موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

ولما تعلمون ولما لا تعلمون ولروعات النساء والصبيان. ثم جئت إلى رسول الله فأخبرته ، فقال : يا عليّ والله ما يسرّني أنّ لي بما صنعت حمر النعم (١).

وروى الطوسي في «الأمالي» بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام أيضا عن جابر ابن عبد الله الأنصاري قال في خبره : ورجع علي عليه‌السلام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : ما صنعت؟ فأخبره حتى أتى على حديثهم فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرضيتني رضى الله عنك ، يا علي أنت هادي أمّتي ، ألا إنّ السعيد كل السعيد من أحبّك وأخذ بطريقتك ، إلّا أنّ الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقتك إلى يوم القيامة (٢). ويبدو من خبر الطبرسي في «الاحتجاج» أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هنا بعث (ابن عمه العباس عبد الله بن العباس (٣)) إلى معاوية ليكتب لبني جذيمة ، فعاد إليه وقال : هو يأكل! فأعاد الرسول إليه ثلاث مرّات ، كل ذلك يعود الرسول ويقول : هو يأكل! فقال رسول الله : اللهم لا تشبع بطنه! (٤).

خالد عند رجوعه :

ولما قدم خالد بن الوليد إلى مكة ، تلقاه عبد الرحمن بن عوف ومعه عثمان بن

__________________

(١) الخصال ٢ : ٥٦٢ واختصر الخبر وذكر آخره اليعقوبي ٢ : ٦١ وزاد : ويومئذ قال لعليّ : فداك أبواي!

(٢) أمالي الطوسي : ٤٩٨.

(٣) صحيح مسلم بشرح النووي ١٦ : ١٥٥ والاستيعاب ٤ : ٤٧٤ واسد الغابة ٤ : ٣٨٦.

(٤) الاحتجاج على أهل اللجاج ١ : ٤٠٨ في احتجاجات الحسن عليه‌السلام. وعن ابن عباس في صحيح مسلم وعنه في تذكرة خواص الامّة بخصائص الأئمة : ٢٠٠ وفي الاستيعاب وفي اسد الغابة بلفظ : لا أشبع الله بطنه!

٢٦١

عفّان وعمر بن الخطّاب ، فقال ابن عوف لخالد : يا خالد ، أخذت بأمر الجاهلية! قتلتهم بعمّك الفاكه ، قاتلك الله! فقال خالد : بل أخذتهم بقتل أبيك! فقال عبد الرحمن : كذبت والله ، لقد قتلت قاتل أبي بيدي وأشهدت على قتله عثمان بن عفّان ، ثم التفت إلى عثمان فقال له : انشدك الله هل علمت أنّي قتلت قاتل أبي؟ فقال عثمان : نعم. فقال عبد الرحمن لخالد : يا خالد ويحك ولو لم أقتل قاتل أبي أكنت تقتل قوما مسلمين بأبي في الجاهلية؟ فقال له خالد : ومن أخبرك أنهم أسلموا؟! فقال ابن عوف : أهل السريّة كلهم يخبروننا أنك وجدتهم قد بنوا المساجد وأقرّوا بالإسلام ، ثم حملتهم على السيف. فقال خالد : جاءني رسول رسول الله أن أغير عليهم ، فأغرت بأمر النبيّ!

فقال ابن عوف : كذبت على رسول الله! (١).

فقال عمر لخالد : ويحك يا خالد ، أخذت بني جذيمة بالذي كان من أمر الجاهلية! أو ليس الإسلام قد محا ما كان قبله في الجاهلية؟ فقال له : يا أبا حفص ، والله ما أخذتهم إلّا بالحقّ! أغرت على قوم مشركين فامتنعوا فأسرتهم ثم حملتهم على السيف! فقال له عمر : أيّ رجل ترى ابني عبد الله؟ قال خالد : والله أراه رجلا صالحا؟ قال عمر : فهو كان معك في الجيش وقد أخبرني غير الذي أخبرت. فقال خالد : فإنّي أستغفر الله وأتوب إليه! فقال له عمر : ويحك ايت رسول الله يستغفر لك!

وقدم خالد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عليه عاتب (٢) وغاضب (٣) ، فكان يعرض

__________________

(١) واختصر الخبر اليعقوبي ٢ : ٦١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٠ ، ٨٨١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٠.

٢٦٢

عنه ولا يقبل عليه وخالد يتعرض لرسول الله ويحلف له أنه ما قتلهم على ترة ولا عداوة! (١).

ودخل عمّار بن ياسر حليف بني مخزوم على رسول الله وخالد جالس ، فقال له : يا رسول الله ، لقد حمس قوما قد أسلموا وصلّوا ، ثم أغلظ على خالد عند النبيّ وهو ساكت لا يتكلم ، ثم قام عمار فخرج فوقع فيه خالد عند النبيّ ، فالتفت النبيّ إليه وقال له : مه يا خالد! لا تقع بأبي اليقظان فإنه من يعاده يعاده الله ، ومن يبغضه يبغضه الله ، ومن يسفّهه يسفّهه الله! (٢).

ومن يعذر خالدا؟! :

وبعد كلّ هذا أعقب الواقديّ ذلك بنقل قول لقائل يدعى عبد الملك قال : أمر رسول الله خالد بن الوليد أن يغير على بني كنانة إلّا أن يسمع أذانا أو يعلم إسلاما. فخرج حتى انتهى إلى بني جذيمة فتلبّسوا السلاح وامتنعوا أشد امتناع ، فانتظر بهم صلاة العصر والمغرب والعشاء فلم يسمع أذانا ، فحمل عليهم فأسر من اسر وقتل من قتل منهم ، فبعد ذلك ادّعوا الإسلام ، فما عتب رسول الله في ذلك على خالد. وقال : وكان رسول الله يعرض عن خالد حتى قدم علي (عليه‌السلام) وقد وداهم ، فأقبل رسول الله على خالد ، فلم يزل عنده من علية أصحابه ، ونهاهم أن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨١ ، ٨٨٢ وقال : وبلغه ما صنع بعبد الرحمن بن عوف فقال له : يا خالد ، ذروا لي أصحابي! متى ينك أنف المرء ينك! لو كان لك احد ذهبا تنفقه قيراطا قيراطا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن بن عوف! : ٨٨٠ قال : فمشى خالد بعثمان بن عفّان إلى عبد الرحمن فاعتذر إليه حتى رضي عنه : ٨٨١ ثم لا يهمّه أمر عمار وهو حليف لهم!

٢٦٣

يسبّوه فقال : لا تسبّوا خالد بن الوليد فانما هو سيف من سيوف الله سلّه على المشركين! بل قال : نعم عبد الله خالد بن الوليد وأخو العشيرة! وسيف من سيوف الله سلّه الله على الكفّار والمنافقين! (١).

وروى ابن اسحاق عن خالد قال : ما قاتلت حتى جاءني عبد الله بن حذافة السهمي وقال لي : إنّ رسول الله قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام!

ولكن ابن اسحاق عنون هذا بقوله : وقد قال بعض من يعذر خالدا (٢) أجل ، فهذا كلّه لتعذير خالد وتبرير ما تبرّأ منه رسول الله إلى الله مستقبلا القبلة شاهرا يديه حتى يرى ما تحت منكبيه ، كما عند ابن اسحاق ، أو حتى رؤي بياض إبطيه كما في نقل الواقدي ، كما مرّا.

وعلى ما مرّ فانّ خالدا كان قاتلا لثلاثين رجلا منهم ليس خطأ بل عمدا ، إن لم يكن مباشرا فيقتصّ منه ، فهو آمر به ، وحكمه في الإسلام السجن المؤبّد (٣) ولم ينفّذ فيه؟ إما لأنه لم يشرّع بعد يومئذ ، أو لأنّ تنفيذه فيه موكول على طلب أولياء الدماء ، وقد أدّى صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم دية قتلاهم ، فرضي البالغون منهم بذلك ، وقصر القاصرون منهم عن طلب تنفيذ الحكم في خالد ، فتوقّف أو تجمّد.

وأما المباشرون لقتل القتلى بأمر خالد من بني سليم ، وقد مرّ عن الواقدي : أن بني جذيمة كانوا قد أصابوا بني سليم في الجاهلية ، فكان بنو سليم موتورين يريدون القود من بني جذيمة (٤) فقد درأ حدّ القتل قصاصا عنهم ما درأه عن خالد من رضى البالغين من أولياء الدماء بالديات المؤدّاة إليهم واسترضاء المرتضى عليه‌السلام

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٣.

(٣) انظر موارد السجن في الإسلام في النصوص والفتاوى للشيخ نجم الدين الطبسي النجفي.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٨.

٢٦٤

منهم ، وقصر القاصرين منهم عن طلب القصاص والقود ، بالإضافة إلى شبهة طاعة خالد القائد ، هذا وقد تقرّر : أن الحدود تدرأ بالشبهات (١).

__________________

(١) لم يعرض للشبهة وردّها من عرض الخبر من الشيخ المفيد في الإرشاد ، أو الطبرسي في إعلام الورى ، أو المجلسي في بحار الأنوار هنا ، ولا في «باب عصمته وتأويل بعض ما يوهم خلاف ذلك» ١٧ : ٣٤ ـ ٩٧ ، ولا السيد المرتضى في كتابه تنزيه الأنبياء ، ولا في أماليه : غرر الفوائد ودرر القلائد ، ولا في بحث العصمة من الذخيرة في الكلام ، ولا غيره في سائر كتب الكلام والعقائد اللهم إلّا ما عثرت عليه ضمن كلام المرحوم المظفّر في دلائل الصدق ٣ (القسم الثاني) : ٣٥ قال : وانما لم يقتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خالدا بمن قتله من المسلمين : لقبول أهلهم الديات. أو : لئلا يقال : انّه يقتل أصحابه ، فيحصل في أمره وهن أو لادّعاء خالد الشبهة ، لقوله ـ كما ذكره الطبري ـ أن عبد الله بن حذافة أمرني بذلك عن رسول الله. أو : لما ذكره ابن عمر : من أنهم قالوا : صبأنا.

وإن لم يكن للشبهة حقيقة عندنا ، ولذلك برئ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الله تعالى من فعله ، كما أنّ براءته صلى‌الله‌عليه‌وآله من صنع خالد دون ابن حذافة دليل على كذب خالد في عذره أو كذب من أرادوا إصلاح حاله.

وهنا من أخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة بعد فتحها وقبل أن يخرج منها لحرب حنين ثم الطائف ثم ينصرف إلى المدينة : أنّه تزوّج مليكة بنت داود الليثية وهي امرأة قتل أبوها في الفتح ، وكأنّه أراد أن يتألفهم بذلك. وكان معه من أزواجه أمّ سلمة وزينب بنت جحش ، وكأنّها هي التي غارت من الليثية وكانت حدثة جميلة فقالت لها : ألا تستحين تتزوّجين رجلا قتل أباك!! فإذا دخل عليك فاستعيذي منه! فلما دخل عليها استعاذت منه! ففارقها كما في الطبري ٣ : ٦٥ عن الواقدي وليس في المغازي ، ونقله مرة اخرى عنه : ٩٥ وسماها فاطمة بنت الضحاك الكندية ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٨٣ عن الباب الثامن من المنتقى للكازروني. وسمّاها الحلبي في المناقب ١ : ١٦٠ : أسماء بنت النعمان بن الأسود الكندي (من أهل اليمن) كان إحدى أزواجه قالت لها تقوله لتحظى عنده! فلما

٢٦٥

غزوة هوازن في حنين (١) :

استعداد هوازن للحرب : قال القمي : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فتح مكة أظهر أنّه يريد هوازن. وبلغ الخبر هوازن ، فتهيّؤوا وجمعوا الجموع والسلاح ، واجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصري فرأسوه عليهم (٢).

قال ابن اسحاق : فاجتمعت إليه من هوازن : نصر وجشم ، وسعد بن بكر (قبيلة حليمة السعدية مرضعة النبيّ) ، وناس قليل من بني هلال .. وغاب عنها : كعب وكلاب. واجتمع إليه مع هوازن ثقيف : بنو مالك ، وفيهم سيّداهم أحمر بن الحارث وأخوه سبيع بن الحارث ذو الخمار. والأحلاف وفيهم سيّدهم القارب بن الأسود بن مسعود. وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري (٣).

وروى الواقدي مثل ذلك وأضاف : أنّ كنانة بن عبد ياليل الثقفي قال لهم : يا معشر ثقيف ، انكم تخرجون من حصنكم وتسيرون إلى رجل لا تدرون أيكون لكم أم عليكم ، فمروا بحصنكم أن يرمّ ما رثّ منه ؛ فإنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه. فخلّفوا على مرمّته رجلا وأمروه أن يصلحه ، وساروا. وانما تركت كلاب من هوازن

__________________

ـ دخلت عليه قالت : أعوذ بالله منك! فقال : أعذتك ، الحقي بأهلك! وهو ما ذكره اليعقوبي ٢ : ٨٥ وكرّر مثل ذلك في جونية الكندية وأن عائشة وحفصة أصلحاها فقال لها احداهما أن تتعوّذ منه إذا دخل عليها ، ففعلت ، ففارقها ، فماتت كمدا!

(١) واد بين مكة إلى الطائف إلى جانب ذي المجاز ، ٤٠ كم عن مكة تقريبا ، بينه وبين مكة ثلاث ليال ، كما في التنبيه والاشراف : ٢٣٤.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٥. وجاء وصف مالك هذا لدى الواقدي قال : وكان سيدا فيها مسبلا لثيابه إلى الأرض كبرا واختيالا ، محمودا ، وهو ابن ثلاثين سنة. المغازي ٢ : ٨٨٥.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨.

٢٦٦

الحرب مع قربها لأن سيّدها ابن أبي البراء مشى فيها فنهاها عن الحضور يقول : والله لو ناوأ من بين المشرق والمغرب محمدا لظهر عليهم (١).

خروجهم بعوائلهم :

وكان من رأي مالك بن عوف أن يحملوا معهم عوائلهم ، فخرجوا بهم.

وروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن الصادق عليه‌السلام قال : كان مع هوازن دريد بن الصّمّة (الجشمي) شيخا كبيرا ، خرجوا به يتيمّنون برأيه (حتى) نزلوا في أوطاس (بثلاث مراحل في جنوب مكة) قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس (٢) ولكن ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم. قال : فأين مالك؟ فدعي له مالك فأتاه ، فقال له : يا مالك ، أصبحت رئيس قومك ، وإنّ هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام ، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم! قال : ويحك ، لم تصنع شيئا أن قدّمت بيضة هوازن إلى نحور الخيل ، وهل يردّ وجه المنهزم شيء؟! إنّها إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! فقال له مالك : إنّك قد كبرت وكبر عقلك! فقال دريد : إن كنت قد كبرت فأنت تورث قومك غدا ذلا بتقصير رأيك وعقلك. هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٦.

(٢) الحزن : الخشن. الضرس : صخور محدّدة كالضروس. دهس : ليّن كثير التراب.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢٢٩.

٢٦٧

ثم قال دريد : ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا : لم يحضر منهم أحد. قال : غاب الجدّ والحزم ، لو كان يوم علا وسعادة ما كانت تغيب كعب ولا كلاب.

ثم قال : فمن حضرها من هوازن؟ قالوا : بنو عمرو بن عامر وبنو عوف بن عامر. فقال : ذانك الجذعان (١) لا ينفعان ولا يضران. ثم تنفّس دريد وقال : حرب عوان.

يا ليتني فها جذع

أخبّ فيها وأضع

أقود وطفاء الزّمع

كأنها شاة صدع (٢)

ثم قال : يا معشر هوازن ، والله ما هذا لكم برأي ، هذا فاضحكم في عوراتكم ، وممكّن منكم عدوّكم ولا حق بحصن ثقيف ، فاتركوه وانصرفوا! وكره مالك أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي ، فسلّ سيفه ونكسه وقال : يا معشر هوازن ، والله لتطيعنّني أو لأتّكئنّ على السيف حتى يخرج من ظهري! وأراد بذلك أن لا يكون لدريد فيها ذكر ولا رأي. فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا : والله لئن عصينا مالكا وهو شابّ ليقتلنّ نفسه ، ونبقى مع دريد وهو شيخ كبير لا قتال فيه. فأجمعوا أمرهم مع مالك (٣).

الإعداد للجهاد :

قال الطبرسي : ذكر خبر هوازن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر له أن لصفوان بن أميّة مائة درع (٤).

__________________

(١) الجذعان : الشابّان.

(٢) جذع : شاب. والخبّ : التراوح بين الرجلين في المشي. والوضع هنا : السرعة في المشي. وطفاء : طويلة. الزّمع : شعر عنق الفرس. شاة بقرينة صدع : الوعل الوسط القوي. العوان : الوسط ، والوسط في سنّ الحيوان أقواه ، فيقصد به الأقوى.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٨.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٢٨.

٢٦٨

فروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صفوان بن اميّة فاستعار منه سبعين درعا بطراقها (١) فقال (صفوان ، وهو بعد مشرك) : أغصبا يا محمد! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل عارية مضمونة (٢).

وقال القمي : لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اجتماع هوازن في أوطاس ، جمع القبائل فرغّبهم في الجهاد ، ووعدهم النصر ، وأنّ الله قد وعده أن يغنّمه أموالهم ونساءهم وذراريهم.

وفي رواية أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام : كان معه صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف رجل من بني سليم يرأسهم العباس بن مرداس السّلمي (٣) ومعه راية ، وراية مع الحجّاج بن علاط السّلمي ، وراية مع خفاف بن ندبة ، وقدّمهم رسول الله ، وكان قد استعمل عليهم خالد بن الوليد على مقدمته فأقرّه عليها (٤).

قال القمي : وكل من دخل مكة براية أمره أن يحملها ، وعقد اللواء الأكبر ودفعه إلى علي عليه‌السلام (٥) وذكره الواقدي وزاد : ولواء الأوس مع اسيد بن حضير ، ولواء الخزرج مع سعد بن عبادة أو الحباب بن المنذر. وكانت الألوية بيضا.

وفي كل بطن من الأوس والخزرج راية : ففي بني عبد الأشهل راية مع أبي نائلة ، وفي بني حارثة راية مع أبي بردة بن نيار ، وفي ظفر راية مع قتادة بن النعمان ،

__________________

(١) الطراق : البيضة.

(٢) فروع الكافي ٥ : ٤٠ ، الكتاب ١٧ ، الباب ١١١ ، الحديث ١٠. وفي الفقيه ٣ : ١٩٣ ، الباب ٩٣ ، الحديث ٤ : سبعين درعا حطمية. وفي التهذيب ٧ : ١٨٢ ، الباب ١٧ ، الحديث ٥ : ثمانين درعا.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٦.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٦ ، ٨٩٧ فلعله كان تأليفا لقلوبهم.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢٨٦.

٢٦٩

وراية بني معاوية مع جبر بن عتيك ، وراية بني واقف مع هلال بن اميّة ، وراية بني عمرو بن عوف مع أبي لبابة بن عبد المنذر ، وراية بني ساعدة مع أبي اسيد الساعدي ، وراية بني مالك بن النجار مع عمارة بن حزم ، وراية بني عديّ بن النجار مع أبي سليط ، وراية بني مازن مع سليط بن قيس. وكانت راياتهم خضرا وحمرا وأقرّها الإسلام على ما كانت عليه.

وكان في قبائل العرب : في أسلم رايتان مع بريدة بن الحصيب وجندب بن الأعجم. وراية بني غفار مع أبي ذر الغفاري ، وراية بني ضمرة ، وليث ، وسعد بن ليث مع أبي واقد الحارث بن مالك الليثي ، ورايتا كعب بن عمرو مع أبي شريح وبسر ابن سفيان ورايتا بني أشجع مع نعيم بن مسعود الأشجعي ومعقل بن سنان ، ورايات بني مزينة مع بلال بن الحارث والنعمان بن مقرّن وعبد الله بن عمرو ، ورايات جهينة مع أبي زرعة معبد بن خالد وسويد بن صخر ورافع بن مكيث وعبد الله بن يزيد (١) واستعمل رسول الله على مكة عتّاب بن اسيد الاموي أميرا على من تخلّف عنه من الناس (٢) يصلي بهم ، ومعاذ بن جبل الأنصاري يعلّمهم الفقه والسنن.

وخرج منها غداة يوم السبت لست ليال خلون من شوّال (٣).

وأعجبتهم كثرتهم :

قال المفيد في «الإرشاد» لما استظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزاة حنين بجمع كثير وخرج متوجها إلى القوم في عشرة آلاف من المسلمين ، ورأوا جمعهم وكثرة عدّتهم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٦.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٣٠ فلعله كان تأليفا لقلوبهم.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٩.

٢٧٠

وسلاحهم ، ظنّ أكثرهم أن لن يغلبوا لذلك ، وأعجبت كثرتهم يومئذ أبا بكر فقال : لن نغلب اليوم من قلة (١).

قال الطبرسي : وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل مكة في عشرة آلاف رجل ، وأقام بمكة خمسة عشر يوما ، وخرج منها ومعه من مسلمة الفتح ألفا رجل (٢).

وقال الواقدي : وخرج معه صفوان بن أميّة وهو في المدة التي جعلها له رسول الله ، ومعه حكيم بن حزام ، وحويطب بن عبد العزّى ، وسهيل بن عمرو المخزومي والحارث بن هشام المخزومي ، وعبد الله بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب في أثر العسكر كلما مرّ بترس ساقط أو رمح أو متاع حمله. وخرج معه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٤٠ وقال : وعانهم ـ أي أصابهم بعينه ـ أبو بكر بعجبه .. وأنزل الله في إعجاب أبي بكر بالكثرة قوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) التوبة : ٢٥ ومثله في إعلام الورى ١ : ٢٢٨ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢١٠. أمّا ابن اسحاق فقد قال : زعم بعض الناس : أن رجلا من بني بكر قالها (؟!) بل قال : حدثني بعض أهل مكة (؟!) أنّ رسول الله حين فصل من مكة إلى حنين ورأى كثرة من معه من جنود الله قال : لن نغلب اليوم من قلة ٤ : ٨٧. بينما قال اليعقوبي : قال بعضهم : ما نؤتى من قلة! فكره ذلك رسول الله ٢ : ٦٢. لكن الواقدي روى بسنده عن الزهري عن سعيد بن المسيّب : أنّ الذي قالها أبو بكر. إلّا أنه أردفه برواية اخرى عن الزهري نفسه عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : خير الأصحاب أربعة! وخير السرايا أربعمائة! وخير الجيوش أربعة آلاف! ولا تغلب اثنا عشر ألفا من قلة ٣ : ٨٩٠ فكأنّهم بهذا يتكلّفون صرف التوبيخ القرآني : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) إلى من سوى أبي بكر حتى ولو كان النبيّ نفسه. وممن روى الإعجاب عن أبي بكر البلاذري في أنساب الأشراف ١ : ٣٦٥.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٢٩ وفي سيرة ابن هشام ٤ : ٨٣ : ومعه ألفان من أهل مكة. وفي التنبيه والأشراف : ٢٣٤ : والخيل مائتا فرس أو أكثر.

٢٧١

رجال على غير دين ، ركبانا ومشاة ، ينظرون لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم! ولا يكرهون أن تكون الصدمة بمحمد وأصحابه (١).

ومنهم : عكرمة بن أبي جهل المخزومي ، وزهير وأخوه عبد الله ابنا أبي أميّة المخزومي ، وهشام بن المغيرة المخزومي ، والأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن (٢). وكلدة بن الحنبل أخو صفوان بن أميّة لامّه. وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة من بني عبد الدار (٣) وأبوه عثمان كان من حاملي لواء المشركين المقتولين في احد بيد علي عليه‌السلام. والحارث بن الحارث بن كلدة العبدري ، والعلاء بن حارثة الثقفي ومعاوية بن أبي سفيان ، كما في اليعقوبي (٤).

سنن السابقين :

روى ابن اسحاق عن الزهري بسنده عن أبي واقد الليثي الحارث بن مالك قال : كانت لكفّار قريش ومن سواهم من العرب شجرة خضراء عظيمة كانوا يأتونها يوما في كل سنة يعكفون عندها ذلك اليوم ويذبحون عندها يعلقون أسلحتهم عليها ـ ولذلك يسمونها ذات أنواط ـ وكنّا حديثي عهد بالجاهلية إذ خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حنين ، فبينما نحن نسير مع رسول الله إذ رأينا سدرة عظيمة خضراء فتناديناه من جنبات الطريق : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط!

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٥ و ٨٩٤.

(٢) الإرشاد ١ : ١٤٥.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٦ و ٨٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٣ والإرشاد ١ : ١٤٥. وعرف هؤلاء في المؤلفة قلوبهم الذين أعطى النبيّ لكل واحد منهم مائة من إبل الغنيمة.

٢٧٢

فقال لنا رسول الله : الله أكبر ، والذي نفس محمد بيده قلتم كما قال قوم موسى لموسى : (... اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(١) إنّها السنن ، لتركبنّ سنن من كان قبلكم (٢).

روى ابن اسحاق : أنّ رسول الله مرّ بامرأة مقتولة والناس مجتمعون عليها ، فقال : ما هذا؟ قالوا : امرأة قتلها خالد بن الوليد! فقال رسول الله لبعض من معه : أدرك خالدا فقل له : إنّ رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا (٣).

وتقدم إليه رجل ممّن معه فأخبره عن امرأة مقتولة وادّعى أنها أرادت قتله ، فأمر بدفنها (٤). وأسرع السير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أتاه رجل فقال : يا رسول الله ، قد تقطّعوا من ورائك! فنزل حتى آوى إليه الناس فنزلوا ، وصلّوا العصر. وجاءه فارس فقال له : يا رسول الله ، انّي انطلقت بين أيديكم على جبل كذا فاذا بهوازن في وادي حنين بنسائهم وظعنهم ونعمهم. فتبسّم رسول الله وقال : تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله! ثم قال رسول الله : ألا فارس يحرسنا الليلة؟ فقال انيس بن أبي مرثد الغنوي : أنا ذا يا رسول الله. فقال له : انطلق حتى

__________________

(١) الأعراف : ١٣٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٥ وفيها : عن أبي واقد الليثي : أنّ الحارث بن مالك قال .. بينما في مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٠ : عن أبي واقد الليثي وهو الحارث .. وهو الصحيح. وفيه : أنّها سنن من كان قبلكم. بدون لتركبنّ. ورواه كذلك عن عكرمة عن ابن عباس. هذا وقد نقلنا في أوائل الكتاب ١ : ١١٧ عن الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ٢٦٦ عن مجاهد (عن ابن عباس ظ) أنّ الشجرة كانت لغطفان بوادي نخلة شرقي مكة إلى الطائف ، وكانت تسمى العزّى ، وكذلك في الأصنام للكلبي : ١٧ ومعجم البلدان مادة العزّى.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٠٠ والعسيف : الشيخ الفاني ، والعبد. النهاية ٣ : ٩٦.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٢.

٢٧٣

تقف على جبل كذا فلا تنزلنّ (من على ظهر جوادك) إلّا مصلّيا أو قاضي حاجة ، ولا تغرنّ من خلفك! (١).

قالوا : وكان انتهاء رسول الله إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوّال (٢).

عيون الطرفين :

وعرف ابن عوف بوصول المسلمين إلى حنين ، فاختار من عسكره ثلاثة نفر وأمرهم أن يتفرّقوا في عسكر محمد وأصحابه وينظرون إليه وإليهم. فمضوا ، ورجعوا وإنّ أفئدتهم تخفق ، فقال لهم : ويلكم ما شأنكم؟ فقالوا له : ما نقاتل أهل الأرض إن نقاتل إلّا أهل السموات ، فقد رأينا رجالا بيضا على خيل بلق ، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! وان أطعتنا رجعت بقومك ، فانّ الناس إن رأوا مثل ما رأينا أصابهم مثل الذي أصابنا. فقال لهم : افّ لكم ، بل أنتم أجبن أهل العسكر! ثم خاف أن يشيع ذلك الخوف في العسكر فحبسهم عنده.

ثم قال : دلّوني على رجل شجاع! فاتّفقوا على رجل ، فبعثه إليهم ، فخرج ، ثم رجع إليه وقد أصابه ما أصاب من قبله منهم ، فقال له : ما رأيت؟ قال : رأيت رجالا بيضا على بلق ما يطاق النظر إليهم ، فو الله ما تماسكت أن أصابني ما ترى! (٢).

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن أبي حدرد عينا له عليهم فخرج حتى وصل إلى معسكر ابن عوف فسمعه يقول لهم : يا معشر هوازن! انكم أحدّ العرب وأعدّه! وإن هذا لم يلق قوما يصدقونه القتال ، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٤.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٢.

٢٧٤

سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد! فأتى ابن أبي حدرد رسول الله فأخبره خبره. فقال عمر : يا رسول الله ، لا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد (١) كذب ابن أبي حدرد! فقال ابن أبي حدرد : لئن كذّبتني لربّما كذّبت بالحق! فقال عمر لرسول الله : يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : صدق ، كنت ضالا فهداك الله! (٢).

الاستعداد للجهاد :

في تفسير القمي : قال مالك بن عوف لقومه : ليصيّر كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره ، واكسروا جفون سيوفكم ، واكمنوا في شعاب هذا الوادي وفي الشجر ، فإذا كان في غلس الصبح فاحملوا حملة رجل واحد وهدّوا القوم ، فانّ محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب (٣).

قالوا : ولما كان الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبّأهم في وادي حنين ، وكان واديا أجوف له شعاب ومضايق ، ففرّق الناس فيه ، على أن يحملوا على محمد وأصحابه حملة واحدة.

وفي السحر عبّأ رسول الله أصحابه فصفهم صفوفا .. وركب رسول الله بغلته البيضاء دلدل (٤) ، ولبس درعين والمغفر والبيضة ، وطاف على صفوفهم فحرّضهم

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٢٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٣. وقبله ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٣ وكأنّما ثقل ذلك على بعضهم فحذفه من بعض نسخ السيرة كما في هامشها برقم (١).

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٦ ، ٢٨٧.

(٤) ويأتي في خبر العباس : أنه كان على بغلة شهباء.

٢٧٥

على القتال وبشّرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا (١) وجعل شعار المهاجرين : بني عبد الرحمن ، وجعل شعار الأوس : بني عبيد الله ، وسمى خيله : خيل الله (١).

وروى عن سهل بن الحنظلية الأنصاري قال : وبتنا حتى أضاء الفجر ، وحضرنا الصلاة ، فخرج علينا رسول الله ، واقيمت الصلاة فصلى بنا ، فلما سلّم رأيته ينظر خلال الشجر .. وجاء انيس بن أبي مرثد الغنوي (الذي حرسهم تلك الليلة فارسا على الجبل) فقال له : يا رسول الله ، انّي وقفت على الجبل كما أمرتني فلم أنزل عن فرسي إلّا مصليا أو قاضي حاجة حتى أصبحت ، فلم أحسّ أحدا. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانطلق فانزل عن فرسك. ثم قال : ما على هذا أن لا يعمل بعد هذا عملا (٣).

الهزيمة أولا :

روى الواقدي عن أنس بن مالك قال : كان أول الخيل (في المقدمة) خيل سليم ، وتبعهم أهل مكة ، وانتهينا إلى وادي حنين ، فتحدّروا فيه ، وتحدّرنا فيه خلفهم في غلس الصبح ، فما شعرنا إلّا بخروج كتائب هوازن من مضائق الوادي وشعبه وحملوا حملة واحدة ، فانكشف أول الخيل خيل سليم مولّية ، وتبعهم أهل مكة ، وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء (٤).

وروى ابن اسحاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كان القوم قد سبقونا إلى وادي حنين من أودية تهامة فكمنوا لنا في أحنائه وشعابه ومضايقه ،

__________________

(١) و (٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٤ وكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد : ما عليه الجهاد ذلك اليوم.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٧.

٢٧٦

وانحدرنا فيه انحدارا في عماية الصبح (قبل أن يتبيّن) فما راعنا إلّا أن كتائب هوازن شدّت علينا شدة رجل واحد ، فانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد (١).

ورواه الطبرسي في «إعلام الورى» وزاد : أقبل مالك بن عوف يقول : أروني محمدا! فأروه اياه ، فحمل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان رجلا أهوج ، فتلقّاه رجل من المسلمين قيل هو : أيمن بن عبيد الخزرجي ابن أمّ أيمن حاضنة النبيّ ، فقتله مالك ، ثم أقحم فرسه نحو النبيّ فأبى الفرس عليه (٢) فنكص على عقبيه. وسنعود إلى مقتل أيمن في الثابتين معه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال القمي في تفسيره : كانت بنو سليم على مقدّمته ، فخرجت عليها كتائب هوازن من كل ناحية ، فانهزمت بنو سليم (ويأتي ما قد يفسّر ذلك) وانهزم من وراءهم ولم يبق أحد إلّا انهزم. وبقي أمير المؤمنين عليه‌السلام يقاتل في نفر قليل (٣).

وروى ابن اسحاق بسنده عن العباس بن عبد المطّلب قال : لما التقى المسلمون والمشركون يوم حنين ولّى المسلمون حتى رأيت رسول الله ما معه إلّا ابن أخي أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وهو آخذ بالسير في مؤخّر بغلة النبيّ البيضاء (٤) والنبيّ يسرع نحو المشركين! فأتيته حتى أخذت بلجامها وضربتها به (٥) فأوقفها.

ثم انضمّ إليهم الفضل بن العباس ، وقد تفرّق الناس عن بكرة أبيهم ، فالتفت العباس فلم ير عليّا عليه‌السلام مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : شوهة! بوهة! أفي مثل هذا الحال

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٥ والطبرسي في إعلام الورى ١ : ٢٣٠.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٣٠.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٧.

(٤) وفي مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٨ : الشهباء ، والسند نفسه.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٧.

٢٧٧

يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول الله؟! وهو صاحب ما هو صاحبه (يقصد مواقفه المشهورة). قال الفضل ابنه : فقلت له : نقّص قولك لابن أخيك يا أبه. فقال : وما ذاك يا فضل؟ فقلت له : أما تراه في الرعيل الأول؟! أما تراه في رهج الغبار؟! فقال : يا بنيّ أشعره لي. فقلت له : هو ذو البردة ذو كذا وكذا (حتى عرفه) فقال : فما تلك البرقة؟ قلت سيفه يزيّل به بين الأقران! فقال : برّ بن برّ! فداه عمّ وخال! (١).

وفي تفسير القمي : وأخذ العباس بلجام بغلة النبيّ عن يمينه ، وأبو سفيان بن الحارث عن يساره ، وقد شهر رسول الله سيفه. ثم رفع يده وقال : اللهم لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وأنت المستعان!

فنزل عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال له : يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى حين فلق الله له البحر ونجّاه من فرعون (٢) ثم رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد! (٣). اللهم انّي انشدك ما وعدتني ، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا (٤).

محاولة قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وكان من قتلى شيوخ قريش ببدر أبو صفوان أميّة بن خلف الجمحي ، فبذل ابنه صفوان الأموال لقتل الرسول قبل فتح مكة ، ولذلك كان ممن أهدر الرسول دمه في فتحه مكة ، ثم استؤمن له فأمّنه ، واستمهله للإسلام فأمهله أربعة أشهر ، فأعار

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٥٧٤ ، الحديث ١١٨٧.

(٢) وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩٠١.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٧.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٩ وإعلام الورى ١ : ٢٣٢.

٢٧٨

رسول الله مائة درع ، وخرج معه إلى حنين. وكان عثمان بن أبي طلحة من بني عبد الدار من حملة لواء المشركين المقتولين في احد بيد حمزة أو علي عليهما‌السلام ، فتعاهد ابنه شيبة مع صفوان أن إذا دارت الدائرة على رسول الله أن ينقلبا عليه فينتقما منه (١).

ويبدو أن شيبة بادر لذلك في هذه الفترة كما في الخبر عنه قال : ما كان أحد أبغض إليّ من محمد فقد قتل منّا ثمانية حملة اللواء في احد ، فكنت اتمنّى قتله حتى فتح مكة فأيست من ذلك وقلت في نفسي : قد دخلت العرب في دينه فمتى أدرك منه ثاري! حتى اجتمعت هوازن في حنين ، فقصدتهم لآخذ منه غرّة فأقتله! فلما انهزم الناس وبقي محمد والنفر الذين بقوا معه جئت من ورائه ورفعت السيف وكدت اخبطه وإذا بشيء قد غشي فؤادي فلم اطق ذلك! فعلمت أنه ممنوع منه. ثم التفت إلي محمد فقال لي : ادن يا شيبة وقاتل ، فدنوت منه فوضع يده على صدري فأحببته وتقدّمت وقاتلت بين يديه. وحدّثني بما كنت زوّرته في نفسي ، فقلت : ما اطّلع على هذا إلّا الله ، فأسلمت (٢).

وكان صفوان مع شيبة خلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) لكنه هو أيضا أعرض عما تعاهد عليه مع شيبة من قتله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصاح به أخوه لامّه كلدة بن الحنبل : ألا بطل السحر اليوم! فصاح به صفوان : اسكت فضّ الله فاك! فو الله لئن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٩ ، ٩١٠ وإعلام الورى ١ : ٢٣١ نحوه ، ومجمع البيان ٥ : ٣٠ عن الزهري قريبا منه. وفي الخرائج والجرائح ١ : ١١٧ ، الحديث ١٩٤.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٩.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٨٦ ونقله الطبرسي في إعلام الورى بلا إسناد ١ : ٢٣٠. ويربّني : أي يكون ربّا لي أي ملكا عليّ.

٢٧٩

الثابتون مع النبيّ :

قال المفيد في «الإرشاد» : لما التقى المسلمون المشركين لم يلبثوا حتى انهزموا بأجمعهم! فلم يبق منهم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا عشرة أنفس : ثمانية من بني هاشم ـ وتاسعهم علي عليه‌السلام ـ وهم : أبو سفيان ممسكا بسير سرجه ، ثم لحقه العباس بن عبد المطلب عن يمينه ، ثم ابنه الفضل بن العباس عن يساره ، ونوفل وربيعة ابنا الحارث بن عبد المطلب أخوا أبي سفيان ، وعتبة ومعتّب ابنا أبي لهب! وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، فهؤلاء تسعة من بني هاشم خاصة ، وعاشرهم أيمن ابن أمّ أيمن ، فقتل أيمن رحمه‌الله (١).

__________________

(١) فروى عن العباس شعرا في هذا المقام قال :

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة

وقد فرّ من قد فرّ عنه فأقشعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه

لما ناله في الله لا يتوجّع

وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه

على القوم : اخرى يا بنيّ ، ليرجعوا

وفي ذلك أيضا يقول مالك بن عبادة الغافقي :

لم يواس النبيّ غير بني ها

شم عند السيوف يوم حنين

هرب الناس غير تسعة رهط

فهم يهتفون بالناس أين

ثم قاموا مع النبي على المو

ت فابوا زينا لنا غير شين

وثوى أيمن الأمين من القو

م شهيدا ، فاعتاض قرّة عين

الإرشاد ١ : ١٤١ واليعقوبي ٢ : ٦٢ ذكر عدد الثابتين تسعا أو عشرا بلا زيادة. وزاد ابن اسحاق في الثابتين من بني هاشم وحلفائهم : جعفر بن أبي سفيان بن الحارث ، واسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ، وأبا بكر وعمر ٤ : ٨٥ وكذلك الواقدي ٢ : ٩٠٠ وزاد عثمان بن عفّان ، وأبا دجانة الأنصاري وأبا طلحة زيد بن سهيل الأنصاري ومعه امرأته الحامل أمّ سليم بنت ملحان أمّ أنس بن مالك ٢ : ٩٠٢ وسنذكر النساء الثوابت معها ومنهن أمّ الحارث

٢٨٠