موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

فكلّمته ، فو الله ما ردّ عليّ شيئا! ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد فيه خيرا؟ ثم لقيت ابن الخطّاب فوجدته فظّا لا خير فيه! ثم أتيت عليا فوجدته ألين القوم لي ، وقد أشار عليّ بشيء فصنعته ، وو الله ما أدري يغني عنّي شيئا أم لا؟ فقالوا له : بما أمرك؟ قال : أمرني أن اجير بين الناس ففعلت. فقالوا له : فهل أجاز ذلك محمد؟ قال : لا. قالوا : ويلك ، والله ما زاد الرجل على أن لعب بك! فما يغني عنك؟

فقال أبو سفيان : لا والله ما وجدت غير ذلك! (١).

الاهتمام بفتح مكة بلا إعلام :

ثم أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المسير إلى مكة (٢) وقال لعائشة : جهّزينا ، وأخفي أمرك! (٣) وقال : اللهم خذ العيون من قريش حتى نأتيها في بلدها (٤).

فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تعمل سويقا تمرا ودقيقا (٥). فقال : أي بنيّة ، أأمركم رسول الله أن تجهّزوه؟ قالت : نعم ، فتجهّز! قال : فأين ترينه يريد؟ قالت : والله ما أدري (٦) هذا عند ابن اسحاق.

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٣٣ ، ١٣٤. ومثله في إعلام الورى بالرواية عن عيسى بن عبد الله الأشعري القمي عن الصادق عليه‌السلام. ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٨ ، ٣٩. ومغازي الواقدي ٢ : ٧٩٥.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢١٦.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢١٦ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٩ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦. هذا ، وسيأتي أن المسلمين مع الرسول لم يكونوا يعلمون غايته.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦.

(٦) هذا ، ولا يستلزم ذلك الكتمان ولا سيّما مع اليمين!

١٨١

وقال الواقدي : فقال : يا عائشة ، أهمّ رسول الله بغزو؟ قالت : ما أدري. فقال : إن كان رسول الله همّ بسفر فآذنينا نتهيّأ له. قالت : ما أدري ، لعلّه يريد بني سليم ، لعلّه يريد ثقيفا ، لعلّه يريد هوازن!

ودخل رسول الله ، فقال له أبو بكر : يا رسول الله أردت سفرا؟ قال : نعم ، قال : فأتجهّز؟ قال : نعم. قال : وأين تريد يا رسول الله؟ قال : قريشا .. قال : أو ليس بيننا وبينهم مدة؟ قال : إنهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غازيهم. ثم قال له : أخف ذلك يا أبا بكر ، واطو ما ذكرت لك! (١).

وتجسّست قريش :

روى فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره عن ابن عباس قال : قدمت سارة مولاة (عمرو بن) هاشم إلى المدينة ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه من بني عبد المطلب (٢).

وكانت مغنية نائحة ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمسلمة جئت؟ قالت : لا. قال : أمهاجرة جئت؟ قالت : لا. قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي ، وقد ذهب مواليّ ، واحتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني. قال : فأين ذهب شبّان مكة (تغنّي لهم فيعطونها)؟ فقالت : ما طلب منّي بعد وقعة بدر؟ فحثّ رسول الله عليها بني عبد المطّلب فكسوها وأعطوها نفقة (٣). وأمر رسول الله الناس أن يتجهّزوا.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦.

(٢) تفسير فرات الكوفي : ٤٧٩.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٤٠٤ ، ٤٠٥ عن ابن عباس أيضا.

١٨٢

وقال القمي في تفسيره : كان لحاطب بن أبي بلتعة عيال بمكة ، وخافت قريش أن يغزوهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألونه عن خبر محمد وهل يريد أن يغزو مكة؟ فكتب عيال حاطب إليه يسألونه عن ذلك. فكتب إليهم حاطب : أن رسول الله يريد ذلك (١) ، ودفع الكتاب إلى (تلك الامرأة) فوضعته في شعرها ومشت.

فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بذلك (٢).

قال المفيد في «الإرشاد» : فاستدعى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال له : إنّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا ، وقد كنت سألت الله أن يعمّي أخبارنا عليهم. والكتاب مع امرأة سوداء ، وقد أخذت على غير الطريق ، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها ، وخلّها ، وصر به إليّ (٣).

ثم استدعى الزبير بن العوّام فقال له : امض مع عليّ بن أبي طالب في هذا الوجه. فمضيا ، وأخذا على غير الطريق ، فأدركا المرأة ، فسبق إليها الزبير فسألها عن الكتاب الذي معها ، فأنكرته وحلفت أنه لا شيء معها وبكت. فرجع الزبير إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا أبا الحسن ما أرى معها كتابا ، فارجع بنا إلى رسول الله لنخبره ببراءة ساحتها! فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : يخبرني رسول الله أنّ معها كتابا ويأمرني بأخذه منها ، وأنت تقول : إنه لا كتاب معها! ثم تقدم إليها واخترط السيف فقال : أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنّك ثم لأضربنّ عنقك! فقالت

__________________

(١) وسيأتي نص كتابه.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦١.

(٣) وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن أبي رافع عن علي عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله بعثني والزبير والمقداد وقال انطلقوا إلى روضة خاخ. مجمع البيان ٩ : ٤٠٥.

١٨٣

له : يا ابن أبي طالب ، إذا كان لا بدّ من ذلك فأعرض بوجهك عنّي. فأعرض بوجهه عنها فكشفت قناعها وأخرجت الكتاب من شعرها.

فأخذه أمير المؤمنين عليه‌السلام وصار به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأمر أن ينادى بالصلاة جامعة. فنودي في الناس ، فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم. فأخذ رسول الله الكتاب بيده وصعد إلى المنبر فقال : أيها الناس ، إني كنت سألت الله عزوجل أن يخفي أخبارنا عن قريش ، وإن رجلا منكم كتب إلى أهل مكة (١) يخبرهم بخبرنا! فليقم صاحب الكتاب وإلّا فضحه الوحي! فلم يقم أحد. فأعاد رسول الله مقالته ثانية قال : ليقم صاحب الكتاب وإلّا فضحه الوحي! فقام حاطب بن أبي بلتعة وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف فقال : يا رسول الله ، أنا صاحب الكتاب ، وما أحدثت نفاقا بعد إسلامي ولا شكّا بعد يقيني! فقال له النبيّ : فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب؟ فقال : يا رسول الله ، إنّ لي بمكة أهلا وليس لي بها عشيرة ، فأشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفّا لهم عن أهلي ويدا لي عندهم ، ولم أفعل ذلك لشكّ في الدين. فقال عمر بن الخطّاب : يا رسول الله مرني بقتله فانه قد نافق! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه من أهل بدر ، ولعلّ الله اطّلع عليهم فغفر لهم.

ثم قال : أخرجوه من المسجد! فجعل الناس يدفعون في ظهره حتى أخرجوه وهو يتلفّت إلى النبيّ ليرقّ له ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بردّه وقال له : قد عفوت عنك وعن جرمك ، فاستغفر ربّك ولا تعد لمثل ما جنيت (٢).

__________________

(١) كذا في هذا الخبر ، وهو يتضمن نقض الغرض من كتمان الخبر على أهل مكة ، فكيف يعلن به؟!

(٢) الإرشاد ١ : ٥٧ ـ ٥٩ ومثله في التبيان ٩ : ٥٧٥ ، ٥٧٦. والطبرسي روى الخبر عن ابن عباس ٩ : ٤٠٥. ولفظ المفيد يفيد أن حاطبا قد جنى وأجرم وعليه أن يستغفر ربّه

١٨٤

وروى الكوفيّ في تفسيره الخبر عن ابن عباس وفيه : أنها قالت لهما : فلله عليكما الميثاق إن أعطيتكما الكتاب أن لا تقتلاني ولا تصلباني ولا تردّاني إلى المدينة. فقالا : نعم. فأخرجته من شعرها. فخلّيا سبيلها. ورجعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأعطياه الصحيفة فاذا فيها : «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة : إنّ محمدا قد نفر ، وإنّي لا أدري إياكم اريد أو غيركم ، فعليكم بالحذر». فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاه فقال له : يا حاطب ، تعرف هذا الكتاب؟ قال : نعم! قال : فما حملك عليه؟ فقال : أما والذي أنزل عليك الكتاب ، ما كفرت منذ آمنت ، ولا أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من أصحابك إلّا وله بمكة عشيرة تمنعه فأحببت أن أتّخذ عندهم يدا. ثم قد علمت أن الله ينزل بهم بأسه ونقمته ، وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا!

فصدّقه رسول الله وعذّره. فأنزل الله تعالى على رسوله من (سورة الممتحنة) :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ* إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ* لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(١) * قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ

__________________

ـ هذا إن صح الخبر ، وسيأتي أن هذا الخبر يتضمن نقض الغرض من كتمان المرام على أهل البلد الحرام وأن الراجح الخبر التالي عن تفسير فرات الكوفي مما لا يتضمن نقض الغرض والاعلام. ولعلّ هذا هو السرّ في إعراض الطبرسي في مجمع البيان عمّا في التبيان.

(١) تفسير فرات الكوفي : ٤٨٠ والقمي ٢ : ٣٦٢ والتبيان ٩ : ٥٧٥ و ٥٧٦ ومجمع البيان

١٨٥

حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

قال الطوسي : ومنع رسول الله أن يخرج أحد من المدينة إلى مكة (١) وزاد الطبرسي : ووضع حرسا على المدينة وعليهم حارثة بن النعمان (٢).

__________________

ـ ٩ : ٤٠٤. والآية الأخيرة هي الثالثة في السورة ، والذي نصّ على هذا الموضع في نزول الآيات هو القمي ، بينما الآيات متصلة المعاني حتى آخر التاسعة ، ونصّ على هذا ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤١. وروى الواقدي الخبر فأشرك الزبير في جدّ علي عليه‌السلام.

مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٧ ، ٧٩٨.

(١) التبيان ٩ : ٥٧٥.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢١٧ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦ هو عمر بن الخطاب. هذا ، وسيأتي في الأخبار أن الناس لم يكونوا يعلمون بوجه رسول الله حتى ما بعد منزل العرج في الطريق ، والآيات من سورة الممتحنة غير صريحة ، وعليه فيترجّح خبر الكوفي عن ابن عباس ، ولا ينسجم هذا مع خبر المفيد ، فانه يفيد الإفادة العامة ، وهو خلاف الفرض ، وانما فيه القول : إنّ الله اطلع على أهل بدر ... فلا يثبت.

١٨٦

المؤمنات المهاجرات :

مرّ في شروط صلح الحديبية : «وأنّه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليّه ، يردّوه إليه ..» (١).

أما ردّ من أتى أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من رجال قريش بغير إذن وليّه ، فهو داخل في هذا الشرط من شروط صلح الحديبية ، ولم يجر للنساء ذكر صريح في شروط الصلح ، فهل يشملهنّ هذا الشرط كذلك أيضا؟

في سور الذكر الحكيم سورة سمّيت بالممتحنة ، اقتباسا من كلمة في الآية العاشرة من السورة وهي قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

وقد مرّ الخبر عن الآيات الأوائل من السورة حتى الآية التاسعة منها قبل هذه الآية : انها نزلت في محاولة حاطب بن أبي بلتعة أن ينذر أهل مكة بخطر غزو النبيّ لهم (٢) وعليه فنزولها بعد الحديبية وعمرة القضاء قبيل فتح مكة.

ومع ذلك رووا عن مقاتل عن ابن عباس : أنهم لما صالحوا بالحديبية وختموا الكتاب جاءتهم سبيعة بنت الحرث الأسلمية زوج صيفي بن الراهب أو مسافر المخزومي ، جاءتهم مسلمة وزوجها كافر مشرك ، وأقبل زوجها في طلبها فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمد ، انّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا منّا ، وهذه طينة الكتاب

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣١٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦٢ وفرات الكوفي : ٤٨٠ وسيرة ابن هشام ٤ : ٤١.

١٨٧

لم تجفّ بعد ، فاردد عليّ امرأتي ، فنزلت الآية التالية العاشرة في السورة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) فاعطى رسول الله زوجها مهرها وما انفق عليها ولم يردها (١) وهذا يقتضي أن هذه الآية العاشرة في السورة كانت قد نزلت قبل الآيات التسعة السابقة بعامين تقريبا.

وروى الطوسي في «التبيان» عن عروة بن الزبير في سبب نزول الآية قال : هاجرت كلثم بنت أبي معيط مسلمة إلى المدينة ، فجاء أخواها فسألا رسول الله أن يردّها ، فنهى الله تعالى ان تردّ إلى المشركين (٢) وحكاه الطبرسي في «مجمع البيان» عن الجبّائي قال : إن رسول الله قال لهما : إن الشرط بيننا في الرجال لا في النساء. وزاد عن الزهري : اميمة بنت بشر فرّت من زوجها الكافر ثابت بن الدحداحة إلى المدينة وأسلمت ، فزوّجها رسول الله سهل بن حنيف ، فهي أمّ عبد الله بن سهل. وأروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب زوج طلحة بن عبيد الله ، كانت كافرة فهاجر عنها طلحة ، ثم فرّت إلى رسول الله (ولم يستردّها طلحة) فزوّجها رسول الله خالد بن سعيد بن العاص بن اميّة (٣) وهذه الموارد تنسجم مع نزول الآيات متواليات.

والآية لما حكمت : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) علّلت ذلك بالتالي : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) ويتبعه الحكم التالي أيضا : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي الكافرات ، وقال القمي في تفسيره : كان سبب نزول ذلك : أنّ عمر ابن الخطاب كانت عنده فاطمة بنت أبي اميّة بن المغيرة المخزومي فكرهت الإسلام

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٤١٠.

(٢) التبيان ٩ : ٥٨٤.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٤١١.

١٨٨

والهجرة مع عمر وأقامت مع المشركين ، وبهذا فرّق الإسلام بينهما ، فتزوّجها معاوية ابن أبي سفيان (١) وحكاه الطبرسي في «مجمع البيان» عن الزهري وزاد له امرأة اخرى هي أمّ كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعي أمّ عبد الله بن عمر ، فتزوّجها أبو جهم بن حذافة العدوي (٢) فأمر رسول الله أن يعطى عمر مثل صداقهما (٣) من الغنائم ، عملا بالآية التالية : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

والآية التالية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ...) سيأتي الحديث عنها أنها نزلت في بيعة نساء قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد فتح مكة.

وعليه فالآيات متواليات في النزول والحوادث ، غاية الأمر أن هذا يقتضي هجرة هؤلاء النسوة في فترة متلاحقة بعد محاولة حاطب بن أبي بلتعة وقبل الفتح ، ومع هذا فلا غرابة في الأمر. ولا نجد فيما بايدينا من التاريخ أيّ خبر عن احتجاج المشركين على هذا التفسير لهذا الشرط من الصلح : (ردّ الرجال دون النساء) مما كان من الممكن للمشركين أن يعتبروه نقضا للصلح. ولكنّهم علموا أن نقضهم له كان قبل هذا ، فلا ينفعهم هذا الاحتجاج شيئا وهم اليوم يحاولون توثيق الصلح ، فسكتوا عن ذلك.

نزول سورة النصر :

روى الطوسي في «التبيان» عن الحسن ومجاهد : أن سورة النصر وعد من

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٦٣.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٤١٠ ، ٤١١.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٦٣.

١٨٩

الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح مكة ونصرته على كفّار قريش قبل وقوع الأمر وعن قتادة : إنمّا عاش النبيّ بعد هذا سنتين ثم توفي (١).

وفي الخبر المعتمد في ترتيب نزول السور ترتيبها الثانية بعد المائة بعد الحشر وقبل النور ، وبعد الممتحنة بعشر سور (٢).

التعمية على قريش بسرية أبي قتادة :

قال الواقدي : وبعث رسول الله أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر إلى بطن إضم (في طريق مكة إلى اليمامة) ليظن الناس أنه يتوجّه إليها وينتشر الخبر بذلك. فروى

__________________

(١) التبيان ١٠ : ٤٢٥ و ٤٢٦ ومختصره في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٤.

(٢) التمهيد ١ : ١٠٧ و ١٠٦. وروى الواقدي عن الزهري قال : افتتح رسول الله مكة لثلاث عشرة مضت من شهر رمضان وأنزل الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ٣ : ٨٨٩.

وروى الواحدي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما رجع صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزوة حنين أنزل الله عليه : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : ٤٠١ وذلك بعد فتح مكة أيضا.

وروى الكليني في الكافي ٢ : ٦٢٨ والصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦ عن أبيه عن جده الصادق عليه‌السلام قال : إن .. آخر سورة نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) وهذا يقرّب قول القمي في تفسيره ٢ : ٤٤٦ : نزلت بمنى في حجة الوداع. وما رواه الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٤ عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِذا جاءَ ..) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعيت إليّ نفسي بأنها مقبوضة في هذه السنة. وما رواه عن مقاتل قال : وتسمى هذه السورة سورة التوديع. وينافي ما رواه فيه عنه أيضا قال : لما نزلت هذه السورة قرأها صلى‌الله‌عليه‌وآله على أصحابه ففرحوا واستبشروا (؟) وبكى عمه العباس! فقال له : ما يبكيك يا عمّ؟ فقال : أظنّ أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله. فقال : إنه لكما تقول. قال مقاتل : فعاش بعدها سنتين! ورواهما الطبرسي ولم يعلّق بشيء.

١٩٠

هو وابن اسحاق عن ابن أبي حدرد ، وكان أحد هذه السريّة قال : مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلّم علينا تحيّة الإسلام ، وكان بينه وبين محلّم بن جثّامة شيء من سابق ، ومحلّم كان معنا ، فحمل عليه فقتله وسلبه (١).

نفير عام بلا إعلام :

وعزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المسير إلى مكة ، فأرسل إلى من حوله من المسلمين في البادية يقول لهم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة (٢) ودعا رئيس كل قوم فأمره أن يأتي قومه فيستنفرهم (٣).

فروى الواقدي : أنه أرسل أسماء وهند ابني حارثة إلى بني أسلم يقولان لهم : إنّ رسول الله يأمركم أن تحضروا رمضان بالمدينة.

وأرسل رافعا وجندبا ابني مكيث إلى جهينة يأمرهم أن يحضروا رمضان بالمدينة.

وأرسل إيماء بن رحضة وكلثوم بن الحصين الغفاريين إلى بني غفار وضمرة.

وبعث إلى أشجع : نعيم بن مسعود ومعقل بن سنان الأشجعيّين.

__________________

(١) قال الواقدي : ثم لم يلق القوم جمعا حتى انصرفوا راجعين فلما انتهوا إلى ذي خشب (على ليلة من المدينة) بلغهم أن رسول الله قد توجه إلى مكة ، فالتحقوا به في السقيا. قال ابن أبي حدرد : فلما لحقنا النبيّ نزل فينا القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) النساء : ٩٤. مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٧ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٥ وانما قال عن السريّة إنها كانت قبيل الفتح. وفي نهاية غزوة حنين يطالب بدمه ، وسيأتي خبره هناك.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٩.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢١٨ ـ ٢١٩.

١٩١

وبعث إلى مزينة : بلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو المزنيّين.

وبعث إلى بني سليم : الحجّاج بن علاط ، وعرباض بن سارية السلميّين.

وبعث إلى بني كعب من خزاعة : بديل بن ورقاء وبسر بن سفيان الخزاعيّين.

وجعل المعسكر بئر أبي عنبة (١). كل ذلك بلا إعلام بالغاية والمرام!

خروج الرسول إلى مكة :

قال الطبرسي : واستخلف على المدينة أبا لبابة بن المنذر (٢) وخرج يوم الجمعة بعد العصر لليلتين من شهر رمضان (٣).

وروي عن الباقر عليه‌السلام قال : خرج رسول الله في غزوة الفتح .. ومعه نحو من عشرة آلاف رجل ، ونحو من أربعمائة فارس (٤).

وفصّل الواقدي فقال : كانت الأنصار أربعة آلاف معهم من الخيل خمسمائة ، وكان المهاجرون سبعمائة معهم من الخيل ثلاثمائة فرس. ومن القبائل كانت مزينة ألفا فيها من الخيل مائة فرس ، وكانت جهينة ثمانمائة معها من الخيل خمسون فرسا. وكانت أسلم أربعمائة فيها ثلاثون فرسا. وخرج معه من بني كعب من خزاعة من كان بالمدينة ، ولقيه سائرهم بالقديد فكانوا خمسمائة. وقدّم رسول الله أمامه الزبير بن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٩ ، ٨٠٠.

(٢) وقال ابن اسحاق : ابا رهم كلثوم بن حصين الغفاري. سيرة ابن هشام ٤ : ٤٢. ومثله في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦ مصحفة في ط الأخيرة : أبا ذر.

(٣) وقال الواقدي : يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان. وروى الواقدي بسنده عن أمّ سلمة زوج النبي قالت : خرجت معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في فتح مكة ، فلما بلغنا ذا الحليفة اغتسل فضفرت رأسه أربع ضفائر. مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٨ وكذلك في ابن هشام.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٠٩.

١٩٢

العوّام في مائتين من المسلمين. وخرج رسول الله والمسلمون عشرة آلاف ممتطين الابل يقودون الخيل ، فما حلّ النبيّ عقدة حتى انتهى إلى الصلصل (١).

روى الواقدي قال : كان قد بلغ الخبر إلى عيينة بن الحصن بنجد : أن العرب قد تجمّعت إلى رسول الله يريدون وجها. فخرج عيينة في نفر من قومه حتى قدم المدينة بعد خروج رسول الله بيومين ، فسلك ركوبة فسبقه إلى العرج. فلما نزل رسول الله العرج جاءه عيينة فقال له : يا رسول الله بلغني أن الناس يجتمعون إليك وأنك تريد الخروج ، ولم أشعر فأجمع قومي فتكون لنا جلبة كثيرة ، وأقبلت سريعا.

ولست أرى هيئة حرب : لا ألوية ولا رايات! فالعمرة تريد؟ فلا أرى هيئة إحرام ، فأين وجهك يا رسول الله؟ قال : حيث يشاء الله.

هذا والناس كذلك لا يدرون أين توجّه رسول الله إلى قريش أو إلى هوازن أو إلى ثقيف؟ فهم يحبّون أن يعلموا. وكان كعب بن مالك الأنصاري أحد شاعري النبيّ ، فقال لأصحابه : سآتي رسول الله فأعلم لكم وجهته. ثم مشى حتى جثا على ركبتيه بين يديه فقال :

قضينا من تهامة كلّ ريب

وخيبر ، ثم أجممنا السيوفا (٢)

نسائلها ، ولو نطقت لقالت :

قواطعهنّ : دوسا أو ثقيفا

فلست لحاضر إن لم تروها

بساحة داركم منها الوفا

فننتزع الخيام ببطن وجّ (٣)

ونترك دورهم منها خلوفا (٤)

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٠ ، ٨٠١ والصلصل على سبعة أميال ـ ١٤ كم. وفاء الوفاء ٢ : ٣٣٦ ، ولم يذكر هنا ما رواه في خروج الرسول إلى بدر في شهر رمضان وافطاره في بيوت السقيا قرب المدينة ، وانما يروي الإفطار هنا قبل مكة بمرحلتين ، كما يأتي.

(٢) أجممنا : أرحنا.

(٣) وجّ : اسم موضع قرب مكة.

(٤) خلوفا : خالية.

١٩٣

فلم يزد رسول الله على أن تبسّم له. فلما رجع إلى أصحابه جعل الناس يقولون له : والله ما بيّن لك رسول الله شيئا ، ما ندري بمن يبدي؟ بقريش؟ أو ثقيف؟ أو هوازن؟ وسار رسول الله حتى بلغ السقيا فوجد فيها أنّ الأقرع بن حابس التميمي قد وافاها في عشرة نفر من قومه ، فساروا معه.

وتجسّست هوازن أيضا :

روى الواقدي : أنّ من العرج تقدمت طليعة من الخيل أمام المسلمين ، فلما كانوا بين العرج إلى الطّلوب جاءوا برجل إلى رسول الله وقالوا : كان هذا على راحلته فلما طلعنا عليه تغيّب عنّا في وهدة (منخفض من الأرض) ثم طلع على مرتفع من الأرض ، فركضنا نحوه فأراد أن يهرب منّا .. فقلنا له : ممّن أنت؟ قال : رجل من غفار ، فقلنا من أيّ بني غفار أنت؟ فعيي (عجز عن الجواب) ولم ينفذ لنا نسبا ، فازددنا به ريبة وأسأنا به الظنّ. فقلنا : فأين أهلك؟ قال : قريبا وأومأ إلى ناحية. قلنا : على أيّ ماء؟ ومن معك هنالك؟ فلم ينفذ لنا شيئا ، فلما رأينا ما خلط قلنا : لتصدقنا أو لنضربن عنقك؟ قال : فإن صدقتكم ينفعني ذلك عندكم؟ قلنا : نعم.

فقال : أنا رجل من بني نضر من هوازن ، بعثوني وقالوا : ائت المدينة لتستخبر لنا ما يريد محمد في أمر حلفائه (خزاعة) أيبعث إلى قريش بعثا أو يغزوهم بنفسه؟ .. فان خرج سائرا أو بعث بعثا فسر معه حتى تنتهي إلى بطن سرف ، فان كان يريدنا أوّلا فيسلك في بطن سرف حتى يخرج إلينا ، وإن كان يريد قريشا فسيلزم الطريق. فقال رسول الله : وأين هوازن؟ قال : تركتهم ببقعاء وقد جمعوا الجموع وأجلبوا في العرب ، وبعثوا إلى ثقيف فأجابتهم ، فتركت ثقيفا على ساق قد جمّعوا الجموع ، وبعثوا إلى الجرش (١) ليصنعوا لهم منجنيقا ودبّابات ، ثم هم

__________________

(١) الجرش من مدن اليمن إلى جهة مكة. معجم البلدان ٣ : ٨٤.

١٩٤

سائرون إلى جمع هوازن فيكونون جمعا. فقال رسول الله : وإلى من جعلوا أمرهم؟ قال : إلى فتاهم مالك بن عوف. فقال رسول الله : وأجابت كل هوازن إلى مالك؟ قال : قد أبطأ منهم من بني عامر بنو كعب وبنو كلاب. قال : فما فعل بنو هلال؟ قال : قلّ من آوى إليه منهم.

ثم قال الرجل : وقد مررت أمس بمكة ، وكان قد قدم عليهم أبو سفيان فرأيتهم خائفين وجلين ساخطين مما جاء به من عندك. فقال رسول الله : حسبي الله ونعم الوكيل. ما أراه إلّا صدقني الرجل. فقال الرجل : فلينفعني ذلك.

فخافوا أن يتقدّم الرجل فيحذّر الناس ، فأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يوثقه فيحبسه عنده حتى يدخل مكة ، فأخذه خالد (١).

ومن رأفته صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحيوان روى الواقدي عن ابن حزم قال : بين العرج والطّلوب نظر رسول الله إلى كلبة حولها أولادها يرضعونها ، فأمر رجلا من أصحابه يدعى جعال بن سراقة الحارثي أن يقوم قربها لئلّا يعرض لها ولأولادها أحد من الجيش (٢).

مناة صنم خزاعة وهذيل :

خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة بحجّة نقض قريش لصلح الحديبية بغارتهم على خزاعة المحالفة له ، وقليل منهم مسلمون وأكثرهم مشركون ، ولهم صنم من الأصنام الكبرى الشهيرة المذكورة في القرآن الكريم بقوله سبحانه : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)(٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٤ ـ ٨٠٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٤.

(٣) النجم : ٢٠.

١٩٥

وذكر الكلبي في كتابه «الأصنام» : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما خرج من المدينة إلى مكة سنة ثمان عام الفتح وسار أربع أو خمس ليال ، بعث عليا عليه‌السلام ليهدم صنم هذيل وخزاعة : مناة ، ويغنم مالها ، فهدمها وغنم مالها ، ومنها سيفان : مخذم والرسوب ، أهداهما لها الحارث بن أبي شمر الغسّاني ملك غسّان ، فوهبهما النبيّ لعلي عليه‌السلام (١).

سابقة سيئتان وحسنتان :

في شأن نزول الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء مرّ الخبر عن ابن عباس : أن جماعة من قريش اجتمعوا عند الكعبة وبعثوا خلف محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليخاصموه ، وفيهم عبد الله بن أبي أميّة المخزومي ابن عمّته عاتكة بنت عبد المطلب ، ولما قام النبيّ من بينهم قام معه هذا فقال له : يا محمد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ، ثم سألوك لأنفسهم امورا فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجّل عليهم ما تخوّفهم به فلم تفعل ، فو الله لا أومن بك أبدا حتى تتّخذ سلّما إلى السماء ثم ترقى فيه وأنا أنظر ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك ، وكتاب يشهد لك. فأنزل الله الآيات (٢).

وقال القمي في تفسيره : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فتح مكة ، استقبله عبد الله بن أبي أميّة فسلّم على رسول الله ، فأعرض عنه ولم يجبه بشيء. وكانت أمّ سلمة المخزومية اخته مع رسول الله ، فدخل إليها فقال : يا اختي ، إنّ رسول الله قد قبل إسلام الناس كلهم ، وردّ عليّ إسلامي وليس يقبلني كما قبل غيري.

فلما دخل رسول الله إلى أمّ سلمة قالت له : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، سعد بك جميع الناس إلّا أخي من بين قريش والعرب رددت إسلامه وقبلت الناس

__________________

(١) الأصنام للكلبي ١٤ ، ١٥.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٦٧٨ ، ٦٧٩ والإشارة إليه في تفسير القمي ٢ : ٢٦ والتبيان ٦ : ٥١٩.

١٩٦

كلهم؟! فقال رسول الله : يا أمّ سلمة ، إنّ أخاك كذّبني تكذيبا لم يكذّبني أحد من الناس ، هو الذي قال لي : «لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزّل علينا كتابا نقرؤه». فقالت أمّ سلمة : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ألم تقل : إن الإسلام يجبّ ما قبله؟ قال : نعم ، ثم قبل إسلامه (١).

ولم أر من يذكر دافعا لاقتراب هذا ـ القريب البعيد عن النّبي والإسلام ـ إلى الإسلام والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص هذه الأيام قبيل فتح مكة ، وأنا لا أستبعد أن يكون ما دفعه لذلك هو ما دفع ابن خاله ـ وابن عمّ النبيّ ـ ابا سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب اخا عبيدة بن الحارث الشهيد ببدر ، وهو ترب النبيّ وأخوه في الرضاعة من حليمة السعدية ، وكان أليف النبيّ قبل بعثته.

قال الواقدي : فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عاداه عداوة لم يعاده بها أحد قط ، ولم يدخل معهم في الشعب ، بل هجا النبيّ ، وهجا حسّان ومنه قوله :

ألا مبلغ حسّان عنّي رسالة

فخلتك من شرّ الرجال الصعالك

ابوك أبو سوء وخالك مثله

فلست بخير من أبيك وخالك (٢)

وطالت عداوته عشرين سنة يهجو المسلمين ويهجونه ، ولا يتخلّف عن قتال قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان قد أهدر دمه!

فروى الواقدي بسنده عنه قال : قلت في نفسي : من أصحب؟ ومع من

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٦ ، ٢٧.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٦.

١٩٧

أكون؟ وقد ضرب الإسلام بجرانه (بزمامه ـ استقرّ) فهربت ، وقدمت على قيصر ملك الروم (؟!) فقال لي : ممّن أنت؟ فانتسبت له : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب. فقال قيصر : ومحمد بن عبد الله بن عبد المطّلب ، فان كنت صادقا فأنت ابن عمّ محمد! فقلت : نعم ، أنا ابن عمّه! ثم قلت في نفسي : لا أرى نفسي لا اعرف عند ملك الروم إلّا بمحمد! وقد هربت من الإسلام. فيومئذ عرفت أن ما كنت فيه من الشرك باطل! ودخلني الإسلام (١) فانصرفت راجعا إلى مكة.

هذا ، وابنه جعفر كان قد أسلم وهجر أباه وهاجر من مكة إلى مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا والنبيّ قد أهدر دم أبيه! وأنا لا أستبعد أن يكون هو أسرّ إلى أبيه بخبر مسير النبيّ وأوعز إليه أن يستبقه فيستقبله بالإسلام ، كما سنراه إلى جانب أبيه شفيعا له لقبول الرسول بإسلامه ، ولا أستبعد أن يكون الخبر قد سرى من أبيه أبي سفيان إلى ابن اخته عبد الله المخزوميّ ، فخرجا.

روى الواقدي عن أبي سفيان قال : جئت إلى أهلي فقلت لهم : تهيّئوا للخروج ، فلقد أظلّ قدوم محمد إليكم! فقالوا له : قد آن لك أن تبصر أن العرب والعجم قد تبعت محمدا (!) وأنت موضع في عداوته! وكنت أولى الناس بنصره! قال : ثم سرنا ، فما نزلنا الأبواء إلا ومقدّمته قد نزلت الأبواء ، وكان النبيّ قد أهدر دمي ، فخفت أن اقتل ، فتنكّرت.

وفي صباح الغداة صبّح رسول الله بالأبواء ، وأقبل معه الناس فرقة فرقة ، فتنحّيت خوفا من أصحابه. فلما طلع مركبه تصدّيت له تلقاء وجهه ، فملأ عينيه مني ثم أعرض بوجهه عنّي! فتحوّلت إلى وجهه فأعرض عني! وهكذا مرارا! ورأى المسلمون إعراض رسول الله عنّي ، فأغرى عمر بن الخطاب بي رجلا من الأنصار

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١١ ، ٨١٢.

١٩٨

قصيرا أسمر يدعى النعمان بن الحارث من بني النجّار ، فلازمني يقول لي : يا عدوّ الله ، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله وتؤذي أصحابه ، قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في عداوته! ورفع صوته علي حتى اجتمع عليّ الناس وهم يفرحون بذلك (١).

وفي الجحفة ـ بعد الأبواء وقبل قديد ـ روى ابن هشام عن ابن شهاب : أن العباس بن عبد المطلب كان قد خرج من مكة مهاجرا بأهله ، فلقي رسول الله بالجحفة وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته وتجارته بإذن رسول الله (٢).

وفي الجحفة قال أبو سفيان : دخلت على عمّي العباس فقلت : يا عمّ كفّ عني هذا الرجل الذي يشتمني! قال : صفه لي. فقلت : قصير أسمر بين عينيه شجة ، فعرفه فأرسل إليه يقول : يا نعمان ، إن أبا سفيان ابن عمّ رسول الله وابن أخي ، وإن يكن رسول الله ساخطا فسيرضى ، فكفّ عنه. فكفّ عنّي ، ولكنه لم يتركني. فقلت للعباس : قد كنت أرجو أن سيفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي وشرفي (!) وقد كان منه ما رأيت ، فكلّمه ليرضى عنّي. فقال : لا والله .. إنّي اجلّ رسول الله وأهابه ، فلا اكلّمه فيك كلمة أبدا بعد الذي رأيت منه ، إلّا أن أرى وجها. فقلت : يا عمّ إلى من تكلني؟ فقال : هو ذاك.

فلقيت عليا عليه‌السلام فكلّمته ، فقال لي مثل ذلك. فخرجت ، ومعي ابني جعفر ، فجلست على باب منزل رسول الله ، حتى خرج [من](٣) الجحفة ولم يكلّمني ، ولا يراني إلّا أعرض عنّي (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٧ ، ٨٠٨.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٤٢.

(٣) في الأصل : إلى الجحفة. وهذا يقتضي أن تكون محاورته للعباس قبل الجحفة ، وقد مرّ أن العباس التحق بهم بالجحفة ، وهذا يقتضي أن يكون الصحيح : من الجحفة.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٦ ـ ٨٠٨.

١٩٩

وروى الطبرسي في «إعلام الورى» أن العباس بن عبد المطّلب تلقّى رسول الله في موضع يدعى : نيق العقاب ، ورسول الله في قبّته (خيمته) وعلى حرسه يومئذ زياد بن اسيد ، ومع العباس ابن أخيه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أميّة. فاستقبلهم زياد فقال : أما أنت يا أبا الفضل فامض إلى القبّة ، وأمّا أنتما فارجعا. فمضى العباس حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسلّم عليه وقال : بأبي أنت وأمي ، هذا ابن عمك قد جاء تائبا ، وابن عمتك. قال : لا حاجة لي فيهما ، إن ابن عمّي انتهك عرضي ، وأما ابن عمتي فهو الذي يقول لي بمكة : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(١).

فلما خرج العباس كلّمته أمّ سلمة فقالت : بأبي أنت وأمي ، ابن عمك قد جاء تائبا ، فلا يكون أشقى الناس بك. وأخي ابن عمتك وصهرك فلا يكوننّ شقيا بك (٢) ولخبره صلة بعد الفتح.

وفي قديد عقد الألوية :

روى الواقدي بسنده عن عبّاس بن مرداس السّلمي قال : هبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ثنيّة المشلّل (٣) في آلة الحرب ، ونحن علينا الحديد .. واصطففنا له (٤).

وكان قد أرسل رسول الله إلى بني سليم : الحجّاج بن علاط السّلمي

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢١٩ ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦ ومثله في سيرة ابن هشام ٤ : ٤٢ ، ٤٣. والواقدي في المغازي ٢ : ٨١٠ ، ٨١١ بعد النقل الأول.

(٣) ثنيّة مشرفة على قديد. معجم ما استعجم : ٥٦٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٣.

٢٠٠