موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

أصبحت مفيقا بحمد الله ، واليوم يوم ابنة خارجة (زوجته) فأذن لي! فأذن له فذهب الى السنح في عوالي المدينة (١).

قلنا مع أنّ الواقدي كان متوقّد الذهن والذكاء منتبها لجمع التفاصيل عن الأخبار والأحاديث والروايات ، لكنّه لم ينتبه للتركيز على من اشتمل عليه هذا الجيش المؤكّد عليه من رسول الله بهذا التأكيد الشديد ، فجاء في نصّه السابق لفظ الناس ست مرّات. والمسلمين ثلاث مرات ، والمهاجرين الأولين كذلك ، وعطف عليهم الأنصار مرة واحدة بعبارة : في رجال من المهاجرين والأنصار عدّة ، ذكر من الأنصار رجلين كما مرّ ، وقد مرّ أن ابن عقبة وابن اسحاق ووافقه ابن هشام ركّزوا على المهاجرين الأوّلين وإنمّا زاد ابن اسحاق الأنصار مرة في رواية عروة.

ويقصر قول الواقدي عن النصّ بشمول الأنصار عدا عدّة منهم لم يذكر سوى اثنين منهم ، بينما اليعقوبي قال باختصار : عقد صلى‌الله‌عليه‌وآله لاسامة بن زيد بن حارثة على جلّة المهاجرين والأنصار ... وكان في الجيش أبو بكر وعمر ... وتكلّم قوم فقالوا : حدث السن ابن تسع عشرة سنة! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لئن طعنتم عليه فقبله طعنتم

__________________

(١) فلما توفي رسول الله عند زوال الشمس في ذلك اليوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول وبلغ ذلك الذين بالجرف حمل بريدة بن الحصيب لواء اسامة معقودا وأتى به الى باب رسول الله فغرزه عنده ، ورجع معه من كان معه بالجرف. مغازي الواقدي ٣ : ١١٧ ـ ١٢٠ ، فالواقدي يرى أبا بكر مستأذنا ، بينما رواه ابن عقبة عن الزهري : أن أبا بكر دخل فقال لعائشة : قد أصبح رسول الله مفيقا ، وأرجو أن يكون الله قد شفاه. ثم ركب فلحق بأهله بالسنح : حبيبة بنت خارجة الخزرجي ، كما في دلائل النبوة ٧ : ٢٠١ من دون استيذان. وكذاك ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٠٢ ، عن الزهري عن انس بن مالك ، اخصر منه وبلا استيذان أيضا ، وإن كان روى الاستيذان بعده! عن غير الزهري ٤ : ٣٠٣ ، ٣٠٤ مناقضا لما مرّ.

٦٨١

على أبيه وإن كانا لخليقين بالإمارة. فكان اسامة مقيما بالجرف إذ اشتكى رسول الله قبل أن ينفذ الجيش ، فقال مرارا : أنفذوا جيش اسامة. واعتلّ أربعة عشر يوما الى ليلتين خلتا من شهر ربيع الأول (١) فهو يرى أن البدء بذلك كان في النصف من صفر تقريبا ، خلافا للواقدي في ذلك ، موافقا له في مدة التخلف اسبوعين قبل الوفاة.

والطبري مع ذكره لخبر ابن اسحاق : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ابتدأ شكواه في ليال بقين من صفر ، وتأييده بما عن الواقدي : بدئ وجعه لليلتين بقيتا من صفر ، وذكره لخبر عن سيف بن عمر عن عروة : انه اشتكى وجعه في عقب المحرّم ، مما يجتمع مع ما مرّ ، ذكر خبرا آخر عن سيف أيضا عن ابن الجذع أو الجزع (٢) الأنصاري ، قال بعد تأمير اسامة : ثم اشتكى في المحرم ، وكأنّه أهمل القول السابق المتأيّد واعتمد هذا الخبر الأخير المنفرد في عنوانه فقال : ثم ضرب في المحرم بعثا الى الشام وأمّر عليهم مولاه اسامة فتبعه ابن الأثير.

هذا ، وقد روى لاحقا عن الكلبي عن أبي مخنف عن فقهاء الحجاز : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وجع لأيام بقين من آخر شهر صفر ، في بيت زينب بنت جحش (٣).

وروى خبرا عن سيف عن ابن عباس : أنّ الناس (كذا) أنشؤوا في العسكر ولكنّه لم يستتم الأمر وذلك لأنّه ثقل رسول الله فتمهّل الناس ينظر أوّلهم آخرهم حتى توفي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٣.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ١٤٧ و ١٨٤ و ١٨٥.

(٣) الطبري ٣ : ١٨٧.

(٤) الطبري ٣ : ١٨٦.

٦٨٢

أما الخبر في الارشاد :

وأفاد المفيد في «الارشاد» : أنّه عليه وآله السلام لما تحقّق من دنوّ أجله جعل يقوم مقاما بعد مقام في المسلمين يحذّرهم من الفتنة بعده والخلاف عليه ، ويؤكّد وصايتهم بالتمسك بسنّته والاجتماع عليها والوفاق ، ويحثّهم على الاقتداء بعترته والطاعة لهم والنصرة والحراسة والاعتصام بهم في الدين ، ويزجرهم عن الخلاف والارتداد.

فكان فيما ذكره من ذلك ـ عليه وآله السلام ـ ما جاءت به الرواة على اتفاق واجتماع من قوله : «أيها الناس إني فرطكم ، وأنتم واردون علي الحوض ، ألا وإنّي سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ، فانّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني ، سألت ربّي ذلك فأعطانيه. ألا وإنّي قد تركتهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فلا تسبقوهم فتفرّقوا ، ولا تقصّروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم.

أيها الناس ، لا الفينكم بعدي ترجعون كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ... ألا وإنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيّي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله».

ثم إنه عقد لاسامة بن زيد بن حارثة الإمرة ، وندبه أن يخرج ... الى حيث اصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه على إخراج جماعة من متقدمي المهاجرين والأنصار في معسكره ، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الرئاسة ويطمع في التقدّم على الناس بالإمارة ، ويستتبّ الأمر لمن استخلفه من بعده ولا ينازعه في حقه منازع ، فعقد له الإمرة على من ذكرناه وجدّ في إخراجهم ، وأمر اسامة بالخروج من المدينة الى الجرف ، وحث الناس على الخروج إليه

٦٨٣

والمسير معه ، وحذّرهم من الإبطاء والتلوّم عنه. فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها (١).

قال : وكان إذ ذاك في بيت أمّ سلمة «رضي الله عنها» فأقام به يوما أو يومين ، فجاءت عائشة إليها تسألها أن تنقله الى بيتها لتتولّى تعليله ، وسألت سائر أزواج النبي في ذلك ، فأذن لها ، فانتقل صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البيت الذي أسكنه عائشة. واستمر به المرض أياما وثقل عليه‌السلام (٢).

ثم ذكر خبر الصلاة ثم قال : فلما سلّم انصرف الى منزله فاستدعى جماعة ممن حضر المسجد من المسلمين وفيهم أبو بكر وعمر فقال لهم : ألم آمر أن تنفّذوا جيش اسامة؟! فلم تأخّرتم عن أمري؟! فقال أبو بكر : إنّني كنت خرجت ثم عدت لاحدث أو اجدّد بك عهدا! وقال عمر : يا رسول الله ، لم أخرج ، لأنّني لم احب أن أسأل عنك الركب! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : فأنفذوا جيش اسامة ، فأنفذوا جيش اسامة ، ثلاثا (٣).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٧٩ ـ ١٨١.

(٢) الارشاد ٢ : ١٨٢ ، ومرّ عن الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن فقهاء الحجاز أنّه كان في بيت زينب بنت جحش ٣ : ١٨٧ ، وروى ابن اسحاق عن الزهري عن عائشة : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بيت ميمونة فاستأذنهنّ أن يكون في بيتي فأذن له (السيرة ٤ : ٢٩٢) فخرج رسول الله يمشي بين رجلين من أهله أحدهما : الفضل بن العباس ، ورجل آخر ، عاصبا رأسه تخطّ قدماه حتى دخل بيتي. فالذي سمع هذا من عائشة رواه لابن عباس فقال له : هل تدري من الرجل الآخر؟ قال : هو علي بن أبي طالب (فابن هشام اكتفى عن ابن عباس الى هنا ٤ : ٢٩٨) ورواه الطبري عن ابن اسحاق فأكمل عن ابن عباس قال : ولكنّها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع! ٣ : ١٨٨ ، ١٨٩.

(٣) الارشاد ٢ : ١٨٣ ، ١٨٤ واشتهر : لعن من تخلّف عنه ، ولم يرد من طرقنا إلّا في

٦٨٤

هكذا ، خلافا لما مرّ عن ابن عقبة والواقدي من خروج عمر الى المعسكر وخروج صاحبه أبي بكر الى امرأته الخزرجية في عوالي المدينة ، وموافقا لليعقوبي في خروجهما في الجيش ، واشتماله على المهاجرين والأنصار ، بل زاد المفيد : بجمهور الامّة (١).

زيارة البقيع والخطبة العامة :

وأفاد المفيد في «الارشاد» : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل على علي عليه‌السلام وقال له : إنّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كل سنة مرّة ، وقد عرضه علي العام مرّتين ، ولا أراه إلّا لحضور أجلي (٢)! يا علي ، إنّي خيرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنة ، فاخترت لقاء ربّي والجنة (٣) لما عراه مرضه وأحسّ به ، قال لمن معه : إنّي

__________________

خبر ضعيف ضمن محاورة الحروريّ للإمام الباقر عليه‌السلام في بحار الأنوار ٢٧ : ٣٢٤.

وروى اللعن من قدماء المعتزلة أحمد بن عبد العزيز الجوهري البغدادي (م ٣٢٣ ه‍) في كتابه السقيفة ، وعنه المعتزلي الشافعي البغدادي (م ٦٦٥ ه‍) في شرح نهج البلاغة ٦ : ٥٢. ثم الشهرستاني في الملل والنحل بحاشية الفصل ١ : ٢٠.

(١) الارشاد ٢ : ١٨٠ مما هو مستبعد جدّا. وانظر تخلّفهم عن جيش اسامة في بحار الأنوار ٣١ : ١٤ ـ ٢٤ ، ط. تحقيق حضرة الشيخ الوالد.

(٢) هذا ما أفاده المفيد هنا لأول مرة من دون سائر مصادر أخبارنا عامة ، وإنمّا نقله عنه في إعلام الورى ١ : ٢٦٤ ، وقصص الأنبياء للراوندي : ٣٥٧ ، والحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٩١.

(٣) كذا ، وعنه في بحار الأنوار ٢٢ : ٤٦٦ وفي ٢١ : ٤٠٩ عن المنتقى للكازروني : خبر خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البقيع مع أبي مويهبة ، وهو عن ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٩٢. ورواه الصدوق في الأمالي : ٢٢٦ ح ١١ ، عن الصادق عن أبيه عن جدّه ، ولكن في يوم الوفاة

٦٨٥

قد امرت بالاستغفار لأهل البقيع. ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام وانطلق حتى وقف فيهم فقال : السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أوّلها آخرها. ثم عاد الى منزله عليه وآله السلام (١).

وبعد ثلاثة أيام خرج الى المسجد معصوب الرأس ، معتمدا على علي عليه‌السلام وعلى الفضل بن العباس ، حتى صعد المنبر فجلس عليه ثم قال : «معاشر الناس ، قد حان منّي خفوف (٢) من بين أظهركم ، فمن كانت له عندي عدة فليأتني اعطه إياها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به.

معاشر الناس ، ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيرا أو يصرف به عنه شرّا إلّا العمل.

أيها الناس ، لا يدّعي مدّع ولا يتمنّ متمنّ ، والذي بعثني بالحق لا ينجي إلّا عمل مع رحمة! ولو عصيت لهويت! اللهم هل بلّغت؟».

ثم نزل فصلّى بهم صلاة خفيفة ، ثم دخل الى بيت أمّ سلمة رضي الله عنها (٣).

__________________

في بيته لا البقيع في اول مرضه. وفي الخبر بعد التخيير وترجيح جبرئيل الآخرة! يقول الرسول لملك الموت : امض لما امرت به! ولم يؤمر في الخبر إلّا بتخييره ، ففي لفظ الخبر اضطراب. ورواه المفيد في الأمالي : ٥٣ ح ١٥ ، بسنده عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الذي خيّره هو جبرئيل عند الوفاة فقال : لا ، بل الرفيق الأعلى ، كما مثله في السيرة ٤ : ٣٠١ ، عن عائشة.

(١) الارشاد ٢ : ١٨١ ، وروى نحوه ابن اسحاق عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي مويهبة مولى رسول الله أنّها كانت معه فقط في جوف الليل ٤ : ٢٩١ ، ٢٩٢ ، وكأن ابن العاص لم يشأ أن يذكر بها عليا عليه‌السلام! ونقل الفتن ابن اسحاق في الخطبة في المسجد بعد الصلاة ٤ : ٣٠٤.

(٢) خفوف : حركة وقرب ارتحال ، يريد الإنذار بموته. مجمع البحرين ٥ : ٤٩.

(٣) الارشاد ١ : ١٨٢.

٦٨٦

صلاة أبي بكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أفاد المفيد في «الارشاد» أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بيت أمّ سلمة «رضي الله عنها» يوما أو يومين ، فسألت عائشة أزواج النبي عليه وآله السلام أن تنقله الى بيتها لتتولّى تعليله ، فأذن لها ، فجاءت الى أمّ سلمة تسألها أن تنقله الى بيتها ، فأذنت لها ، فانتقل صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البيت الذي أسكنه عائشة ، واستمرّ به المرض أياما وثقل عليه‌السلام.

وكان بلال يؤذن ثم يأتي الى النبي فيؤذنه بذلك ، فأذّن يوما للفجر ثم جاءه وهو مغمور بالمرض ، فنادى : الصلاة يرحمكم الله ، فاوذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بندائه فقال : يصلّي بالناس بعضهم فإنّني مشغول بنفسي. فقالت عائشة : مروا أبا بكر (١) .. وقالت حفصة : مروا عمر!

وكان رسول الله قد أمرهما بالخروج الى اسامة ، ولم يكن عنده علم أنّهما قد تخلّفا ، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنّهما متأخّران عن أمره ، ورأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بأبيها وافتتانهما بذلك هذا ورسول الله حيّ ، فقال رسول الله لهما : اكففن فإنكنّ صويحبات يوسف.

ثم دعا عليا والفضل بن العباس (وتوضأ) واعتمدهما ورجلاه تخطّان

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٨٢. ونقل المعتزلي عن شيخه يوسف اللمعاني : أنّ النبي ـ كما روى ـ قال : ليصلّ بهم أحدهم. ولم يعيّن. وكانت صلاة الصبح ، فكان علي عليه‌السلام ينسب الى عائشة أنّها هي التي أمرت بلالا أن يأمر أباها أن يصلي بالناس ... وكان علي عليه‌السلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا ويقول : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل : إنكنّ لصويحبات يوسف ، إلّا إنكارا لهذه الحال وغضبا منهما ، لأنّها وحفصة تبادتا لتعيين أبويهما ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب. شرح النهج ٩ : ١٩٧.

٦٨٧

الأرض من الضعف ، فلما خرج من بيته الى المسجد وجد أبا بكر قد سبق الى المحراب ، فحضره وأومأ بيده إليه أن تأخّر ، فتأخّر أبو بكر ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مقامه ولم يبن على مضى من فعال أبي بكر بل ابتدأ الصلاة بتكبيرة الاحرام (١).

حديث الدواة والكتف :

وأفاد المفيد في «الارشاد» : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما سلّم من صلاته انصرف الى منزله ... ثم اغمي عليه من الأسف والتعب الذي لحقه ، فارتفع النحيب من ابنته والنساء من أزواجه والمسلمات ومن حضر من أهل بيته والمسلمين ، فأفاق عليه وآله السلام ونظر إليهم ثم قال : ايتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا!

فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفا ، واغمي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عمر بن الخطاب لمن قام : ارجع فإنه يهجر (٢)! فرجع ، وقال بعضهم :

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٨٢ ، ١٨٣ ، وانظر كلامه في ذلك في الفصول المختارة : ١٢٤ ـ ١٢٨ ، وكلام السيّد المرتضى في الشافي ٢ : ١٥٨ ـ ١٦١ ، وتلخيصه ٣ : ٢٨ ـ ٣٢ ، والمسترشد : ١١٨ ـ ١٤٦ ، ط. المحمودي ، وروى الطبري بسنده عن عائشة أن أبا بكر صلى بصلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣ : ١٩٧.

(٢) الارشاد ١ : ١٨٤ ، ونقله قبله الهلالي العامري في كتابه ٢ : ٧٩٤ ، والنيشابوري في الايضاح : ٢٥٩ ، والطبري ٣ : ١٩٢ ، ١٩٣ ، بثلاثة طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلا ذكر عمر ، وروى المجلسي الحديث والخبر في بحار الأنوار ٣٠ : ٧٠ ـ ٧٣ ، بخمس طرق عن البخاري وطريقين عن الجمع بين الصحيحين وبثلاثة طرق عن صحيح مسلم منها عن مسند جابر بن عبد الله الأنصاري ، وسائرها عن ابن عباس.

ونقل المعتزلي في شرح النهج عن كتاب تاريخ بغداد لأحمد بن أبي طاهر البغدادي الخراساني (٢٠٤ ـ ٢٨٠ ه‍) عن ابن عباس قال : دخلت على عمر في خلافته فقال لي : كيف خلفت ابن عمّك عظيمكم أهل البيت؟ قلت : خلّفته يمتح بدلوه الماء من البئر

٦٨٨

إنا لله وإنّا إليه راجعون ، لقد أشققنا من خلاف رسول الله!

وأفاق صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له بعضهم : ألا نأتيك يا رسول الله بكتف ودواة؟ فقال : أبعد الذي قلتم؟! لا ، ولكنّني اوصيكم بأهل بيتي خيرا ، ثم أعرض بوجهه عنهم. فنهضوا! وبقي هل بيته خاصة وفيهم علي بن أبي طالب والعباس والفضل ابنه. فقال له العباس : يا رسول الله ، إن يكن هذا الأمر فينا مستقرا بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا! فقال له : أنتم المستضعفون من بعدي! وأصمت (١). فنهض القوم وفيهم علي عليه‌السلام وخرجوا من عنده.

__________________

على نخيلات فلان وهو يقرأ القرآن. فقال : يا عبد الله ... هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت : نعم. قال : أيزعم أن رسول الله نصّ عليه؟ قلت : نعم ، وأزيدك ، سألت أبي عمّا يدّعيه فقال : صدق! فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذرو (وارتفاع) : من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يرفع من أمره وقتا ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك ؛ إشفاقا وحيطة على الاسلام ، لا وربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبدا ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها. فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلّا إمضاء ما ضم! ١٢ : ٢٠ ، ٢١.

وفيه عنه قال : خرجت معه الى الشام فقال لي : يا بن عباس أشكو إليك ابن عمّك سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجدا ، ففيم تظنّ موجدته؟! أظنّه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة؟! قلت : هو ذاك ، إنّه يزعم أنّ رسول الله أراد الأمر له. فقال : يا بن عباس ، وأراد رسول الله الأمر له فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك؟! إن رسول الله أراد أمرا وأراد الله غيره! فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسول الله! أو كلما أراد رسول الله كان؟! إنّ رسول الله أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته خوفا من الفتنة ، وانتشار أمر الإسلام ، فعلم رسول الله ما في نفسي فأمسك. ١٢ : ٧٨ ، ٧٩.

(١) روى المفيد في أماليه : ٢١٢ م ٢٤ ح ٢ ، بسنده عن علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٨٩

وصيّة النبيّ إلى علي عليه‌السلام :

قال : فلما خرجوا من عنده قال عليه‌السلام : ارددوا عليّ اخي عليّ بن أبي طالب ، وعمّي. فأنفذوا من دعاهما ، فحضرا.

فالتفت صلى‌الله‌عليه‌وآله الى عمّه وقال له : يا عباس يا عمّ رسول الله ، تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي عنّي ديني؟ فقال العباس : يا رسول الله ، عمّك شيخ كبير وذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سخاء وكرما ، وعليك وعد لا ينهض به عمّك!

فأقبل علي عليه‌السلام وقال له : يا أخي ، تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي عنّي ديني ، وتقوم بأمر أهلي من بعدي؟ قال علي عليه‌السلام : نعم ، يا رسول الله ... فدعا بسيفه ودرعه وجميع لامته وعصابة كان يشدها على بطنه إذا خرج الى الحرب ، فجيء بها إليه فدفعها إليه ، ونزع خاتمة من يده وقال له : خذ هذا فضعه في يدك ، وضمّه إليه وقال له : امض على اسم الله الى منزلك (١).

__________________

كان رأسه في حجر أمّ الفضل (كذا) فقالت له : نعيت إلينا نفسك وأخبرتنا أنّك ميّت ، فإن يكن الأمر لنا فبشّرنا ، وإن يكن في غيرنا فأوص بنا ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنتم المقهورون المستضعفون بعدي. فلعلّ هذا هو أصل الخبر.

وروى الطوسي في الأمالي : ١٠٦ م ٤ ح ١٦١ ، بسنده عن ابن عباس قال : لما حضرت رسول الله الوفاة حضرته وقلت له : يا رسول الله فداك أبي وأمي قد دنا أجلك فما تأمرني؟ فقال : يا بن عباس ، خالف من خالف عليا ولا تكونن لهم ظهيرا ولا وليا. فقلت : يا رسول الله لم لا تأمر الناس بترك مخالفته؟ فبكى. وقال : يا ابن عباس ، قد سبق فيهم علم ربّي ، والذي بعثني بالحق نبيّا لا يخرج أحمد ممن خالفه من الدنيا وأنكر حقّه حتى يغيّر الله ما به من نعمة.

يا بن عباس ، احذر أن يدخلك شكّ ، فان الشكّ في علي كفر بالله.

(١) الارشاد ١ : ١٨٥ ، وروى الخبر الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٩٨ ب ١٣١ ح ١ ، عن

٦٩٠

وروى الصدوق بسنده عن ابن عباس قال : لما مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده أصحابه قام إليه عمار بن ياسر فقال له : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، من يغسلك منّا إذا كان ذلك منك؟ قال : ذاك علي بن أبي طالب ، لأنّه لا يهمّ بعضو من أعضائي إلّا أعانته الملائكة على ذلك.

فقال له : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، من يصلّي عليك منّا إذا كان ذلك منك؟ فقال لعلي عليه‌السلام : يا بن أبي طالب ، إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي ، فاغسلني وانق غسلي وكفني في طمريّ هذين ، أو في بياض مصر وبرد يمان ، ولا تغال في كفني ، واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري ، فأوّل من يصلّي علي الجبار جلّ جلاله من فوق عرشه ، ثم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم إلّا الله عزوجل ، ثم الحافّون بالعرش ، ثم سكان أهل سماء فسماء ، ثم جلّ أهل بيتي ونسائي الأقربون فالأقربون ، يومون إيماء ويسلّمون تسليما ، لا يؤذوني بصوت نادبة ولا رنّة (١).

__________________

ـ الباقر عليه‌السلام وح ٢ و ٣ ، عن زيد بن علي وعنها الطوسي في الأمالي ح ١٢٤٤ ، عن علي عليه‌السلام.

(١) أمالي الصدوق : ٥٠٥ ح ٦ م ٩٢. وقريب منه في كشف الغمة ١ : ١٧ عن كتاب الثعلبي عن ابن مسعود ، وأنّ المحاور للنبي أبو بكر ، بينما روى الطبري ٣ : ١٩١ ، ١٩٢ خبرا نحوه عن ابن مسعود بمحاورته هو.

وخبر الصدوق عن ابن عباس بمحاورة عمّار بن ياسر يستمرّ أربع صفحات من ٥٠٥ الى ٥٠٩ ، وبعد خبر عمّار يعرج على ذكر خطبة له صلى‌الله‌عليه‌وآله على منبره في مسجد جاء فيه : ناشدتكم الله أي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة إلّا قام فليقتص منه (كذا) فقام إليه رجل يقال له سوادة بن قيس ... الى آخر الخبر. بينما لا يوجد في المراجع صحابي بهذا الاسم ، ولعلّه لهذا غيّره السيّد الأمين العاملي في المجالس السنية ٥ : ٢٥ الى : سواء بن قيس ، وذكره المحقّق الشوشتري في قاموس الرجال ٥ : ٣٢٨ ولم يذكر له الخبر ،

٦٩١

والأنصار تبكي :

وروى المفيد في أماليه بسنده عن ابن عباس : أنّ رجال الأنصار ونساءهم اجتمعوا في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبكون لحاله ، فدخل العباس وابنه الفضل وعلي عليه‌السلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا له : يا رسول الله ، هذه الأنصار في المسجد تبكي عليك رجالها ونساؤها يخافون أن تموت. فقال : اعطوني أيديكم ، فخرج في ملحفة وعصابة حتى جلس على المنبر (١). فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أما بعد أيها الناس ، فما تنكرون من موت نبيّكم؟ ألم أنع إليكم وتنع إليكم أنفسكم؟ لو خلّد أحد قبلي لخلّدت فيكم.

ألا إنّي لاحق بربي ، وقد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب الله تعالى بين أظهركم تقرءونه صباحا ومساء ... وقد خلّفت فيكم عترتي أهل بيتي ، فأنا أوصيكم بهم. ثم أوصيكم بهذا الحي من الأنصار ، فقد عرفتم

__________________

بل نقل عن ابن مندة وأبي نعيم : أنّه هو الذي باع النبي فرسا ثم أنكره فشهد له ذو الشهادتين. وذكر بعده سواد بن عمرو وذكر عنه أنّه لقيه النبي وبيده جريدة فطعن بها في بطنه فخدشه ، فقال : يا رسول الله أقدني ، فهناك حسر النبي له عن بطنه وأعطاه الجريدة ، فألقاها وقبّل بطنه ، كما في اسد الغابة ٢ : ٣٧٤. وذكر بعده سواد بن غزيّة الأنصاري ، وذكر أنّه شهد بدرا ، فروى الطبري : أنّ النبي كان بيده قدح يعدّلهم به ، وكان سواد متقدما فطعنه بالقدح في بطنه ليستوي فقال : أقدني ، فهناك كشف النبي له عن بطنه وأعطاه القدح ، فألقاه وقبل بطنه ، فدعا له النبي بخير. الطبري ٢ : ٤٤٦ ، واسد الغابة ٢ : ٣٧٥. فما في خبر سوادة بن قيس خلط وخبط وسهو ولبس.

(١) وروى نحوه الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٨٩ ، وفيه : فاستند إلى جذع من أساطين المسجد وخطب فقال ...

٦٩٢

بلاءهم عند الله عزوجل وعند رسوله وعند المؤمنين ، ألم يوسّعوا في الديار ويشاطروا الثمار ويؤثروا وبهم خصاصة؟!

فمن ولي منكم أمرا يضرّ فيه أحدا أو ينفعه ، فليقبل من محسن الأنصار وليتجاوز عن مسيئهم» وكان هذا آخر مجلس جلسه حتى لقي الله عزوجل (١).

وقال للمجتمعين حوله : أيها الناس ، إنّه لا نبي بعدي ، ولا سنّة بعد سنّتي ، فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعته في النار ، ومن ادّعى ذلك فاقتلوه ومن اتّبعه فإنهم في النار.

أيها الناس ، أحيوا القصاص ، وأحيوا الحق ، ولا تفرقوا ، وأسلموا وسلّموا تسلموا (٢).

ادعوا إليّ أخي وصاحبي :

وأفاد المفيد في «الارشاد» : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يفارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا لضرورة ، وقام في بعض شئونه.

ومن غد ذلك اليوم أفاق رسول الله افاقة فرأى أزواجه من حوله وافتقد عليّا عليه‌السلام ، فقال لهم : ادعوا لي أخي وصاحبي. فقالت عائشة : ادعوا له أبا بكر.

فدعي أبو بكر فدخل عليه وقعد عند رأسه ، وكان النبي قد عاوده الضعف فاصمت ، فلما فتح عينه ونظر الى أبي بكر أعرض بوجهه عنه. فقال أبو بكر : لو كانت له إليّ حاجة لأفضى بها إليّ ، وقام فخرج.

فلما خرج أبو بكر من عنده أعاد رسول الله القول ثانية : ادعوا لي أخي

__________________

(١) أمالي المفيد : ٤٥ ـ ٤٧ م ٦ ح ٦.

(٢) أمالي المفيد : ٥٣ م ٦ ح ١٥ ، عن الباقر عليه‌السلام.

٦٩٣

وصاحبي. فقالت حفصة : ادعوا له عمر. فدعي عمر ، فلما حضر ورآه النبي أعرض عنه ، فانصرف.

فلما خرج عمر من عنده أعاد القول ثالثة : ادعوا لي أخي وصاحبي (١). فقالت أم سلمة «رضيَ الله عنها» ادعوا له عليّا إنّه لا يريد غيره. فدعي علي عليه‌السلام. فلما دنا علي عليه‌السلام منه أومأ إليه فأكبّ عليه فناجاه رسول الله طويلا ، ثم تركه فجلس ناحية ، وأغفى رسول الله.

فقيل لعلي عليه‌السلام : ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن؟ فقال : علّمني ألف باب ، يفتح لي كل باب ألف باب (٢) ، ووصّاني بما أنا قائم به إن شاء الله.

ثم فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عينه وقال لعلي عليه‌السلام : يا علي ، ضع رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر الله عزوجل ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثم وجّهني الى القبلة ، وتولّ أمري (٣) ، فإذا أنا متّ فاغسلني واستر عورتي فإنه لا يراها أحد إلّا اكمه (٤) وصلّ عليّ أول الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله تعالى (٥) وادفنّي في هذا المكان ، وارفع قبري من الأرض أربع أصابع ، ورشّ عليه من الماء (٦).

فأخذ علي عليه‌السلام رأسه ووضعه في حجره ، وأغمي على النبيّ. فاكبّت عليه ابنته فاطمة تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول :

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٨٦ ، ونحوه في الطبري ٣ : ١٩٦ ، مزيدا مضافا محرّفا.

(٢) نحوه في أمالي الصدوق : ٥٠٨ ، ٥٠٩ م ٩٢ ح ٦ ، عن ابن عباس.

(٣) الارشاد ١ : ١٨٥ ، ١٨٦.

(٤) الارشاد ١ : ١٨١ ، ١٨٢ ، وخبره في أمالي الطوسي : ٦٦٠ م ٣٥ ح ١٣٦٥ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(٥) الارشاد ١ : ١٨٦.

(٦) اصول الكافي ١ : ٤٥٠ ح ٣٦ ، عن الباقر عليه‌السلام.

٦٩٤

 «وابيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل» (١)

ففتح رسول الله عينيه وقال لها بصوت ضئيل : يا بنيّة ، هذا قول عمّك أبي طالب ، لا تقوليه ، ولكن قولي : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)(٢) فبكت ، فأومأ إليها بالدنوّ منه ، فدنت ، فأسرّ إليها شيئا تهلل له وجهها.

فقيل لها : ما الذي أسرّ إليك رسول الله فسرّي عنك ما كان عليك من القلق والحزن من وفاته؟ فقالت : إنّه خبّرني أنّني أول أهل بيته لحوقا به ، وأنّه لن تطول المدة بي بعده حتى أدركه ، فسرّي ذلك عنّي (٣)!

فروى الصدوق في «الأمالي» عن ابن عباس ... ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إليّ يا عليّ إليّ يا علي إليّ يا علي ، فما زال يدنيه حتى أخذ بيده وأجلسه عند رأسه ، ثم اغمي عليه.

فقام الحسنان يبكيان ويصرخان وأقبلا حتى وقعا على رسول الله ، فأراد علي أن ينحّيهما عنه فأفاق وقال له : يا علي ، دعني أشمهما ويشمّاني ، وأتزوّد منهما ويتزوّدا منّي ، أما إنهما سيظلمان بعدي ويقتلان ظلما ، ثم قال ثلاثا : فلعنة الله على من يظلمهما (٤).

وروى نحوه الطوسي في «الأمالي» بسنده عن الحسين عن أبيه علي عليهما‌السلام : أنّه قال لبلال : يا بلال ، ايتني بولديّ الحسن والحسين. فانطلق فجاء بهما (كذا ،

__________________

(١) الثمال : الغياث.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) الارشاد ١ : ١٨٧ ، والخبر في أمالي الطوسي ح ٣١٦ ، وفي البخاري ٦ : ١٢ ، ومسلم ٤ : ١٩٠٤ ، والترمذي ٥ : ٣٦١ والدولابي في الذرية الطاهرة : ١٤٠ فما بعدها.

(٤) أمالي الصدوق : ٥٠٨ ، ٥٠٩ م ٩٢ ذيل ح ٦.

٦٩٥

وليس جاء بك وبأخيك ، أو جاء بي وبأخي ، ولا جاء بأبي وعمّي) فأسندهما الى صدره وجعل يشمهما ، فظننت أنّهما قد غماه فذهبت لآخذهما عنه فقال لي : دعهما يا علي يشمّاني وأشمّهما ، ويتزوّدا منّي وأتزوّد منهما ، فسيلقيان من بعدي زلزالا وأمرا عضالا ، فلعن الله من يخيفهما. اللهم إنّي استودعكهما وصالح المؤمنين (١).

وكانت يد علي عليه‌السلام تحت حنكه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفاضت نفسه ، فرفعها الى وجهه فمسحه بها ، ثم غمّضه ووجّهه الى القبلة ، ومدّ عليه إزاره ، ثم قام لأمره (٢).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٠٠ ـ ٦٠٢ م ٢٧ ح ١٢٤٤ ، عن زيد بن علي والباقر عن أبيه عن جدّه عن علي عليهم‌السلام ، وعن علي عليه‌السلام أيضا في كشف الغمة ١ : ١٧ عن كتاب أبي اسحاق الثعلبي : ثم دعا النبي الحسن والحسين عليهما‌السلام فقبّلهما وشمّهما وترشّفهما وعيناه تهملان.

(٢) الارشاد ١ : ١٨٧ ، وفي نهج البلاغة خ ١٩٧ ، عن لسانه عليه‌السلام. وروى ابن اسحاق عن ابن الزبير عن عائشة : أنّه قبض في حجري بين سحري ونحري فقمت أضرب وجهي ٤ : ٣٠٥ وذلك مناقضة لقول علي عليه‌السلام.

وهنا روى ابن اسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال :

لما توفي رسول الله قام عمر بن الخطاب فقال : إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد توفي. وإنّ رسول الله والله ما مات ولكنّه ذهب الى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله قد مات!

وحين بلغ الخبر أبا بكر أقبل حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلّم الناس فلم يلتفت إليه ، ودخل بيت عائشة ورسول الله مسجى في ناحية البيت وعليه برد حبرة ، فكشف عن وجهه وقبّله ثم ردّ البرد عليه ثم خرج وعمر بعد يكلّم الناس ، فناداه : يا عمر على رسلك أنصت! فأبي إلّا أن يتكلم ، فأقبل أبو بكر على الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنّه من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فانّ الله حي

٦٩٦

فروى العياشي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام : أنّ عليّا عليه‌السلام لما غمّض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» يا لها من مصيبة خصّت الأقربين وعمّت المؤمنين ، لم يصابوا بمثلها قط ، ولا عاينوا مثلها (١).

فبينا هم كذلك إذ أتاهم آت من الله تعالى يسمعون كلامه ولا يرونه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، إنّ في الله عزاء من كل مصيبة ، ونجاة من كلّ هلكة ، ودركا لما فات (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)(٢).

إنّ الله اختاركم وفضّلكم وطهّركم ، وجعلكم أهل بيت نبيّه ، واستودعكم علمه ، وأورثكم كتابه ، وجعلكم تابوت علمه وعصا عزّه ، وضرب لكم مثلا من

__________________

ـ لا يموت ، ثم تلا قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) فدهش عمر ، وكأنّه لم يعلم بنزول الآية. ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٠٥ ، ٣٠٦ ، ثم روى عن أنس بن مالك : أنّ عمر قال بعدها : أيها الناس ، انّي كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله ، ولا كانت عهدا عهده إليّ رسول الله ، ولكنّي كنت أرى أنّ رسول الله سيدبّر أمرنا إلى الآخر. ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١١ ، ثم روى عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر قال له : إن كان الذي حملني على ذلك إلّا أني كنت أقرأ الآية : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فكنت أظنّ أن رسول الله سيبقى في امته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فهو الذي حملني على ما قلت! ٤ : ٣١٢ ، وذكر مختصر الخبر اليعقوبي ٢ : ١١٤.

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٠٩ ح ١٦٦.

(٢) آل عمران : ١٨٥.

٦٩٧

نوره ، وعصمكم من الزلل وآمنكم من الفتن. فتعزّوا بعزاء الله ، فانّ الله لم ينزع منكم رحمته ولن يزيل عنكم نعمته ، فأنتم أهل الله عزوجل الذين بهم تمّت النعمة ، واجتمعت الفرقة ، وائتلفت الكلمة ، وأنتم أولياؤه ، فمن تولّاكم فاز ومن ظلم حقّكم زهق ، مودّتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين ، ثم الله على نصركم ـ إذا يشاء ـ قدير.

فاصبروا لعواقب الأمور ، فإنّها الى الله تصير. قد قبلكم الله من نبيّه وديعة واستودعكم أولياءه المؤمنين في الأرض ، فمن أدّى أمانته آتاه الله صدقه ، فأنتم الأمانة المستودعة ، ولكم المودّة الواجبة والطاعة المفروضة ، وقد قبض رسول الله وقد أكمل لكم الدين وبيّن لكم سبيل المخرج ، فلم يترك لجاهل حجّة ، فمن جهل أو تجاهل ، أو نسي أو تناسى فعلى الله حسابه ، والله من وراء حوائجكم ، واستودعكم الله ، والسلام عليكم (١).

وروى الصدوق في «الخصال» بسنده عن علي عليه‌السلام قال : فنزل بي من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم أكن أظنّ الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به! فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والإسماع ، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معزّ يأمر بالصبر ، وبين مساعد

باك لبكائهم وجازع لجزعهم.

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٤٤٥ ح ١٩ ، وروى قريبا منه العياشي في تفسيره ١ : ٢٠٩ ح ١٦٦ ، ثم خبرين آخرين عن الصادق عليه‌السلام ح ١٦٧ و ١٦٨ ، وعنه عليه‌السلام اليعقوبي في تاريخه ١ : ١١٤. وروى مثله الصدوق في أماليه : ٢٢٧ ذيل ح ١١ ، عن السجاد عن علي عليهما‌السلام : أنّ المعزي كان الخضر عليه‌السلام وكذلك في كنز العمال ٧ : ٢٥٠ ح ١٨٧٨٥.

٦٩٨

فحملت نفسي على الصبر عند وفاته ، بلزوم الصمت ، والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه (١).

غسله والصلاة عليه ودفنه :

وأفاد المفيد في «الارشاد» أنّ عليّا عليه‌السلام لما أراد غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استدعى الفضل بن العباس فعصّب على عينيه ـ حسب وصيّة النبي ـ وأمره أن يناوله الماء لغسله. ثم شقّ قميصه من جيبه حتى سرّته ، وتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه (٢).

وروى الكليني عن الصادق عليه‌السلام : أن رسول الله أحرم في ثوبين : عبري (من اليمن) وظفاري (صحاري عماني) وكفّن فيهما (٣).

وفي آخر عنه عليه‌السلام : في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريّين وثوب حبرة (٤).

وروى المفيد بسنده عن ابن عباس قال : لما فرغ علي عليه‌السلام من غسله (وكفّنه) كشف الإزار عن وجهه ثم قال : بأبي أنت وأمي طبت حيّا وطبت ميّتا ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوّة والأنباء ، خصّصت حتى

__________________

(١) الخصال ١ : ٣٧٠ ، ٣٧١ ، عن الباقر وعن محمد بن الحنفية ، وفي الاختصاص : ١٦٤.

(٢) الارشاد ١ : ١٧٨ وروى ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١٢ ، عن عكرمة عن ابن عباس : أنّ الذين ولوا غسله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنمّا هم أبوه وأخواه الفضل وقثم وعلي بن أبي طالب وأسامة وشقران مولياه. وكان علي قد اسنده الى صدره وعليه قميصه يدلكه من وراء القميص ، واسامة وشقران يصبّان الماء ، والعباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه مع علي عليه‌السلام.

(٣) فروع الكافي ٤ : ٣٣٩ ح ٢ ، والفقيه ٢ : ٣٣٤ ح ٩٥٩٤ ، وعنهما في الوسائل ٣ : ١٦ ب ٥ ح ١.

(٤) فروع الكافي ١ : ٣٣٠ ح ٦ و ٣ : ١٤٣ ح ٢ ، والتهذيب ١ : ٢٩١ ح ٨٥٠ ، وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١١٣ ، وعنه عن أبيه عن جدّه السجاد عليهم‌السلام ، وعن الزهري عن السجاد عليه‌السلام. وفي اليعقوبي ٢ : ١١٤.

٦٩٩

صرت مسلّيا عمّن سواك ، وعمّمت حتى صار الناس فيك سواء. ولو لا أنّك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشؤون بأبي أنت وأمّي ، اذكرنا عند ربّك واجعلنا من همّك. ثم أكبّ عليه فقبّل وجهه ، ومدّ الإزار عليه (١).

فروى الكليني عن الصادق عليه‌السلام قال : أتى العباس أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : يا علي ، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يؤمّهم رجل منهم (فيصلّوا على النبيّ) ويدفنوه في بقيع المصلّى. فخرج أمير المؤمنين الى الناس فقال لهم : يا أيها الناس ، إن رسول الله إمامنا حيّا وميّتا و (قد) قال : إنّي أدفن في البقعة التي اقبض فيها (٢).

وروى عن الباقر عن علي عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله يقول في صحته وسلامته : إنّما نزلت هذه الآية عليّ في الصلاة عليّ بعد قبض الله لي : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٣).

ثم أمر الناس أن يدخلوا عليه عشرة عشرة فيصلّون عليه ثم يخرجون ، ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله ووقف أمير المؤمنين في وسطهم فقرأ : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فيقرءون كما يقرأ ، حتى صلّى عليه أهل المدينة وأهل العوالي (٤).

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٠٢ م ١٢ ح ٦ ، ورواه الرضي في نهج البلاغة خ ٢٣٥ ، وروى ابن اسحاق الجملة الأولى ٤ : ٣١٣ ، وابن حنبل في مسنده ح ٢٢٨ ، وأنساب الأشراف ١ : ٥٧١ ، وأمالي محمد بن حبيب (م ٢٤٥ ه‍) وأمالي إبراهيم النحوي (م ٣١١ ه‍) كما في المعجم المفهرس لنهج البلاغة : ١٣٩٣.

(٢) أصول الكافي ١ : ٤٥١ ح ٣٧. ونقله ابن اسحاق عن قول أبي بكر! ٤ : ٣١٤.

(٣) الأحزاب : ٥٦.

(٤) أصول الكافي ١ : ٤٥٠ و ٤٥١ ح ٣٥ و ٣٨ ، وروى ابن اسحاق عن ابن عباس قال : دخل الناس أرسالا : الرجال ثم النساء ثم الصبيان! ٤ : ٣١٤.

٧٠٠