موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

وعادت الآية ٧٩ : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ...) الى الصدقات غير الفريضة بل المتطوع بها للجهاد الى تبوك ، وسخرية المنافقين ولمزهم بهم ، فروى الطوسي عن قتادة وغيره من المفسّرين : أن المؤمن المتطوّع صدقة للغزوة هو عبد الرحمن بن عوف حيث جاء بشطر ماله أربعة آلاف دينار ، وان المؤمن الذي لم يجد الّا جهده حجاب بن عثمان اذ أتى النبي بصاع من تمر وقال : يا رسول الله اني عملت في النخل بصاعين من تمر فتركت صاعا للعيال وأهديت صاعا لله. وقيل : الأول هو زيد بن أسلم العجلاني ، والثاني علبة بن زيد الحارثي. فقال عبد الله بن نبتل او نهيك ومعتّب بن قشير في الأول : انه عظيم الرياء! وفي الثاني : ان الله لغنيّ عما أتى به! (١).

وفي الآية التالية : ٨٠ قال الطوسي : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا مات ميّت صلى عليه واستغفر له فأنزل الله عليه هذه الآية يعلمه بها ان في جملة من تصلي عليه من هو منافق وأنّ استغفاره له لا ينفعه قلّ ذلك أو كثر : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ...) فما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : «والله لأزيدنّ على السبعين» خبر واحد لا يلتفت إليه ، لأنّ في ذلك : ان النبي استغفر للكفار ، وذلك لا يجوز بالاجماع (٢). ثم نهى الله نبيّه أن يصلّي على أحد منهم وأن يستغفر له بقوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ)(٣) فنقل ما مرّ عن قتادة عن ابن عباس وعن جابر وابن عمر : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى على ابن أبي قبل أن ينهى عن الصلاة على المنافقين (٤) مما يعني أن السورة نزلت بعد موت ابن ابي

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٦٦ واقتصر في مجمع البيان ٥ : ٨٤ على ابن عوف وابن زيد الحارثي.

(٢) التبيان ٥ : ٢٦٨ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٨٤.

(٣) التبيان ٥ : ٢٦٨.

(٤) التبيان ٥ : ٢٧١ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٨٧.

٥٢١

والصلاة عليه ودفنه في منتصف ذي القعدة ، وبعد أكثر من خمسين يوما مدّة التضييق على الثلاثة المتخلفين بعد الرجوع من تبوك في أواخر شهر رمضان. على ترجيح توالي الآيات ، كما مرّ كل ذلك ، واحتملنا أن الطوسي لهذا ردّد معنى الرجوع في الآية السابقة ٨٣ : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) بين الرجوع المكاني وبين الرجوع الحالي بمعنى تكرار حال استيذانهم لغزوة اخرى ، ولم يتبعه الطبرسي فقال : اي ان ردّك الله من سفرك هذا في غزوتك هذه (١) مما يلازم القول بالفاصل الزمني نحو شهرين بين الآيتين ، مما لا يناسب السياق (٢).

وانفرد الواقدي في «المغازي» بذكر مصداق قوله : (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ) : ٨٦ ، فقال : هو الجد بن قيس كان كثير المال (٣).

وفي المشار إليهم في الآية ٩٠ : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) قال الطوسي : قيل : هم خفاف بن ايماء بن رحضة الغفاري وقومه من الأعراب (٤) الثمانون.

والآيتان : ٩١ و ٩٢ ذكرتا المعذورين الواقعيّين من المرضى والضعفاء والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ، وفي هؤلاء نقل الطوسي عن ابن عباس : ان عبد الله بن معقل المزني وجماعة معه جاءوا الى رسول الله ليحملهم فقال : لا يجد (٥) ومنهم من بكى لذلك فخصّتهم الآية التالية فعرفوا بالبكّائين ، فحكى الطوسي عن الواقدي :

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٨٦.

(٢) كما قال في الميزان ٩ : ٣٥٦ فما بعدها بوحدة السياق بين الآيتين ونزولهما قبل الرجوع لهذا فهو لم يصلّ على ابن ابيّ ، وان الأخبار بذلك مخالفة لدلالة الكتاب فمطروحة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٠.

(٤) التبيان ٥ : ٢٧٨ وفي مجمع البيان ٥ : ٩٠ عن ابن عباس.

(٥) التبيان ٥ : ٢٧٨.

٥٢٢

انهم سبعة من فقراء الأنصار فجعل منهم عبد الله بن معقل المزني المذكور آنفا ، وان العباس بن عبد المطلب حمل منهم رجلين ، ومن بني النضير ثلاثة حملهم رجل منهم يامين بن كعب النضري ، وحمل عثمان بن عفان رجلين (١) وقد مرّ خبرهم سابقا.

ولا ينكر ان ظاهر الآيتين ٩٤ : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) و ٩٥ : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) نزولهما مع ما في سياقهما قبل رجوعهم الى المدينة ، الا أن يقال ـ كما قال الطوسي ـ ان الله أخبر أنهم اذا عاد النبي والمؤمنون كانوا يجيئون إليهم ليعتذروا (٢).

وبفاصل هذه الآيات السبع عادت الآيات الى تشريح حالات الأعراب في ثلاث آيات من كافرين ومتربصين ومؤمنين ، بمناسبة المعذّرين منهم عن تبوك ، الى ٩٩.

وبفاصل الآية ١٠٠ تعود الآية التالية الى المنافقين من الأعراب حول المدينة ـ ومن اهل المدينة ـ وكأنهم فرّقوا بين الأعراب السابقين أنهم من بني غفار ، وهؤلاء القريبين من المدينة من بني تميم : عيينة بن حصن التميمي وقبيله ، وفي الآية التالية ١٠٢ : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أيضا روى الطوسي عن ابن عباس : انها نزلت في قوم من الأعراب (٣) وهكذا فسّرها الطباطبائي (٤).

ومن المتمرّدين على النفاق من أهل المدينة نقل الطوسي عن أكثر المفسّرين : أن أبا لبابة صاحب القصة في غزوة بني قريظة هنا أيضا كان من جملة المتأخرين عن تبوك (٥) ومعه خذام صاحب الأرض لمسجد ضرار وأوس وجدّ بن قيس ، فروى

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٨٠ عن الواقدي ٣ : ١٠٧١ وعنه وغيره في مجمع البيان ٥ : ٩١.

(٢) التبيان ٥ : ٢٨١.

(٣) التبيان ٥ : ٢٩٠.

(٤) الميزان ٩ : ٣٧٦.

(٥) التبيان ٥ : ٢٩٠.

٥٢٣

عن الفراء عن زيد بن أسلم وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك عن ابن عباس : أن هؤلاء الذين تابوا وأقلعوا قالوا للرسول : خذ من أموالنا ما تريد. فقال رسول الله : لا أفعل حتى يؤذن لي فيه. حتى أنزل الله بعد هذه الآية : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) : ١٠٣ (١) وكأن هذا الأمر بالصلاة عليهم في موقع الحظر بإزاء النهي السابق : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) : ٨٤ والّا فهو الى الترحيب والتشريف أقرب منه الى الوجوب والتكليف.

وحيث عرّجت هذه الآية على المعترفين بذنوبهم والمقدّمين لصدقاتهم كفّارة لذنوبهم ، عرّجت الآية : ١٠٦ على المرجون منهم لأمر الله ، فنقل الطوسي عن قتادة ومجاهد انها بشأن الثلاثة المتخلّفين كما مر خبرهم (٢).

وفي الآية : ١٠٧ ـ ١١٠ بشأن مسجد الضرار ، ولا خلاف في أنه أرسل لتحريقه وتهديمه من منزل ذي أوان قبل المدينة ، ولم يدع أحد يعتدّ به ان ذلك كان بنزول هذه الآيات ، انما كان بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم نزلت السورة وهذه الآيات بفاصل زمني معتدّ به أي نحو شهرين منذ ذلك الحين ، تأييدا له ، ككثير من سائر الموارد ، وقد مرّ خبره.

وعادت الآيتان : ١١٣ و ١١٤ على استغفار النبي والمؤمنين لقرباهم وغيرهم من المشركين ومناسبتها الواضحة التنبيه على النهي السابق وتقويته وتأكيده وتثبيته ودفع ما يوهم خلافه أو رفعه.

وفي الآية ١١٧ : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى ...) اشارة الى ان فريقا من المهاجرين والأنصار كاد يزيغ قلوبهم على أثر عسر السفرة الى غزوة تبوك ، ولم تزغ قلوبهم حيث اتّبعوا نبيهم ولم يتّبعوا أهواء قلوبهم في الاستراحة عن العسرة.

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٩٢ و ٢٩٣ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٢ و ١٠٣ ولم يرتضه.

(٢) التبيان ٥ : ٢٩٦ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٤.

٥٢٤

وقال الطوسي : قيل : لقد همّ كثير منهم بالرجوع من شدة ما لحقهم ، بل قيل : بعد ما كاد يشك جماعة منهم في دينه ، ثم تابوا فتاب الله عليهم ، وذكر خبر أبي خيثمة الأنصاري وزوجتيه كمصداق لهم ثم قال : فهو ممن زاغ قلبه للمقام ثم ثبّته الله فتاب فتاب الله عليه (١).

وفي الآية ١١٨ : أضاف الى من تاب عليهم من المهاجرين والأنصار ممن كاد يزيغ قلبه ، أضاف إليهم الثلاثة الذين خلّفوا ، فان كانوا هم المرجون سابقا لأمر الله إما يعذّبهم واما يتوب عليهم في الآية : ١٠٦ فهنا تاب الله عليهم ، وعليه فلا بدّ من القول بالفصل نزولا بين الآيتين ، ولعلّه بالخمسين يوما أو أقلّ من ذلك كما مرّ.

وفي الآية ١٢٢ : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ).

نقل الطوسي عن الواقدي قال : ان قوما من خيار المسلمين كانوا قد خرجوا الى البدو يفقّهون قومهم ، فالمنافقون احتجوا بهم في تأخرهم عن تبوك ، فنزلت هذه الآية جوابا لهم ... يعني كيف يكون لهؤلاء حجة باولئك في تأخّرهم في البادية وهم مؤمنون مستجيبون وهؤلاء منافقون مدهنون؟! (٢).

وكأن الطبرسي لم يرتضه فاستبدل عنه برواية عن مجاهد قال : كان اناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد خرجوا الى البوادي يدعون من يجدون من الناس الى الهدى ، فأصابوا من الناس معروفا وخصوصية ، ولكن قيل لهم : ما نراكم الّا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا [فرارا من النفر معه] فتحرّجوا من ذلك ورجعوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنزل الله هذه الآية (٣) جوابا لهم.

__________________

(١) التبيان ٥ : ٣١٥ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١١٩ ، ١٢٠.

(٢) التبيان ٥ : ٣٢٣ وليس في المغازي.

(٣) مجمع البيان ٥ : ١٢٦ والخبران كما ترون في التعليم وليس في التعلّم والتفقّه ،

٥٢٥

وكأنّما الآية التالية ١٢٣ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا) توجيه لهذا الحشد الشديد والأكيد لما ذا؟ تقول : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) ومن الغلظة أن يكون الكمّ غليظا هائلا.

وفي الآيتين التاليتين : ١٢٤ و ١٢٥ اشارة الى مدى تأثير مثل هذه السورة الفاضحة في المؤمنين وفي مرضى القلوب بمرض النفاق ، فالمؤمنون يستبشرون ويزدادون ايمانا ، واما مرضى القلوب فيزدادون رجسا وكفرا حتى الموت!

وفي الآية التالية : ١٢٦ : اشارة الى أن هذه الغزوة الى تبوك كانت فتنة فتنوا وامتحنوا بها فلم يتذكّروا ولم يتوبوا ، فهم راسبون في هذا الامتحان.

وكأنّما في الآية التالية : ١٢٧ : اشارة الى علامة ذلك عند نزول هذه السورة أو أية سورة اخرى : ان قلوبهم مصروفة عن معناها فهم لا يفقهونها ، فانما يراعون أن لا يراهم أحد من المؤمنين والّا فهم ينصرفون حتى عن سماع السورة.

والعنت هو العناء الّا انه العناء الروحي والنفسي الخاص ، فكأنّما الآية التالية : ١٢٨ : توجيه لهذا الخطاب والعتاب الشديد والأكيد على المنافقين ، لما ذا؟ تقول : ان الرسول رءوف رحيم بالمؤمنين فهو يخاف عليهم منكم ، وأيضا يراكم في النفاق وهو يرى النفاق عنتا نفسيا فيعزّ عليه ذلك إذ هو حريص على ايمانكم ، فعسى أن تؤمنوا أنزلنا على لسانه كل هذا العتاب عليكم لعلّكم تهتدون.

__________________

ـ فكأنّ المعنى : دعوا هؤلاء مشتغلين بعملهم في التعليم ولا تحتجّوا بهم للتخلّف ، فما كان المؤمنون كلّهم ينفرون للغزو ، فلينفر من كل فرقة طائفة ليكونوا مع النبي فيتفقّهوا في دينهم منه ، فاذا رجعوا إليهم يبلّغونهم ذلك ، فمن النفر ما يكون للتفقّه لا للغزو ، فليتفقّه هؤلاء وليفقّه اولئك ، ولا تحتجوا بتخلّفهم ولستم مشتغلين بالتعليم والتفقيه.

٥٢٦

والآية التالية : ١٢٩ خاتمة السورة تلتفت بالخطاب إليه فتقول له : فان تولّى هؤلاء ولم يهتدوا بكل هذا الخطاب والعتاب ، فتوكّل على الله وقل لهم : حسبي الله عنكم! لا إله الّا هو ربّ العرش العظيم.

حديث سدّ الأبواب :

في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...) الثامنة والعشرين من السورة ، مرّ التنويه (في الحاشية) الى احتمال أن سدّ الأبواب الشارعة الى مسجده صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بهذه المناسبة ؛ وذلك تمهيدا لتحريم الحرم على المشركين ، لئلّا يقول قائلهم : انّ أبوابهم شارعة الى مسجدهم وينامون فيه ويجنبون ، ويمنعوننا من دخول المسجد الحرام!

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن الباقر عليه‌السلام قال : كثر من دخل الاسلام من الغرباء بالمدينة ، من اهل الحاجة ، حتى ضاق بهم المسجد ، فأوحى الله الى نبيّه : ان طهّر مسجدك واخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل ، ومر بسدّ أبواب من كان له باب في مسجدك ، الّا باب علي ومسكن فاطمة ، ولا يمرّن فيه جنب ، ولا يرقد فيه غريب. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسدّ أبوابهم الّا باب علي عليه‌السلام وأقرّ مسكن فاطمة عليها‌السلام على حاله (١).

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ٣٣٩ ب ٢١ ح ١ وفيه : ثم ان رسول الله أمر ان يتخذ للمسلمين سقيفة ـ وهي الصفة ـ فعملت لهم. وعليه تكون الصفة قد اقيمت في التاسعة ، بينما التحق أبو هريرة وقومه من دوس من أزد اليمن ثمانون رجلا ومعهم من الأشعريين خمسون رجلا ، التحقوا بأواخر فتح خيبر فأسهم لهم النبي في الغنائم ثم اسكنهم الصفة. فالظاهر انها اقيمت في السابعة لا التاسعة ، ولذلك فنحن ذكرناها هناك ، فراجع.

٥٢٧

ومن الطرق السالكة في الاسلام لتقريب الايمان والاذعان الى الاذهان تشبيه المشروع فيه بمثله في سابق الأديان. ولهذا قصد الراوندي في نوادره باسناده الى الامام الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ان الله تعالى أوحى الى موسى عليه‌السلام : أن ابن مسجدا طاهرا ، لا يكون فيه الّا هو (موسى) وأخوه هارون وابناه شبّر وشبير ، وان الله تعالى أمرني أن مسجدي لا يكون فيه غيري وغير أخي علي وابنيّ الحسن والحسين (١).

وقد مرّ الخبر في مولد الحسنين عليهما‌السلام : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء ابنته فاطمة عليها‌السلام فاقبلت إليه بالحسن عليه‌السلام فدفعته إليه ... فأخذه وأذّن في اذنه اليمنى وأقام في اليسرى ثم قال : لقد جاءني جبرائيل فقال لي : يا محمّد ، ان ربّك يقرئك السلام ويقول لك :

انّ عليا منك بمنزلة هارون من موسى ، فسم ابنك هذا باسم ولد هارون (٢) وفي خروجه لتبوك.

فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد بسدّ الأبواب في المسجد الّا بابه وباب علي عليه‌السلام تثبيت معنى حديث المنزلة ، كما في خبر الصدوق عن الرضا عليه‌السلام في مجلس المأمون العباسي.

وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أخرج الناس من مسجده ما خلا العترة تكلم الناس في ذلك ، وتكلم العباس فقال : يا رسول الله ، تركت عليا وأخرجتنا؟! فقال رسول الله : ما أنا تركته وأخرجتكم ، ولكن الله عزوجل تركه وأخرجكم (٣).

وروى عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : سدّوا الأبواب الشارعة في المسجد الّا باب

__________________

(١) نوادر الراوندي : ٨ وعنه في بحار الأنوار ٣٩ : ٣٣ وروى مثله ابن المغازلي في مناقبه عن عدي بن ثابت.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥.

(٣) عيون اخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٣٢ ، والأمالي : ٤٢٣ ، ٤٢٤.

٥٢٨

علي (١) وقال : لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد الّا أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، ومن كان من أهلي ، فإنّهم منّي (٢).

وروى الخبر في «الأمالي» عن ابن عباس ، ولكنه أعرض عن ذكر اعتراض أبيه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واكتفى بقوله : أمر النبي بأبواب المسجد فسدّت ، الّا باب علي. وكذلك فعل ابن عمرو ابن أرقم ، واكتفى بقوله : فتكلم الناس في ذلك! ولكنه روى جوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن خطبة قال : فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فاني أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي ، فقال فيه قائلكم! واني ـ والله! ـ ما سددت شيئا ولا فتحته ، ولكنّي امرت بشيء فاتّبعته (٣).

وروى في «علل الشرائع» عن ابن عباس اشارة الى اعتراضهم من دون تنويه بأبيه العباس قال : لما سدّ رسول الله الأبواب الشارعة الى المسجد الّا باب علي ، ضجّ أصحابه من ذلك وقالوا : يا رسول الله لم سددت أبوابنا وتركت باب هذا الغلام (كذا)؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم : إنّ الله تبارك وتعالى أمرني بسدّ أبوابكم وترك باب علي ، فانما انا متّبع لما يوحى إليّ من ربّي.

وروى فيه بسنده عن أبي رافع قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب الناس فقال : أيها الناس ، ان الله عزوجل أمر موسى وهارون ان يبنيا لقومهما بمصر بيوتا ،

__________________

(١) عيون اخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٧.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٠. وروى القندوزي عن الترمذي رفعه عن أبي سعيد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : يا علي ، لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. وقال الترمذي : حديث حسن.

(٣) بحار الأنوار ٣٩ : ١٩ و ٢٠ عن أمالي الصدوق ، والخبر الأخير رواه الاربلي في كشف الغمة ١ : ٣٣٠ عن مسند احمد بن حنبل.

٥٢٩

وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ، ولا يقرب فيه النساء الّا هارون وذرّيته. وإنّ عليا منّي بمنزلة هارون من موسى فلا يحلّ لأحد أن يقرب النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنب الّا علي وذرّيته.

وفي جوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله على اعتراضاتهم روى فيه بسنده عن حذيفة بن اسيد الغفاري قال : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قام خطيبا فقال : ان رجالا يجدون في أنفسهم أن اسكن عليا في المسجد واخرجهم! والله ما أخرجتهم وأسكنته ، بل الله أخرجهم واسكنه ، ان الله عزوجل أوحى الى موسى وأخيه : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ثم أمر موسى : أن لا يسكن مسجده ولا ينكح فيه ، ولا يدخله جنب الّا هارون وذرّيته ، وان عليا منّي بمنزلة هارون من موسى ، وهو أخي دون اهلي ، ولا يحلّ لأحد أن ينكح فيه النساء الّا علي وذرّيته فمن ساءه فها هنا! وأشار بيده نحو الشام (١).

وانفرد ابن المغازلي في «المناقب» بسنده عن حذيفة بن اسيد الغفاري قال : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث معاذ بن جبل الى أبي بكر يقول له : إنّ رسول الله يأمرك أن تخرج من المسجد وتسدّ بابك. ففعل معاذ ذلك فقال أبو بكر : سمعا وطاعة. وسدّ بابه وخرج من المسجد.

ثم أرسل الى عمر فقال له : ان رسول الله يأمرك أن تسدّ بابك الذي في المسجد وتخرج منه. فقال عمر : سمعا وطاعة لله ولرسوله ، غير اني أرغب الى الله تعالى في خوخة في المسجد. فأبلغ معاذ ذلك الى النبي فلم يقبل به.

ثم أرسل الى عثمان ... فقال : سمعا وطاعة لله ولرسوله.

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٣٧ ، ٢٣٨ ، وقريب منه ما رواه ابن المغازلي في المناقب كما عنه في كشف الغمة ١ : ٣٣١.

٥٣٠

وقال النبي لعلي عليه‌السلام : اسكن أنت طاهرا مطهّرا ...

ونفس رجال ذلك على علي عليه‌السلام ووجدوا عليه في أنفسهم ، فبلغ ذلك النبي.

فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله خطيبا فقال : ان رجالا يجدون في أنفسهم ... (١).

__________________

(١) كشف الغمة ١ : ٣٣١ وبقية الخبر كما مرّ عن علل الشرائع. وفي الخبر ذكر اعتراض حمزة بدل العباس ، وفيه ذكر رقية مع عثمان ، وهما وهمان.

وقد روى الخبر ابن المغازلي في «المناقب» عن خبر حذيفة بن اسيد : عن ابن عباس والبراء بن عازب ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد ، وعدي بن ثابت ، ونافع. ونقلها عنه الاربلي في كشف الغمة ١ : ٣٣١ ـ ٣٣٣ وفيه قبله عن مسند احمد عن عمر بن الخطاب وابنه وزيد بن الأرقم ١ : ٣٣٠ ، ٣٣١.

وفي مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٨٩ ، ١٩٠ قال الحلبي : روى حديث سدّ الأبواب ثلاثون رجلا من الصحابة منهم : ابو رافع وأبو سعيد الخدري وأبو حازم عن ابن عباس ، وأبو الطفيل عن حذيفة بن اسيد الغفاري ، وأمّ سلمة ، وزيد بن ارقم وسعد بن أبي وقاص ، والعلاء عن ابن عمر ، وزيد عن اخيه الباقر عليه‌السلام. وهو ما رواه الخطيب البغدادي عنه عن جابر الأنصاري.

وفيه عن السمعاني في «الفضائل» عن جابر قال : سأل رجل ابن عمر في المسجد عن علي وعثمان فقال : أما علي فابن عم رسول الله وختنه ، ثم أشار بيده وقال : وهذا بيته حيث ترون ، وأمر الله نبيه ان يبني مسجده وبني إليه عشرة أبيات : تسعة له ولأزواجه ، وعاشرها لعليّ وفاطمة. ثم قال السمعاني : وبقي علي وولده في بيته الى أيام عبد الملك بن مروان ، وعرف هذا الخبر فحسدهم عليه واغتاض ، فأمر بهدم الدار يتظاهر انه يريد أن يزيده في المسجد. وكان فيها الحسن بن الحسن (المثنى) فقال : لا أخرج ولا امكن من هدمها! فأخرجوه بضرب السياط وهدمت الدار ٢ : ١٩١ ، ١٩٢.

ومن الجدير بالتذكير أن نزول البراءة كان في شهر شوال وارسالها مع أبي بكر أولا ثم علي عليه‌السلام ثانيا كان في ذي القعدة للحج ، اذ الحج في تلك السنة كان في ذي القعدة لموقع النسيء ، كما سيأتي.

٥٣١

بعث علي عليه‌السلام بآيات البراءة :

روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : كان في سنّة العرب في الحج أنه : من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها ، فكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف (وإلّا) فمن يوافي مكة يستعير ثوبا فيطوف فيه ثم يردّه ، فمن لم يجد عارية اكترى ثيابا ، ومن لم يجد عارية ولا كراء ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عريانا.

ولما فتح رسول الله مكة لم يمنع المشركين من الحج في تلك السنة (الثامنة) (١) فكان المشركون يحجّون مع المسلمين ، فتركهم على حجّهم الأول في الجاهلية ، وعلى امورهم التي كانوا عليها : من طوافهم بالبيت عراة ، وتحريمهم الشهور (الحلال بدل) الحرام ، والقلائد ، ووقوفهم بالمزدلفة.

وأراد الحج ، فكره أن يسمع تلبية العرب لغير الله ، والطواف بالبيت عراة (٢).

هذا في حجّهم ، وأما في قتالهم :

ففي الآية : ١٩٠ من سورة البقرة : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) روى الطبرسيّ عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قالا : هذه أول آية نزلت في القتال ، فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمّن كفّ عنه (٣) وقال في معنى : (وَلا تَعْتَدُوا) قيل : معناه : لا تعتدوا بقتال من لم يبدأكم (٣).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد هادن بني ضمرة ووادعهم ، وكانت بلادهم على طريق مكة من المدينة ، وكان بنو الأشجع من بني كنانة قريبا من بلاد بني ضمرة ،

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٨١.

(٢) تفسير فرات الكوفي : ١٦١ ح ٢٠٣ عن ابن عباس.

(٣) و (٤) مجمع البيان ٢ : ٥١٠.

٥٣٢

وكان محالّهم البيضاء والجبل والمستباح ، وكان بينهم وبين بني ضمرة حلف في المراعاة والأمان ، وأخصبت بلاد بني ضمرة وأجدبت بلاد أشجع ، فأرادوا أن يصيروا الى بلاد بني ضمرة ... فهابوا رسول الله أن يبعث إليهم من يغزوهم ، للموادعة التي كانت بينه وبين بني ضمرة ... وخافهم رسول الله أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهمّ بالمسير إليهم ...

فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع وهم سبعمائة ورئيسهم مسعود بن دخيلة فنزلوا شعب سلع ، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ست. فدعا رسول الله اسيد بن حضير فقال له : اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع؟

فخرج اسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال : ما أقدمكم؟ فقام إليه رئيسهم مسعود بن دخيلة فسلّم على اسيد وأصحابه وقال : جئنا لنوادع محمّدا.

فرجع اسيد الى رسول الله فأخبره ، فقال رسول الله : خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم. ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدّمها أمامه ثم قال : نعم الشيء الهدية أمام الحاجة. ثم ذهب رسول الله إليهم فقال لهم : يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا : قربت دارنا منك ، وليس في قومنا أقلّ عددا منّا ، فضقنا بحربك لقرب دارنا منك ، وضقنا بحرب قومنا لقلّتنا فيهم ، فجئنا لنوادعك.

فقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ذلك ووادعهم ، فأقاموا يومهم ، ثم رجعوا الى بلادهم ونزلت فيهم هذه الآيات من سورة النساء : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً* فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً* وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ

٥٣٣

صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)(١).

وروى فيه بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : كانت سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يقاتل إلّا من قاتله ، ولا يحارب إلّا من حاربه وأراده ، وكان قد نزل عليه في ذلك من الله عزوجل : (... فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة وأمره الله بقتال المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلّا الذين كان قد عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكة الى مدّة. فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله الى أبي بكر وأمره أن يخرج الى مكة ، فإذا كان يوم النحر بمنى قرأها للناس. فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا محمّد ، لا يؤدّي عنك إلّا رجل منك (٢).

كذا رواه القمي بسنده عن الصادق عليه‌السلام ، فيما روى معاصره العياشي في تفسيره عن أبيه الباقر عليه‌السلام قال : ما بعث رسول الله أبا بكر ببراءة ... ولكنّه استعمله على الموسم ... وبعد ما فصل أبو بكر عن المدينة (٣) قال لعلي عليه‌السلام : انّه لا يؤدّي عنّي إلّا أنا وأنت (ثم) بعث بها عليا عليه‌السلام (٤).

__________________

(١) النساء : ٨٧ ـ ٩٠ والخبر في تفسير القمي ١ : ١٤٥ ـ ١٤٧ وذكر مختصره عنه الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٣٥. وفي تفسير العياشي ١ : ٢٦٢ عن الصادق عليه‌السلام أنهم بنو مدلج.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨١ ، ٢٨٢ وكان ذلك لأول ذي القعدة ، وذلك لأن الحج في تلك السنة كان في ذي القعدة بالنسيء ، كما يأتي.

(٣) هنا في الخبر : عن الموسم ، بينما قال : فصل أبو بكر ، مرفوعا ، ولا يصحّ هذا ، فيبدو أن الموسم مصحّف عن المدينة فالأصل كما أثبتناه ، وفصل أي انفصل لا عزل.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٧٤ ومثله في خبر ابن عباس في تفسير فرات : ١٦١ ح ٢٠٣.

٥٣٤

وهذا يوافق أخبار الواقدي بتفصيل جاء فيه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قلّد عشرين بدنة النعال وأشعرها بيده في الجانب الأيمن ، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلميّ ، واستعمل على الحجّ أبا بكر وعهد إليه أن يخالف المشركين فلا يقف يوم عرفة بجمع ـ اى المزدلفة ـ بل يقف يوم عرفة بعرفة (١) ... ثم لا يندفع من عرفة حتى تغرب الشمس ... وكان مفردا بالحج. وخرج معه ثلاثمائة من أهل المدينة من أهل القوة منهم عبد الرحمن بن عوف ، ومعه خمسة بدن. وأهلّ أبو بكر من ذي الحليفة وسار حتى العرج (٢).

فروى العياشي عن علي عليه‌السلام قال : لما ابتعثني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببراءة قلت له : يا نبيّ الله ، إني لست بلسن ولا بخطيب! فقال : ما بدّ أن أذهب بها أو تذهب بها أنت! فقلت : فان كان لا بدّ فسأذهب أنا. قال : فانطلق ، فانّ الله يثبّت لسانك ويهدي قلبك. ثم وضع يده على فمي وقال لي : انطلق فاقرأها على الناس ... وسيتقاضى الناس إليك ، فإذا أتاك الخصمان فلا تقضينّ لواحد حتى تسمع الآخر ، فانّه أجدر أن تعلم الحق (٣).

__________________

(١) ونحوه في خبر ابن عباس في تفسير فرات : ١٦١ ح ٢٠٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٧ وكذلك المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٢٩٠ والتنبيه والاشراف : ١٨٦ وفيهما : حجّ بالناس ، بلا عدد. وذكره الواقدي ثم ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» وذكر البدن الخمسة لأبي بكر ، ولكنه قال : فعاد أبو بكر الى المدينة. ولم يذكر الطبري شيئا من ذلك! ونقل المجلسي ما في الكامل في بحار الأنوار ٣٥ : ٣٠٩ والاعتبار يساعد حجّ مثل هذا الجمع. فمن المستبعد جدّا أن يكون المبعوث أبا بكر وحده كما يبدو من سائر الأخبار ، أو عليا عليه‌السلام بعده كذلك بدون أن يحجّ أحد من المسلمين تلك الحجة بعد فتح مكة!

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٧٥ ح ٩.

٥٣٥

وروى القمي عنه عليه‌السلام قال : إن رسول الله أمرني أن ابلّغ عن الله :

١ ـ أن لا يطوف بالبيت عريان.

٢ ـ ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام.

٣ ـ وأن أقرأ عليهم : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ...) فأحلّ الله للمشركين الذين حجّوا تلك السنة أربعة أشهر حتى يرجعوا الى مأمنهم ، ثم يقتلون حيث وجدوا (١).

وروى العياشي عنه عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله ... دعا عليا عليه‌السلام فأمره أن يركب ناقته العضباء (٢) فيلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة فيقرأها على الناس بمكة (٣) فلحقه بالرّوحاء (٤).

وروى الواقدي : أن الناقة كانت القصواء ، وأن أبا بكر كان قد سار حتى العرج (٥) فكان فيه في السحر إذ سمع رغاء ناقة رسول الله القصواء! فقال : هذه هي القصواء! فنظر فإذا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام عليها (٦).

ورووا عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنّا معه بالعرج إذ ثوّب (أي أذّن) للصبح ، فلما استوى للتكبير سمع رغوة ناقة من خلفه (أي من جهة المدينة)

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٨٢ ومثله عنه عليه‌السلام في مجمع البيان ٥ : ٧ عن الحاكم الحسكاني.

(٢) الناقة العضباء : القصيرة اليدين ، وكانت مشقوقة الاذن. مجمع البحرين.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٧٣ ، ٧٤ ح ٤.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٨٢ وفي مسند أحمد : أنه سار بها ثلاثا ، كما في كشف الغمة ١ : ٣٠٠.

(٥) وفي تفسير فرات الكوفي : ١٥٨ ح ١٧ عن الصادق عليه‌السلام : بلغ الجحفة. وفي : ١٦٠ ح ٢٧ عن ابن عباس : بذي الحليفة. وكذلك في خبرين عن مسند أحمد في الطرائف وعنه في بحار الأنوار ٣٥ : ٣٠٥.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٧.

٥٣٦

فقال : هذه رغوة ناقة رسول الله الجدعاء ... فلعلّه يكون رسول الله فنصلّي معه. فإذا عليّ عليها ، فقال أبو بكر : أمير أم رسول؟ قال : لا ، بل رسول ، أرسلني رسول الله ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج (١).

وقال المفيد في «الارشاد» : فلما رآه فزع من لحوقه به ، فاستقبله وقال له : يا أبا الحسن ، فيم جئت؟ أسائر معي أنت؟! أم لغير ذلك؟ فقال علي عليه‌السلام : إن رسول الله أمرني أن الحقك فأقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم ، وأمرني أن اخيّرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه. فقال أبو بكر : بل أرجع إليه. وعاد الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلما دخل عليه قال له : يا رسول الله ، إنّك أهّلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليّ ، فلما توجّهت له رددتني عنه ، مالي؟ أنزل فيّ قرآن؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، ولكنّ الأمين هبط إليّ عن الله جلّ جلاله ، بأنّه : لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك ، وعلي منّي ، فلا يؤدّي عنّي إلّا علي (٢).

وفيما عدا «الارشاد» جاء رجوع أبي بكر الى المدينة في خبر القمي في تفسيره بسنده عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه‌السلام مثله تقريبا ، وفي خبر فرات الكوفي في تفسيره عن ابن عباس بزيادة : وأنا وعلي من شجرة واحدة والناس من شجر شتى (٣).

وكذلك جاء ذلك فيما رواه السيد في «الاقبال» عن كتاب «عمل ذي الحجة» للحسن بن اشناس البزّاز ، من نسخة عتيقة بخطه بتاريخ ٤٣٧ ه‍. بسنده عن

__________________

(١) الغدير ٦ : ٣٤٤ عن الخصائص للنسائي : ٩٢ بتحقيق الأميني ، وعن مصادر اخرى.

(٢) الارشاد ١ : ٦٥ ، ٦٦ ، ومناقب الحلبي عن ابن عباس ٢ : ١٢٦.

(٣) تفسير فرات الكوفي عن ابن عباس : ١٦١ ح ٢٠٣.

٥٣٧

الباقر عليه‌السلام وفيه قال : فلحقه وأخذها منه وقال له : ارجع الى النبيّ. فقال أبو بكر : هل حدث فيّ شيء؟ فقال عليّ عليه‌السلام : سيخبرك رسول الله.

فرجع أبو بكر الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا رسول الله ، ما كنت ترى أنّي مؤد عنك هذه الرسالة؟! فقال له النبيّ : أبى الله أن يؤدّيها إلّا علي بن أبي طالب! فأكثر أبو بكر عليه من الكلام فقال له النبيّ : كيف تؤدّيها وأنت صاحبي في الغار (١).

إعلان البراءة في الموسم :

قال : فانطلق علي عليه‌السلام حتى قدم مكة ، ثم وافى عرفات ، ثم رجع الى جمع المزدلفة ثم الى منى ، فذبح وحلق ، ثم صعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب فأذّن ثلاث مرات : يا أيها الناس ، ألا تسمعون ، إني رسول رسول الله إليكم ، ثم قرأ : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ* وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ...) الى تسع آيات من أوّلها الى قوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ثم لمع بسيفه فكرّرها وأسمع الناس. فقال الناس : من هذا الذي ينادي في الناس؟ فقال من عرفه من الناس : ما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمّد ، وهذا ابن عمّ محمّد علي بن أبي طالب! فناداه بعضهم : أبلغ ابن عمك : أن ليس له عندنا إلّا ضربا بالسيف وطعنا بالرمح (٢).

__________________

(١) الاقبال ٢ : ٣٤ و ٣٨ وفي ٤١ : قال بعض نقلة هذا الحديث : إن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث لأبي بكر لما اعتذر عن انفاذه الى الكفار : أنت صاحبي في الغار معناه : انك كنت معي في الغار فجزعت ذلك الجزع حتى أني سكّنتك وقلت لك : لا تحزن ، وما كان قد دنا شرّ لقاء المشركين ، وما كانت لك اسوة بنفسي ، فكيف تقوى على لقاء الكفّار بسورة براءة وما أنا معك بل أنت وحدك؟!

(٢) الاقبال ٢ : ٣٩.

٥٣٨

وفي كتابه عن رجال العامة قالوا : إن عليا عليه‌السلام كان قد قتل يوم الخندق عمرو بن عبد الله ، فلما أعلن البراءة لقيه اخوا عمرو : خراش وشعبة ، فقال له شعبة : ليس بيننا وبين ابن عمك إلّا السيف والرمح ، وان شئت بدأنا بك! وقال له اخوه خراش : علي ، ما تسيرنا أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك إلّا من الطعن والضرب (١). فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك ويقرأ براءة غدوة وعشية (٢).

وروى العياشي عن حريز عن الصادق عليه‌السلام قال : لما كان يوم النحر ـ وهو يوم الحج الأكبر ـ وكان بعد الظهر (٣) وفرغ الناس من رمي الجمرة الكبرى قام علي عليه‌السلام عندها ثم اخترط سيفه وقال : لا يطوفنّ بالبيت عريان ، ولا يحجّن بالبيت مشرك ولا مشركة ، ومن كانت له مدة فهو الى مدّته ، ومن لم تكن له مدة فمدّته أربعة أشهر (٤) فقال له رجل : فمن أراد منا أن يلقى محمّدا في بعض الامور بعد الأشهر الأربعة فليس له عهد؟! قال علي عليه‌السلام : بلى ، إنّ الله قال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ...)(٥) وفي أيام التشريق (١١ و ١٢ و ١٣) (٦) وفي أيام الموسم كلها ينادي : لا يطوفنّ عريان ، ولا يقربنّ المسجد الحرام بعد عامنا مشرك (٧).

__________________

(١) الاقبال ٢ : ٤١.

(٢) الاقبال ٢ : ٣٩.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٧٤ ح ٤.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٧٤ ح ٧.

(٥) مناقب آل أبي طالب عن تفسير القشيري ٢ : ١٢٧.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٧٤ ح ٥.

(٧) تفسير العياشي ٢ : ٧٥ ح ٨. وعنه في مجمع البيان ٦ : ٧٠٦. وروى فيه الصدوق في علل الشرائع ١ : ٢٢٤ ، ٢٢٥ أربعة أخبار عن سعد بن أبي وقاص ، وأنس بن مالك ، وابن ـ

٥٣٩

وقال المسعودي : كان المتولّون للنسيئة من العرب في الجاهلية من بني الحارث بن كنانة ... وكانوا ينسئون في كل ثلاث سنين شهرا يسقطونه من السنة ويسمّون الشهر الذي يليه باسمه ، ويجعلون اليوم الثامن والتاسع والعاشر من ذلك الشهر : يوم التروية ويوم عرفة ويوم النحر ، ثم يديرون ذلك في سائر الشهور.

فكان النحر في آخر حجّة حجّها المشركون في العاشر من ذي القعدة ... فكانت الأشهر في قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) : عشرين يوما من باقي ذي القعدة ، وذا الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وعشرة أيام من شهر ربيع الأول (١).

ولم يوح الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء في أمر علي عليه‌السلام وما كان منه ، وأبطأ عنه خبره ، وكان عليه‌السلام في رجوعه مقتصدا في سيره. فاغتمّ لذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غمّا شديدا حتى رئي ذلك في وجهه. وكفّ عن النساء من الهمّ والغمّ.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلى الصبح بقي مستقبل القبلة الى طلوع الشمس يذكر الله عزوجل ، وقد أمر عليا عليه‌السلام أن يتقدم خلفه فيستقبل الناس بوجهه فيراجعونه في حوائجهم. حتى وجّه عليا عليه‌السلام الى الحجّ ، فلم يجعل أحدا مكان علي عليه‌السلام.

__________________

عباس وابن عمر. وروى الخبر الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٧٨ والمسعودي في مروج الذهب ٢ : ٢٩٠ والتنبيه والاشراف : ١٨٦.

(١) التنبيه والاشراف : ١٨٦ و ١٨٧ ونقله الطوسي في التبيان ٥ : ٩٦ عن أبي علي الجبائي إلّا أنه قال : في العشرين من ذي القعدة. وعنه في مجمع البيان ٥ : ٦ وعن الحسن وقتادة ثم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعروة بن الزبير وأنس بن مالك وزيد بن نفيع والباقر عليه‌السلام. وعليه فشهر ذي الحجة من تلك السنة يبقى سليما عما ينافي وفود نصارى نجران ومباهلتهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٥٤٠