موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

فقدم عشرة من رؤسائهم منهم : الأقرع بن حابس التميمي ، والزّبرقان بن بدر (١) ، والعطارد بن حاجب ، وقيس بن الحارث ورياح بن الحارث بن مجاشع ، وعمرو بن الأهتم ، وقيس بن عاصم ، ونعيم بن سعد. فدخلوا المسجد قبل الظهر وسألوا عن سبيهم فاخبروا بهم أنهم في دار رملة بنت الحارث ، فأتوهم فبكى النساء والأولاد ، فرجعوا إلى المسجد وقد أذّن بلال بأذان الظهر الأول ، ورسول الله يومئذ في بيت عائشة والناس ينتظرون خروج رسول الله ، فتعجّلوا خروجه فنادوا : يا محمد! اخرج إلينا! فقام إليهم بلال وقال : إنّ رسول الله يخرج الآن! فخرج رسول الله ، وأقام بلال للصلاة ، وهم تعلّقوا به يقولون : أتيناك بخطيبنا وشاعرنا فاسمع منّا! فتبسّم لهم النبيّ (٢) ثم مضى فصلّى بالناس الظهر ، ثم انصرف إلى بيته ثم خرج فجلس في صحن المجلس ، فأقبلوا عليه وقدّموا عطارد بن حاجب خطيبهم فقام فقال :

الحمد لله الذي له الفضل علينا ، والذي جعلنا ملوكا ، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثرهم مالا وعددا ، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وذوي فضلهم؟ فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا ، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام ولكنّا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله. أقول قولي هذا لأن يؤتى بقول هو أفضل من قولنا. وجلس. فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ثابت بن قيس ـ وكان من أجهر الناس صوتا ـ فقال له : قم فأجب خطيبهم.

فقام ثابت فقال ارتجالا : الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه ، قضى فيها أمره ، ووسع كلّ شيء علمه ، فلم يك شيء إلّا من فضله. ثم كان مما قدّر الله أن

__________________

(١) اسمه : الحصين بن بدر والزّبرقان لقبه بمعنى القمر ، لجماله.

(٢) أو قال لهم : ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار امرت ، ولكن هاتوا. كما في أسباب النزول للواحدي : ٣٢٥ عن جابر الأنصاري.

٣٨١

جعلنا ملوكا ، واصطفى لنا من خلقه رسولا ، أكرمهم نسبا ، وأحسنهم زيّا ، وأصدقهم حديثا. أنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه ، وكان خيرته من عباده ، فدعا إلى الإيمان ، فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه. أصبح الناس وجها ، وأفضل الناس فعالا ، ثمّ كنّا أوّل الناس إجابة حين دعا رسول الله ، فنحن أنصار الله ورسوله ، نقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا الله ، فمن آمن بالله ورسوله منع منّا ماله ودمه ، ومن كفر بالله جاهدناه في ذلك وكان قتله علينا يسيرا. أقول قولي هذا واستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس.

فقالوا : يا رسول الله ائذن لشاعرنا. فأذن له. فأقاموا الزبرقان فقال :

نحن الملوك فلا حيّ يقاربنا

فينا الملوك ، وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلّهم

عند النّهاب وفضل الخير يتّبع

ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا

من السديف إذا لم يؤنس القزع (١)

وننحر الكوم عبطا في أرومتنا (٢)

للنازلين ، إذا ما انزلوا شبعوا

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمر بوضع منبر في المسجد (منذ عام) فالتفت إلى حسّان بن ثابت وقال له : أجبهم ، فقال :

إنّ الذوائب من فهر واخوتهم

قد بيّنوا سنّة للناس تتّبع

يرضى بهم كلّ من كانت سريرته

تقوى الإله ، وبالأمر الذي شرعوا

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم ، نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة

إنّ الخلائق ـ فاعلم ـ شرّها البدع

إن كان في الناس سبّاقون بعدهم

فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

__________________

(١) القزع : سحاب الخريف.

(٢) الكوم : جمع الكوماء : الناقة عظيمة السنام. عبطا : اعتباطا بلا حساب. الارومة : الأصل.

٣٨٢

لا يرقع الناس ما أوهت أكفّهم

عند الدفاع ، ولا يوهون ما رقعوا

إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم

أو وازنوا أهل مجد بالندى ارتفعوا

أعفّة ذكرت في الوحي عفّتهم

لا يطبعون (١) ولا يرديهم طمع

إلى عشرة أبيات اخرى.

وسرّ رسول الله والمسلمون بخطاب ثابت وشعر حسّان ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لحسّان : إنّ الله ليؤيّد حسّان بروح القدس ما دافع عن نبيّه! (٢).

وفي خبر جابر الأنصاري قال : قال حسّان :

نصرنا رسول الله والدين عنوة

على رغم سار من معد وحاضر

ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى

إذا طاب ورد الموت بين العساكر

ونضرب هام الدارعين ، وننتمي

إلى حسب من جرم غسّان قاهر

فلو لا حياء الله قلنا تكرّما

على الناس بالحقّين : هل من منافر؟

فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى

وأمواتنا من خير أهل المقابر

فقام الأقرع بن حابس فقال للنبيّ : إنّي والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء وقد قلت شعرا فاسمعه. فقال له : هات. فقال :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا

إذا فاخرونا عند ذكر المكارم

وأنّا رءوس الناس في كلّ مشعر

وأن ليس في أرض الحجاز كوارم

وأنّ لنا المرباع في كلّ غارة

تكون بنجد أو بأرض التمائم

__________________

(١) الطبع هنا : الدنس.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٣ ـ ٩٧٩. وفي روضة الكافي : ٨٨ ح ٧٥ ورجال الكشي : ٥٧ ح ٣٦٥ باسنادهما عن الباقر عليه‌السلام قال : قال رسول الله لحسّان بن ثابت : لا يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا ولعلّها اشارة غيبيّة الى سوء عاقبته كما في الارشاد ١ : ١٧٧ وسفينة البحار ٢ : ٢٥٢.

٣٨٣

فقال رسول الله لحسّان : قم يا حسّان فأجب. فقام وقال :

بني دارم لا تفخروا ، إنّ فخركم

يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم ، علينا تفخرون وأنتم

لنا خول من بين ظئر وخادم (١)

وأفضل ما نلتم من المجد والعلى

ردافتنا من بعد ذكر الأكارم

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم

وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا

ولا تفخروا عند النبيّ بدارم

وإلّا ـ وربّ البيت ـ مالت أكفّنا

على هامكم بالمرهفات الصوارم

فقام الأقرع بن حابس فقال : إنّ محمّدا لمؤتى له ، والله ما أدري ما هذا الأمر! تكلّم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلّم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر! ثمّ دنا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله. فقال له النبيّ : ما نصرك ما قبل هذا. ثمّ أعطاهم رسول الله وكساهم (٢).

وأورد الواقدي تفصيل عطائه قال : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قدم عليه وفد يجيزهم بعطاياه ويفاضل بينهم في ذلك بما يرى. وردّ على وفد بني دارم من تميم سبيهم وأساراهم ، وأمر لهم بجوائز ، فكانت جوائزهم لكلّ واحد منهم اثنا عشر أوقية فضّة ونصف الأوقية! فلمّا أعطوهم قال لهم : هل بقي منكم من لم نجزه؟ قالوا : غلام في الرحل. فقال : أرسلوه نجزه. فقال قيس بن عاصم : إنّه غلام لا شرف له (أي لا فضل له) فقال : وإن كان ، فإنّه وافد وله حقّ! فأرسلوه ، وهو عمرو بن الأهتم ، فأعطاه خمس أواقي (٣). ثمّ لم يذكروا من أمر صدقاتهم شيئاً! وعليه فالرسول صلّى الله عليه وآله لمّا امتنع هؤلاء من الزكاة غزاهم وسباهم ولم يقاتلهم ويقتلهم.

__________________

(١) هبلتم : هلكتم. خول : خدم. ظئر : مرضعة أو مربّية.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٣٢٦ ـ ٣٢٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٩ ، ٩٨٠. والأوقية : ٢١٣ غراما. وابن إسحاق في السيرة

٣٨٤

نزول سورة الحجرات :

وروى البخاري بسنده عن ابن جريج عن ابن الزبير : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يؤمّر عليهم أحدا منهم ، فقال له أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : بل أمّر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلّا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(١).

والآية التالية في وفد بني دارم من تميم وندائهم له من وراء حجرته : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

المصدّق الفاسق :

مرّ في أخبار بدر أنّ من اسرائها كان عقبة بن أبي معيط الاموي ، وكان من

__________________

ـ ٤ : ٢٠٥ ـ ٢١٣ ذكر خبر بني تميم بعنوان الوفد بدون خبر الصدقة واعتراضهم على أخذها من خزاعة! وغزوهم وسباياهم.

(١) الحجرات : ١ ـ ٣ ، والخبر في أسباب النزول للواحدي : ٣٢٣ و ٣٢٤.

(٢) الحجرات : ٤ و ٥ ، والخبر في تفسير القمي ٢ : ٣١٨ مختصرا لخبر وفد بني تميم. وأشار إليه الطوسي في التبيان ٩ : ٣٤٠ عن مجاهد وقتادة. وروى الطبرسي مختصر الخبر عن ابن إسحاق ، في مجمع البيان ٩ : ١٩٤ ، ١٩٥. والخبر في السيرة ٤ : ٢٠٦ ـ ٢١٣ ، ومغازي الواقدي ٢ : ٩٧٣ ـ ٩٨٠.

٣٨٥

المستهزئين بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر بضرب عنقه صبرا ، فقال : يا محمّد ، فمن للصبيّة؟ قال : النار! ثمّ لم نجد فيما بأيدينا متى وأنّى التحق ابنه الوليد بالدين الجديد؟ إلّا أنّا نراه فيمن بعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أوائل السنة التاسعة لجباية الزكاة من بني المصطلق من خزاعة (١). ونعلم أنّ خزاعة كانوا حلفاء بني هاشم منذ الجاهليّة ، وصديق عدوّك عدوّك ، فهم في التصنيف أعداء بني اميّة ، ولا نعلم أكثر من هذا.

وفي «تفسير فرات الكوفي» بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه إلى بني وليعة ، وكانت بينه وبينهم شحناء في الجاهليّة. فلمّا بلغ إليهم استقبلوه ليروا ما عنده ، فخشيهم ، فرجع إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : إنّ بني وليعة منعوني الصدقة وأرادوا قتلي! وبلغ إليهم الذي قاله فيهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأتوه وقالوا له : يا رسول الله ، لقد كذب الوليد ، ولكن كان بيننا وبينه شحناء في الجاهليّة فخشينا أن يعاقبنا بالذي بيننا وبينه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتنتهنّ يا بني وليعة أو لأبعثنّ إليكم رجلا عندي كنفسي ، يقتل مقاتليكم ويسبي ذراريكم (وأشار بيده وقال) هو هذا حيث ترون. وضرب بيده على كتف عليّ عليه‌السلام.

وأنزل الله في الوليد آية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢).

__________________

(١) ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٣٠٨ و ٣٠٩ ، ومغازي الواقدي ٢ : ٩٨٠ ، والتبيان ٩ : ٣٤٣ ، وعنه في مجمع البيان ٩ : ١٩٨ عن قتادة ومجاهد ومقاتل عن ابن عبّاس.

(٢) تفسير فرات الكوفي : ٤٢٦ ، ٤٢٧ ، الحديث ٥٦٣ ، وبهامشه عن الطبراني وابن مردويه. والآيات من الحجرات : ٦ ـ ٨.

٣٨٦

وروى الواقدي الخبر عن بعضهم قال : كنّا عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله نكلّمه ونعتذر إليه ، إذ أخذه برحاء الوحي ، فلمّا سرّي عنه أخبرنا بعذرنا وما نزل في صاحبنا ، والذي نزل عليه قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...). ثمّ قال لنا : فمن تحبّون أبعث إليكم؟ قلنا : تبعث علينا عبّاد بن بشر. وكان حاضرا ، فقال له : يا عبّاد سر معهم فخذ صدقات أموالهم ، وتوقّ كرائم أموالهم. وأمره أن يقيم عندنا عشرة أيّام.

قال : فخرجنا مع عبّاد يقرئنا القرآن ، ويعلّمنا شرائع الإسلام حتّى أنزلناه في وسط بيوتنا ، فلم يضيّع حقّا ولم يعد بنا الحقّ ، ثمّ انصرف إلى النبيّ راضيا (١).

* * *

وكان أنس بن مالك الخزرجي يخدمه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فروى الواحدي بسنده عنه قال : قلت له يوما : يا نبيّ الله ، لو أتيت عبد الله بن ابيّ؟ فقبل وأنعم. وركب صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه حمارا ، وانطلق معه المسلمون يمشون (٢) وهم من الأوس رهط عبد الله بن رواحة ، فمضى صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى وقف على عبد الله بن ابيّ ، فراث حمار رسول الله ، فقال له عبد الله : إليك عنّي! وأمسك أنفه. فقال له عبد الله بن رواحة الأوسي : لحمار رسول الله أطيب ريحا منك ومن أبيك! فغضب الخزرج قوم ابن ابيّ بن سلول ، ومدّوا أيديهم إلى ابن رواحة ، فأعانه قومه فتناوشوا بأيديهم ثمّ بنعالهم ثمّ بجريد سعفات النخيل ، ثمّ افترقوا ، ففيهم نزل قوله سبحانه : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٠ ، ٩٨١.

(٢) أسباب النزول : ٣٢٩ ، ٣٣٠ ، وفي الميزان ١٨ : ٣٢٠ ، عن الدرّ المنثور عن البخاري ومسلم وغيرهما.

٣٨٧

اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١).

* * *

كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا فرغ من صلاة الفجر يستقبل الناس ويجلس بينهم. فروى الطبرسي عن ابن عبّاس : أنّ ثابت بن قيس ثقيل السمع ولذلك كان يقعد عند النبيّ ليسمع ما يقول. فدخل المسجد يوما وقد فرغوا من صلاة الصبح وأخذوا أماكنهم ، فجعل يتخطّى رقاب الناس وهو يقول : تفسّحوا تفسّحوا ، حتّى انتهى إلى رجل فقال له : قد أصبت مجلسا فاجلس. فجلس خلفه ، فلمّا انجلت ظلمة الفجر قال له : من هذا؟ فذكر الرجل اسمه ، وكان ثابت يعرف امّه وأنّه كان يعيّر بها ، فقال : ابن فلانة؟! وذكر امّه ، فنكس الرجل رأسه حياء (٢).

وجاءت صفيّة بنت حييّ بن أخطب اليهودي زوج النبيّ إليه تبكي ، فقال لها : ما وراءك؟ فقالت : إنّ عائشة تعيّرني وتقول لي : يهوديّة بنت يهوديّين! فقال لها : هلّا قلت : أبي هارون ، وعمّي موسى ، وزوجي محمّد (٢).

وكانت مع حفصة فمرّت أمّ سلمة وكانت قصيرة فعيّرتها بالقصر وأشارت بيدها (٤)! وكانت أمّ سلمة قد ربطت حقويها بسبيبة (قماش أبيض كالحزام) وسدلت طرفيها خلفها فهي تجرّه ، فقالت لحفصة : انظري ما تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب (٥)! فنزل قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ١٩٩ ، عن سعيد بن جبير وغيره ، وفي التبيان ٩ : ٣٤٦ عن الطبري. والآيتان من الحجرات : ٩ و ١٠.

(٢) و (٣) مجمع البيان ٩ : ٢٠٢ ، وأسباب النزول للواحدي : ٣٣٠.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٢٠٣ ، وانظر أسباب النزول للواحدي : ٣٣٠.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٢٠٢ ، وأسباب النزول للواحدي : ٣٣٠.

٣٨٨

يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(١).

وكان والداهما في سفرة مع النبيّ ومعهما سلمان ، فبعثاه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليأتي لهما بطعام ، وكان خازنه على رحله اسامة بن زيد فبعث النبيّ سلمان إلى اسامة ، فقال له : ما عندي شيء ، فعاد سلمان إليهما صفر اليدين ، فقالا فيه : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها! وقالا : بخل اسامة ، ثمّ انطلقا يتجسّسان عمّا أمر به لهما رسول الله عند اسامة ، فرآهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟! فقالا : يا رسول الله ، ما تناولنا لحما يومنا هذا! قال : ظللتم تأكلون لحم سلمان واسامة! ونزل قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(٢).

ومرّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم في سوق المدينة وإذا برجل قائم على غلام أسود ينادي عليه بالبيع لمن يزيد (بالمزاد) والغلام يشترط على من يشتريه أن لا يمنعه من الصلوات الخمس خلف رسول الله ، فاشتراه رجل على شرطه ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يراه في الصلوات حتّى افتقده فسأل صاحبه عنه فقال : هو محموم (مصاب بالحمّى) فعاده صلى‌الله‌عليه‌وآله مع جمع من أصحابه ، وبعد أيام سأل عنه صاحبه

__________________

(١) الحجرات : ١١.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٢٠٣ ، وكنى فيه عنهما برجلين من أصحابه ، ورواه باسمهما في جوامع الجامع ، وعنه في الميزان ١٨ : ٣٣٣ ، ونقل مثله عن الدرّ المنثور عن المقدسي عن أنس بن مالك ولم يسمّ سلمان ، ونقل مثله عنه عن السدّي وسمّى سلمان ولم يسمّهما ، واستظهر العلّامة أنّ القصّة واحدة. والآية من الحجرات : ١٢.

٣٨٩

فقال : يا رسول الله لقد قورب به (دنا أجله) فقام ليعوده فأدركه في نزعاته حتّى قبض ، فتولّى غسله وتكفينه ودفنه.

فقال الأنصار : نحن آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا فآثر علينا عبدا حبشيّا!

وقال المهاجرون : هاجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا فلم ير أحد منّا في حياته ومرضه وموته ما لقي هذا الغلام!

فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً)(١) وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

وكان من آثار انتشار أخبار جباة الزكوات أن قدم المدينة أقوام من أعراب بني أسد ، لم يكونوا مؤمنين في السرّ ، إنّما كانوا يطلبون الصدقة فأظهروا الإسلام وقالوا له صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، وأتيناك بالعيال والأثقال ، فأعطنا من الصدقة. فكأنّما كانوا يمنّون عليه ، وقد أغلوا أسعار المدينة وأفسدوا طرقها بالعذرات! فنزل قوله سبحانه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(٢).

والسورة التالية في النزول : التحريم.

__________________

(١) الحجرات : ١٣ ، والخبر في أسباب النزول للواحدي : ٣٣٢.

(٢) الحجرات : ١٤ ـ ١٨ ، والخبر في مجمع البيان ٩ : ٢٠٧ ، وأسباب النزول للواحدي : ٣٣٢.

٣٩٠

تحريم الرسول الحلال على نفسه :

مرّ الحديث عن ابن سعد بسنده عن عائشة قالت عن مارية القبطية : إنّها كانت جعدة جميلة ، فاعجب بها رسول الله ... فما غرت على امرأة إلّا دون ما غرت عليها ... وفرغنا لها (لإثارتها وإيذائها وإزعاجها!) ... ثمّ رزقها الله الولد وحرمناه ... وحوّلها رسول الله إلى العالية يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا (١).

فهي كانت في مشربتها في عوالي المدينة ولا بيت لها من بيوت النبيّ حوّل مسجده ، وكأنّ عائشة زارت أباها ، وزارت مارية ـ بعد أن كانت أمّ إبراهيم ـ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخلا بها في بيت عائشة «وكانت حفصة وعائشة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه» (٢) واطّلعت حفصة على ذلك ، وعلم النبيّ بذلك.

فروى الطبرسي عن الزجّاج : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا حفصة وقال لها : لا تعلمي عائشة بذلك ، وأنّه حرم مارية على نفسه ، وأخبرها بأنّ أبا بكر سيملك الأمر من بعده وبعده أبوها عمر بن الخطّاب واستكتمها إيّاه ، فأعلمت حفصة الخبر لعائشة.

ثمّ قال الطبرسي : وقريب من ذلك ما رواه العيّاشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكّي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام بزيادة : أنّ كلّ واحدة منهما حدّثت أباها بذلك ، فعاتبهما رسول الله في أمر مارية وما أفشتا عليه منه ، وأعرض عن أن يعاتبهما في الأمر الآخر : أنّ أبا بكر وعمر يملكان بعده.

قال الطبرسي : قال الزجّاج : فأطلع الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك ، وهو قوله سبحانه : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) يعني حفصة ... فعرّفها بعض ما أفشت من الخبر ، وأعرض عن بعض : أنّ أبا بكر وعمر يملكان بعده (٣).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٣.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٢.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٢. والآية من التحريم : ٣.

٣٩١

وعلى ما رواه عن تفسير العياشي عن الباقر عليه‌السلام ، فهو أكثر ما روى عنهم عليهم‌السلام هنا تفصيلا.

وروى الكليني في «الكافي» بإسناده عن زرارة عنه عليه‌السلام أيضا : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حرّم عليه جاريته مارية القبطيّة وحلف أن لا يقربها ، فجعل الله عليه الكفّارة لحلفه وليس على تحريمه (١) وذلك قوله سبحانه : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(١).

وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام أخصر إشارة إلى ذلك في قوله سبحانه في مفتتح السورة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، قال : اطّلعت حفصة وعائشة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مع مارية ، فقال النبيّ : والله ما أقربها ، فأمره الله أن يكفّر عن يمينه (٣).

أمّا الطوسي في «التبيان» قبل الطبرسي فقد اكتفى عن الفرّاء والزجّاج بقوله : أسرّ إليها بأنّه سيلي الأمر بعده أبو بكر وعمر وعثمان ، فتباشروا بذلك فانتشر الخبر. واكتفى من أخبارهم عليهم‌السلام بقوله : روى أصحابنا : أنّه أسرّ إلى عائشة بما يكون بعده من قيام من يقوم بالأمر ودفع عليّ عليه‌السلام عن مقامه ، فبشّرت بذلك أباها ، فعاتبهم الله على ذلك (٤) وهذا من بعد ما نقل عن زيد بن أسلم وابن زيد والشعبي وقتادة ومسروق والضحّاك والحسن بن أبي الحسن البصري قال : كانت حفصة بنت عمر زارت عائشة ، فخلا بيتها ، فوجّه رسول الله إلى مارية القبطيّة ، فكانت معه ، وجاءت حفصة ... فغارت عليه من أجلها! فحرّم رسول الله أمّ ولده إبراهيم :

__________________

(١) و (٢) فروع الكافي ، كما في الميزان ١٩ : ٣٣٧.

(٣) تفسير القمّي ٢ : ٣٧٥. وعليه فهذا تأريخ تشريع كفّارة اليمين في الإسلام.

(٤) التبيان ١٠ : ٤٦ ، ٤٧.

٣٩٢

مارية القبطيّة على نفسه بيمين أن لا يقربها ، طلبا لمرضاة زوجته حفصة ، وأسرّ بذلك إليها. فأفضت بذلك إلى عائشة (١).

وفي قوله سبحانه في الآية الرابعة : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ...) اكتفى الطوسي بقوله عن جميع أهل التأويل وعن عمر بن الخطّاب قال : إنّه سبحانه عنى حفصة وعائشة (٢).

وعيّن الطبرسي فقال : أورده البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطّاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : حفصة وعائشة (٣).

ومرّ الحديث حول آية التخيير في سورة الأحزاب وكان مشتملا على أسماء نساء له تزوّجهنّ فيما بعد خيبر إلى عمرة القضاء في السنة الثامنة للهجرة ، ولذلك قلنا بتأخير هذا الحدث ، ومنه اعتزاله إيّاهنّ شهرا في مشربة أمّ إبراهيم.

وتفصيل خبر البخاري عنه عن عمر يشتمل على التصريح باعتزاله إيّاهنّ شهرا في مشربة أمّ إبراهيم ، وأنّه كان وهم يتحدّثون عن غزو غسّان والروم لهم ممّا بعث على غزوة تبوك في التاسعة. قال : إنّا معشر قريش كنا غالبين على نسائنا ، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم! فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم ، حتّى أنّي غضبت على امرأتي يوما فإذا بها تراجعني! فأنكرت عليها ذلك فقالت : وما تنكر من ذلك؟ فو الله إنّ أزواج النبيّ ليراجعنه ، وإنّ إحداهنّ تهجره النهار إلى الليل! فقلت لها : قد خابت وخسرت من فعلت منهنّ ذلك!

__________________

(١) التبيان ١٠ : ٤٥ و ٤٤.

(٢) التبيان ١٠ : ٤٧.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٤.

٣٩٣

ثمّ دخلت على حفصة فسألتها : أتراجع إحداكنّ رسول الله وتهجره النهار إلى الليل؟! قالت : نعم! فقلت لها : قد خابت وخسرت من فعلت منكنّ ذلك؟ أتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله فإذا هي قد هلكت! ثمّ قلت لحفصة : لا تراجعي أنت رسول الله ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ، ولا يغرينّك أن كانت جارتك [مارية] أوسم منك وأحبّ إلى رسول الله.

قال : وكان منزلي بالعوالي ، وكان لي جار من الأنصار كنّا نتناوب النزول إلى رسول الله ، فينزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره ، وأنزل يوما فآتيه بمثل ذلك. وكنّا نتحدّث : أنّ غسّان تنعّل الخيل لتغزونا (ممّا بعث على غزوة تبوك). فجاء يوما (ولعلّه كان بعد العصر) فضرب عليّ الباب فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم! فقلت : أجاءت غسّان؟ قال : أعظم من ذلك : طلّق رسول الله نساءه! فقلت في نفسي : قد خابت حفصة وخسرت! (فبتّ تلك الليلة حتّى أصبحنا) فلمّا أصبح وصلّينا الصبح شددت ثيابي على نفسي وانطلقت حتّى دخلت على حفصة فإذا هي تبكي! فقلت لها : أطلّقكنّ رسول الله؟ قالت : لا أدري ، هو ذا معتزل في المشربة.

فانطلقت (إلى مشربة أمّ إبراهيم ، وإذا غلام أسود هناك) فقلت له : استأذن لعمر. فدخل ثمّ خرج فقال : قد ذكرتك له فلم يقل شيئا! فانطلقت إلى المسجد ... فجلست إلى نفر حول المسجد ، ثمّ غلبني ما أجد (في نفسي) فانطلقت حتّى أتيت الغلام فقلت له : استأذن لعمر. فدخل ثمّ خرج فقال : قد ذكرتك له فلم يقل شيئا! فولّيت منطلقا ، فإذا الغلام يدعوني ، فرجعت إليه فقال لي : ادخل فقد أذن لك! فدخلت ، فإذا النبيّ متّكئ على حصير ورأيت أثره في جنبه ، فقلت : يا رسول الله ، أطلّقت نساءك؟ قال : لا ... بل كان قد أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا. فعاتبه الله في ذلك ، وجعل له كفّارة اليمين (١).

__________________

(١) القسم عن الاعتزال من النساء هو ما يسمّى في الفقه بالإيلاء ، وسيأتي بلفظه في

٣٩٤

ونقل هذه الرواية الطباطبائي في «الميزان» ورأى أنّه يرد عليها إشكالان :

الاولى : أنّها ظاهرة في أنّ المراد بالتحريم في الآية تحريم عامّة أزواجه ، وهذا لا ينطبق على الآية وفيها قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ).

والثانية : أنّها لا تبيّن وجه التخصيص في قوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(١).

ولعلّنا نجد بعض الجواب عنهما في الخبرين التاليين :

روى الواحدي بسنده عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله بامّ ولده مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها ، فقالت له : لم تدخلها بيتي وما صنعت بي هذا من بين نسائك إلّا من هواني عليك! فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة ، وهي حرام عليّ إن قربتها! فقالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها أن لا يقربها ، وقال لها : لا تذكريه لأحد ، فذكرته لعائشة. فأبى أن يدخل على نسائه واعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

وروى فيه بسنده عنه قال : وجدت حفصة رسول الله مع أمّ إبراهيم في يوم عائشة ، فقالت له : لاخبرنّها؟ فقال رسول الله : هي حرام عليّ إن قربتها! فأخبرت حفصة عائشة بذلك ، فأعلم الله رسوله بذلك ، فعرّف حفصة بعض ما قالت ، فقالت

__________________

ـ الأخبار التالية ، فالكفّارة هي كفّارة الإيلاء ، وعليه فهو تأريخ تشريع كفّارة الإيلاء في الإسلام بعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(١) الميزان ١٩ : ٣٣٩ ، ٣٤٠.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٣٦٧.

٣٩٥

له : من أخبرك؟ قال : نبّأني العليم الخبير. ثمّ آلى رسول الله من نسائه شهرا ، فأنزل الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ...)(١).

وعن ابن عباس أيضا عن «الدرّ المنثور» عن ابن سعد في «الطبقات» قال : كانت حفصة وعائشة متحابّتين ، فذهبت حفصة إلى بيت أبيها تحدث عهدا به ، فأرسل النبيّ إلى جاريته (مارية) فظلّت معه في بيت حفصة. وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة. ورجعت حفصة فوجدتهما في بيتها فغارت غيرة شديدة! وجلست تنتظر خروجها ، وأخرجها النبيّ ، فدخلت عليه حفصة فقالت له : قد رأيت من كان عندك! والله لقد سوّأتني! فقال لها النبيّ : والله لارضينّك! وإنّي مسرّ إليك سرّا فاحفظيه! قالت : ما هو؟ قال : إنّي اشهدك أنّ سريّتي هذه حرام عليّ ، رضا لك!

فانطلقت حفصة إلى عائشة فأسرّت إليها : أن ابشري! فإنّ النبيّ قد حرّم عليه فتاته! فلمّا أخبرت بسرّ النبيّ أظهره الله عليه إذ أنزل عليه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...).

وإذا كانت هذه الأخبار عن ابن عباس تكتفي من الحديث الذي أسرّ النبيّ به إلى بعض أزواجه بتحريم مارية القبطيّة فقط ... فقد روى في «الدرّ المنثور» أيضا عن «معجم الطبراني» عنه قال : دخلت حفصة على النبيّ في بيتها وهو (مع) مارية ، فقال لها رسول الله : لا تخبري عائشة حتّى ابشّرك بشارة ، فإنّ أباك يلي الأمر بعد أبي بكر إذا أنا متّ! فذهبت حفصة فأخبرت عائشة. فجاءت عائشة وقالت للنبيّ : من أنبأك هذا؟ قال : نبّأني العليم الخبير. فقالت عائشة : فإنّي لا أنظر إليك حتّى تحرّم مارية! فحرّمها. فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ)(٢).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٣٦٩.

(٢) الدرّ المنثور ، كما في الميزان ١٩ : ٣٣٨.

٣٩٦

وزاد القمي في تفسيره قال : كان سبب نزولها أنّ مارية القبطيّة كانت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تخدمه ، وكان ذات يوم في بيت حفصة ، فذهبت في حاجة لها ، فتناول النبيّ مارية ، وعادت حفصة فعلمت بذلك فغضبت ، وأقبلت على رسول الله وقالت له : يا رسول الله ، هذا في يومي وفي داري وعلى فراشي؟!

فاستحيا رسول الله منها وقال لها : كفّي فقد حرّمت مارية على نفسي ، فلا أطأها بعد هذا أبدا! وأنا افضي إليك سرّا! فقالت : نعم ، ما هو؟ فقال : إنّ أبا بكر يلي الخلافة بعدي ، ثمّ من بعده أبوك! فقالت : من أخبرك بهذا؟ فقال : الله أخبرني!

فذهبت حفصة من يومها ذلك إلى عائشة فأخبرتها بذلك! وذهبت عائشة إلى أبيها فأخبرته بذلك! فذهب أبو بكر إلى عمر فقال له : إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة بشيء ، ولا أثق بقولها : فاسأل أنت حفصة عنه ، وأخبره بالخبر.

فجاء عمر إلى ابنته حفصة وقال لها : ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة؟! فقالت حفصة : ما قلت لها من ذلك شيئا! فقال لها عمر : إن كان هذا حقّا فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه! فقالت : نعم ، قد قال رسول الله ذلك! فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه السورة (١).

ومن صالح المؤمنين؟

وفي الآية الرابعة من السورة قوله سبحانه : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

__________________

(١) تفسير القمّي ٢ : ٣٧٥ ، ٣٧٦.

٣٩٧

ونقل الطبرسي عن تفسير أبي مسلم محمّد بن بحر الأصفهاني قال : «صالح المؤمنين» كان «صالحو المؤمنين» على الجمع ، وسقطت الواو في المصحف لسقوطها في اللفظ (١).

وروى الحبري في تفسيره بسنده عن أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله يقول : (صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) عليّ بن أبي طالب.

وروى فيه بسنده عن ابن عباس قال : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) نزلت في عائشة وحفصة (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي مولى رسول الله (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) نزلت في عليّ عليه‌السلام (٢).

ورواهما فرات الكوفي في تفسيره وأسند عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه حين نزلت الآية أخذ رسول الله بيد عليّ عليه‌السلام فقال : أيّها الناس هذا صالح المؤمنين (٣).

وروى فيه بسنده عن رشيد الهجري قال : كنت أسير مع مولاي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في ظهر الكوفة فالتفت إليّ فقال : يا رشيد ، أنا والله صالح المؤمنين.

وروى فيه بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : لمّا نزلت (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال النبيّ لعليّ عليهما‌السلام : يا عليّ أنت صالح المؤمنين.

وروى فيه بسنده عن سالم عن خيثمة قال : سمعت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام يقول : لمّا نزلت الآية : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٤ ، وراجع وقارن التبيان ١٠ : ٤٨.

(٢) ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم‌السلام : ٨٦ ، ٨٧. ورواهما فرات الكوفي في تفسيره : ٤٩١ ، وانظر بحار الأنوار ٣٦ : ٢٩ وهامش تفسير فرات للمحقّق المحمودي ونقل خبر أسماء الحسكاني في شواهد التنزيل وعنه الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٤٧٥.

(٣) رواه الحسكاني في شواهد التنزيل وعنه في مجمع البيان ١٠ : ٤٧٤ ، ٤٧٥.

٣٩٨

الْمُؤْمِنِينَ) قال النبيّ لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ أنت صالح المؤمنين. قال سلام : فحججت فلقيت أبا جعفر عليه‌السلام فذكرت له قول خيثمة فقال : صدق خيثمة ، أنا حدّثته بذلك (١).

وروى القمي في تفسيره بسنده عنه عليه‌السلام قال : (صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

ونقل هذا الخبر البحراني في تفسيره «البرهان في تفسير القرآن» ثمّ ذكر أنّ محمّد بن العباس أورد في هذا المعنى اثنين وخمسين حديثا من طرق الخاصّة والعامّة ، ثمّ أورد نبذة منها ، وكذلك معاصره المجلسي في «بحار الأنوار» (٣).

وقال الطوسي في «التبيان» : روت الخاصّة والعامّة : أنّ المراد بصالح المؤمنين : عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وذلك يدل على أنه أفضلهم ، لأن القائل اذا قال : فلان فارس قومه ، او : شجاع قبيلته ، أو : صالحهم ، فانه يفهم من جميع ذلك : انّه أفرسهم وأشجعهم وأصلحهم (٤) واكتفى الطبرسي من هذا بقوله : وردت الرواية من طريق الخاص والعام أن المراد بصالح المؤمنين : أمير المؤمنين علي عليه‌السلام (٥).

ولم أعلم من بيّن ما بين الموضوعين من رابطة ومناسبة في سياق الكلام في الآيات : بين إسرار النبي حديثا الى بعض أزواجه وكون اثنتين منهن قد صغت قلوبهما بما نبأت احداهن الاخرى بالحديث الذي أسرّه النبي إليها ، وكان زيغ

__________________

(١) تفسير فرات الكوفي : ٤٨٩ و ٤٩١.

(٢) تفسير القمّي ٢ : ٣٧٧.

(٣) بحار الأنوار ٣٦ : ٢٧ ، الباب ٢٩ ، وكذلك في شواهد التنزيل.

(٤) التبيان ١٠ : ٤٨.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٤.

٣٩٩

قلوبهما الى التظاهر عليه! هذا من جهة ، وبين أن يكون الله والملائكة بما فيهم جبرئيل وكذلك صالح المؤمنين أولياء متظاهرين له صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وبالنظر الى ما مرّ من الأخبار المفشية بأن الحديث السرّ كان فيمن يتولّى الأمر بعده ، وليس تحريم مارية على نفسه فحسب ... أرى كأن الآية من قبيل دفع الدخل المقدّر أو الوهم المتوهم بأن المتولّين بعده أصلح المؤمنين ، فالآية تردّ على هذا الوهم بأن صالح المؤمنين ـ بتفسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بمعنى أصلح المؤمنين كما بين الشيخ الطوسي ، انما هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وليس كل من يتولّى الأمر بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والآيات الثلاث الأواخر في السورة من العاشرة حتى الثانية عشرة في ضرب المثل بامرأتين كافرتين فهما في الحقيقة زوجتان لعبدين صالحين هما نوح ولوط ، خانتاهما ـ في غير أمر الفراش ـ «فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، وقيل : ادخلا النار مع الداخلين» ثم ضرب المثل بامرأتين مؤمنتين احداهما صدّيقة : «صدّقت بكلمات ربّها وكتبه ، وكانت من القانتين» وهي مريم ابنة عمران ، والاخرى امرأة فرعون والتي آمنت بظلمه وبربّها وجنّته ، وانما اعلنت ايمانها في أواخر ايام حياتها داعية ربّها أن ينجّيها من فرعون ومن سائر الظالمين.

ونقل الطبرسي عن مقاتل قوله : يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة : لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية! وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم (١).

وقبله نقل الطوسي عن الفرّاء قال : هذا مثل ضربه الله تعالى لعائشة وحفصة ، وبيّن أنّه لا يغنيهما ولا ينفعهما مكانهما من رسول الله إن لم يطيعا الله ورسوله ، ويمتثلا أمرهما ، كما لم ينفع امرأة نوح وامرأة لوط كونهما تحت نبيّين ، وفي

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٩.

٤٠٠