موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

عكرمة المخزومي يواجه خالد المخزومي :

مرّ خبر ابن اسحاق قال : إنّ عكرمة بن أبي جهل المخزومي وصفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا المسلمين (١). إذ دخل خالد ابن الوليد بمن معه من الليط في كدى في اسفل مكة.

قال الواقدي : فوجد جمعا من قريش وأتباعهم قد اجتمعوا له معهم عكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أميّة ، فرموهم بالنبل وشهروا السلاح وقالوا لخالد : لا تدخلها عنوة أبدا! فصاح خالد بأصحابه فقاتلهم ، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلا ، وأربعة من هذيل معهم (٢).

قال ابن اسحاق : وكان مع خيل خالد بن الوليد خنيس بن خالد (الخزاعي) وكرز بن جابر الفهري ، فسلكا طريقا شذّا به عن خيل خالد ، وقاتلهم المشركون ، فقتل خنيس بن خالد الخزاعي ، فوقف دونه كرز بن جابر وجعل يرتجز ويقول :

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٩.

(٢) بالاعتماد على ما مرّ في تعريف جبل خندمة ، وتنصيص هذين المصدرين : ابن اسحاق والواقدي على أن المواجهة كانت في الخندمة ، علق عاتق بن غيث البلادي في معجم معالم مكة التاريخية على هذا الخبر فقال : هذا ناتج عمّا لخالد بن الوليد في نفوس المسلمين من البطولة ، فلا يكادون يجهلون قائدا أحدث مثل هذا حتى يتبادر إلى أذهانهم اسم خالد بن الوليد. وهذا وهم ؛ لأن خالدا دخل من كدى .. وهذا غرب المسجد الحرام .. فكيف يقاتل خالد بن الوليد في الخندمة في أعلى مكة. لكن هذه فرقة أرسلها الزبير لا شك للسيطرة على جبل الخندمة المشرف على كل معلاة مكة إلى المسجد الحرام توطئة لنزول رسول الله في الأبطح ، أمرهم قائدهم الزبير بتطهير هذا الجيب لتخلو معلاة مكة وتأمن ، وذلك في ريع الحجون اليوم بين ثنيّة المدنيين وبين المسجد الحرام. مجلة الميقات ٤ : ٢٠٣ ، ٢٠٤.

٢٢١

قد علمت خفراء من بني فهر

لأضربنّ اليوم عن أبي صخر

فلم يزل يقاتل حتى قتل شهيدا. واصيب من خيل خالد سلمة بن الميلاء الجهني (١).

قال الواقدي : وكان قد ذكر لبنات سعيد بن العاص الامويّ : أنّ رسول الله قد دخل! فخرجن وقد نزعن خمرهنّ بأيديهن يضربن بها وجوه خيول المشركين (يحرّضنهم على القتال)! فمرّ بهنّ في تلك الحال عبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي (المهدور الدم) مدجّجا في الحديد ، على فرس ذنوب ، وبيده قناة ، فضربن وجه فرسه بخمرهنّ يحرّضنه! فقال لهن : أما والله لا يدخلها حتى ترين ضربا كأفواه القرب (من كثرة الدماء)! ولكنّه لما انتهى إلى الخندمة ورأى القتال وخيل المسلمين أخذته الرّعدة من الرّعب ما لا يستمسك معه (٢).

فلما أشرف رسول الله على ثنيّة أذاخر (٣) نظر إلى بيوت مكة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ونظر إلى قبّته ، قال جابر بن عبد الله الأنصاري : وكنت الازمه ونحن بالأبطح تجاه شعب أبي طالب حيث حصر رسول الله وبنو هاشم ثلاث سنين ، فقال لي : يا جابر ، هذا منزلنا حيث تقاسمت (أي تحالفت) علينا قريش في كفرها (٤).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥٠ وذكرهما الواقدي من أصحاب الزبير ، وسمّى الثاني خالد الأشعر ، وسمّى قاتله : خالد بن أبي الجزع الجمحي. مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٧.

(٣) قال الأزرقي في أخبار مكة ٢ : ٢٨٩ : من ثنيّة أذاخر دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة يوم فتحها ، وهي الثنيّة التي تشرف على حائط خرمان وعلّق البلادي في معجم معالم مكة قال : وحائط خرمان يعرف اليوم بالخرمانية بصدر مكة ، وقد عمّر اليوم مقرا لأمانة العاصمة ورحبة تقف فيها سيارات الأجرة.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٧.

٢٢٢

ورأى بريق السيوف في الخندمة فقال : ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال؟! فقيل : يا رسول الله ، خالد يقاتل ، ولو لم يقاتل ما قاتل. فقال رسول الله : قضى الله خيرا! (١).

هزيمة المقاومة :

قال الواقدي : ثم انهزم القوم أقبح انهزام وتولّوا في كل وجه ، واتّبعهم المسلمون ، فقتل بعضهم في سوق الحزورة (في المسعى) وصعد جمع منهم إلى رءوس الجبال. وانتهى عبد الله بن هلال بن خطل الأدرميّ إلى الكعبة ، فنزل عن فرسه وطرح سلاحه ودخل تحت ستار البيت! ولحقه رجل من بني كعب (بن عمرو من خزاعة فلم يقتله ولكنّه) أخذ سيفه وبيضته ومغفره ودرعه وصففه (الذي يلبس تحت الدرع). وأدرك فرسه فركبه ولحق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وتسابق إليه عمار بن ياسر وسعيد بن حريث المخزومي ، فسبق سعيد عمارا فقتله (٣).

وخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام يصيحان بالمشركين : يا معشر قريش! علام تقتلون أنفسكم؟! من دخل داره فهو آمن! ومن وضع السلاح فهو آمن! فجعل الناس يطرحون أسلحتهم في الطرقات ويقتحمون الدور ويغلقونها! وانهزم حماس بن قيس بن خالد الدّيلي البكري إلى بيته وقد ذهبت روحه ، فدقّه ، ففتحت امرأته الباب فدخل (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٦ ، ٨٢٧.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢٢٤. ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٨ وقال الواقدي : يقال : قتله عمار بن ياسر ويقال : سعيد بن حريث ويقال : شريك بن عبدة واثبته عندنا أبو برزة الأسلمي ٢ : ٨٥٩.

(٤) فقالت له تسخر به : ما زلت منتظرتك منذ اليوم ، فأين الخادم الذي وعدتني؟!

٢٢٣

وروى ابن اسحاق والواقدي بسندهما عن أسماء بنت أبي بكر عن عمتها قريبة ابنة أبي قحافة قالت : قال لي أبي وهو أعمى : أي بنية خذي بيدي إلى جبل أبي قبيس (لننظر ما يكون) فأشرفت به عليه ، فقال : أي بنيّة ما ذا ترين؟

قلت : أرى سوادا مجتمعا (بذي طوى) فقال : تلك الخيل. ثم تفرّق السواد فأخبرته فقال : فقد تفرقت الجيوش فالبيت! البيت! فنزلت به. وكان في عنقي طوق من فضة فتلقانا رجل ممن دخل مكة (من المسلمين) فاقتطعها من عنقي واختلسها (١).

جوار أمّ هانئ :

روى ابن اسحاق بسنده عن أبي مرّة مولى عقيل بن أبي طالب عن اخته أمّ هانئ ابنة أبي طالب زوج هبيرة بن أبي وهب المخزومي قالت : لما نزل رسول الله بأعلى مكة فرّ إليّ رجلان من أحمائي بني مخزوم (٢).

__________________

ـ قال : دعي عنك هذا واغلقي الباب! قالت : وما بابنا؟ قال : إنه لا يفتح على أحد بابه ، فانه من أغلق بابه فهو آمن. ثم قال شعرا :

إنك لو شهدت يوم الخندمة

إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة

وبو يزيد قائم كالموتمة

واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمة

ضربا ، فلا يسمع إلا غمغمة

لهم نهيت خلفنا وهمهمة

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

ويعني بأبي يزيد سهيل بن عمرو خطيب قريش وكاتبها في صلح الحديبية. مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٦ و ٨٢٧ والخبر الأخير في سيرة ابن هشام أيضا ٤ : ٥٠ ، ٥١ ويلحق هذه الأخبار عن موقع الخندمة التعليق السابق لعاتق بن غيث البلادي في معجم معالم مكة.

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٨ والواقدي في المغازي ٢ : ٨٢٤.

(٢) قال ابن هشام ٤ : ٥٢ هما : الحارث بن هشام وزهير بن أبي أميّة ، وقال الواقدي

٢٢٤

وقال المفيد في (الإرشاد) : وبلغ عليا عليه‌السلام : أن اخته أمّ هانئ قد آوت اناسا من بني مخزوم منهم : الحارث بن هشام وقيس بن السائب. فقصد نحو دارها مقنّعا بالحديد فنادى : أخرجوا من آويتم! فخرجت أمّ هانئ وهي لا تعرفه فقالت : يا عبد الله ، أنا أمّ هاني بنت عمّ رسول الله واخت عليّ بن أبي طالب ، انصرف عن داري. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أخرجوهم! فقالت : والله لأشكونّك إلى رسول الله! فنزع المغفر عن رأسه فعرفته ، فاشتدّت نحوه حتى التزمته وقالت : فديتك! حلفت لأشكونّك إلى رسول الله!

فقال لها : اذهبي فبرّي قسمك ، فانه بأعلى الوادي (١).

فروى الواقدي بسنده أيضا عن أبي مرّة مولى عقيل ، عن أمّ هانئ قالت : فذهبت إلى خباء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبطحاء فوجدت فيه فاطمة ، فقلت : ما ذا لقيت من ابن امّي عليّ! أجرت حموين لي من المشركين فتفلّت عليهما ليقتلهما! فقالت لي فاطمة : تجيرين المشركين! فكانت أشدّ عليّ من زوجها! إذ طلع رسول الله وعليه ثوب واحد وعليه آثار الغبار ، ورآني فعرفني وقال لي : مرحبا بفاختة أمّ هانئ!

فقلت له : ما ذا لقيت من ابن امّي عليّ! ما كدت انفلت منه! أجرت حموين لي من المشركين فتفلّت عليهما ليقتلهما (٢). فقالت فاطمة : يا أمّ هانئ إنما جئت تشتكين عليا في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد شكر الله لعليّ سعيه ، وأجرت من أجارت أمّ هانئ ، لمكانها من علي بن أبي طالب (٣).

__________________

ـ ٢ : ٨٢٩ : وعبد الله بن أبي ربيعة. أمّا زوجها هبيرة فقد هرب إلى نجران في اليمن وأقام هناك حتى مات مشركا سيرة ابن هشام ٤ : ٦٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٨٤٨ ، ٨٤٩.

(١) الإرشاد ١ : ١٣٧.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٠.

(٣) الإرشاد ١ : ١٣٨.

٢٢٥

ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا (١) فأفاض على نفسه الماء من جفنة يرى فيها أثر العجين ، ثم تحرى القبلة ، والوقت ضحى ، فصلى ثمان ركعات ، لم يركعها رسول الله قبل ذلك ولا بعده (٢).

نزول الرسول إلى بيت الله :

قالوا : اغتسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واطمأنّ في منزله ساعة من النهار ، وقد صفّ له الناس ، وخيل المسلمين تموج بين الحجون إلى الخندمة ، ثم دعا براحلته القصواء ، ولبس مغفره على رأسه ولبس سلاحه ثم ركب راحلته ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها .. والمشركون ينظرون إليه من فوق الجبال. فمرّ رسول الله حتى انتهى إلى الكعبة براحلته ، فاستلم الركن بمحجنه (٣) وكبّر ، فكبّر المسلمون وردّدوا التكبير حتى ارتجّت مكة بتكبيرهم حتى جعل رسول الله يشير إليهم أن يسكتوا.

وكان حول الكعبة ثلاثمائة صنم ، وستون صنما مرصّصة بالرصاص ، أعظمها هبل وجاه باب الكعبة. وبدأ رسول الله طوافه بالبيت على راحلته وبيده قضيب يشير به إلى كل صنم يمرّ به ويقول : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٤) ، ما يزيد رسول الله على أن يشير بالقضيب إلى الصنم (٥) فما أشار إلى

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٠.

(٢) فروع الكافي ١ : ١٢٥ ، ١٢٦ وكذلك في الواقدي ٢ : ٨٣٠ وفي ٨٦٨ كانت أم هانئ تحدث تقول : ما رأيت أحدا أحسن ثغرا من رسول الله وقد ضفر رأسه بأربع ضفائر.

(٣) المحجن : عود معوّج الطرف.

(٤) سورة الإسراء : ٨١.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣١ ، ٨٣٢.

٢٢٦

صنم منها في وجهه إلّا وقع لقفاه ، ولا أشار إلى قفاه إلّا وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم إلّا وقع (١).

وفي «الإرشاد» قال لأمير المؤمنين : يا علي أعطني كفا من الحصى. فقبض له أمير المؤمنين كفّا فناوله ، فرماها به وهو يتلو الآية ، فلما بقي منها صنم إلّا خرّ لوجهه. ثم أمر بها فاخرجت من المسجد وكسرت وطرحت (٢).

وروى الواقدي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : فلما فرغ من طوافه نزل عن راحلته ، وجاء معمر بن عبد الله بن نضلة فأخرج راحلته. وتوجّه رسول الله إلى مقام إبراهيم عليه‌السلام وهو يومئذ لاصق بالكعبة (٣) فصلى ركعتين وعليه الدرع والمغفر والعمامة.

__________________

(١) سعد السعود : ٢٢٠ عن تفسير الكلبي وتمامه : فجعل أهل مكة يتعجّبون ويقولون فيما بينهم : ما رأينا رجلا أسحر من محمد!

(٢) الإرشاد ١ : ٨٣٢. وروى ابن هشام عن فضالة بن عمير بن الملوّح الليثي أنه دنا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يطوف بالبيت يريد قتله ، فلما دنا منه قال له : أفضالة؟ قال : نعم. قال : ما ذا كنت تحدث به نفسك! قال : لا شيء ، كنت أذكر الله ، فضحك النبي ثم قال : استغفر الله. ثم وضع يده على صدره فما رفع يده عن صدره حتى ما كان شيء أحبّ إليه منه! سيرة ابن هشام ٤ : ٥٩. وحيث كان النبيّ في يوم الفتح يطوف راكبا فلا يتيسّر أن يضع يده على صدر الرجل ، اللهم إلّا أن يكون في طواف في يوم آخر بعد الفتح.

(٣) في خبر صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام في عمرة القضاء مرّ الخبر عن الكليني في فروع الكافي ٤ : ٢٢٣ ، الحديث ٢ والصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٥٨ ، الحديث ١٢ بسندهما عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه‌السلام عند جدار البيت ، فلم يزل هناك ، حتى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم ، فلما فتح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم عليه‌السلام.

٢٢٧

ورووا عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما القيت الأصنام كلها لوجوهها وقد بقي على البيت هبل الصنم الطويل ، فنظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا علي تركب علي أو أركب عليك لالقي هبل عن ظهر الكعبة؟ فقال علي : بل تركبني ، فلما جلس علي وصعد النبيّ على منكبه قال : بل أركبك يا رسول الله. فنزل وضحك وطأطأ ظهره وقال له : اصعد على منكبي ، فصعد على منكبه ثم نهض النبيّ به حتى صعد علي على الكعبة وتنحّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وكان صنم قريش الأكبر هبل من نحاس موتّدا بأوتاد إلى سطح الكعبة. فقال النبيّ لعلي : عالجه ، فما زال يعالجه ورسول الله يقول له : ايه ايه ايه! ثم قال له : دقّه ، فدقّه حتى كسره ،

__________________

وروى السجستاني في مسند عائشة : ٨٢ ، الحديث ٧٣ عن هشام بن عروة عن ـ أبيه عروة بن الزبير (عن خالته عائشة قالت): «كان رسول الله يصلي إلى صقع البيت ليس بينه وبين البيت شيء ، وأبو بكر ، وعمر صدرا من إمارته ، ثم إنّ عمر ردّ الناس إلى المقام» وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٥ : ٧٥ والأزرقي في أخبار مكة ٢ : ٣٠ وكذلك الفاكهي ١ : ٤٤٢ و ٤٥٤ وابن حجر في فتح الباري ٦ : ٤٠٦ و ٨ : ١٦٩ وابن كثير في التفسير ١ : ٣٨٤ وعبد الرزاق في المصنف ٥ : ٤٨. وتمام الخبر السابق عن الكليني والصدوق عن الباقر عليه‌السلام قال : «فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطّاب ، فسأل الناس : من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟! فقال رجل : أنا ، قد كنت أخذت مقداره بنسع (قيد من جلد) فهو عندي! فقال : ائتني به ، فأتاه به ، فقاسه ، ثم ردّه إلى هذا المكان».

وروى الكليني كذلك في روضة الكافي : ٥١ عن علي عليه‌السلام خطبة قال فيها :

«قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته! ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرّق عنّي جندي حتى أبقى وحدي .. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه‌السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله .. إذا لتفرّقوا عنّي ..».

٢٢٨

فقال له : اقذف به. فقذفه ، فتكسر كما تنكسر القوارير. ولما أراد أن ينزل علي ألقى بنفسه من صوب الميزاب تأدّبا وشفقة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما استقر على الأرض ضحك ، فسأله النبيّ عن تبسّمه فقال : لأني ألقيت بنفسي من هذا المكان الرفيع وما أصابني ألم ؛ فقال له النبيّ : كيف يصيبك ألم وقد رفعك محمد وأنزلك جبرئيل (١).

قال الواقدي : وكان أبو سفيان واقفا فقال له الزبير بن العوّام : يا أبا سفيان ، قد كسر هبل! أما انك كنت منه يوم احد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم! فقال له أبو سفيان : دع عنك هذا يا ابن العوّام ، فقد أرى لو كان مع إله محمد (كذا) غيره لكان غير ما كان (٢). ثم انصرف إلى بئر زمزم ومعه العباس بن عبد المطّلب ، فنزع له العباس أو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب دلوا منه ، فشرب منه (٢).

مفتاح الكعبة :

مرّ الخبر عن قدوم عثمان بن طلحة من بني عبد الدار مع عمرو بن العاص السهمي وخالد بن الوليد المخزومي من مكة إلى المدينة في هلال صفر سنة ثمان ،

__________________

(١) اخرج خبره امة من أئمة التاريخ والحديث ، ذكر الأمينيّ له أربعين مصدرا في الغدير ٧ : ١٠ ـ ١٣. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : هبل رمى به عليّ عليه‌السلام عن ظهر الكعبة لمّا علا ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر به فدفن عند باب بني شيبة ، فصار الدخول إلى المسجد من باب بني شيبة سنة لاجل ذلك ٢ : ٢٣٨ ط طهران و ١٥٤ ط النجف. وليس في السيرة شيء عن كسر هبل. واكتفى الواقدي بجملة مجملة قال فيها : ثم وقف على هبل فأمر بكسره فكسر وهو واقف عليه ومعه الزبير وأبو سفيان! ٢ : ٨٣٢ ولم يذكر عليا عليه‌السلام.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٢.

٢٢٩

وإسلامهم. وعثمان بن طلحة هو سادن الكعبة بعد أبيه طلحة ، الذي كان من حملة لواء المشركين ببدر والمقتول يومئذ. وقد ترك المفتاح بيد امّه وهي بنت شيبة المخزومي المقتول ببدر أيضا.

وقد روى الواقدي بسنده عن ابن عمر قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الفتح مكة على بعير ومعه بلال بن أبي رباح واسامة بن زيد وعثمان بن طلحة ، فلما بلغ رأس الثنيّة أنزل عثمان فأرسله إلى أمه ليأتيه بمفتاح الكعبة (١). ودخل رسول الله المسجد الحرام فطاف ، ثم انصرف فجلس في ناحية من المسجد والناس حوله (٢) ، ثم أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بمفتاح الكعبة (٣).

وروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن بشير النبّال عن الصادق عليه‌السلام قال : سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مفتاح الكعبة فقالوا : عند أمّ شيبة (بنت شيبة) فدعا بابنها (عثمان بن طلحة) وقال له : اذهب إلى امّك فقل لها ترسل بالمفتاح (٤). قال عثمان : نعم. وخرج إلى امّه فقال لها : يا أمه ، أعطني المفتاح فإنّ رسول الله قد أرسلني وأمرني أن آتيه به. فقالت له امّه (٥) : قتلت مقاتلتنا وتريد أن تأخذ منا مكرمتنا؟! فقال لها : لترسلنّ به أو لأقتلنّك! فوضعته

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٤.

(٢) فروى الواقدي عن عامر بن واثلة قال : كنت مع أمي يوم فتح مكة فرأيت رسول الله يمشي ويمشون حوله فمنهم من يقصر عنه ، ومنهم من هو أطول منه ، ولا أنسى شدة بياضه وسواد شعره. ٢ : ٨٦٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٢ ، ٨٣٣.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٢٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٣.

٢٣٠

في يد الغلام ، فجاء به إلى رسول الله فأخذه ، ودعا عمر فقال له : «هذا تأويل رؤياي من قبل»! ثم قام ففتحه (١) ومعه عثمان بن طلحة ، وبلال بن رباح ، واسامة بن زيد (٢) ووقف على الباب خالد بن الوليد يذبّ الناس عن الباب حتى خرج رسول الله ... وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة (٣).

فروى الواقدي بسنده عن اسامة بن زيد قال : لما دخلنا مع رسول الله الكعبة رأى فيها صورا ، فأمرني أن آتيه بدلو من الماء ، فأتيته به ، فأخذ ثوبا وجعل يبلّه ويضرب به الصور ويقول : قاتل الله قوما يصوّرون ما لا يخلقون. وروى عن الزهري : أنه رأى فيها صور الملائكة ، وصورة مريم ، وصورة ابراهيم عليه‌السلام شيخا كبيرا يستقسم بالأزلام! فقال : قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام! (٤) أو : جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن ابراهيم والأزلام! (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وأمر بتلك الصور كلها فطمست (٥) ووجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده وطرحها (٦) ثم جعل عمودين (من أعمدة البيت) عن يمينه وعمودا عن يساره وثلاثة وراءه (٧)

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٢٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٥ وعن الصادق عليه‌السلام ذكر اسامة فقط في التهذيب ١ : ٢٤٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٥.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٤ وفي قرب الأسناد : ٦١ عن الباقر عليه‌السلام ، أنه رأى فيه صورتين (لإبراهيم ومريم) فدعا بماء وثوب فبلّه ثم محاهما.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٥ ونحوه في فروع الكافي ١ : ٢٢٧ عن الصادق عليه‌السلام ، واليعقوبي ١ : ٦٠.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٤.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٥. وقريب منه عن الصادق عليه‌السلام في التهذيب ١ : ٢٤٥.

٢٣١

وجعل الباب خلف ظهره حتى كان بينه وبين الجدار قدر ثلاث أذرع (١) وصلى ركعتين. ثم خرج إلى الناس وقد اجتمعوا له.

خطبة الفتح ، والعفو العام :

فروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم أخذ رسول الله بعضادتي باب الكعبة فقال : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. ما ذا تقولون؟ وما ذا تظنّون؟ فقالوا : نقول خيرا ونظن خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانّي أقول كما قال أخي يوسف : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٢) ألا إن الله قد حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام بحرامه إلى يوم القيامة : لا ينفّر صيدها ، ولا يعضد شجرها ، ولا يختلى خلاها (٣) ولا تحل لقطتها إلّا لمنشد. فقال العباس : يا رسول الله إلّا الإذخر (٤) فانه للقبر وللبيوت. فقال رسول الله : إلّا الإذخر (٥).

أيها الناس ، ليبلّغ الشاهد الغائب : أنّ الله تبارك وتعالى قد أذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية والتفاخر بآبائها وعشائرها.

أيها الناس ، انّكم من آدم وآدم من طين.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٦. والغريب : أن الواقدي روى أن النبيّ بعث من البطحاء عمر بن الخطاب مع عثمان بن طلحة وأمره أن يتقدم فيفتح البيت فلا يدع فيه صورة إلّا محاها إلّا صورة إبراهيم! وعن الزهري : امسحوا ما فيها من الصور إلّا صورة إبراهيم!

(٢) يوسف : ٩٢.

(٣) يعضد : يقطع. الخلا : النبات الرطب. اختلى : اقتطع.

(٤) الإذخر : نبات طيّب الرائحة.

(٥) فروع الكافي ١ : ١٢٦.

٢٣٢

ألا وإنّ خيركم عند الله وأكرمكم عليه اليوم أتقاكم وأطوعكم له.

ألا وإنّ العربية ليست بأب والد ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه.

ألا وإنّ كل دم أو مظلمة أو إحنة كانت في الجاهلية فهي مطلّ تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة (١) إلّا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فانهما مردودتان إلى أهليهما.

ثم قال : ألا لبئس جيران النبيّ كنتم ، لقد كذّبتم وطردتم وأخرجتم وفللتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي فقاتلتموني! فاذهبوا فانتم الطلقاء! (٢).

وزاد ابن اسحاق : ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلّظة : مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها (٣).

وأضاف الواقدي : ولا وصية لوارث ، وإنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر. ولا يحلّ لامرأة تعطي من مالها إلّا باذن زوجها. والمسلم أخو المسلم والمسلمون اخوة وهم يد واحدة على من سواهم ، تتكافأ دماؤهم ، يردّ عليهم اقصاهم ويعقد عليهم أدناهم .. ولا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده. ولا يتوارث أهل ملّتين مختلفتين .. ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلّا في بيوتهم وبأفنيتهم. ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها. والبيّنة على من ادّعى واليمين على من انكر .. ولا صلاة بعد الصبح وبعد العصر. وانهاكم عن صيام يومين : يوم الأضحى ويوم الفطر (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ١٣٧ و ١٣٨ عن روضة الكافي وكتاب المؤمنين للحسين بن سعيد الأهوازي ، مخطوط وإعلام الورى ١ : ٢٢٥.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٢٦ وقصص الأنبياء : ٣٥٠. والمناقب للحلبي ١ : ٢٠٩ وذكر ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥٤ ، ٥٥ : اذهبوا فأنتم الطلقاء واليعقوبي ١ : ٦٠ ، ولم يروه الواقدي!

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٤.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٦ ، ٨٣٧. وانظر مصادر الكتاب والبحث فيه في كتاب

٢٣٣

فروى الطبرسي في «إعلام الورى» في خبر أبان عن بشير النبّال عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم دعا الغلام (عثمان بن طلحة وقال له : ابسط رداءك) فبسط رداءه فجعل مفتاح الكعبة فيه وقال : ردّه إلى امّك (١).

وروى ابن اسحاق قال : ثم جلس رسول الله في المسجد ومفتاح الكعبة في يده ، فقام إليه علي بن أبي طالب فقال له : يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك (فلم يجبه) وقال : اين عثمان بن طلحة! فدعي له فقال : هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم برّ ووفاء (٢).

وزاد الواقدي عن عثمان قال : فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر ثم قال : خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها إلّا ظالم ، يا عثمان ، إنّ الله استأمنكم على بيته .. فقم على الباب وكل بالمعروف. وأعطاه المفتاح وهو مضطجع في ثيابه ، وقال للناس : أعينوه. وجاء خالد بن الوليد فقال له رسول الله : يا خالد ، لم قاتلت وقد نهيت عن القتال!

فقال : يا رسول الله ، انهم بدءونا بالقتال ، رشقونا بالنبل ووضعوا فينا السلاح ، وقد كففت ما استطعت ، ودعوتهم إلى الإسلام وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس ، فأبوا حتى إذا لم أجد بدّا قاتلتهم ، فظفّرنا الله عليهم وهربوا في كل وجه يا رسول الله! فقال رسول الله : قضى الله خيرا! ثم قال رسول الله : كفّوا السلاح إلّا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر. وهي الساعة التي احلّت لرسول الله لم تحل لأحد قبله (٣) فقتلت خزاعة جمعا من بني بكر قصاصا قبل صلاة العصر.

__________________

ـ مكاتيب الرسول ١ : ٥٤ و ٢ : ٥٢١ ـ ٥٢٥.

(١) إعلام الورى ١ : ٢٢٥.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٨ ، ٨٣٩. وروى عن عطاء بن أبي رباح الخراساني مولى

٢٣٤

ثم أذّنوا لصلاة الظهر :

فروى الطبرسي في «إعلام الورى» في خبر أبان عن بشير النبّال عن الصادق عليه‌السلام قال : ودخل وقت (الظهر (١)) فأمر رسول الله بلالا فصعد على الكعبة وأذّن .. فقال عكرمة : والله إن كنت لأكره صوت ابن رباح ينهق على الكعبة! وقال (عتاب) (٢) بن اسيد أخو عتّاب : الحمد لله الذي أكرم أبا عتّاب من أن يرى هذا اليوم ابن رباح قائما على الكعبة! وكان أقصدهم سهيل بن عمرو إذ قال : هي كعبة الله وهو يرى ولو شاء لغيّر! (٣). وقال أبو سفيان : أما أنا فلا أقول شيئا ، والله لو نطقت لظننت أن هذه الجدر تخبر به محمدا (كذا) (٤).

وزاد ابن هشام : انهم كانوا بفناء الكعبة ، فخرج عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : قد علمت الذي قلتم. ثم ذكر ذلك لهم! فقال الحارث بن هشام وعتّاب بن اسيد : والله ما اطّلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك ، فنحن نشهد أنك رسول الله (٥).

وفي خبر أبان قال : قال عتّاب : يا رسول الله ، قد والله قلنا ذلك ،

__________________

ـ ابن عباس قال : جاء يوم الفتح رجل إلى النبيّ وقال : إنّي نذرت ان فتح الله عليك مكة أن اصلي في بيت المقدس. فقال النبيّ : هاهنا أفضل ، فاعاد الرجل مقاله فقال رسول الله : والذي نفسي بيده لصلاة هاهنا أفضل من ألف فيما سواه من البلدان ٢ : ٨٦٦.

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٩٨ ، الحديث ١٥٨ و ١٦٢ ، والحديث ٢٥٢ وكذلك في مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٧ ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٣٢٨ وفي الخبر : العصر.

(٢) في المصدر : خالد ، ثم يذكر اعتذار عتّاب كسائر المصادر.

(٣) وسيأتي أنه دخل داره حتى أجاره النبيّ ، فلعل هذا كان بعد جواره.

(٤) أليس كان قد أسلم؟ فكيف يحضرهم ويقول هكذا؟!

(٥) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٦.

٢٣٥

فنستغفر الله ونتوب إليه ، وأسلم. فولّاه رسول الله مكة (١).

ورواه الواقدي بسنده عن ابن المسيّب قال : لما أذّن بلال رفع صوته كأشدّ ما يكون ، فلما بلغ إلى قوله : «أشهد أنّ محمدا رسول الله» قال خالد بن اسيد : الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام : وا ثكلاه! ليتني متّ قبل هذا اليوم ولا أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة! وقال الحكم بن أبي العاص : هذا والله الحدث العظيم أن يصيح عبد بني جمح على بنيّة أبي طلحة! وقال سهيل بن عمرو : إن كان هذا يسخط الله فسيغيّره وإن كان يرضيه فسيقرّه! وقال أبو سفيان (؟!) : أمّا أنا فلا أقول شيئا لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء! وكانوا قد تغيّبوا فوق رءوس الجبال خوف أن يقتلوا (٢) وأتى جبرئيل عليه‌السلام رسول الله فأخبره خبرهم (٣).

اليوم الثاني والخطبة فيه :

مرّ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل المسجد الحرام فطاف بالبيت ثم دخله ثم خطب الناس ، ثم صلى الظهر ثم قال : يا معشر المسلمين! كفّوا السلاح إلّا خزاعة عن

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٢٦ والخرائج والجرائح ١ : ٩٨ ، الحديث ١٥٨ و ١٦٣ ، والحديث ٢٥٢.

(٢) فما محلّ أبي سفيان منهم؟! فان دلّ هذا فعلى ما ذا يدلّ؟!

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٦ ومرّ خبر مثله ، عنه في عمرة القضاء عن سعيد بن المسيب ، وهو الأنسب. وروى بسنده عن الزهري : أنّ رسول الله أقام بمكة خمس عشرة يوما ـ وفي خبر آخر عشرين ليلة ـ يصلي ركعتين ، أي قصرا ٢ : ٨٧١. وروى الطوسي في التبيان ٣ : ٤٤٨ عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر : يا رسول الله صنعت شيئا ما كنت تصنعه؟ قال : عمدا فعلته يا عمر! وعنه في مجمع البيان ٣ : ٢٥٣.

٢٣٦

بني بكر إلى صلاة العصر (١) فبدخول صلاة العصر انتهت الساعة التي أحلّها رسول الله لخزاعة على بني بكر قصاصا.

وكان من ثارات خزاعة من غير بني بكر ، من هذيل إذ كانوا قد أغاروا في الجاهلية على حيّ بني أسلم من خزاعة يقودهم جنيدب بن الأدلع الهذلي ، وقتل هذا شجاعا من بني أسلم من خزاعة يدعى أحمر بأسا. فكأنّه أمن بأمان الإسلام فدخل مكة في الغد من يوم الفتح (٢) أي بعد الفتح بيوم ، والناس آمنون ، يرتاد وينظر (٣) ويسأل عن أمر الناس ، وهو على شركه (٤) فاجتمع حوله جمع من الناس ليحدثهم عن قتله أحمر بأسا وغارته على بني أسلم من خزاعة. فرآه جندب بن الأعجم الأسلمي الخزاعي فقال له : أنت جنيدب بن الأدلع قاتل أحمر بأسا؟! قال : نعم (٥) أنا قاتل أحمر ، فمه؟!

فانطلق جندب فلقي خراش بن أميّة الكعبي الخزاعي فأخبره واستجاشه عليه ، فاشتمل خراش على السيف وأقبل معه إليه ، فرآه مستندا إلى الجدار والناس حوله وهو يحدثهم ، فصاح بالناس : هكذا عن الرجل! فانفرجوا عنه ، فحمل عليه خراش بالسيف فطعنه في بطنه فسالت أحشاؤه وقال : أقد فعلتموها يا معشر خزاعة؟! ثم وقع ميّتا. وبلغ ذلك رسول الله فقال يلوم خراش : إنّ خراشا لقتّال!

وروى ابن اسحاق بسنده عن أبي شريح الخزاعي قال : لما عدت خزاعة على

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٨ ، ٨٣٩.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٣.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٧.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٣ وفي السيرة : تارة : ابن الأثوع واخرى ابن الأكوع.

٢٣٧

الهذلي فقتلوه وهو مشرك في الغد من يوم الفتح قام فينا خطيبا (١) فهي خطبة الغد من يوم الفتح بعد صلاة الظهر ، قال :

«يا أيها الناس ، إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام من حرام ، إلى يوم القيامة ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيه دما ، ولا يعضد فيها شجرا. لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحلّ لأحد يكون بعدي ، ولم تحلل لي إلّا ساعة من نهار (٢) غضبا على أهلها! ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس ، فليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، فمن قال لكم : إنّ رسول الله قد قاتل فيها فقولوا : إنّ الله قد أحلّها لرسوله ولم يحللها لكم. يا معشر خزاعة! ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر القتل إن نفع. وقد قتلتم قتيلا لأدينّه. فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين : إن شاءوا فدم قاتله ، وإن شاءوا فعقله».

ثم ودى رسول الله ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة بمائة ناقة (٣).

وروى الواقدي بسنده عن عمران بن الحصين أن النبيّ قال : لو كنت قاتلا مؤمنا بكافر لقتلت خراشا بالهذلي. ثم أمر رسول الله خزاعة يخرجون ديته ، فأخرجت خزاعة ديته ، وفيها غنم بيض من بني مدلج من خزاعة بدلا من الإبل (٤).

ثم بعث رسول الله تميم بن أسد الخزاعي إلى أنصاب الحرم ليجدّدها ، وهي الأنصاب التي جدّدها من قبل قصي على آثار أنصاب اسماعيل بن ابراهيم عليهما‌السلام وهي بتعليم جبرئيل لإبراهيم عليهما‌السلام (٥).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٤ وإلى هنا في فروع الكافي ١ : ٢٢٨.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٢.

٢٣٨

خبر سفير الصلح :

كان سفير مشركي قريش للصلح مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبية : سهيل بن عمرو المخزومي المشرك أبا عبد الله المسلم ، فأين هو اليوم؟

روى الواقدي بسنده عنه قال : لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة منتصرا (ونادى مناديه : من دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن) دخلت داري وأغلقت عليّ بابي (١) .. وأخذت أتذكر أثري عند محمد وأصحابه فليس أحد أسوأ أثرا منّي. وأني لقيت رسول الله يوم الحديبية بما لم يلقه به أحد ، وكنت أنا الذي كاتبته ، بالإضافة إلى حضوري بدرا واحدا ، وكلّما تحركت قريش كنت فيها ، فلم آمن من أن اقتل! (وكان ابني عبد الله مع رسول الله) فارسلت إليه أن يطلب لي من محمد جوارا! فذهب ابني عبد الله إلى رسول الله وقال له : يا رسول الله تؤمّن سهيل بن عمرو؟ قال : نعم ، هو آمن بأمان الله ، فليظهر. ثم قال لمن حوله : من لقي سهيل بن عمرو فلا يشدّ النظر إليه ، فليخرج ، فلعمري إنّ سهيلا له عقل وشرف ، وما مثل سهيل يجهل الإسلام ، ولقد رأى أن ما كان يوضع فيه لم يكن بنافع له. فخرج إليّ ابني يخبرني بمقالة رسول الله ، فقلت : كان والله برّا صغيرا وكبيرا. وأخذت اقبل وادبر وأنا على شركي (٢).

__________________

(١) هذا وقد مرّ عن الواقدي نفسه خبر مقاله عند سماعه أذان بلال مع رجال قريش في رءوس الجبال ، فلعل ذلك كان بعد هذا.

(٢) وتمامه : وخرجت مع النبيّ إلى حنين وأنا على شركي حتى أسلمت بعد ذلك في الجعرّانة. مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٧ وعليه فلم يكن حاضرا في خطبة الفتح ، وقد جاء في خبر الطبرسي عن أبان عن بشير النبّال : أن الذي قال : أخ كريم وابن أخ كريم ، هو سهيل بن عمرو ، وكذلك في تاريخ اليعقوبي ١ : ٦٠ فلا يصح هذا.

٢٣٩

واختفى حويطب بن عبد العزّى في حائط عوف ، ودخله أبو ذر الغفاري لحاجته ، فلما رآه حويطب هرب ، فناداه أبو ذر : تعال ، أنت آمن! فرجع إليه ، فسلّم عليه أبو ذر وقال له : أنت آمن ، فإن شئت فاذهب إلى منزلك وإن شئت أدخلتك على رسول الله. فقال حويطب : وهل لي سبيل إلى منزلي! القى فاقتل قبل أن أصل إلى منزلي ، أو يدخل عليّ منزلي فاقتل! فقال أبو ذر : فأنا أبلغ معك إلى منزلك. فبلغ معه إلى منزله ، ثم جعل ينادي على بابه : إنّ حويطبا آمن فلا يهجم عليه. ثم انصرف أبو ذر إلى رسول الله فأخبره خبره ، فقال : أوليس قد أمّنّا كلّ الناس إلّا من أمرت بقتله (١).

وممّن أمر بقتله :

وكان ممّن أمر بقتله رسول الله : مقيس بن صبابة الليثي ، وكانت امّه من بني سهم فاختفى فيهم ، وتتّبع أخباره نميلة بن عبد الله الليثي حتى علم بمكانه في بني سهم ، فأتاه ودعاه ، وكان قد تنادم الخمرة فهو ثمل ومع ذلك خرج إليه ، وكأنّ الدار التي آوى إليها كانت بين الجبلين الصفا والمروة ، فخرج وهو يغنّي بشعر ، فضربه نميلة بسيفه ، ورآه المسلمون فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه (٢) فهو خامس من قتل من الرجال والنساء : عبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي ، وحويرث بن نقيذ ، ومقيس بن صبابة هذا مع إحدى قينتي ابن خطل ، وسارة مولاة عمرو بن هاشم. أما هند بنت عتبة فقد أسلمت كما يأتي ، وأسلمت أمّ حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل المخزومي فاستأمنت له فأمّنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يأتي ، وعبد الله بن سعد بن أبي

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٩ ، ٨٥٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٠ ، ٨٦١ وقد سبقت الإشارة إلى سبب هدر دمه في دخول مكة.

٢٤٠