، فقد نزل الناس واجتمعوا ... فان احببت فنبّئني بهم فلا تبرح حتى آتيك برءوسهم! وأمرت سيد الخزرج [سعد بن عبادة] فكفاك من في ناحيته ، أومر كل بطن أن يقتل الرجل الذي همّ بهذا فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله ... فان مثل هؤلاء يتركون يا رسول الله؟! حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذلة وضرب الإسلام بجرانه (برقبته ـ استقر) فما يستبقى من هؤلاء؟!

فقال رسول الله لاسيد : اني اكره أن يقول الناس : إنّ محمّدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال : يا رسول الله ، فهؤلاء ليسوا بأصحاب! قال رسول الله : أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلّا الله؟ قال : بلى ، ولا شهادة لهم! قال : أليس يظهرون اني رسول الله؟ قال : بلى ولا شهادة لهم! قال : فقد نهيت عن قتل اولئك. مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٢ ـ ١٠٤٥.

٤٨٠