موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

ولكن لست آمن إذا حلّ أحدكم الكفن عن ولده أن يلعب به الشيطان فيدخله عند ذلك من الجزع ما يحبط أجره (١).

وروى الطوسي في «الأمالي» بسنده عن عائشة قالت : لما مات إبراهيم ، بكى النبي حتى جرت دموعه على لحيته ، فقيل له : يا رسول الله تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس هذا بكاء ، إنّما هذا رحمة ، ومن لا يرحم لا يرحم (٢).

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هملت عين رسول الله بالدموع ثم قال : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ ، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون (٣).

ثم رأى النبي في قبره خللا فسوّاه بيده ثم قال : إذا عمل أحدكم عملا فليتقن. ثم قال له : الحق بسلفك الصالح عثمان بن مظعون (٤) اذ كان قبره الى قبر ابن مظعون.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٨٧ والتنبيه والاشراف : ٢٣٨.

(٢) أمالي الطوسي : ٣٨٨ ح ٨٥٠ / ١٠١.

(٣) وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ٨٧.

وفي تفسير القمي بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : لما هلك إبراهيم ابن رسول الله حزن عليه رسول الله حزنا شديدا ، فقالت له عائشة : ما الذي يحزنك عليه ، فما هو إلّا ابن جريج!

فبعث رسول الله عليا وأمره بقتله ، فذهب علي إليه ومعه السيف ، وكان جريج القبطي في حائط ، فضرب علي عليه‌السلام باب البستان فأقبل إليه ليفتح الباب ولكنّه لما رأى عليا عرف في وجهه الشر فلم يفتح الباب وأدبر راجعا ، فوثب علي على الحائط ونزل الى البستان واتّبعه ، وولّى جريج مدبرا ، فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة وصعد علي في أثره فلما دنا منه رمى جريج بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء ، فقال النبي : الحمد لله الذي صرف عنّا السوء أهل البيت. تفسير القمي ٢ : ٩٩.

(٤) فروع الكافي ٣ : ٢٦٢ و ٢٦٣ ، الحديث ٤٥.

٥٦١

وقد مرّ النصّ على أن نصارى نجران عليهم أن يؤدّوا ألف حلّة جزية في شهر صفر ، ثم ألفا آخر في شهر رجب ، ولم يستثنوا صفر الأول ، وهذا يعني بفاصل شهرين عن المعاهدة. ولا نجد نصّا على أمر خالد باستلامها ، ولكنّا نظنّ ذلك ، إذ لم يذكر غيره لذلك يومئذ فيما يلي :

اسلام سائر العرب بنجران :

قال ابن اسحاق : في سنة عشر للهجرة في شهر ربيع الآخر بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن الوليد الى بني الحارث بن كعب بنجران ، وأمره أن يدعوهم الى الاسلام ثلاثا فإن استجابوا يقبل منهم وإن لم يفعلوا يقاتلهم ، وإن أسلموا يقيم فيهم يعلّمهم كتاب الله وسنّة نبيّه ومعالم الإسلام. فلما وصل إليهم خالد بعث ركبانا ينادون : أيها الناس ، أسلموا تسلموا ، فأسلموا.

فكتب خالد الى رسول الله : «بسم الله الرحمن الرحيم ، لمحمد النبي رسول الله من خالد بن الوليد. السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد : يا رسول الله صلّى الله عليك ، فإنّك بعثتني الى بني الحارث بن كعب وأمرتني إذا أتيتهم : أن لا اقاتلهم الى ثلاثة أيام وأدعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا قبلت منهم وأقمت فيهم وعلّمتهم كتاب الله وسنّة نبيّه ومعالم الإسلام ، وإن لم يسلموا اقاتلهم. وإنّي قدمت عليهم فدعوتهم الى الاسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله بعثت فيهم ركبانا قالوا : يا بني الحارث أسلموا تسلموا. فأسلموا. وأنا مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به ، وأنهاهم عمّا نهاهم الله عنه ، واعلّمهم معالم الاسلام وسنّة النبيّ ، حتى يكتب إليّ رسول الله ، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته».

فكتب إليه رسول الله : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمد النبيّ رسول الله

٥٦٢

الى خالد بن الوليد ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد : فإن كتابك جاءني مع رسولك ، تخبر : أنّ بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم ، وأجابوا الى ما دعوتهم إليه من الاسلام وشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبد الله ورسوله ، وأن قد هداهم الله بهداه فبشّرهم وأنذرهم ، وأقبل ، وليقبل معك وفدهم ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» (١).

اسلام بني نمير :

وروى عمر بن شبّة (م ٢٦٢ ه‍) في كتابه «تاريخ المدينة المنوّرة» عن أشياخ من بني نمير النجديّين عن آبائهم : أنّهم وفدوا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليسلموا فيسلموا من خالد بن الوليد ، فدنا منه شريح بن الحارث فأسلم وقال : آخذ أمانا ، قال لمن تأخذ؟

قال : آخذ لبني نمير كلّها ، قال : إني بعثت خالد بن الوليد الى أهلكم ، وهذه براءتكم ، فكتب إليه كتابا فيه : إذا أتاك كتابي هذا فانصرف الى أهل العمق من أهل اليمامة ، فإن بني نمير قد أتوني فأسلموا وأخذوا لقومهم أمانا.

فانطلق قرة وشريح النميريان حتى قدما على خالد ودفعا إليه كتاب رسول الله على رءوس الناس ، فقال خالد : أما والله حتى تتلقوني بالأذان فلا! فأتوا قومهم فأمروهم أن يتلقوا خالدا بالأذان ففعلوا. فانصرف عنهم الى أهل العمق فوقع بهم فقتلهم حتى سال واديهم دما.

وانصرف قرة وشريح بن الحارث الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى قدما عليه فاستعمل شريحا على قومه وأمره أن يصدّقهم ويزكيهم ويعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيّهم (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٩ ، ٢٤٠ ، ونقله في بحار الأنوار ٢١ : ٣٧٠ عن المنتقى. وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥١٠ ـ ٥١٥.

(٢) تاريخ المدينة المنورة ٢ : ٥٩٦ ، وعنه في مكاتيب الرسول ٢ : ٥١٦ ـ ٥١٩.

٥٦٣

وقاتل خالد في البحرين :

وروى الصدوق بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد بعث خالد بن الوليد الى البحرين (وكان قد عهد إليه في دماء المعاهدين من اليهود والنصارى ولم يعهد إليه في المجوس) فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس ، فكتب الى رسول الله : «إنّي أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة ، وأصبت دماء قوم من المجوس ، ولم تكن عهدت إليّ فيهم عهدا».

فكتب إليه رسول الله : «إنّ ديتهم مثل دية اليهود والنصارى ، فإنّهم أهل كتاب» (١).

سريّة علي عليه‌السلام الى اليمن :

على ما مرّ كان خالد بن الوليد المخزومي مبعوثا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البحرين وقاتل فيها جمعا من أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس ، وانصرف

__________________

(١) كتاب من لا يحضره الفقيه ٤ : ١٢١ والاستبصار ٤ : ٢٦٨ والتهذيب ١٠ : ١٨٦.

قال ابن اسحاق : ثم أقبل خالد الى رسول الله ومعه وفد بني الحارث بن كعب منهم قيس بن الحصين ، فلما قدموا عليه في شهر شوال قيل له : يا رسول الله ، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب ، ولما وقفوا عليه سلموا عليه وقالوا : نشهد أنّك رسول الله وأنّه لا إله إلّا الله ... حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله. قال : صدقتم. ثم قال : بم كنتم تغلبون في الجاهلية من قاتلكم؟ قالوا : كنّا نغلب من قاتلنا ـ يا رسول الله ـ انّا كنّا نجتمع ولا نتفرّق ولا نبدأ أحدا بظلم. قال : صدقتم ، ثم أمّر عليهم قيس بن الحصين. فرجعوا الى قومهم في أواخر شهر شوّال أو أوائل شهر ذي القعدة الحرام.

ولا نجد نصّا على جباية خالد بجزية نجران في شهر رجب ، كما مرّ ، ولكن إذ كان رجوعه الى المدينة من نجران بعد شهر رجب ـ كما يأتي ـ فنظن ذلك ، إذ لم يذكر غيره.

٥٦٤

بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بني نمير الى أهل العمق من اليمامة وقاتلهم حتى سال واديهم دما ، والى غير النصارى من بني الحارث بن كعب بنجران ولكنّهم أسلموا ووفدوا معه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمره في كتابه إليه : «فبشّرهم وأنذرهم وأقبل ، وليقبل معك وفدهم».

وأفاد المفيد في «الارشاد» : ما أجمع عليه أهل السير : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث خالد بن الوليد الى أهل اليمن (؟) يدعوهم الى الإسلام ، فأقام خالد على القوم ستّة أشهر (من ربيع الآخر الى آخر رمضان أو أوائل شوّال) فلم يجبه أحد منهم (كذا!) فساء ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأمره أن يقفل خالدا وإن أراد أحد ممن مع خالد أن يعقّب معك فاتركه (١) بلا تاريخ. إلّا أن الواقدي قيّد ذلك بشهر رمضان من العاشرة للهجرة (٢).

ولكن المفيد إذ لم يؤرّخ لذلك زاد على المقصد السابق أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كان قد أنفذه الى اليمن ليخمّس ركازها (٣) ويقبض على ما وافق عليه أهل نجران من الحلل والعين وغير ذلك (٤) ، هذا وقد أسلف قبلها بصفحة في كتاب صلحهم : ألفي حلة من حلل الأواقي يؤدون ألفا منها في صفر ، وألفا منها في رجب (٥) فهل كان إيفاده لشهر صفر أم لشهر رجب؟

اللهم إلّا أن يقال إنّه كان مأمورا بقبض ذلك من خالد ، بعد أن قبضها خالد منهم في آخر شهر رجب ثم قبضها منه علي عليه‌السلام في أواخر شهر رمضان أو أوائل شهر شوّال ، كإبداء كراهية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كيفيّة عمل خالد في قتل الناس من أهل الكتاب وغيرهم.

__________________

(١) الارشاد ١ : ٦١ ، ٦٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٩.

(٣) الركاز : ما ارتكز في الأرض من الكنز.

(٤) الارشاد ١ : ١٧١.

(٥) الارشاد ١ : ١٦٩.

٥٦٥

وزاد المفيد في مقاصد إيفاده عليه‌السلام قال : أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إيفاده الى اليمن ليعلّمهم الأحكام ، ويعرّفهم الحلال والحرام ، ويحكم فيهم بأحكام القرآن والإسلام ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا رسول الله ، تنفذني للقضاء وأنا شاب ولا علم لي بكل القضاء؟ فقال له : ادن منّي. فدنا منه فضرب بيده على صدره وهو يقول : اللهم اهد قلبه ، وثبّت لسانه (١) وفهّمه القضاء ، وقال له : إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتى تسمع من الآخر ، فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء (٢).

وقال له : يا علي ، لا تقاتلنّ أحدا حتى تدعوه ، وايم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه يا علي (٣) يعني تكون واليه ووارثه إذا لم يكن له وارث مسلم (٤). فهو وارث من لا وارث له وكيلا من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال له : يا علي ، اوصيك بالدعاء فإن معه الإجابة ، وبالشكر فإنّ معه المزيد ، وإيّاك أن تخفر عهدا أو تعين عليه ، وأنهاك عن المكر ، فإنّه «لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله ، وأنهاك عن البغي ، فإنّه من بغي عليه لينصرنّه الله» (٥).

ثم أمره أن يعسكر بقباء ، فعسكر بها حتى يجتمع معه أصحابه. ثم عقد له

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٩٤ ، ١٩٥ وبهامشه مصادر عديدة ، وإعلام الورى ١ : ٢٥٨ وبهامشه مصادر اخرى كثيرة.

(٢) كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٣ ح ٣٢٣٨ ، ط. الغفّاري ، وفي البداية والنهاية : أنّه قالها له ذلك عند بعثه الى اليمن ، كما عنه في سيرة المصطفى : ٦٧٩.

(٣) الكافي ٥ : ٨ ب ١ ح ١٤ و: ٣٦ ب ١٤ ح ٤ ، والفقيه ٢ : ١٧٣ ب ٦٧ ح ٢ ، والتهذيب ٦ : ١٤١ ب ٦٢ ح ٢.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٣٦١.

(٥) أمالي الطوسي : ٥٩٧ ح ١٢٣٩.

٥٦٦

رسول الله يومئذ لواء : أخذ عمامة فلفّها مثنّية مربّعة فجعلها في رأس الرمح ثم دفعها إليه وقال : هكذا اللواء! وعمّمه عمامة ثلاثة أكوار ، وجعل منها ذراعا بين يديه ، وشبرا من ورائه ، وقال : هكذا العمّة.

ثم قال له : إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك ، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا ، فإن قتلوا منك قتيلا فلا تقاتلهم حتى تقول لهم : هل لكم الى أن تقولوا : لا إله إلّا الله؟ فإن قالوا : نعم ، فقل : هل لكم أن تصلّوا؟ فإن قالوا : نعم : فقل لهم : هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردّونها على فقرائكم؟ فإن قالوا : نعم ، فلا تبغ منهم غير ذلك ، والله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلع عليه الشمس أو غربت!

ثم خرج في ثلاثمائة فارس الى أرض مذحج (١) الى جمع من زبيد وغيرهم (٢).

اسلام همدان :

وحيث قال النبي لعلي عليه‌السلام : إن أراد أحد ممن مع خالد أن يعقب معك فاتركه ، وكان ممن مع خالد البراء بن عازب الأنصاري فتعقّب عن خالد مع علي عليه‌السلام.

فروى عنه المفيد قال : بلغ الخبر همدان فتجمّعوا له ، فصلّى بنا علي عليه‌السلام الفجر ، ثم تقدّم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأسلم كل همدان في يوم واحد.

وكتب أمير المؤمنين بذلك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما قرئ كتابه ابتهج واستبشر

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٢.

٥٦٧

وخرّ ساجدا شكرا لله عزوجل ثم رفع رأسه فجلس ، وقال : السلام على همدان ، السلام على همدان.

وبعد إسلام همدان تتابع أهل اليمن على الإسلام (١).

وبنو زبيد بأرض مذحج :

قال الواقدي : قالوا : لما انتهى الى أرض مذحج فرّق أصحابه قبل أن يلقاهم جمع ، فرجعوا إليه بغنائم من نعم وسبي ، فجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب.

ثم لقي جمعا منهم ، فدعاهم الى الإسلام فأبوا ، فدفع لواءه الى مسعود بن سنان السلمي ، فبرز رجل من مذحج يدعو الى البراز ، فبرز إليه الأسود السلمي وهما فارسان فتجاولا ساعة حتى قتل الأسود الرجل وأخذ سلبه.

ثم حمل عليهم علي عليه‌السلام بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا ، فتركوا لواءهم قائما وانهزموا وتفرّقوا ، فكفّ عن تعقيبهم ، ثم دعاهم الى الإسلام فسارعوا بالاجابة وتقدّم نفر من رؤسائهم فبايعوه وقالوا : نحن على من وراءنا من قومنا ، وهذه أموالنا فخذ منها حق الله (٢).

__________________

(١) الارشاد ١ : ٦٢. ونحوه في التنبيه والاشراف : ٢٣٨. وعليه فإسلام أهل اليمن تتابع بعد إسلام همدان ، وإسلام همدان كان على يد علي عليه‌السلام في شهر رمضان ولعلّه كان في العشر الأخير منه في السنة العاشرة ، وقد مرّ سابقا استبعاد ما أفاده ابن اسحاق من نقل كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الحارث بن عبد كلال بوصفه ملك اليمن (٤ : ٢٥٥) وقبله نقل جواب النبي لكتابه وكتاب أخويه النعمان ونعيم بوصفهم أمراء معافر وذي رعين وهمدان (٤ : ٢٣٥) محتويا على إسلام همدان وقتالهم مع المشركين لديهم ، مما يظنّ به أنّه اريد منه أن يكون بديلا عن هذا الخبر المعتبر عن إسلام همدان مع علي عليه‌السلام ، ولا سيّما مع ذكر ذلك دون هذا.

وابن الأثير ذكر ذلك في السنة العاشرة ، وأشار إليه المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٩ ، ١٠٨٠.

٥٦٨

فلما ظهر علي عليه‌السلام على عدوّه ودخلوا في الإسلام ، جمع ما غنم منهم وأضافه الى بريدة بن الحصيب ، وأقام بين أظهرهم ، وكتب الى رسول الله كتابا يخبره فيه : أنّه لقي جمعا من زبيد وغيرهم ، فدعاهم الى الاسلام وأعلمهم أنّهم إن أسلموا كفّ عنهم ، فأبوا ذلك ، فقاتلهم «فرزقني الله الظفر عليهم حتى قتل من قتل منهم ثم أجابوا الى ما كان عرض عليهم فدخلوا في الإسلام ، وأطاعوا بالصدقة ، وأتى بشر منهم فعلّمتهم قراءة القرآن» وبعث به إليه مع عبد الله بن عمرو المزني.

ورجع عبد الله المزني إليه بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه أن يوافيه في الموسم (١).

وكان من قبله من امراء العساكر ينفّلون أصحابهم ويعطونهم من الخمس ، فلما يخبرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك لا يستردّه منهم ، فطلبوا مثل ذلك من علي عليه‌السلام فأبى وقال : الخمس أحمله الى رسول الله وهذا هو يوافي الموسم ونلقاه ، فيصنع فيها ما أراه الله. وجمع عليه‌السلام ما أصاب من تلك الغنائم فجزأها خمسة أجزاء فأقرع عليها وكتب في سهم منها : لله ، فخرج أول السهام سهم الخمس (٢).

وروى الواقدي عن أبي سعيد الخدري أنّه كان مع علي عليه‌السلام باليمن فقال : كان يأخذ الصدقات يأمر من يسعى بذلك عليهم ، وكان يأتيهم في أفنيتهم ، وكان يقعد فما اتي به من شاة فيها وفاء له أخذه ، ولا يفرّق الماشية ولا يكلّف الناس مشقّة ، فيأخذ البعير من الابل ، والبقرة من البقر ، والشاة من الغنم ، والزبيب من الزبيب ، والحبّ من الحبّ ، ويقسّمه على فقرائهم من هاهنا وهاهنا ، يعرفهم.

__________________

(١) المصدر السابق ٢ : ١٠٨١ ، ١٠٨٢. وفيه أن كعب الأحبار لما بلغه قدوم علي عليه‌السلام الى اليمن أقبل إليه فوافاه وسمع بعض خطبه فصدّقه ، ثم استخبره عن صفة النبيّ فأخبره فتبسّم وقال : يوافق ما عندنا من صفته ، ثم سأله عمّا يحلّ ويحرّم ، فأخبره فقال : هو عندنا كما وصفت ، وصدّق به وآمن.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٠.

٥٦٩

وروى عن رجاء بن حيوة : أنّه عليه‌السلام قضى في دية النفس على أهل الابل مائة من الابل ، وعلى أهل البقر مائتي جذعة أو مائتي بقرة نصفها تبيع ونصفها مسان ، وعلى أهل الغنم ألفي شاة (كذا) وعلى أهل الحلل ألفي ثوب معافرية (١).

من قضايا علي عليه‌السلام في اليمن :

قال المفيد في «الارشاد» : لما استقرت به الدار باليمن ونظر فيما ندبه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من القضاء والحكم بين المسلمين ، رفع إليه رجلان بينهما جارية يملكان رقّها على السواء ، فلقرب عهدهما بالاسلام وقلّة معرفتهما بما تضمّنته الشريعة من الأحكام جهلا حظر وطئها بل ظنّا جواز ذلك ، فوطئاها معا في طهر واحد ، فحملت الجارية ووضعت غلاما ، فاختصما فيه الى علي عليه‌السلام.

فقال عليه‌السلام لهما : لو علمت أنّكما أقدمتما على ما فعلتماه بعد الحجة عليكما بحظره ، لبالغت في عقوبتكما! ثم قرع على الغلام باسميهما ، فخرجت القرعة لأحدهما ، فألحق الغلام به وألزمه نصف قيمته لشريكه ؛ لأنّه عبد له.

ولما بلغ ذلك رسول الله قال : الحمد لله الذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داوود وسبيله في القضاء. يعني القضاء بالالهام (٢).

ثم رفع إليه عليه‌السلام وهو باليمن : خبر زبية (حفرة بمكان عال) حفرت للأسد فوقع فيها ، فغدا الناس ينظرون إليه ، فوقف على شفير الزبية رجل فزلّت قدمه فتعلّق بآخر وتعلّق الآخر بثالث وتعلّق الثالث بالرابع فوقعوا في الزبية فهلكوا جميعا.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٥.

(٢) الارشاد ١ : ١٩٥ والخبر عن الباقر عليه‌السلام في فروع الكافي ٥ : ٤٩١ وكتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٤ وتهذيب الأحكام ٦ : ٢٣٨.

٥٧٠

فقضى عليه‌السلام : أن الأول فريسة الأسد وعليه ثلث الدية للثاني ، وعلى الثاني ثلثا الدية للثالث ، وعلى الثالث الدية كاملة للرابع.

وانتهى الخبر بذلك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عزوجل فوق عرشه (١).

ثم رفع إليه : خبر جارية حملت جارية على عاتقها في اللعب ، فقرصت اخرى الحاملة فقفزت لذلك فوقعت الراكبة فاندقّ عنقها وهلكت. فقضى عليه‌السلام : على القارصة بثلث الدية ، وعلى القامصة (القافزة) بثلثها ، وأسقط الثلث الباقي لركوب الواقصة (الواقعة) عبثا.

وبلغ الخبر بذلك الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمضاه وشهد له بالصواب (٢).

ووقع حائط فقتل جمعا فيهم حرّة ولها طفل من حرّ ، ومملوكة ولها طفل من مملوك ، فلم يعرف الحر من المملوك.

فقرع بينهما وحكم بالحرّية لمن خرج له سهم الحرية ، وبالرق لمن خرج له سهم الرق ، وحكم في ميراثهما بالحكم في الحرّ ومولاه. فأمضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا القضاء وصوّبه (٣).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٩٦ ، والخبر عن الصادق عليه‌السلام في فروع الكافي ٧ : ٢٨٦ ح ٣ وكتاب من لا يحضره الفقيه ٤ : ٨٩ ح ٢٧٨ ، وتهذيب الأحكام ١٠ : ٢٣٩ ح ٩٥١ ، وفي مغازي الواقدي ٣ : ١٠٨٦ وفيه : أن عشرة منهم أتوا مع علي عليه‌السلام الى الحج فجلسوا بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقصّوا عليه خبرهم ، فقال : أنا أقضي بينكم إن شاء الله ، فقالوا : يا رسول الله إنّ عليّا قد قضى بيننا ، فقال : فبم قضى بينكم؟ فأخبروه بما قضى به فقال : هو ما قضى به ، فقال القوم : هذا قضاء من رسول الله ، وقاموا.

(٢) الارشاد ١ : ١٩٦ ، وفي المقنعة : ٧٥٠ ، وباختلاف في الفقيه ٤ : ١٢٥ ، والتهذيب ١٠ : ٢٤١ ، وأشار الى الحديث ابن الأثير في النهاية ٤ : ٤٠ و ١٠٨ و ٢١٤.

(٣) الارشاد ١ : ١٩٧.

٥٧١

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : أفلت فرس لرجل من أهل اليمن ، ومرّ يعدو ، فمرّ برجل فنفحه برجله فقتله. فجاء أولياء المقتول الى الرجل فأخذوه ورفعوه الى علي عليه‌السلام ، فأقام صاحب الفرس البيّنة عند علي عليه‌السلام أنّ فرسه أفلت من داره ونفح الرجل. فأبطل علي عليه‌السلام دم صاحبهم.

فجاء أولياء المقتول من اليمن الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا رسول الله ، إنّ عليّا ظلمنا وأبطل دم صاحبنا! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ عليّا عليه‌السلام ليس بظلّام ، ولم يخلق للظلم ، إنّ الولاية لعلي من بعدي ، والحكم حكمه ، والقول قوله ، ولا يرد ولايته وقوله وحكمه إلّا كافر ، ولا يرضى ولايته وقوله وحكمه إلّا مؤمن.

فلما سمع اليمانيون قول رسول الله في علي قالوا : يا رسول الله ، رضينا بحكم علي وقوله. فقال رسول الله : هو توبتكم مما قلتم (١).

وفد بني غامد من الأزد :

وحيث كان بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام الى اليمن المرة الثانية في شهر رمضان للعاشرة ، ففي الشهر نفسه قدم وفد غامد من أزد اليمن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم عشرة ، فسلّموا عليه وأقرّوا بالإسلام ، وهدوا الى أبي بن كعب فعلّمهم من القرآن ، وكتب لهم رسول الله كتابا فيه شرائع الإسلام ، ولم يرو نصّ الكتاب (٢).

وقد قسّم الجوهري الأزد الى ثلاثة أقسام : بنو نصر بن الأزد ، ولقب نصر شنوءة فهم أزد شنوءة ، ومنهم من سكن الشرارة بأطراف اليمن فسمّوا أزد شرارة.

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٣٥٢ ب ٤٣ ح ٨ ، والتهذيب ١٠ : ٢٢٨ ب ١٨ ح ٣٣ ، والراوندي في قصص الأنبياء : ٢٨٦ ، وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٢ ح ٥.

(٢) الطبقات الكبرى ١ (القسم الثاني) : ٧٦ و ٧٧ و ١ : ٣٤٥ ، ط. بيروت ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٣٠٤.

٥٧٢

والثالث : من سكن عمان ثغر البحرين فسمّوا أزد عمان. والأزد من أعظم الأحياء وأكثرها بطونا وأمدّها فروعا (١).

وروى المتّقي الهندي في «كنز العمال» عن ابن عساكر بإسناده عن أبي راشد عبد الرحمن بن عبيد قال : قدمت على النبي في مائة رجل من قومي ، فلما دنونا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقفنا ، فتقدّمت قومي وأنا أصغرهم فقلت : أنعم صباحا يا محمد ، فقال النبي : ليس هذا سلام المسلمين بعضهم على بعض ، إذا لقيت مسلما فقل : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ثم قال لي : ما اسمك ومن أنت؟ قلت : أنا أبو معاوية عبد اللات والعزّى! قال : بل أنت أبو راشد. ثم أجلسني وأكرمني فأسلمت. ثم كتب معه كتابا الى الأزد ؛ كتبه عمّه العباس بن عبد المطلب :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمد رسول الله الى من يقرأ كتابي هذا ، من شهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وأقام الصلاة فله أمان الله وأمان رسوله ، وكتب هذا الكتاب العباس بن عبد المطلب».

وقدم منهم وفد سنة عشر في بضعة عشر رجلا رأسهم صرد بن عبد الله ، فأسلم وأسلموا ، فأمّره رسول الله على من أسلم من قومه ، وأمره أن يجاهد المشركين. فسار الى مدينة جرش وفيها قبائل من اليمن فيهم خثعم وغيرهم ، فحاصروهم قريبا من شهر فامتنعوا منه ، فرجع عنهم متوجها الى صنعاء اليمن حتى كان بجبل يقال له كثر من جرش ، وخرج أهل جرش في طلبه ، فعطف عليهم فقاتلهم قتالا شديدا.

وبعد ذلك خرج وفد أهل جرش الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلموا (٢).

__________________

(١) راجع المصادر في مكاتيب الرسول ٣ : ٢٨٠.

(٢) انظر مكاتيب الرسول ٣ : ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠ ، ٢٨١ ، وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٤.

٥٧٣

ووفد الرهاويّين من مذحج :

وفي السنة نفسها ومن مذحج اليمن قدم المدينة خمسة عشر رجلا من الرهاويّين ومعهم هدايا لرسول الله منها فرس يدعى المرواح ، ونزلوا دار رملة بنت الحارث ، فأتاهم رسول الله فتحدّث عندهم طويلا ، وكتب لهم كتابا بمائة وسق تجرى لهم من محاصيل خيبر (١).

وفروة بن مسيك المرادي :

ويفهم من قول ابن اسحاق في سيرته : أن أول ملوك كندة من بني مراد اليمن اسلاما هو فروة بن مسيك المرادي رئيس مراد ، إذ قال : قدم ... مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم (٢) ولعلّه لذلك تردّد ابن سعد أنّه كان في سنة تسع أو عشر من الهجرة (٣) بينما جزم ابن حبّان فقال : في سنة (١٠) قدم مراد ورأسهم فروة بن مسيك (٤).

وقال ابن سعد : نزل على سعد بن عبادة يتعلّم القرآن وفرائض الإسلام. واستعمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على مراد ومذحج وزبيد (٥).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ١ (القسم الثاني) : ٧٦ و ١ : ٣٤٤ ، ط. بيروت ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٢٩٦.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٨.

(٣) الطبقات الكبرى ٢ : ١١١.

(٤) الثقات لابن حبان ٢ : ١١٧ ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٢٥٣ ، ٢٥٤.

(٥) الطبقات الكبرى ٢ : ١١١ وقال : وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقات ولم يزل عليها حتى توفي النبي. وكأنّه اريد به معارضة خبره المعتبر مع علي عليه‌السلام ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٣٠٣ ، ٣٠٤ ، وفروة هو الذي استشهد الحسين عليه‌السلام ببعض شعره في بعض خطبه في عاشوراء ، كما في مقتل الخوارزمي ٢ : ٧ ، ط. النجف الأشرف.

٥٧٤

بعث معاذ الى اليمن :

كان بنو سلمة من الخزرج بالمدينة من السابقين الأولين من المسلمين بها ، منهم معاذ بن جبل ، ولأول مرة نواجه اسمه مع ابن عمه معاذ بن عمرو بن الجموح من فتيان بني سلمة ممن أسلم وشهد العقبة كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة منكّسا على رأسه (١).

وآخر عهدنا به مرّ في الخبر : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل السلمي يعلّمان الناس القرآن وفقه الدين. ويبدو أنّه انتدب لدعوة النبي مع مسلمي أهل مكة الى حرب تبوك عمّه العباس بن عبد المطلب ، كما مرّ ، فهو حاضر في أخبار تبوك.

وذكر ابن اسحاق : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل الى زرعة ذي يزن في اليمن : «... أما بعد ، فان محمدا يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّه عبده ورسوله. ثم إن مالك بن مرّة الرهاوي قد حفظ الغيب وبلغ الخبر ... وقد حدّثني أنّك أول حمير أسلمت وقتلت المشركين ، فأبشر بخير ، وآمرك بحمير خيرا ، ولا تخونوا ولا تخاذلوا ، فإنّ رسول الله هو ولي غنيّكم وفقيركم ... وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي واولي دينهم واولي علمهم ، فآمرك بهم خيرا فإنهم منظور إليهم ... فاوصيكم بهم خيرا : عبد الله بن زيد ، ومالك بن عبادة ، وعقبة بن نمر ، ومالك بن مرّة ... وإن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلّا راضيا ... وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وأبلغوها رسلي ... وإن الصدقة لا تحلّ لمحمد ولا لأهل بيته ، إنّما هي زكاة يزكّى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل» (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٩٥.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٦ و ٢٣٧.

٥٧٥

هذا بعد أن بدأ الفصل بقوله : قدم على رسول الله كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك من ملوك معافر وذي رعين وهمدان. وحيث كان الخبر المعتبر عندنا إسلام همدان على يدي علي عليه‌السلام وكان ذلك في شهر رمضان من العاشرة للهجرة كما مرّ ، لذلك لم نعتبر هذا الخبر المرسل من ابن اسحاق ، مع استبعادات اخرى في نصّ الرسالة ، مع اضطراب وتشويش في النصّ ـ عدّلناه فيما نقلناه ـ ومع خلط وخبط بين نصّين من كتابين الى أقيال اليمن : ابني عبد كلال وذي يزن. وسيأتي أنّه بعث الى سواهم.

وذكر ابن الأثير : أن معاذا كان من أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا وأسمحهم كفّا ، فاقترض دينا كثيرا حتى تغيّب عنهم في بيته أيّاما ... فأرسل عليه رسول الله ليبعث به الى اليمن وقال له : لعلّ الله يجبرك ويؤدّي عنك (١).

ورووا عنه قال : لما بعثني رسول الله الى اليمن خرج معي يوصيني يمشي تحت راحلتي وأنا راكب (٢) الى أكثر من ميل! (٣) وقال له :

يا معاذ ، علّمهم كتاب الله ، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة ، وأنزل الناس منازلهم خيرهم وشرّهم ، وأنفذ أمر الله فيهم ولا تحاش في أمره ولا ماله أحدا فإنها ليست بولايتك ولا مالك ، وأدّ إليهم الأمانة في كل قليل وكثير ، وعليك بالرفق والعفو ، في غير ترك للحق كي لا يقول الجاهل قد تركت من حق الله ، واعتذر الى أهل عملك من كل أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتى يعذروك ، وأمت أمر الجاهلية إلّا ما سنّه الإسلام ، وأظهر أمر الإسلام كلّه صغيره وكبيره ،

__________________

(١) اسد الغابة ٤ : ٣٧٧.

(٢) تاريخ الخميس ٢ : ١٤٢.

(٣) كنز العمّال ١٠ : ٣٩٢.

٥٧٦

وليكن أكثر همّك الصلاة فانّها رأس الإسلام بعد الاقرار بالدين ، وذكّر الناس بالله واليوم الآخر. واتبع الموعظة فانّه أقوى لهم على العمل بما يحبّ الله. ثم بثّ فيهم المعلمين ، واعبد الله الذي إليه ترجع ، ولا تخف في الله لومة لائم.

واوصيك بتقوى الله ، وصدق الحديث ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وترك الخيانة ، ولين الكلام ، وبذل السلام ، وحفظ الجار ، ورحمة اليتيم ، وحسن العمل ، وقصر الأمل ، وحبّ الآخرة ، والجزع من الحساب ، ولزوم الايمان ، والفقه في القرآن ، وكظم الغيظ ، وخفض الجناح.

وإيّاك أن تشتم مسلما ، أو تطيع آثما ، أو تعصي إماما عادلا ، أو تكذّب صادقا ، أو تصدّق كاذبا. واذكر ربّك عند كل شجر وحجر ، واحدث لكل ذنب توبة : السرّ بالسرّ ، والعلانية بالعلانية.

يا معاذ ، لو لا أنني أرى أن لا نلتقي إلى يوم القيامة لقصرت في الوصية ، ولكنّني أرى أن لا نلتقي أبدا. ثم اعلم يا معاذ أن أحبّكم إليّ من يلقاني على مثل الحال التي فارقني عليها (١).

إنّك ستأتي قوما أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم الى أن يشهدوا أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم ، واتّق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب (٢) وكتب له في عهده :

أن لا طلاق لامرئ فيما لا يملك ، ولا عتق فيما لا يملك ، ولا نذر في معصية ، ولا

__________________

(١) تحف العقول : ٢٥ ، ٢٦.

(٢) البداية والنهاية ٥ : ١٠٠.

٥٧٧

في قطيعة رحم ، ولا فيما لا يملك. وعلى أن تأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر (الثياب) وعلى أن لا تمسّ القرآن إلّا طاهرا ، وإنّك إذا أتيت اليمن يسألك نصاراها عن مفتاح الجنة فقل : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له (١).

إنّ طبيعة الامور بملاحظة خارطة اليمن تقتضي تقدم الاسلام في اليمن بترتيب نجران ثم همدان ثم صنعاء ثم زبيد ثم الجند ثم عدن على منعطف البحر الأحمر نحو بحر عمان.

وفي أكثر أخبار بعث معاذ إنّما جاء ذكر اليمن ، وإنّما جاء في بعضها ذكر مخلاف (محافظة) الجند بعد صنعاء الى عدن : مرّ معاذ بصنعاء في طريقه الى الجند ، فصعد منبرا فحمد الله ، وأثنى عليه ، وصلّى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله

__________________

(١) كنز العمال ١٠ : ٣٩٢ و ٣٩٣.

وهنا في الايضاح لابن شاذان (م ٣٦٠ ه‍) : ١٠٤ ، وقالوا فلا بدّ من النظر واستعمال الرأي فيما لم تأتنا به الرواية عنه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمعاذ بن جبل لما وجّهه الى اليمن قاضيا : بم تقضي يا معاذ؟ قال : أقضي بكتاب الله. قال : فما لم يكن في الكتاب؟ قال : فبسنّة رسول الله. قال : فما لم يكن في السنّة؟ قال اجتهد رأيي لا آلو ، قالوا : فضرب رسول الله على صدره وقال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يحب. (الطبقات الكبرى ٣ : ٥٨٤).

وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ١ : ٤٣٩ ، الحارث بن عمرو عن رجال له عن معاذ بحديث الاجتهاد ... تفرّد به أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن الحارث بن عمرو الثقفي ابن أخ المغيرة بن شعبة. وما روى عن الحارث غير أبي العون ، فهو مجهول. وقال البخاري : لا يصحّ حديثه. وقال الترمذي : اسناده عندي ليس بمتصل.

وناقشه ابن حزم في المحلّى ١ : ٦٢ بقوله : وحديث معاذ اجتهد رأيي ولا آلو. لا يصح ، لأنه لم يروه أحد إلّا الحارث بن عمرو ـ وهو مجهول ـ عن رجال من أهل حمص لم يسمعهم! عن معاذ. وانظر : دروس في فقه الإمامية للشيخ الفضلي ١ : ٨٢ ـ ٨٦.

٥٧٨

الى أهل اليمن (١) ثم انتهى الى الجند وقبله جبل حوله من كندة السكون والسكاسك ، فأشرف معاذ على الجبل وأذّن ، فلما سمعوا صوت الأذان أقبلوا إليه سراعا ، فسألوا عنه ولما عرفوه أنه رسول نبي الله قالوا : بم أرسلك؟ فقال : هذا عهد رسول الله إذ بعثني إليكم ، فأخرج عهده فقرأه عليهم ، وكان في عهده :

«أوصيك ـ يا معاذ ـ بتقوى الله ، وصدق الحديث ، ووفاء العهد ، وترك الخيانة ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، وتلاوة القرآن ، وإيّاك ـ يا معاذ ـ أن تصدّق كاذبا ، أو تكذّب صادقا ، أو تعين ظالما ، أو تقطع رحما ، أو تشمت بمصيبة ...» (٢).

ومن قضاياه في اليمن ما أرسله الصدوق عن أبي الأسود الدؤلي : أن جمعا جاءوا الى معاذ بن جبل باليمن يسألونه عن ميراث يهودي مات وترك أخا مسلما ، فقال معاذ : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «الاسلام يزيد ولا ينقص» فورّث المسلم من أخيه اليهودي (٣).

__________________

(١) يظهر من الخبر سبق الاسلام الى صنعاء ، وذلك لإسلام باذان زعيم أبناء الفرس في اليمن وإسلام أكثرهم معه لعلمهم بصدقه فيما أخبر به من قتل خسرو پرويز ، وإقراره من قبله على حكمه على اليمن.

(٢) انظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٩٧ ، ٥٩٨ عن الوثائق السياسية : ٢١٦ عن أمالي الحوالي : ١٢٩. وانظر من مكاتيب الرسول ٢ : ٦٠٠ ـ ٦٠٢ حيث ترجم لخمسة ممن كانوا مع معاذ ، فلم يكن هو وحده.

(٣) كتاب من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٣٤ ب ١٧٠ ح ٥٧٢٠ ، ورواه قبله أبو داود في سننه وابن حنبل في مسنده. وفي أيام مكثه باليمن رووا كتابا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه لتعزيته بابنه ، رواه الحراني في تحف العقول : ٤٧ ، وأبو نعيم (م ٤٣٠ ه‍) في حلية الأولياء ١ : ٢٣٢ ـ ٢٤٣ وتكلم في صحة الحديث فقال : هذه الروايات ضعيفة لا تثبت ، فإنّ وفاة

٥٧٩

إرسال عمرو بن حزم الى اليمن :

مرّ في خبر إرسال خالد بن الوليد المخزومي الى اليمن ، وكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه : «وأقبل وليقبل معك وفدهم» : أنه أقبل ومعه وفد بني الحارث بن كعب.

__________________

ـ (عبد الرحمن) بن معاذ كان بعد وفاة رسول الله بسنتين ، وإنّما كتب إليه بعض الصحابة فتوهّم الراوي فنسبها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وتبعه ابن الجوزي (م ٥٩٧ ه‍) في الموضوعات ، ونقله عنه المتقي الهندي في كنز العمال ٢٠ : ٢٢٥.

وأضاف أبو نعيم : أن معاذا مكث في اليمن حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقدم الى المدينة ، فقال عمر لأبي بكر : دع لهذا الرجل ما يعيّشه وخذ سائره منه. فقال أبو بكر : إنّما بعثه النبي ليجبره ، فلست بآخذ منه شيئا إلّا أن يعطيني هو! وفي الاستيعاب بهامش الاصابة ٣ : ٣٥٨ ، وانظر مكاتيب الرسول ٣ : ٥٥٥.

ولا نرى أثرا لمعاذ في حجة الوداع ، ولا في بعث جيش اسامة ، ولا في مرض ووفاة رسول الله ، ولا في السقيفة ، وأوّل ما نرى أثره بعد السقيفة في أوائل بيعة أبي بكر ، كما في كتاب سليم بن قيس : ٥٧٨ ح ٤ : أنّ أوّل من بايعه المغيرة بن شعبة ثم ... ومعاذ بن جبل ، فهو سادسهم. وفي : ٥٧٨ : أنه كان فيمن عليهم السلاح وهم جلوس حول أبي بكر حين انتهى بعلي عليه‌السلام الى أبي بكر للبيعة. وفي : ٥٨٩ و ٦٣١ ، أنه كان ممّن صدّق أبا بكر في قوله : إنّه سمع رسول الله يقول : إنّا أهل بيت أكرمنا الله عزوجل واصطفانا ، واختار لنا الآخرة على الدنيا ، ولم يرض لنا بالدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة. فصدّقه عمر وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل ... فقال لهم علي عليه‌السلام : لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة. وفي ٥٩٠ : أنها كتبت باتفاق منهم في المحرم سنة عشرة من الهجرة. فهي قبل إرسال معاذ الى اليمن ، فلعلّه كان لإبعاده عنهم والتفريق بينهم.

ولعلّ إهمال أبي بكر للأموال معه كما مرّ كان لتأليفه إليهم. ومن تاريخ الصحيفة يبدو أن سفر معاذ لم يكن عند رجوع النبي من تبوك كما في ابن هشام ، وعليه فلم تكن سفرته أربعة عشر شهرا كما ذكره المحقّق الغفاري في تحف العقول : ٢٦ وكرره في حاشية بحار الأنوار ٧٧ : ١٢٦.

٥٨٠